الفصل الاول : معاوية
شخصية معاوية [1]
إن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية, هو الشخصية
المحورية الثانية في كل أحداث الفتنة الكبرى التي جرت ما بين 36 و 41 للهجرة,
بالإضافة طبعاً إلى الشخص المحوري الأول : علي بن أبي طالب. فلا بد من إلقاء الضوء
على خلفيات هذه الشخصية ومراحل صعودها المدهش.
نشأ معاوية
وهو يرى نفسه سليلاً لمجد أبي سفيان وحرب وأمية, وامتداداً لعزّ قريش بين العرب.
وكثيراً ما عبّر معاوية , وهو خليفة, عن اعتزازه الشديد بأبيه, وقد قال مرة لابنه
يزيد " ... وإن كان أبو سفيان ما علمتُ لثقيل الحلم, يقظان الرأي , عازب
الهوى, طويل الأناة, بعيد القعر, وما سوّدته قريش إلاّ لفضله"[2].
وغالباً ما كان معاوية يصف أباه بأنه كان " أكرم قريش وأشرفها"[3] أو
" سيد قريش ". أي أن معاوية, وهو خليفة, كان يعتبر مجد الحكم
والزعامة ليس أمراً جديداً عليه, بل هو شأنٌ طبيعي وصله عن طريق أبيه وأجداده, مع
الفارق طبعاً, لأن أبا سفيان كان بنظر معاوية, سيد قريش, بينما هو الآن أصبح سيد
العرب.
وبحكم انتمائه
للفرع الأموي من بني عبد مناف, فقد شبّ يشعر, كأبيه وأجداده, بحساسية بالغة, تصل
إلى حد الحقد, تجاه أي تميّز قد يناله الفرع الهاشمي من بني عبد مناف. وتروي كتب
التراث تفاصيل كثيرة عن التنافس والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم, جيلاً بعد آخر.
ورغم أن الفرعين, الهاشمي والأموي, هما أبناء عم,
ويتحدّران كلاهما من عبد مناف, إلاّ أنه لم يكن غريباً في ذلك الوقت أن تكون
الخصومات بين الأقرباء أشدّ حدّة , وأعمق أثراً, من الخصومات بين البطون المتباعدة
في نسَبها. فالأخيرة كانت في الغالب تزول بزوال أسبابها المباشرة, بعكس خلافات
أبناء العمومة التي كانت تتميز بالطابع الشخصي.
ويمكن القول أن
بني أمية وعبد شمس, كانوا في الجاهلية أكثر عددا[4]
وثراءً من بني هاشم, وأنهم بالتالي كانوا يعتبرون أنفسهم أكثر أهلية للزعامة
والصدارة منهم. مع العلم بأن بني هاشم كانوا معروفين بحسن الأخلاق أكثر,
وتجلّى ذلك بحلف "الفضول" الذي تمّ بمبادرة من بني هاشم, وضمّ معهم بني
المطلب وزهرة وتيم, والذي كان هدفه نصرة المظلوم في مكة, ولم يشارك بنو أمية / عبد
شمس في هذا الحلف.
بالتالي لم يكن
بنو أمية في وارد أن يسمحوا بأن ينال بنو هاشم تميزاً عظيماً, بحجم النبوة.
وقرروا, ممثلين في أبي سفيان خاصة, أن ذلك لا يُطاق, ولن يكونَ, تحت أي ظرف. فبنو
أمية لم ينظروا إلى دعوة محمد(ص) في مكة إلاّ على أنها محاولة جديدة من أبناء
عمومتهم الهاشميين للإنفراد بالمجد والشرف والصدارة, وهذا ما لم يكن بمقدورهم
أن يتساهلوا بشأنه.
ويميل معاوية, وهو خليفة, إلى اعتبار الفترة النبوية
التي كان فيها محمد(ص) يقود بالفعل العرب والمسلمين, وخاصة بعد فتح مكة سنة 8
للهجرة إلى حين وفاة الرسول(ص) سنة 11 للهجرة, استثناءً طارئاً نجح فيه بنو هاشم في
الانفراد بمجد النبوة والحكم معاً, وفي تنحية منافسيهم من بني أمية جانباً.
وهو يعتبر أن وصوله للحكم سنة 41 للهجرة تتويجٌ للجهود
المتواصلة التي بذلها بنو أمية من أجل استعادة مجدهم الغابر, والتي بدأت مباشرة
بعد وفاة الرسول(ص).
ومن المفيد في هذا السياق عرض الرسالتين اللتين تبادلهما
محمد بن أبي بكر ومعاوية بن أبي سفيان سنة 38 للهجرة :
نص رسالة محمد بن
أبي بكر إلى معاوية :
"من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية
بن صخر!
سلامٌ على أهل طاعة الله, ممن هو سِلمٌ لأهل ولاية الله, أما بعد ..
فإن
الله بجلاله وقدرته وعظمته , خلق خلقه بلا ضعفٍ كان منه, ولا حاجةٍ به إلى خلقه. لكنه خلقهم عبيداً وجعل منهم شقيا وسعيداً, وغويّا ورشيداً. ثم اختارهم بعلمه واصطفاهم بقدرته . فانتحلَ منهم وانتجبَ محمدا (ص) فبعثه رسولاً وهادياً ودليلاً , وبشيراً ونذيراً, وسراجاً مُنيراً. فدعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة
الحسنة.
فكان أولَ مَن
أجابَ وأنابَ, وأوفق وأسلم وسلم, أخوه وابن عمه عليّ بن أبي طالب. فصدّقه بالغيب المكتوم وآثرَه على كل حميم, ووقاه كل هَول , وواساه
بنفسه في كل حال. وحاربَ حربَه, وسالمَ سِلمَه, حتى برز سابقاً لا نظيرَ له ممن اتبعه , ولا مشاركَ له في فضله.
وقد أراكَ تساميه وأنتَ أنتَ , وهُوَ هُوَ : السابق المبرّز في كل خير, أطيب الناس ذرّية ,
وأفضل الناس زوجة, وخير الناس ابن عم. أخوه الشاري بنفسه يوم مؤتة, وعمّه سيد
الشهداء يوم أحد, وأبوه الذّابّ عن رسول الله (ص). وأنت اللعين ابن اللعين. لم تزل
أنتَ وأبوك تبغيان لدين الله ورسوله الغوائل,
وتحالفان عليه القبائل وتبذلان فيه المال وتحالفان فيه الرجال.
على ذلك مات
أبوكَ ,
وعليه خلفته. والشاهد عليك مَن تؤوي وتلحي من رؤوس أهل النفاق وبقية الأحزاب
وذوي الشناءة لرسول الله (ص) وأهل بيته. والشاهد
لعليّ سبقه القديم وفضله المبين, أنصار
الدين الذين ذكروا في القرآن فهم حوله عصائب وبجنبيه كتائب. يرجون الفضل في اتباعه
ويخافون الشقاق في خلافه.
فكيف تعدل نفسك بعليّ وهوكان أول الناس له اتباعاً وآخرهم به عهداً, يُشركه في
أمره ويُطلعه على سرّه, وأنتَ عدوّه وابن عدوّه ؟!
فتمتع
في باطلك, وليمدد لكَ
عمرو في غوايتك, فكأن قد انقضى أجلك, ووَهَن
كيدك. فستتبين لمن تكون العاقبة!
واعلم
أنك يا معاوية إنما تكائد ربّك الذي قد أمِنتَ كيدَه ومكرَه, ويئستَ من روحه , وهو لك بالمرصاد وأنتَ منه في غرور. وبالله ورسوله وأهل بيته عنك الغنى.
والسلام على مَن
تاب وأناب"
رسالة معاوية
الجوابية إلى محمد بن أبي بكر :
"من
معاوية بن أبي سفيان إلى محمد بن أبي بكر, الزاري على أبيه!
سلامٌ على مَن اتبع الهدى وتزود التقوى
أما
بعد. فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله, وما اصطفى له رسوله, مع كلام لفقته وصنعته لرأيك فيه تضعيف ولك فيه
تعنيف.
ذكرتَ حقَ ابن أبي طالب وسوابقه وقرابته من رسول الله ونصرته
إياه. وأحتججتَ
عليّ بفضل غيرك لا بفضلك. فأحمد إلهاً صرَفَ عنكَ ذلك الفضل وجعله لغيرك.
فقد
كنا وأبوك معنا في حياةٍ من
نبينا, نرى حق ابن أبي طالب لنا لازماً, وفضله علينا مبرزاً. فلما اختار الله لنبيه ما
عنده, وأتمّ له
وعدَه, وأفلج حجته وأظهر دعوته, قبضَه الله إليه. فكان أبوك – وهو صدّيقه –
وعمر – وهو فاروقه – أول مَن
أنزله منزلته عندهما. فدعواه إلى أنفسهما فبايع لهما. لا يشركانه في أمرهما ولا
يطلعانه على سرهما, حتى مضيا وانقضى أمرهما . ثم قام عثمان ثالثاً يسير بسيرتهما ويهتدي بهديهما. فعبته
أنتَ وصاحبك حتى طمع فيه الأقاصي من أهل
المعاصي. وظهرتما له بالسوء وبطنتما
حتى بلغتما فيه مناكما.
فخذ
يا ابن أبي بكر حذرك, وقِس
شبرَك بفترك , تقصر عن أن تسامي أو توازي مَن يزن الجبالَ حلمُه, ويفصل بين أهل الشك علمه ولا تلين على قسرٍ قناته : أبوكَ مهّد مهادَه, وثنا لمُلكه وسادَه.
فإن كان ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله, وإن كان خطأ
فأبوك أسسه ونحن شركاؤه. اقتدينا وفعله احتذينا.
ولولا
ما سبقنا إليه أبوك, وأنه لم يَرَه موضعاً للأمر, ما خالفنا عليّ بن أبي طالب ولسلمنا إليه. ولكنا
رأينا أباك فعل أمراً
اتبعناه واقتفونا أثره. فعِب أباك ما بدا لك, أو دَع.
واضحٌ تماماً أن معاوية يعتبر أبا بكر وعمر هما اللذان
وضعا الأسس لمُلكِه, حين نجحا في إبعاد المرشح الطبيعي للخلافة وهو علي بن أبي
طالب. ومعاوية يلفت نظر ابن أبي بكر إلى أن الصراع الذي يخوضه سنة 38 للهجرة ضد
عليّ, هو في الحقيقة امتدادٌ طبيعي للصراع – غير المسلح – الذي جرى يوم السقيفة
سنة 11 للهجرة, حين قرر أبو بكر وعمر منع بني هاشم من تولّي حكم المسلمين بعد
محمد(ص).
فبنظر معاوية , هو ببساطة يتابع سياسة قررتها قريش,
ونفّذها وأرسى دعائمها المهاجرون, بأن بني هاشم لن يجمعوا بين النبوة والملك. وما
دام الحكم هو لقريش وحدها, دون بني هاشم, فلا ضير في أن ينبري معاوية لينتزعه
لنفسه, لأنه ابن سيد قريش القديم. وهو يعتبر أن بني أمية قد " عوقبوا
" بما يكفي عن طريق تسليمهم بقيادة البطنين الضعيفين من قريش, تيم وعدي, طوال
اثني عشر عاماً من حكم أبي بكر وعمر.
وفي معرض ردّه على ابن أبي بكر, الذي ذكّره بتاريخه,
وأبيه , العدائيّ تجاه الرسول(ص) ودعوته, لم ينفِ معاوية ذلك, ولم ينفِ لعنه وأباه
من قبل الرسول(ص), ولم يجادل بشأن خصال عليّ وأهليته, قام فقط بإعلامه بأنه ينفّذ
سياسة قريش التي كان أبوه رائدها.
وكان
معاوية يدرك ولا شكّ مدى ضعف أهليته الإسلامية. فمعروف عن أبيه أنه كان أشرسَ
أعداء النبي(ص). وكان معاوية يعلم أن رسول الله(ص) قد لعن أباه مع غيره من طغاة
قريش من شدّة ما أصابه من ألم يوم أحُد
بسبب قتلهم لعمّه حمزة, رفيق دربه ونصيره, وتمثيلهم بجثمانه. روى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابن عمر قال :
" قال رسول الله (ص) يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان. اللهم العن الحارث(
بن هشام). اللهم العن صفوان بن أمية".
وأبو سفيان موصوفٌ
في القرآن بأنه من أئمة الكفر " نزلت الآية (وإن نكثوا أيمانهم من بعد
عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر) في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام
وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد وهم الذين
هموا بإخراج الرسول"[6]
ولكن الزمان تغيّر. ولم يعد معاوية مضطرّا , خاصة بعد
صفين, إلى المداراة. فالرسول (ص) توفي قبل أكثر من ربع قرن, وهناك حقائق على
الأرض صَنعها الخلفاء الثلاثة. ولم تعد الخصال الإيمانية ولا الشرعية الإسلامية
تكفي لتحديد مصير الحكم والقيادة.
وإذا كان أبو سفيان وقريش , قد فشلوا في المواجهة الطويلة الدامية مع
محمد(ص) وبني هاشم والأنصار, فإن الأوان قد آن لمعاوية وقريش, أن يردّوا الصاع
وينجحوا في الصراع, الدامي أيضا, ضد عليّ وبني هاشم والأنصار.
رهان معاوية الخاسر
وبالعودة إلى نشأة معاوية, فهو لم يُظهر تمايزاً
عن أبيه , طوال كل تلك السنين التي أمضاها في حروبه الضارية ضد رسول الله(ص), وبقي
معه إلى النهاية, حتى أحاط بهم جيش النبي(ص) فاستسلم أبو سفيان ودخل الدين الجديد
مكرهاً, ومعه ابناؤه, يزيد ومعاوية وعتبة. ولذلك
يمكن بالفعل مؤآخذة معاوية على جرائر أبي سفيان. فهو أصبح رجلاً ناضجاً واعياً, ومع ذلك استمرّ في ولائه لأبيه وسَيره على نهجه (كان قد تجاوز
الثلاثين عاماً من عمره عند فتح مكة). وهناك رواياتٌ عدّة حول استعمال أبي سفيان لابنه معاوية في ترتيباته
وتحضيراته الكثيرة أثناء صراعه الطويل مع النبي(ص). فيمكن اعتبارمعاوية
شريكاً لأبيه في كل مواقفه.
وإذا
كان مُمكناً
فهمُ دوافع أبي سفيان في سعيه للمحافظة على
وضعه القيادي في مكة, بحكم سنّه ومرتبته, إلاّ أن إحجام معاوية , الشاب, عن اللحاق
بدعوة محمد(ص), بما تحمله من آفاق للإصلاح والتغيير, يشير إلى ولاء, غريبٍ فعلاً
, من الشاب معاوية , لتلك المنظومة البالية من القيم القرشية.
كانت
أمام معاوية الكثير من الفرص للانضمام إلى الدين الجديد, ولم يفعل.
ضحّى
مصعب بن عمير بمجده وثرائه, ووضعه في بني عبد الدار, في مكة في سبيل الرسول(ص) ودينه.
ورأى
معاوية خاله , أبا حذيفة بن عتبة
بن ربيعة[7],
وهو يترك أباه , وقريشاً,
وعز بني عبد شمس, لينضم إلى محمد(ص) ودينه.
رأى
معاوية الكثير من الأمثلة على الشباب الساعين إلى الحقيقة, ولكنه لم يتأثر بكل
ذلك.
بل
إن أخته, رملة, لم تتمسك بأبيها, فكانت من بين المهاجرات إلى الحبشة, مع زوجها
المؤمن .
إذن
تمسّك معاوية بأبيه حتى الرمق الأخير. وبالتالي كان
من أصحاب الرهانات الخاسرة. فوجد معاوية نفسَه
من " الطلقاء" , وهم الذين مَنّ
عليهم عدوهم, محمد(ص), فعفا عنهم مقابل إعلانهم الخضوع والاستسلام. وهكذا انقلب
الزمان على معاوية, الشريف القرشيّ, الذي وجد نفسه مفضولاً
امام أناس كان يعتبرهم من الحثالات الوضيعين! ولم يَعُد معاوية بقادر حتى أن يسامي أشخاصاً
من أمثال بلال بن رباح وعمار بن ياسر , الذين أصبح لهما, بسبب السبق في الإيمان,
وضعية معنوية رفيعة في منظومة الإسلام النبوي.
ولكن
رسول الله(ص) اتبع سياسة تجميعية للعرب بعد الفتح
العظيم. ومن هنا كان "المؤلفة قلوبهم" الذين قرر رسول الله(ص) أن
يتألفهم بالمال لعله يفيد في جعلهم يعتقدون بالفعل بنبوّته.
وبالاضافة
إلى العطايا المالية للزعماء القرشيين , قرر النبي(ص) أن يستفيد من القدرات
الشخصية للنابهين من أبنائهم, وتسخيرها في خدمة الإسلام. ومن هنا كان معاوية ,
الشاب الذكي اللامع, من ضمن مجموعة من أبناء زعماء قريش الذين قرر رسول الله(ص) أن
يختارهم ليستفيد من مؤهلاتهم وقدراتهم العقلية والعلمية, ولكي يدمجهم بالتدريج
في منظومة الإسلام. وقرر رسول الله(ص) أن يستعملهم في مراسلاته التي أصبحت كثيرة
جداً, مع القبائل العديدة في أنحاء الجزيرة
العربية حول الأمور المالية والإدارية.
وهكذا
فإن معاوية وجد الفرصة ليكون من ضمن الذين يحتكون بالنبي(ص).
قال هشام جعيط " إن هذا
الشاب, ذا الذكاء والحساسية البالغين, ما كان في مستطاعه أن لا يحس, بحكم هذا
القرب من الرسول, بالجاذبية والإعجاب الذين يشعر بهما كل فكر وقّاد حين يجاور عقلاً رفيعاً.
ولا شك أن هذا السياسي بتوجهه, قد راح يفهم, ميدانياً,
الجُهدَ
التوحيدي والتشييدي الكبير الذي كان يجري أمام عينيه, والبنية
الداخلية لشبكات الولاء والسابقة في الإسلام, وربما الإشعاع الروحي الذي كان يفيض
من الشخصية النبوية"[8]
ورغم
ذلك, إلاّ أنه من المشروع التساؤل عن حقيقة عقيدة معاوية, بعد الإسلام, وإلى أن
صار خليفة. فعلى الرغم من حرص معاوية, أثناء حكمه, على الالتزام بشعائر الإسلام من
صلاة وصيام وحج, وإظهار التوقير لشخص الرسول(ص) ودينه, إلاّ أن هناك الكثير من
المؤشرات والشواهد التي تدعو للشك في حقيقة إيمان معاوية. فالمرسوم الذي أصدره
الخليفة معاوية بشأن إلزام ولاته وزعماء الأمصار بشتم العائلة النبوية, ممثلة بعلي بن أبي طالب, على المنابر,
لا يمكن أن يصدر من شخص مؤمن حقاً
بنوة محمد(ص). فعملية الفصل التعسفي بين الرسول, وآله, لا تتفق مع النصوص الشرعية
الداعية بكل صراحة إلى تعظيم آل البيت, ولا مع تاريخ الإسلام النبوي, الذي لعب فيه
آل الرسول(ص) الدور الرئيسي في حماية دعوة الإسلام, وخصوصا في البدايات, وتمكينها
من الصمود , حتى الانتصار.
ومن
الممكن أن يكون معاوية , حتى وهو خليفة
المسلمين, متاثراً بعقيدة أبيه.
والأرجح أن يكون أبو سفيان من"
الزنادقة" في قريش في الجاهلية. وهم الملحدون الذين لا يؤمنون بشيء بعد الموت
والقائلون ببقاء الدهر. وقد عدّه ابن حبيب
في مقدمة زنادقة قريش بالإضافة إلى عقبة بن أبي معيط والوليد ين المغيرة والعاص بن
وائل وأبيّ بن خلف والنضر بن الحارث[10]
وهؤلاء لم يكونوا يدافعون عن الأصنام إلاّ بحكم الحميّة وحفاظاً على النظام القائم في مكة الذي يضمن لهم
المصالح المادية. وفي حقيقتهم لم يكونوا يؤمنون أن الأوثان تضرّ أو تنفع.
فأبو
سفيان, كان أذكى بكثير من أن يؤمن بعبادة أصنام مصنوعةٍ
من خشب أو حجارة. وعلى الرغم من أنه
كان قاد كل حروب قريش على محمد(ص) حاملاً
راية الأصنام, إلاّ أن ذلك كله كان بهدف المحافظة على الامتيازات ونظام الهيمنة
القرشي. ولم تكن صرخة النصر التي أطلقها أبو سفيان يوم أحد " أعلُ هُبل " إلاّ تعبيراً عن انتصار القوى القرشية الرافضة
للتغيير, الساعية للمحافظة على مكاسبها الموروثة, أكثر منها إيماناً من أعماق أبي سفيان بذلك الصنم الكبير!
وعندما انفرد
معاوية بالحكم, سوف يصرّ دائما على إبراز دور " الإرادة الإلهية " في ذلك,
ويلبسها مرات مع نبوءات نبوية. كل ذلك من أجل تعزيز عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر,
بطريقة مشوهة, لدى الرعية
المسلمين :
وقد روى معاوية حديثاً
" مسرحياً " , يتلخص محتواه في أن الرسول(ص)
قد بشّر بأن معاوية وجماعته
سيظهرون على مَن خالفهم ! وكان دائماً يجد من عبيد المال وخدم السلاطين من يؤيّد أيّ
خبرٍ يرويه, وبل ويزايد عليه فيه!
فمثلاً جاء
في صحيح البخاري عن معاوية:
" سمعتُ النبي(ص) يقول : لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر
الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك.
قال عمير : فقال مالك بن يخامر قال معاذ :
وهم بالشأم.
فقال معاوية : هذا مالكٌ يزعم أنه سمع معاذاً يقول وهم بالشأم".
والملفت للنظر
هو ذلك التابع الرخيص الذي يتنطّع ليضيفَ
بهاراته إلى ما قاله سيّده معاوية : وهم بالشام!
*****
وفي حالةٍ
نادرة , أفلتت من معاوية عبارات تنمّ عن
نوع من الاستهزاء بكلام للنبي(ص) :
" ... ذلك أن النعمان بن بشير الأنصاري جاء
في جماعة من الأنصار إلى معاوية. فشكوا إليه فقرهم, وقالوا : لقد صدق رسول الله(ص)
في قوله لنا : ستلقون بعدي أثرة. فقد لقيناهم.
قال معاوية : فماذا قال لكم؟
قالوا : قال لنا : فاصبروا حتى تردوا
عليّ الحوض.
قال : فافعلوا ما أمركم به عساكم
تلاقونه غداً عند
الحوض كما أخبركم.
وفي حالة أخرى
لم يتردد معاوية في مخالفة فعل بيّن للرسول(ص), حتى في موضوع العبادات, البعيد عن
السياسة وشؤونها . فقد روى الإمام أحمد
عن أبي الطفيل:
" رأيتُ معاوية يطوف بالبيت, عن يساره عبد الله
بن عباس, وأنا أتلوهما في ظهورهما , أسمع كلامهما.
فطفق معاوية
يستلم ركن الحجر. فقال له ابن عباس : إن رسول الله(ص) لم يستلم هذين الركنين!
فيقول معاوية:
دعني منك يا ابن عباس! فإنه ليس منها شيئ مهجور.
فطفق ابن عباس
لا يزيده كلما وضع يده على شيئ من الركنين قال له ذلك"[13]
ويبدو أن قريشاً كانت تفعل ذلك قبل الإسلام, فرغب معاوية
بمتابعة سنتها.
وفي أواخر عهده,
وبعد أن توطّدت أركان حكمه وسلطانه, عبّر معاوية لبعض أوليائه وخاصّته, عن أقوالِ
فيها كفرٌ بمحمد(ص) ونبوّته. فلما نصحه المغيرة بن
شعبة بأن يصل رحم بني هاشم لأنه لم يعد لديهم شيئ يخافه, وحتى يبقى له ذكرٌ حَسَن, ردّ عليه :
" هيهات
هيهات! أيّ ذكرِ أرجو بقاءه؟
مَلّكَ أخو تيمِ فعدلَ وفعلَ ما فعل, فما عدا أن
هلكَ حتى هلكَ ذكره, إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر.
ثم ملكَ أخو
عدي, فاجتهد وشمّر
عشر سنين, فما عدا أن هلكَ حتى هلكَ ذكره, إلاّ أن يقول قائل : عمر.
وإن ابن أبي
كبشة ليُصاح به كل يومِ خمس مرات ( أشهد أن محمدا
رسول الله)!
" وروى
أحمد بن أبي طاهر في كتاب ( أخبار الملوك) أن معاوية سمع المؤذّن يقول ( أشهد أن
لا إله إلاّ الله) , فقالها ثلاثا. فقال : ( أشهد أن محمدا رسول الله)! فقال : لله
أبوكَ يا
ابن عبد الله! لقد كنتَ عالي الهمّة. ما رضيتَ لنفسكَ إلاّ أن يُقرن اسمكَ باسم
رب العالمين"[15]
قال
هشام جعيط عن سياسة أبي بكر وعمر [17]
" لقد أراد هذان الخليفتان, بالأخصّ عمر, أن يُخرجا الجيل
الأموي الجديد من الظلّ والرداءة, من خلال تكليفه بمهمات قيادية.
ومثال ذلك , يزيد بن أبي سفيان, الأخ الأكبر لمعاوية, الذي شارك مشاركة فعّالة
وبارزة في فتح الشام , والذي عيّنه عمر والياً على هذا المصر بالذات سنة 18 هجرية , وكلّف يزيد
معاوية ببعض المسؤوليات القيادية, لا سيما الاستيلاء على قيسارية , إحدى المدن القلائل التي أخذت
عنوة. بعد عدّة أشهر , مات يزيد واستبدله عمر بأخيه . ولم يكن ذلك من جانب عمر
مجرّد اهتمام بربط الارستقراطية القرشية على نحو أفضل بالإسلام , بل كان نوعاً من إضفاء الاعتبار والتقدير عليها لأنها
كانت حقّا قد تألّقت وبرّزت في فتح الشام, سواء كانت من أمية أم من مخزوم أم من
بطون أخرى, ولأنّ شبابها كان دفع ضريبة دم في معركة اليرموك الحاسمة ( 15 هجرية )
....لقد عرف عمر كقائد شعب , وقائد حقيقي للعرب, مع نزعة قومية , كيف يطبّق استراتيجية عربية مجمّعة, وكيف يمحو الردة
والصراعات القديمة بين القرشيين...
وفي
الشام كان ميالاً الى
تعيين قرشيين: أولاً من كبار الصحابة مثل أبي عبيدة , ثم رجالا ذوي قيمة
, لكن دون ماضٍ
اسلامي مرموق. لقد كانت الشام المختبر الذي جرى فيه اختبار صدق الانضواء القرشي في
الاسلام, صدق اولئك الذين كانوا قد اعتنقوا الاسلام منذ أمدٍ بعيد, كما صدق المنضوين في الساعة الأخيرة على حد سواء :
من خالد بن سعيد بن العاص إلى خالد بن الوليد إلى عمرو بن العاص إلى يزيد وإلى
معاوية. ...
وعلى
هذا النحو, تغوص جذور ارتقاء معاوية في ظروف فتح الشام بالذات بقدر ما تغوص في
سياسة عمر المقننة أو المخططة. ومما سهّل ارتقاء معاوية موت أو تغيّب القرشيين من
أهل السابقة, بسبب الحرب, وانفتاح أمصار أخرى أمام الفتح ( مصر), والضربة القاضية
التي أصابت صفوفهم من جرّاء طاعون عمواس ( 17-18 هجرية) . فقد مات من جرّائه خالد
بن سعيد بن العاص وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح ويزيد وسواهم, وانتقل
عمرو بن العاص من فلسطين الى مصر. وبالتالي بقي معاوية , وقد نجا من كل هذا , في
موقع ممتاز ليخلف شقيقه , بقدر ما كان قد
أثبت قيمته"
وقال مؤكداً
على الدور الذي لعبه عمر بن الخطاب في
إعادة تأهيل أرستقراطية قريش بعد هزيمتها:
" كان معاوية يرتجف أمام عمر
, ولم يكن في السباق المحموم على الفتوحات الذي كان يحرّك قبائل كل الجزيرة
العربية , ويزعزع الممالك والامبراطوريات , ويقيم مكانها النظام الاسلامي الجديد ,
مكانٌ للارستقراطية القرشية والأموية الاّ ما كان يمنحه عمر لها ,
بشكل أبوي. فعندما
أظهر رجلٌ
عظيم من رجالات الحرب والاسلام , مثل خالد بن الوليد, العجبَ بنفسه, نظرا لمزاياه القتالية, لم يتردد
عمر في ضرب عنجهيته وعزله..."
لقد فهم أبو سفيان حجم المصيبة التي
أصابته بانتصار الرسول (ص) وأنصاره , وهزيمته
المدوّية هو وقريش كلها. وعرف أبو سفيان أن الدنيا تغيّرت ولا يمكن العودة إلى
الوراء, وأن تأخّره هو وقومه عن اللحاق بركب الرسول(ص),
إلى أن دخلوه مرغمين , قد أدّى إلى ضياع "الشرف" الذي كان أبو سفيان
يدّعيه لنفسه , وأدّى أيضاً إلى
أن مَن يعتبرهم أقل منه "شرفا" قد
أصبحوا ذوي الفضل الأعلى في ظل منظومة الدين الجديد الذي بناه الرسول(ص) ,
وبالتالي أصبح لا أمل له هو وقومه في أي مكان في المجتمع الجديد إلاّ عن طريق
الانصياع لمن يعتبرهم هو دونه في "الشرف", واتباعهم إلى أن تحين الفرصة التي تمكنه
هو وقومه من النهوض من جديد وبالتالي الانتقام مما حصل واستعادة المكانة الضائعة.
فكان أبو سفيان نفسه, برغم عنجهيته وفخره, يصانع عمرَ بن
الخطاب وينافقه. فقد روى ابن شبة حادثتين يظهر فيهما أبو سفيان أقصى
درجات الطاعة والولاء لعمر :
" أتى عمر رضي الله عنه على أبي سفيان رضي الله
عنه وهو يبني له, قد أضرّ بالطريق.
فقال : يا أبا سفيان! انزع بناءك هذا فإنه قد أضرّ
بالطريق.
فقال : نعم وكرامة يا أمير المؤمنين..."
وأيضا:
" خرج عمر رضي الله عنه ومعه أبو سفيان بن حرب
رضي الله عنه, فمرّ بلبنٍ في الطريق, فأمر أبا سفيان أن ينحّيه.
فجعلَ ينحّيه..."[18]
وفي
السنة السابعة عشرة للهجرة, كان طاعون عمواس. وذلك كان كارثة بكل المقاييس .
فمات بسببه حوالي 25 ألفا من المسلمين بالشام, ومن بينهم كل القيادة الفعلية
للجيوش: أبو عبيدة , معاذ بن جبل, وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ويزيد بن أبي
سفيان.
ونجا
عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان من ذلك الطاعون الرهيب. فأمر عمرو بن العاص
الناسَ بالتفرّق في الجبال إلى أن تزول آثار
الوباء, وفرّ هو بنفسه إلى مصر. واستخلف يزيد وهو في الرمق الأخير أخاه معاوية على عمله – ولاية دمشق – فأقرّه عمر في
ذلك المنصب.
فقال
أبو سفيان لابنه معاوية عندما ولاّه عمر " يا بني, إن هؤلاء الرهط من
المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم, فرفعهم سبقهم, وقصر بنا تأخرنا, فصرنا أتباعاً وصاروا قادة. وقد ولّوك جسيماً من أمورهم فلا
تخالفهم , فانّك تجري إلى أمدٍ فنافِس فيه, فإن بلغته أورثته عقبك"[19]
وقالت
له أمه كما يروي ابن عساكر أيضاً " والله يا بني, إنه لقلّ ما ولدت حرّةٌ مِثلك,
وقد استنهضكَ هذا
الرجل فاعمل بموافقته, أحببتَ ذلك أم كرهتَ"
وقد
نفّذ معاوية تعاليم أبيه وأمه, فكان شديد الطاعة والولاء لعمر بن الخطاب , حتى أن
الامام علي وصَفه مرة بأنه
" كان أطوعَ
لعمر من بنانه" في معرض ردّه على عثمان حين قال
له عثمان أن عمر هو الذي استعمل معاوية. ويقصد عليّ أن معاوية أصبح فرعوناً في ظلّ
سياسة الخليفة عثمان الذي تركه بلا حسيبٍ ولا
رقيبٍ يتصرّف بالشام كما يشاء – بعكس عمر الذي
كان يراقب عمّاله ويتابعهم.
وقد ذكر ابن شبة رواية
توضح مدى الهلع الذي كان يجتاح معاوية من عمر بن الخطاب, والحرص الذي كان يبديه
على استرضائه, إلى درجة تقترب به من الذل! فعندما قدِم عمر بن الخطاب إلى
الشام على جملِه " ... ولقيه معاوية رضي الله عنه على برذون , فنزل. ومشى
معه.
وتغافل عنه عمر رضي الله عنه.
فقيل له : يا أمير المؤمنين: جهدتَ الرجلَ. إنه بادن.
فقال : دعه.
حتى بلغ من ذلك ما أراد. ثم أمَرَه فركب"[20]
فمعاوية هنا ينزل, ويسير على قدميه ماشياً, خلف عمر بن
الخطاب الذي هو على جمله, لمسافةٍ طويلة جداً حتى يناله الجهد والتعب الشديد , دون
أن يبدي أي اعتراض, إلى أن يتطوّع أحدهم ليذكّر عمر أن يرأف به ويراعي بدانته!
وطوال سنوات حكم عمر بن الخطاب , كانت أمه هند وأبوه أبو
سفيان شديدي الحرص على الاستمرار في رعاية ولدهما, وأملهما , معاوية وإسداء
النصائح المخلصة له بما يمكنه من المحافظة على منصبه المهم في ولاية دمشق. وقد بلغ
حرص هند عليه إلى حد أنها لما سمعت مرة أن أبا سفيان , وكان طلقها, قد ذهب لزيارة
معاوية في الشام خافت أن يتهوّر معاوية فيعطي أباه مالاً كثيرا فيجلب عليه غضب
عمر, فذهبت إليه مسرعة, فلما رآها قادمة من بلادٍ بعيدة :
"... قال : ما أقدمكِ أي أمه؟
قالت : النظر إليك أي بني. إنه عمر! وإنما يعمل لله. وقد
أتاك أبوك فخشيتُ أن تخرج إليه من كل شيء –
وأهل ذلك هو – فلا يعلم الناس من أين أعطيته, فيؤنّبوك ويؤنّبك عمر فلا
تستقيلها أبداً..."[21]
وهكذا فإن هنداً تتحمل المشقة وعناء السفر لكي تتأكد أن
ابنها الحبيب لن يرتكب زلّة قد تطيح بمستقبله السياسي. وقد كان عند حسن ظنّها فلم
يعطِ أباه سوى مائة دينار وكسوة. وفعلاً حصل ما توقعته هند, فسأل عمر أبا سفيان
لدى عودته عما أعطاه معاوية, فأخبره, فلم يعلّق.
ويمكن ملاحظة نوع من التساهل من طرف عمر تجاه ابنيّ أبي
سفيان , يزيد ومعاوية من بعده, فيما
يتعلّق بأخلاقهما ومسلكهما الشخصي. فمهما برع ابنا أبي سفيان في المداهنة والتزلّف
للخليفة وإظهار التمسّك بحرفية تعليماته وأوامره, إلاّ أنه لا يمكن التصديق بأن
شخصاً من طراز عمر يمكن أن يخدع أو يضلل ببساطة. وهناك ما يكفي من الإشارات الى أن
عمر كان بالفعل يعرف أن يزيداً, ومن بعده معاوية , كانا لا يتصفان, على الصعيد
الشخصي, بالزهد والورع والتقشّف الذي كان عمر يطالب به قوّاده ويحاسبهم عليه.
" بلغ عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان
يأكل ألوان الطعام. فقال لمولى له يقال له يرفأ: إذا علمتَ أنه قد حضر عشاؤه
فأعلمني. فلما حضر عشاؤه أعلمَه.
فأتاه عمر رضي الله عنه فاستأذن فأذن له. فدخل فقرب
عشاءه.
فجاء بثريد لحم, فأكل عمر رضي الله عنه منها. ثم قرّب
شواءً فبسط يزيد يده وكفّ عمر رضي الله عنه يده.
ثم قال : الله يا يزيد بن أبي سفيان! أطعامٌ بعد الطعام؟!..."
وأيضا:
" إن عمر رضي الله عنه غزا إلى الشام وعليها
يزيد بن أبي سفيان فدعاه إلى طعامه.
فإذا بيتٌ مستور. فوضع عمر رضي الله عنه طيلسانه ثم طفق
بتلك الستور يقطعها.
وأخذ الآخر يقول : أعوذ بالله من غضب الله وغضب أمير
المؤمنين!
فقال : ويحك ! أتلبس الحيطان ما لو ألبسته قوماً من
الناس لسترهم من الحر والقر؟!"[22]
من هذين الاقتباسين يظهر جليا أن عمر كان يعلم بإسراف
يزيد بن أبي سفيان في ملذات الطعام, واتخاذه الأقمشة وزخارف الحيطان. ولكن لم
يُروَ أن عمر قد طبّق أي عقاب بحقه, باستثناء اللوم والزجر.
ومن المثير مقارنة موقف عمر تجاه يزيد, بموقفه من والٍ
آخر له كان قد استعمله على الشام أيضاً. فعندما بلغه أن عياض بن غنم الفهري قد
اتّخذ مظاهر الأبّهة استدعاه إلى المدينة وعاقبه بشدة : أجبره أن يرعى ثلاثمائة
شاة لمدة شهرين كاملين! إلى درجة أن عياضاً أخذ يحاول إرسال الوساطات لطلب ودّ عمر
إلى أن سامحه, بعد أن حطّ من كبريائه.
ومن الأمثلة الأخرى على ذلك التساهل من طرف عمر تجاه
معاوية ما رواه الذهبي عن الصحابي
عبادة بن الصامت الذي كان عمر بعثه إلى الشام لتعليم الناس القرآن:
" إن عبادة أنكر على معاوية شيئا. فقال : لا
أساكنك بأرض. فرحل إلى المدينة.
قال له عمر : ما أقدمك؟
فأخبره بفعل معاوية.
فقال له : إرحل إلى مكانك. فقبّح الله أرضاً لستَ فيها
وأمثالك. فلا إمرة له عليك"
وهنا يكتفي عمر بإعادة الصحابيّ إلى الشام مع استثنائه –
هو وحده – من إمرة وسلطان معاوية, دون أن يتجاوز ذلك إلى إيقاع أي عقاب بمعاوية
على ما بدر منه تجاه عبادة.
وروى الإمام مالك
رواية أخرى تفيد أن الصحابي أبا الدرداء قد أنكر على معاوية ممارسة نوع من الربا,
عن طريق بيع الذهب بأكثر من وزنه :
" فقال أبو الدرداء : سمعتُ رسولَ الله (ص) ينهى
عن مثل هذا, إلاّ مثلاً بمثل.
فقال له معاوية : ما أرى بمثل هذا بأساً !
فقال أبو الدرداء : مَن يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن
رسول الله(ص), ويخبرني عن رأيه! لا أساكنك بأرضٍ أنت بها.
ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب. فذكر ذلك له.
فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية: أن لاتبيع ذلك, إلاّ
مثلاً بمثل, وزناً بوزن"
وهنا أيضاً يكتفي عمر بتنبيه معاوية, ولا يتجاوز ذلك إلى
اتخاذ أي إجراء بحقه.
وربما يمكن تفسير ذلك التساهل الذي أبداه عمر تجاه ابنيّ
أبي سفيان , يزيد ومعاوية, بضرورات الحكم والسياسة. فولاية الشام كانت بنظر
عمر أهم ولاياته, وكانت تحتاج إلى تدبير محكم للسيطرة عليها وتثبيت مواقع المسلمين
فيها. فالامبراطورية البيزنطية لم تكن قد انهارت كلياً, بل انكفأت وتراجعت بعد
هزيمتها المرّة على أرض الشام. ولكنها, وبعكس الامبراطورية الساسانية في إيران
التي سقطت في عقر دارها, حافظت على تماسكها كدولة وبقيت قادرة على الدفاع عن نفسها
إلى الشمال من سورية, بل كانت تشكّل تهديدا حقيقياً ومتواصلاً للسيطرة العربية في
الشام. كان الخطر الرومانيّ موجوداً على الدوام وماثلاً أمام ناظريّ عمر, الذي كان
يخشى من أن ينجح الرومان في لمّ شملهم وشنّ هجوم كاسح على العرب لاسترجاع ما خسروه
في بلاد الشام.
فكأنّ عمر قرر إعطاء الأولوية المطلقة لحسن الإدارة
والكفاءة في سياسة القوات لضمان الجاهزيّة التامة لمواجهة الرومان, على أي اعتبار
آخر. ويمكن الاستنتاج أن عمر كان حَسَن الرأي في الخصال الشخصية لابنيّ أبي
سفيان فيما يتعلّق بالقدرة على القيادة والتعامل الواقعي مع المخاطر والتحديات.
وقد عبّر عمر مرة عن ذلك حين عزل شرحبيل بن حسنة عن
قيادة أحد المقاطعات التي كان ولاّه عليها – الأردن - في الشام وضمّ عمله إلى معاوية:
" ... وعزل شرحبيل واستعمل معاوية....
فقال له شرحبيل : أعن سُخطةٍ عزلتني يا أمير المؤمنين؟
قال : لا. إنك لكما أحب, ولكني أردتُ رجلاُ أقوى من رجل..."[23]
وكانت النتيجة النهائية أن معاوية نجح في المحافظة
على ثقة عمر لأكثر من أربع سنوات كاملة, إلى أن قتل عمر, دون أن يُروى أن عمر
قد طبّق عليه عقاباً يماثل ما كان يفعله بغيره من العمّال. أبقاه عمر حاكماً لنصف
بلاد الشام. لم يعزله, لم يقاسمه ماله, ولم يطبّق بحقّه أي عقوبات تذكر.
صعود معاوية بفضل سياسة عثمان
ولما تولى عثمان بن عفان الحكم, فُتِحت أمام ناظري
معاوية آفاقٌ هائلة لا حدود لها. فالرجل ابن عمه. والأهم من ذلك أنه حبيب قريش
والمفضل لديها والمعروف بودّها وصلة رحمها. وكان معاوية يعرف من خِصال عثمان
وطباعه ما يجعله متأكداً أنه سيكون له ولبقية قومه من بني أمية نصيبٌ وافرٌ من
شؤون الحكم والقيادة في دولة الخلافة في كل مكان.
وبعكس عمر بن الخطاب, كان عثمان رقيقاً ودوداً, تجاه
قومه بالأخص. ولم يكن لعثمان قوة شخصية
عمر ولا هيبته.
وعدا عن ذلك , فقد كان عهد عمر بن الخطاب عهدَ الفتوحات,
والجهاد , والمعارك, والتضحيات. وأما عهد عثمان فهو منطقياً سيكون عهدَ " هضم
" تلك الفتوحات وجني الفوائد منها, حتى وإن لم يخلُ الأمر من حروبٍ لتثبيت
تلك الانتصارات أو توسيع حدودها.
وكان بنو أمية جاهزين تماماً للإنقضاض على كل مفاصل
الدولة , وعلى رأسهم كان معاوية.
وسّعَ عثمان صلاحيات معاوية, وزاد في ولايته وجعلها تشمل
كل بلاد الشام والجزيرة, بعد أن كانت تقتصر على دمشق. وفوق ذلك, غيّر عثمان
أسلوب التعامل مع الوالي. فبعد أن كان عمر يحكم قبضته على كل كبيرة وصغيرة من
شؤون الحكم في الولايات كلها, لجأ عثمان إلى أسلوب تفويض الصلاحيات إلى
الوالي. وسواء اتخذ عثمان هذا المنحى بسبب ضعفٍ في شخصيته, أم بسبب صعوباتٍ
موضوعية ناتجة عن بُعد المسافات وضخامة حجم الدولة, فالنتيجة واحدة وهي المزيد من
اللامركزية في الإدارة والقرارات.
فتخلص معاوية , أخيراً, من شبح عمر المُهيمن, وأصبح حراً
طليقاً في ولايته الضخمة والغنية. فعدا
عن المبلغ السنوي الذي يرسله معاوية من خراج الشام إلى مركز الخلافة في المدينة,
صار معاوية مستقلاً بالفعل فيما يختص بشؤون الجيوش والإدارة, والتجمعات العربية
التي استوطنت الشام, والعلاقة مع أهل البلاد القدماء ومع دولة الرومان في الشمال.
واستغل معاوية قرابته من عثمان وصلاته العائلية به, في
ترسيخ هيمنته وسيطرته على مقاليد الأمور في الشام. فكان يقول لرعيته إن كل ما يأمر
به ويقرره إنما هو أمر الخليفة وسياسته. ولم تكن هناك قنوات تواصل بين الخليفة في
المدينة وبين الرعية في الشام, إلاّ من خلال معاوية. وبمرور الوقت, أخذ الناس في
الشام يسلمون أن معاوية هو فقط مَن يعبّر عن مؤسسة الخلافة وينطق باسمها, ويمتلك
صلاحية القرار بالنيابة عنها.
آراء في سياسات معاوية
قال
عنه عبد الرحمن الشرقاوي :
"
حقا .. حقا.. إن رجل هذا العصر هو معاوية! فهو وحده يخاطب الأطماع ويشبعها,
ويستنفر الأهواء فيرضيها. ملكٌ
قادرٌ قاهر, لا يعفّ عن شيء يخدم به هدفه, حتى الغدر نفسه...
وحتى سفك الدماء ونهب الأموال وانتهاك الحرمات , وسبي النساء المسلمات!
...
وهو يصنع كل شيء , وأي شيء , مهما يكن من شيء, للوصول إلى الغاية.... وغايته
الملك..
وهو
قد استقى من منبع أبي سفيان وهند, وتربى على اكتساب المنفعة من أي سبيل.
ووجد
عصراً سلطانه المنفعة, وهدفه المنفعة, وقانونه
المنفعة, فكان بحق رجل العصر.
....
ثم إن معاوية ليصطنع لنفسه الكثيرين من رؤساء القبائل العربية : يثير فيهم العصبية
القبلية, والنعرات المتعصبة, ثم يغدق عليهم ويجزل لهم من العطاء بغير حق...
...
ومعاوية يحسب حساب الربح والخسارة . فالحياة عند معاوية صفقات, يبرم منها وينقض,
ويساوم, ويتنازل, ويهادن بقدر ما تدر من ربح أو تجلب من خسارة!"
وقال عن نشأة
معاوية:
" ... نشأ معاوية في بيت أبي سفيان,
رأس الكفر في الحجاز. وربّته أمه هند بنت عتبة التي عرفها المسلمون باسم آكلة
الأكباد...
وتربى
معاوية منذ نشأ, في قصر ضخم, يملكه رجلٌ من أكبر أغنياء مكة, يعمر لياليه بالمتاع, وما من
شيء يعنيه إلاّ قتل محمد وصحبه وهدم الإسلام قبل أن يرتفع بنيانه وتتوطّد أركانه!
...
كلا الوالدين يملأ قلبه الضغن وطلب الثأر, وخوف ضياع المكانة, أو فقدان السكينة
إذا انتصر محمد وأتباع محمد....
كان
معاوية فتىً
مترفاً , يلبس كل يوم حلتين ثمينتين,
ويتحلى بالنفائس. وهو يحب الطعام الفاخر مهما يتكلف. وكان يتخير من أنواع الطيور
والأحياء المائية ما يجلب إليه من أماكن بعيدة, وعلى مائدته من الحلوى وحدها عشرة
أصناف"[24]
*****
قال
هشام جعيط " سوف يميل معاوية,
لأن هذا كان يوافقه, إلى وضع النبي فوق الاعتبارات العشائرية والعائلية, وإلى
إبراز خصوصية رسالته الاعجازية وطابعها الشخصي جداً. فالنبيّ للجميع. إنه ملكٌ مشترك. فلا يستطيع أحدٌ أن يدّعيه لنفسه باسم الأواصر الدموية الضيقة. لكن قريشاً بمجملها , يمكنها ادعاء ذلك, أكثر من
سواها, لأنها قبيلة
الله"[25]
*****
وقال عباس
محمود العقاد عن معاوية " كانت له حيلته التي كررها وأتقنها
وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة , من المسلمين وغير المسلمين. وكان قوام
تلك الحيلة , العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه, بإلقاء الشبهات بينهم,
وإثارة الإحن فيهم, ومنهم مَن
كانوا من أهل بيته وذوي قرباه.
كان لا يطيق
أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق, وكان التنافس
(الفطري) بين ذوي الأخطار مما يعينه على الإيقاع بهم.
ومضى
معاوية على هذه الخطة التي لا تتطلب من صاحبها حظا كبيراً من الحيلة والروية – فلو أنه استطاع أن
يجعل من كل رجل في دولته حزباً
منابذا لغيره من رجال الدولة كافة لفعل!"[26]
وهناك
الكثير من الشواهد التي تدل على صحّة تحليل العقاد. فمثلاً روى ابن عساكر[27]
أن معاوية كان يحاول الإيقاع بين اثنين من
اقربائه وأعمدة حكمه, مروان بن الحكم وسعيد بن العاص. وملخّص القصة أن معاوية كتب
لسعيد بن العاص حين كان واليا على المدينة يقول له " بلغني أن مروان ابتنى
دارا, وأنه خرج في الطريق. فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم داره" , ولكن سعيد
يبدو أنه فطن إلى مأرب معاوية فلم ينفذ. وفي العام التالي عيّن معاوية مروان
والياً, ثم كتبَ إليه بهدم دار سعيد. وأراد مروان التنفيذ فأخرج له سعيد كتب
معاوية له , والتي كان قد احتفظ بها, وأعلمه بمقصد معاوية, مما دفع مروان إلى
كتابة شعرٍ لمعاوية يلومه على ذلك.
ذكر اليعقوبي في
تاريخه:
" وكان لمعاوية حلمٌ ودهاء, وجودٌ بالمال
بالمداراة ....
وقال سعيد بن العاص : سمعتُ معاوية يوماً يقول : لا أضع
سيفي حيث يكفيني سوطي, ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني.
ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت! قيل : وكيف يا أمير المؤمنين؟ قال : كانوا إذا مدّوها
خليتها, وإذا خلوها مددتها[28].
وكان إذا بلغه عن رجلٍ ما يكره, قطعَ لسانه بالاعطاء,
وربما احتالَ عليه, فبعثَ به في الحروب , وقدّمه.
وكان أكثر فعله المكر والحيلة"[29]
*****
وأما في ميزان الشرعية الإسلامية, والتفاضل
المبني على أساس ما بذله الرجال من تضحيات في سبيل الدين وما ورد بشأنهم من أحاديث
على لسان النبي(ص), فلم يصح بشأن معاوية أيّ ذكر على لسان النبي(ص) إلاّ حديث
رواه مسلم في صحيحه , وليس فيه تشريف له
أبداً :
" عن ابن عباس قال : كنت
ألعب مع الصبيان, فجاء رسول الله(ص) فتواريتُ خلف باب. فجاء فحطأني حطأة, وقال : اذهب وادعُ لي معاوية.
فجئت فقلت : هو يأكل .
ثم قال لي : اذهب فادعُ لي معاوية.
فجئت فقلت : هو يأكل.
ولا يكاد يُذكر معاوية إلاّ ويذكر معه حليفهُ الأكبر
والأهم:
عمرو بن العاص بن وائل السهمي.
لقد شكّل معاوية وعمرو بن العاص ثنائياً متكاملاً من كل
النواحي. وأثبتا فعالية حقيقية في المواجهة الكبرى ضد عليّ بن أبي طالب.
كان اجتماعهما أمراً طبيعياً. فهناك الكثير من عناصر
الشبه بينهما تجعل أمر التقائهما في جبهةٍ واحدة أمراً شبه حتميّ. كان عمرو بن
العاص, مثل معاوية, ذا ماضٍ غير مشرّف في المنظور الإسلامي:
فقد اختارته قريش ليكون مندوبها الرئيسي عند
النجاشي من أجل تسليم المسلمين الأوائل الفارّين بدينهم الى الحبشة وعلى رأسهم
جعفر بن أبي طالب, لقريش. ولم تكن قريش لتنتخبه هو بالذات لهذه المهمة الإجرامية,
لولا أنه من اوثق رجالها المعروفين ببغض الرسول(ص) ومَن
تبعه والحريصين على رفض التغيير والدين الجديد الذي جاء به.
وعندما
استعدّت قريش للمسير لقتال محمد(ص) يوم أحُد,
بعثت أربعة من أبنائها المتحمّسين لاستنفار قبائل العرب ومن حالفهم لدعم قريش في
حربها. وكان عمرو بن العاص على رأس هؤلاء المندوبين, إلى جانب هبيرة بن أبي وهب,
وابن الزبعري وأبي عزة الجمحيّ.[32]
وقد هجا
عمرو بن العاص رسول الله(ص) هجاءً
كثيراً كان يعلمه صبيان مكة فينشدونه ويصيحون
برسول الله(ص) إذا مرّ بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء. فكان
رسول الله (ص) يقول وهو يصلّي بالحجر : اللهم إن عمرو بن
العاص هجاني, ولستُ
بشاعر, فالعنه بعدد ما هجاني.
وروى ابن أبي الحديد عن
الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات عن الحسن بن عليّ
أنه قال لابن العاص :
"
وأما
أنتَ يا ابن العاص , فإن أمركَ مشترك: وضعتكَ أمك مجهولاً من عُهرٍ
وسفاح, فتحاكمَ فيكَ أربعة من قريش , فغلبَ عليكَ جزارها, ألأمُهُم حَسَباً
وأخبثهم منصباً.
ثم قام أبوك فقال : أنا شانئ محمدٍ الأبتر, فأنزلَ الله فيه ما أنزل.
وقاتلتَ رسولَ الله(ص) في جميع المشاهد وهجوته وآذيته بمكة, وكِدتهُ كيدكَ كله, وكنتَ من أشدّ الناس له تكذيباً وعداوة.
ثم خرجتَ تريد النجاشي مع أصحاب السفينة, لتأتي
بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة, فلما أخطأكَ ما رجوتَ ورجعكَ الله خائباً , وأكذبك واشياً, جعلتَ حدّك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيتَ به إلى النجاشي حسداً لما ارتكبَ مع حليلتك .
ففضحكَ الله وفضح صاحبك.
فأنت عدو بني
هاشم في الجاهلية والإسلام.
ثم إنك تعلم وكل
هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوتَ
رسولَ الله(ص) بسبعين بيتاً من الشعر. فقال رسول الله(ص) : اللهم
إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي. اللهم العنه بكل حرفٍ ألفَ لعنةٍ. فعليكَ إذاً ما لا يحصى من اللعن . "
وكان عمرو بن العاص أكبر سناً من معاوية. وكان أيضاً أكثر حكمةً منه حين
أحسنَ تقدير موازين القوى واتجاه الريح, فتداركَ نفسَه في اللحظات الأخيرة قبل فتح
مكة فذهب إلى يثرب وأشهرَ إسلامه أمام النبي(ص), وبذلك تمكن من تجنّب صفة "
الطليق " البغيضة في المنظور الإسلامي, والتي كانت لاصقة بمعاوية الذي لم
يستطع منها فكاكاً. ولذلك كان وضعه في منظور الشرعية الإسلامية أفضل قليلاً من
معاوية, خاصة وأنه استفاد من سياسة النبي(ص) المتسامحة تجاه خصومه, فقاد سرية
أرسلها النبي(ص) إلى ذات السلاسل لإخضاع بعض القبائل التي كان بينها وبينه علاقة
خؤولة.
وفي عهد الخليفتين أبي بكر وعمر, نال عمرو بن العاص فرصته الذهبية . فقد
أحسنا تقدير خصاله القيادية المميزة حقاً في ميدان الصراع الحربي والسياسي. فكان
من قيادة الجيش الذي أرسله أبو بكر لفتح الشام. وأما إنجازه الأبرز فكان في عهد
عمر, حين كان قائد الحملة التي نجحت في فتح مصر.
وهذه الإنجازات الحربية المهمة أضفت نوعاً من الشرعية الإسلامية على شخصية
عمرو بن العاص, وغطّت , قليلا , على ماضيه الملطّخ في الإسلام.
واشتهر عمرو بن العاص بدهائه الشديد في مواجهة خصومه, حتى لقد لقّب ب
" داهية العرب ". وعرف عنه فصاحته وذهنه الحاضر. ولا يمكن الجدال
حول صفاته القيادية الفذة, ولا حول حنكته وحسن إدارته للجيوش وللرجال. ولكن لا
يمكن أبداً اعتباره فارساً مغواراً على الصعيد الشخصي. فقد كان قصير القامة ولم
تروَ عنه بطولاتٌ تذكر في القتال أو المبارزة.
قال عنه علي بن أبي طالب:
”
عجباً لابن النابغة ...
لقد قال باطلاً ونطق آثماً. أما وشرّ القول الكذب, انه ليقول فيكذب , ويعِدُ فيخلف, ويَسأل فيلحف ويُسأل فيبخل ويخون العهدَ ويقطع الالّ .
فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجرٍ وآمرٍ هو, ما لم تأخذ السيوف مآخذها . فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح
القرم سبّته ...
وانّه
ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة . انّه لم يبايع معاوية حتى شَرَط له أن يؤتيه أتية, ويرضخ له على ترك الدين رضيخة
"[33]
وقد وصفه ابن عباس وصفاً
بليغاً فقال له:
" لا
أراك فخرتَ
إلاّ بالغدر ولا منيتَ
إلاّ بالفجور والغش.
وذكرتَ مشاهدك بصفين فوالله ما ثقلت علينا وطأتك ولا نكأت
فينا جرأتك.
ولقد كنتَ فيها طويلَ اللسان , قصيرَ البنان! آخر الحرب إذا أقبلت وأولها إذا أدبرت.
لك يدان : يدٌ لا تقبضها عن شر ويدٌ لا تبسطها إلى خير!
ووجهان : وجهٌ مؤنس , ووجهٌ موحش.
ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره, لحريّ حزنه على ما باع واشترى.
أما إن لك بياناً ولكن فيك خطل.
وإن لك لرأياً ولكن فيك فشل.
وكمكافئة له على إنجازه بقيادته للجيش الذي فتح مصر, ثبّته عمر بن الخطاب
في منصب والي مصر. وربما قدّر عمر أن الوضع في مصر غير مستقر, وتتهددها مخاطر
جدّية من قبل الرومان, مما يتطلّب رجلاً من طراز عمرو هناك.
ولكن عمرو بن العاص تعرّض إلى نكسة في عهد عثمان بن عفان. فقد أسفر صراعٌ
باطنيّ, طويلٌ ومُضنٍ, بين عمرو بن العاص ورجلٍ يماثله في الخلق: عبد الله بن أبي
السرح, على أرض مصر , قِوامُه المكائد والوشايات, عن انتصار الأخير, الذي لا شكّ
استغلّ علاقته الوطيدة بالخليفة ,وكونه أخاه بالرضاعة. فقام عثمان بعزل عمرو بن
العاص عن ولاية مصر وتعيين ابن أبي السرح مكانه. والمرجّح أن عثمان أراد حاكماً
لمصر يدين له شخصياً بالولاء والطاعة, فكان ابن أبي السرح هو الحل. فابن أبي السرح
يدين بحياته كلها لعثمان الذي أنقذه من حكم الإعدام الذي كان النبي(ص) قد أصدره
عليه, وإخلاصه لشخص عثمان لن تشوبه شائبة.
وجد عمرو بن العاص نفسه مهمّشا تماماً بعد أن عزله عثمان. وتوجد روايات
كثيرة تصف مدى مشاعر السخط[35]
على عثمان, الذي اعترى عمرو بن العاص بعد أن فقد حكم مصر. ولا شك أن ذلك صحيح. فالأحداث
أثبتت أن عمرو بن العاص كان مهووساً بولاية مصر, التي يبدو أنه كان يعتبرها
ملكاً شخصيا له. ولم يهدأ ابن العاص ولم يقرّ له قرار حتى استرجع منصبه بعد بضعة
سنوات, كوالي لمصر, نتيجة تحالفه الناجح مع معاوية بن أبي سفيان.
وكانت تكثفت الاتصالات بين الرجلين فور سماعهما أنباء تولي علي بن أبي طالب
منصبَ الخلافة. فكتب عمرو بن العاص لمعاوية " ما كنتَ صانعاً فاصنعْ , إذا
قشّركَ ابن أبي طالب من كلّ مالٍ تملكُهُ كما تقشّرُ عن العصا لحاها "[36]
وسرعان ما توصل الرجلان إلى تفاهم واتفاق على استراتيجيةٍ لمواجهة الخطر الداهم :
حُكم عليّ.
وتجمع الروايات على أن الشرط الرئيسي الذي وضعه عمرو على معاوية من أجل
تسخير طاقاته لحرب عليّ معه , كان استرجاع حكم مصر, بصلاحيات مطلقة. وطبعاً لم يكن لدى معاوية أيّ مانع في ذلك.
فتلبية هذا الشرط مرهونٌة بكسب معاوية الحربَ ضد عليّ, ولو تحقق ذلك فلا ضَير في
منح ولاية مصر لعمرو, بل وأكثر. وكان معاوية مصيباً في تقديره مدى أهمية شخصية مثل
عمرو بن العاص له في صراعه المصيري ضد الخليفة عليّ. فقد كانت بصمات ابن العاص
ظاهرة في كل مراحل ذلك الصراع المرير. ومن أبرز تلك المحطات الهامة التي برزت فيها
فوائد عمرو كان قرار رفع المصاحف على الرماح في صفين, ودوره في مؤتمر التحكيم,
وأخيرا قيادته للجيش الذي أرسله معاوية لفتح مصر وقتل محمد بن أبي بكر.
فكان معاوية وعمرو ثنائياً لا ينفصم في كل مراحل المواجهة.
ومن شدة قربه من معاوية وملازمته له, أثار ابن العاص غيرة بني أمية على
منزلته تلك. فمثلاً قال له سعيد بن العاص مرةً حين لامَه عمرو على تفاخره على
معاوية " إذا شحِمَ العيرُ نهَق ! ما لبني سهمٍ وعبد شمس؟ ولكنك كالذباب
على كل شيئ تقع! أنا والله أحب إلى ابن حربٍ وأعز عليه منك"[37]
كانت كتلة الذكاء والدهاء التي نتجت عن اجتماع هذين العقلين المتفاهمين
تصنع سياسةً جبارةً تعرف هدفها وتسير إليه بتدرّجٍ وثبات, وتجتاح في طريقها كل
سياسات علي بن أبي طالب الأخلاقية والمبدئية.
الشك في تفاصيل حوارات ومفاوضات معاوية وعمرو بن العاص
تروي لنا المصادر تفاصيل كثيرة جدا حول مفاوضات ومساومات معاوية وعمرو بن
العاص , والشروط التي وضعها الاخير من أجل انضمامه لمعسكر معاوية. وهذه الحوارات
والنقاشات كلها من وحي الخيال , لا شك عندي في ذلك.
وسوف آخذ رواية واحدة طويلة , كنموذج , وأعلق عليها فقرة فقرة .
روى اليعقوبي في تاريخه[38]:
"وبعث معاوية من ليلته الى عمرو بن العاص أن يأتيه وكتب اليه : أما
بعد : فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك. فقد سقط الينا
مروان في رافضة أهل البصرة , وقدم علي جرير بن عبد الله في بيعة علي. وحبستُ نفسي
عليك حتى تأتيني . فاقدم على بركة الله"
والى هنا لا مانع في قبول الرواية.
فمعاوية يريد تجميع الشخصيات القرشية البارزة من حوله. ولكن بعدها تبدأ في الحديث
عن نفسية ابن العاص , وتردده بين الدنيا والآخرة , وتصميمه على قبض ثمن باهظ مقابل
أن يبيع دينه ....الخ
"فلما انتهى الكتاب اليه دعا ابنيه عبد الله ومحمدا فاستشارهما .
فقال له عبد الله : ايها الشيخ! ان رسول الله قبض وهو عنك راض, ومات أبو
بكر وعمر وهما عنك راضيان, فإنك إن تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية
فتضجعان غداً في النار"
ورغم ما في ظاهر هذه الرواية من وصف لمعاوية بأنه رجل دنيا ربما يجر معه
عمراً الى النار, إلاّ أنها تحوي في ثناياها مدحاً شديداً لابن العاص , حين
تقول ان النبي(ص) مات وهو راض عنه, وكذلك خليفتاه!
"ثم قال لمحمد : ما ترى؟
قال : بادر هذا الأمر . فكن فيه رأساً قبل أن تكون ذنباً . فأنشأ يقول :
تطاول ليلي للهموم الطوارق وخوف التي تجلو وجوه العواتق
فإن ابن هند سألني أن أزوره وتلك التي فيها بنات البوائق
أتاه جرير من عليّ بخطةٍ أمرت عليه العيش مع كل دانق
فإن نال منه ما يؤمل ردّه فإن لم ينله ذلّ ذُلّ المطابق
فوالله ما أدري وإني لهكذا أكون ومهما قادني فهو سائقي
أأخدعه ؟ فالخدع فيه دنية أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
أم أجلس في بيتي وفي ذاك راحة لشيخ يخاف الموت في كل شارق
وقد قال عبد الله قولاً تعلقت به النفس إن لم يعتقلني عواتقي
وخالفه فيه أخوه محمدٌ وإني لصلب العود عند الحقائق
فلما سمع عبد
الله شعره قال : بال الشيخ على عقبيه! وباع دينه بدنياه "
ومن المستبعد أن يكون عبد الله قد تلفظ بهذه الكلمات الجارحة بحق أبيه. فلو
كان حقاً أنه يعتبر أباه "شيخاً يبول على عقبيه" وأنه "باع دينه
بدنياه" فلمَ إذن اتبعه وكان معه في صفين وغيرها؟ ان تبرير تلك التبعية من
عبد الله لأبيه بمبدأ "طاعة الوالدين" لا يصح وغير مقنع, لأن من
البديهيات لكل المسلمين ان لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والراويات تقول ان عبد
الله كان ورعاً تقيا , فكيف يطيع أباه الذي يعتبره "باع دينه"؟ فلا يبقى
إلاّ أن عبد الله لم يكن رأيه بأبيه كما تصوره هذه الرواية, ولم يتلفظ بتلك
العبارات أبداً.
"فلما أصبح دعا وردانَ مولاه فقال له : ا رحل يا وردان . ثم قال :
حطّ يا وردان!
فحطّ ورحل ثلاث مرات! فقال وردان : لقد خلطتَ أبا عبد الله. فإن شئتَ
أخبرتك بما في نفسك. قال : هات!
قال : اعترضت الدنيا والآخرة على قلبك, فقلتَ : عليٌ معه آخرة بلا دنيا,
ومعاوية معه دنيا بلا آخرة, وليس في الدنيا عوض من الآخرة , فلستَ تدري
أيهما تختار؟
قال : لله درك ما أخطأتَ مما في نفسي شيئاً , فما الرأي يا وردان؟"
ولو كانت الأمور في ذهن عمرو بن العاص بهذا الوضوح, عليٌ مع الدين والآخرة,
ومعاوية مع الدنيا بلا آخرة, لما جاز له أن يتردد بينهما أبداً. فهو رجل عجوز في
الثمانينات من عمره فما الذي يريده من دنيا معاوية؟ بل ما الذي بقي له من الدنيا
بأسرها؟ أقول ذلك لأن الرواية تصوره مؤمناً حقيقياً بالدين والآخرة.
فإما أن ابن العاص , المؤمن الحقيقي, لم يكن يرى ان علياً مع الحق وأن
معاوية على باطل, وإما أنه كان يعرف ذلك بالفعل ولكنه اختار الباطلَ لأنه لم يكن
مؤمناً حقاً .
ولا يجوز الجمع بين الحالين كما يظهر في الرواية.
"قال : الرأي أن تقيم في منزلك, فإن ظهر أهل الدين عشتَ في عفو
دينهم, وإن ظهر أهل الدنيا لم يستغنَ عنك.
قال عمرو : الآن , وقد شهرتني العرب بمسيري الى معاوية! ارحل يا وردان. ثم
أنشأ يقول :
يا قاتل الله وردان وفطنته
أبدى لعمرك ما في الصدر وردان
فقدم على معاوية , فذاكره أمره فقال له : أما علي , فوالله لا تساوي العرب
بينك وبينه في شيئ من الاشياء. وإن له في الحرب لحظاً ما هو لأحد من قريش, إلاّ أن
تظلمه.
قال : صدقتَ . ولكنا نقاتله على ما في أيدينا , ونلزمه قتل عثمان.
قال عمرو : واسوءتاه ! إن أحق الناس ألاّ يذكر عثمان لا أنا ولا أنت
!
قال : ولم ويحك؟
قال : أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام حتى استغاث بيزيد بن اسد
البجلي فسار اليه. وأما أنا فتركته عياناً, وهربتُ الى فلسطين."
وهنا تروّج الرواية لفكرة أن معاوية تقاعس عامداً عن نصرة عثمان.
"فقال معاوية : دعني من هذا, مُد يدك فبايعني .
قال : لا لعمر الله ! لا أعطيك ديني حتى آخذ من دنياك "
وهنا ايضا الكلام عن إعطاء الدين وأخذ الدنيا, فأيّ دين هذا الذي يمكن ان
"يُعطيه" ؟ وهل مَن كان عنده دين يجوز أن يتنازل عنه؟
"قال له معاوية : لك مصرُ طعمة.
فغضب مروان بن الحكم وقال : ما لي لا أستشار ؟"
وهنا يظهر التنازع على تقاسم الغنائم , ولكن هل الوقت كان مناسباً لذلك؟
إن مروان كان لتوّه قد وصل من البصرة بعد أن نجا برقبته من موت محقق مرتين : يوم
الدار ويوم الجمل, فهل هو في وضع يتيح له النقاش حول تقاسم البلاد والعباد ؟ اليس
البقاءُ والحفاظ على الذات كان غاية المنى في تلك المرحلة؟
"فقال معاوية : اسكت , فإنما يستشار بك.
فقال له معاوية : يا أبا عبد الله , بت عندنا الليلة. وكره ان يفسد عليه
الناس . فبات عمرو وهو يقول :
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصراً فأربح بصفقة أخذتَ بها شيخاً يضرّ وينفعُ
وما الدين والدنيا سواء وانني لآخذ ما أعطي ورأسي مقنعُ
ولكني أعطيك هذا وانني لأخدع نفسي والمخادع يخدع
أأعطيك أمراً فيه للملك قوة وأبقى له إن زلت النعل أخدعُ
وتمنعني مصراً وليست برغبة وإن ثرى القنوع يوما لمولعُ
فكتب له بمصر شرطاً , وأشهد له شهوداً , وختم الشرط , وبايعه عمرو ,
وتعاهدا على الوفاء"
وأخيرا: لا بد من ملاحظة الركاكة في الشعر المنسوب الى عمرو بن العاص.
ركائز جبهة معاوية
أظهر
معاوية مقدرة فذّة على التعاطي والتعامل مع تياراتٍ
وشخصيات متنوعة, ذات مآرب
مختلفة, ولها مرامي ومصالح متعددة, وتجميعها لخلق ائتلافٍ
رهيبٍ يخوض به المواجهة مع علي بن أبي طالب ,
بكلّ ما له من ثقل وشرعيةٍ في الإسلام.
ونجح معاوية تماماً في الاستفادة من ذلك الخليط من البشر
الذي يمكن القول أنه لا تجمعه صلة ولا رابطة سوى كراهية علي بن أبي طالب والرغبة
في إزاحته عن منصب الخلافة بأيّ
ثمن. لقد نصّب معاوية نفسَه
علماً مرفوعاً وعنواناً معروفاً يؤوب إليه كل مَن يريد معاداة عليّ بن أبي طالب.
فما على مَن يكره علياً
, أو يخشى منه شيئا, أو يريد الفرار منه , سوى الذهاب إلى الشام, ليضمّ جهوده إلى معاوية وحزبه.
ولم
تكن تلك الشخصيات التي نجح معاوية أخيراً في
حشدها خلفه , ترتبط معه بالضرورة برابطة الولاء والتبعية, خاصة عند بدء الصراع
والمواجهة مع علي بن أبي طالب.
والرسائل
التي بعث بها معاوية إلى أهل المدينة ومكة قبيل معركة صفين هي مثالٌ بارز على دهاء معاوية وحرصه على إزالة
حساسية كل مَن هو كارهٌ
لعليّ ولكنه مترددٌ باللحاق
بمعاوية بسبب ما هو ظاهرٌ من
ضعف أهليته الإسلامية :
"
أما بعد, فإنه مهما غابت عنا من الأمور فلن يغيب عنا أنّ علياً قتلَ عثمان. والدليل على ذلك مكانُ قتلته منه. وإنما نطلب بدمه حتى يدفعوا
إلينا قتلته فنقتلهم بكتاب الله. فإن دفعَهم عليّ إلينا كففنا عنه, وجعلناها شورى بين المسلمين
على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب. وأما الخلافة فلسنا نطلبها.
فأعينونا
على أمرنا هذا وانهضوا من ناحيتكم. فإن أيدينا
وأيديكم إذا اجتمعت على أمر واحدٍ ,
هابَ عليّ ما هو فيه"[39]
والإبداع الذي أظهرَه
معاوية كان في حرصه على مخاطبة كل فئةٍ كان يشعر أنها يمكن أن تفيده باللغة التي تناسبها,
وبالمنطق الذي يطابق مصالحها واهواءها. فخطابه لكبار صحابة النبي(ص) , من أمثال
سعد بن أبي وقاص, كان يختلف تماماً عن
خطابه لزعماء القبائل العربية. وكلامه مع أم
المؤمنين عائشة كان بعيداً
تماماً عن كلامه لقومه من بني أمية. وأسلوبه مع زعماء البطون القرشية
كان مغايراً لتعامله مع أهل
الأمصار أو رؤساء الأجناد.
وأقامَ معاوية ائتلافه القوي اعتماداً على محورين يكملان بعضهما البعض :
·
الجهاز السياسي
/ الإداري / العسكري لمعاوية .
وكان يتكون من :
-
بني أمية / عبد شمس, من أمثال أخيه عتبة بن
أبي سفيان, والوليد بن عقبة بن أبي معيط, وعبد الله بن عامر بن كريز, ومروان بن
الحكم, وأبناء عثمان بن عفان. وأضافَ إلى
هؤلاء , بعد اغتيال علي بن أبي طالب وانفراده بالسلطة, شخصية قيادية مهمة , وهو
زياد بن أبيه, الذي عقد معه صفقة تضمنت أن يدّعيه ويغيّر اسمه إلى زياد بن أبي
سفيان.
-
زعماء البطون
القرشية الأخرى : من أمثال عمرو بن
العاص ( سهم ), وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ( مخزوم ), وبسر بن ارطأة ( عامر بن
لؤي ), وحبيب بن مسلمة ( فهر ), والضحاك بن قيس ( فهر).
-
زعماء القبائل
العربية , من أمثال شرحبيل بن السمط الكندي, وأبي الأعور السلمي[40],
ومسلم بن عقبة المري ( غطفان ), وحمزة بن مالك الهمذاني.
وهذا الجهاز الإداري / العسكري كان أساس قوة معاوية
ودعامة حكمه الرئيسية. وهو كان جهازاً فعالاً يمتلك خبرة كبيرة جداً تراكمت خلال
عهد الخلفاء الثلاثة. كان معظم, إن لم يكن كل , رجالات معاوية قد تقلّدوا مناصب
قيادية ولعبوا دوراً مهماً في نجاح حركة الفتوحات الكبرى, خاصة في الشام. فهم
كانوا معتادين على المعارك والمواجهات والتخطيط الحربي المحكم, وظهرت خبرتهم
وقوتهم في حرب معاوية ضد الإمام عليّ.
·
الجهاز الدعائي
/ الإعلامي لمعاوية : كان يتكون من :
-
أم المؤمنين
عائشة بنت أبي بكر
كان معاوية يقدّر عالياً الدورَ
الذي لعبته عائشة في الصراع ضد عليّ, وخاصة في مراحله الأولى. فموقف عائشة كان هدية إلهية له. فهي التي أشعلت فتيل أول
حربٍ أهليةٍ بإعلانها الحرب علي الخليفة عليّ, قبل معاوية! فإذا كانت زوجة
الرسول(ص) , وابنة الخليفة الأول, تشهر السيف في وجه عليّ, فبمَ يختلف معاوية
عنها؟ هو ببساطة يتابع دربها ويقتدي بنهجها! بل إن معاوية قد أضاف سبباً آخر
لاستعماله في الأغراض الدعائية : الانتقام لكرامة أم المؤمنين التي أهدرها عليّ
يوم الجمل!
وبفضل عائشة,
يستطيع معاوية أن يُعلن للمسلمين بأنه لم يكن هو أول من سَفكَ الدماء في قتالٍ
داخلي في الإسلام. كانت عائشة هي التي كسرت ذلك الحاجز النفسي وعبّدت الدربَ
الذي سار عليه معاوية إلى نهايته.
وإذا كان صحيحاً
أن عائشة عندما أعلنت تمردها علي عليّ وأشعلت حرب الجمل لم تكن آنذاك تسعى لخدمة
شخص معاوية أو تهدف إلى جعله خليفة, إلاّ أن سيرة أم المؤمنين أثناء خلافة معاوية
تظهر أنها قد توصلت إلى تفاهم معه بحيث تتمتع بوضع مميز , ومقام رفيع , وتحاط
بالتوقير البالغ والاحترام في دولة معاوية , في مقابل قبولها ودعمها المعنوي له,
وسكوتها عن انحرافاته الكثيرة عن مبادئ الإسلام النبوي . فلم يُروَ أبداً أن عائشة
غضبت أو اعترضت على تولي معاوية , وهو من الطلقاء, المنصب الأعلى في دولة الإسلام,
غصباً وقهراً. لم تدعُ عائشة المسلمين إلى معارضة معاوية, ولم تطالب بخلعه, ولم
تحشد الجيوش ضده.
كان
معاوية محتاجاً جداً لأي شخصٍ يمكن أن
يطلق عليه اسم " صحابي " لكي يستغلّه في دعايته, فيظهر أن في معسكره مَن
صاحبوا رسول الله.
وقد
وجد ضالته في المغيرة بن شعبة[42],
الداهية الانتهازي. فلأنّ المغيرة قد أسلمَ قبيل
صلح الحديبية, كان بإمكان معاوية أن يقول لجماعته من أهل الشام: هذا صحابيٌ جليلُ
القدرِ ممن عرفوا الرسول(ص) , وهو معنا وعلى نهجنا!
لم
يشارك المغيرة مع معاوية في حرب صفين وبقي في الحجاز. ويبدو أن سبب ذلك كان غموض
الموقف بنظر المغيرة وعدم يقينه بقدرة معاوية على الصمود في المواجهة مع عليّ أو
الانتصار فيها.
ولكنه لما رأى الأمر قد استتب
لمعاوية في آخر المطاف, شمّرَ عن
ذراعيه وانخرط بكلّيته في جبهة معاوية. وبلغ به الولاء لسيده إلى درجة أنه كان
يثابر في كل جمعةٍ على شتم علي بن أبي طالب من على المنبر, حينما عيّنه
معاوية والياً على الكوفة.
وقد أدى المغيرة دوره بكفاءة [43].
وكذلك كان سمرة بن جندب موظفاً رخيصاً لدى معاوية ,
استعمله ليساهم في تثبيت حكمه في العراق أيام زياد بن أبيه. وروى ما يروق له من
الأحاديث.
-
عبيد الله بن
عمر بن الخطاب[44]
لقد
أحسنَ معاوية بن أبي سفيان, بدهائه المشهود,
الاستفادة من عبيد الله بن عمر بن الخطاب حين لجأ إليه. كيف لا وهو يمثل كنزاً ثميناً!
فهو يحمل اسم عمر بن الخطاب . وما أشدّ
حاجة معاوية في موقفه المحارب للخليفة الشرعي إلى اسمٍ
من طراز عمر بن الخطاب.
يروي
نصر بن مزاحم:
" لما قدِمَ عبيد الله بن عمر بن الخطاب على معاوية بالشام, أرسلَ معاوية إلى عمرو بن العاص.
فقال : يا عمرو ! إن الله قد أحيا لك عمر بن
الخطاب بالشام بقدوم عبيد الله بن عمر.
وقد رأيتُ أن أقيمه خطيباً فيشهد على عليّ بقتل عثمان. وينال منه.
فقال : الرأي ما رأيتَ. فبعثَ إليه فأتى.
فقال له معاوية : يا ابن أخي ! إن لك اسم
أبيك, فانظر بملء عينيك وتكلم بكل فيكَ فأنت المأمون المصدق. فاصعد المنبر واشتم علياً واشهد عليه أنه
قتل عثمان.
فقال : أيها الأمير ! أما الشتيمة , فإنه عليّ
بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم, فما عسى أن أقول في حَسَبه؟
وأما بأسُه , فهو
الشجاع المطرق, وأما أيامُه
فما قد عرفتَ. ولكني
مُلزمه دمَ
عثمان.
فقال عمرو بن العاص: إذا والله قد نكأت القرحة"[45]
كان معاوية بحاجةٍ ماسةٍ إلى أشخاصٍ من
أوساط الأنصار في صفوفه. وكان النعمان جاهزاً ليلعب ذلك الدور الذي قدّره
معاوية عاليا,ً فعينه في مناصب قيادية.
فالنعمان بن بشير ورثَ عن أبيه الولاءَ
لقريش. فأبوه كان أولَ مَن
شق الصفّ الأنصاري يوم السقيفة فبايعَ المهاجرين. ويبدو أنه قدّر أنه من الأفضل أن لا يعاكسَ التيارَ
الغالب, وأن التبعية لقريش ستعود عليه بالفوائد, وذلك أنفع من تحدّيها بلا طائل.
فالنعمان
بكل بساطة قلبَ ولاء أبيه لقريشٍ عامة إلى ولاءٍ
شديد لبني أمية خاصة, إلى درجة دفعت معاوية لتعيينه في منصب والي الكوفة في فترة معينة[47],
وهو منصبٌ حساسٌ جداً في دولة بني أمية, لأنه يتطلب والياً بمواصفات خاصة جداً
لقمع أنصار عليّ الكثيرين في عاصمة حكمه.
واستمرّ
النعمانُ في إظهار طاعته العمياء, وإخلاصه الشديد لبني أمية, حتى في عهد ما بعد
معاوية. فمثلاً روى خليفة
بن خياط أن يزيد بن معاوية , سنة 63 للهجرة, قد بعثَ النعمان بن بشير مرسالاً له إلى ابن الزبير في مكة يدعوه إلى
بيعة يزيد! وأن ابن الزبير قد أجابه بأنه لن يبايع رجلاً
" يشرب الخمر, ويدع الصلاة, ويتبع الصيد"[48]
واستفاد معاوية أيضا من تيار
الاعتزال الذي من أبرز رموزه :
سعد بن أبي وقاص
كان
معاوية يحاول أن يُظهر لعامة أهل
الشام أن حربه مشروعة ولذلك كان يبذل أقصى الجهد لحشد أية أسماء لها ماضٍ معين في الإسلام في صفّه,
لعلها تعطيه بعض الشرعية في موازنة ما يمثله عليّ من ثقل عظيم في الإسلام. وحتى لو
لم تكن بعض الشخصيات في صفه ولم يصدر منها أي تأييد مباشر له, فقد كان يحاول أن
يظهرها وكأنها ضمناً مَعه في حربه لعليّ.
وكان
معاوية حريصاً على
محاولة استمالة كل مَن
يمكن أن يكون ذا فائدة على الصعيد الدعائي في حربه ضد
عليّ. ولذلك كتب إلى سعد بن أبي وقاص:
"
إن أحق الناس بنصر عثمان أهل الشورى من قريش, الذين أثبتوا حقه, واختاروه على
غيره.
وقد نصَره طلحة والزبير وهما شريكاك في الأمر, ونظيراك في
الإسلام. وخفّت لذاك أم المؤمنين.
وهنا
يظهر معاوية منسجماً مع نفسه في
منهاجه. فكما استفاد من عبيد الله بن عمر , الذي يحمل اسم أبيه, في حملته
الدعائية, يحاول الآن الاستفادة من سعد الذي يعتبر من الصحابة الكبار, وأحد الستة
الذين رشحهم عمر للخلافة. وفي مواجهة البون الشاسع الذي يفصله عن عليّ في مجال
الأهلية الدينية والشرعية الإسلامية, كان معاوية يحاول تجميع أكبر قدر
ممكن من الخصوم لعليّ, ويا حبذا لو كان هؤلاء الخصوم ذوي ماض في الإسلام,
يعوّض قليلا عن مكانة معاوية الناقصة في دين محمد(ص). كان يكفي معاوية أن يكون
هؤلاء خصوماً لعليّ, وليس شرطاً أن يكونوا من تابعيه وأشياعه. لأنه في
النهاية فإن كل من وقف على الحياد كان يصب في مصلحة معاوية. فالحياد يعني
بالضرورة نوعاً من المساواة الأخلاقية بين الطرفين
المتنازعين. ولذلك لم يتأثر معاوية كثيراً
عندما رفض سعد طلبه وأصر على منهجه الداعي "لاعتزال الفتنة ".
فمعاوية
يكتفي من سعد بما كان يرويه ويذيعه بين المسلمين :
"
أشهد أن رسول الله(ص) قال : إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم.
والقائم خير من الماشي. والماشي خير من الساعي.
وسوف
يعبّر سعد بن أبي وقاص, بعد فوات الأوان, عن استيائه من مآل الأمر إلى معاوية
وتحوّله إلى ملكٍ وراثي للأمويين
دون غيرهم من بطون قريش :
"
ودخل إليه سعد بن مالك فقال : السلام عليك أيها الملك!
فغضب
معاوية فقال : ألا قلتَ
السلام عليك يا أمير المؤمنين؟
أبو موسى الأشعري:
كان الدور التثبيطيّ[52]
الذي لعبه أبو موسى تجاه عليّ وحكمه و دعوته في الكوفة ذا فائدةٍ عمليةٍ كبيرة
لمعاوية وحزبه. ورغم أن أبا موسى لم يكن يدين بالولاء الشخصي لمعاوية, بل ربما كان
يزدريه ويعتبره ناقص الأهلية والشرعية الإسلامية, إلاّ أن إصراره الشديد على نشر فِكر
" اعتزال الفتنة " بين المسلمين, وبالتحديد من أهل العراق, كان أيضا
مفيداً جدا لمعاوية , لأن دعوة أبي موسى هذه تعني إعلان المساواة الأخلاقية بين
الطرفين المتصارعين, وذلك ما كان يطمح له معاوية ويسعى إليه.
وأخيراً جاء الدور المشبوه الذي اضطلعَ به أبو موسى في
مؤتمر التحكيم, وفشله بالدفاع عن صحة موقف الخليفة عليّ , بل وخيانته له وقيامه
بخلعه علناً, ليكملَ مسلسل المواقف السلبية, بل العدائية, لأبي موسى تجاه عليّ.
وتجدر الإشارة إلى أن معاوية استندَ إلى مهزلة مؤتمر التحكيم وموقف أبي موسى
فيه في إعلان طموحه العلنيّ لمنصب الخلافة. فأهل الشام بايعوا معاوية بالخلافة
فقط بعد مؤتمر التحكيم, وقبل ذلك كانوا ينادونه بِ"الأمير" وأصبح "
أمير المؤمنين" بعد أن أعلن معاوية لهم إن مندوب العراق , أبا موسى, قد خلع
علياً بينما ثبته مندوبه, وبالتالي فالتحكيم قد انتهى لصالحه!
وبقي معاوية يذكر أبا موسى بالخير , تقديراً للدور الذي
لعبه خلال مجرى صراعه مع عليّ, حتى أنه لم ينسَ أن يوصي ابنه يزيد بأن يحسن لابن
أبي موسى, ويدعى أبا بردة , فقال له :
" إن وليتَ من أمر المسلمين شيئا فاستوصِ بهذا,
فإنّ أباه كان أخاً لي ( أو خليلاً أو نحو هذا من القول) , غير أني رأيت في القتال
ما لم يرَ"
وقد ذكر أبو موسى نفسه مرة أن معاوية كان شديد الإكرام
له, فقال عنه :
" ... فلما ولي أتيته فلم يغلق دوني باب , ولم تكن
لي حاجة إلاّ قضيت"[53]
عبد الله بن عمر بن الخطاب:
فابن عمر, الذي قرر" اعتزال الفتنة" وبالتالي نأى بنفسه عن الطرفين, وكان
قد أصر على رفض مبايعة علي بن أبي طالب, مساوياً بينه وبين معاوية من ناحية أخلاقية, لم يتردد
وهو
في أواخر عمره, شيخا طاعنا في السن, في مبايعة رجل من أمثال عبد الملك بن مروان !
فقد روى البخاري أن
عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان : " إني أقر بالسمع والطاعة
لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت, وإن بني
قد أقروا بذلك" [54]
وكان
قبل ذلك قد بايع يزيد بن معاوية! وتشدّد
في الوفاء ببيعته, كونه إماماً
شرعياً! فابن عمر لا يرى في مخالفة طاغية كيزيد
إلاّ غدراً!
"
لما خلع اهل المدينة يزيد بن معاوية, جمع ابن عمر حشمه وولده فقال : إني سمعت
النبي(ص) يقول : ينصب لكل غادر لواءٌ يوم القيامة. وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع
الله ورسوله. وإني لا أعلم غدراً
أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال. وإني لا أعلم احداً منكم خلعه ولا تابَعَ في
هذا الأمر, إلاّ كانت الفيصل بيني وبينه"[55]
ومن البديهي أن يكون شخصٌ بهذه المواصفات مناسباً جداً لاستعمالات معاوية.
فلم تكن المشاعر الداخلية في نفس ابن عمر, ومدى اقتناعه بأهلية معاوية لمنصب
الخلافة, تهم معاوية على الإطلاق . فقط ما كان يهمه هو أن يرى الناس شخصاً يحمل
اسم عمر بن الخطاب يبايعه, وبإخلاص, بينما رفضَ بيعة علي بن أبي طالب!
ولا بد من الإشارة إلى أن نزعة ابن عمر لمهادنة الحكام وطاعتهم, وترويجه
لهذه الفلسفة تحت مسمى اجتناب الفتن بين المسلمين, لم يطبقها في حالة علي بن أبي
طالب بالذات. فهو أظهرَ شجاعة وثقة بالنفس – ولعلها ليست ثقة بالنفس بقدر ما
هي معرفة بخصال الإمام علي الإسلامية وسماحته, بخلاف الآخرين من جبابرة بني أمية –
دفعته إلى إبلاغ علي أنه لن يبايعه. ولكن ابن عمر لم يفعل ذات الشيئ مع معاوية ولا
مع يزيد ولا مع عبد الملك, فبايعهم.
ولمّا امتنع وأبى, لم يرغمه عليّ على
البيعة.
فلم
يكتفِ بذلك , بل أخذ يشيع بين الناس ما يفيد
أن علياً إنما هو رجلٌ
من عامة الناس , فلا يمتاز بشيئ, ولا يسمو إلى مستوى الخلفاء الثلاثة! فهو قد روى
:
" كان رسول الله(ص) ولا يعدل به أحد.
ثم
نقول : خير الناس أبو بكر, ثم عمر, ثم عثمان.
ثم لا نفاضل
قال
: فيبلغ ذلك النبي(ص), فلا ينكره."[56]
وهذا
الكلام, والممارسة, يدل على منهج عدائيّ, مقصودٍ
وثابت, من ابن عمر تجاه عليّ بن أبي طالب بالذات.
*****
وهكذا اكتملت
عناصر ماكينة معاوية الرهيبة: جهازٌ إداريّ وعسكريّ خبير ٌ وفعّال, وجهازٌ دعائيّ
وإعلاميّ قويّ.
الفصل الثاني : الطريق الى صفين
بدءُ عهدِ عليّ : عزلُ معاوية عن ولاية
الشام[57]
كان
أول قرار للخليفة علي هو عزل معاوية من منصبه. ولم يستمع لمن اقترحوا عليه
التريّث في ذلك . روى البلاذري:
" قال عليٌ لعبد الله بن عباس : سِر إلى الشام فقد بعثتك إليها.
فقال ابن عباس : ما هذا برأي ! معاوية ابن عم
عثمان وعامله,
والناس بالشام معه وفي طاعته, ولستُ آمن أن يقتلني بعثمان على الظنة. فإن لم يقتلني تحكم
عليّ وحبسني. ولكن اكتب إليه فمَنّه وعِدهُ, فإن استقام لك الأمر بعثتني إن
أردتَ"[58]
وفي رواية ابن عساكر عن الكلبي ان عليا قال "قد
كان المغيرة بن شعبة اشار عليّ وانا بالمدينة أن استعمل معاوية على الشام فأبيتُ
ذلك ولم يكن الله ليراني أن أتخذ المُضلّين عضُدا "
وسوف يبقى موقف عليّ المبدأيّ هذا, منهاجاً ثابتاً لا يتغير مهما كانت الظروف ,
وبغض النظر عن عِظم
العواقب , أو حسابات الربح والخسارة. وبعد معركة صفيّن, وحين كان عليّ يبذل جهداً عظيماً من أجل إعادة تجميع أهل العراق
وتحشيدهم للسير إلى الشام مرة أخرى, وكان بحاجة إلى تأييد كل مَن له تأثير على عموم الناس, سيرفض
أيضا التنازل عن مبادئه قيد أنملة:
" ثم قام رجالٌ من أصحاب عليّ
فقالوا : يا أمير المؤمنين! أعطِ هؤلاء هذه الأموال , وفضّل هؤلاء
الأشراف من العرب وقريش من الموالي,
ممن يتخوف خلافه على الناس وفراقه. وإنما قالوا له : هذا الذي كان معاوية يصنعه
بمن أتاه. وإنما عامة الناس همهم الدنيا ولها يسعون, وفيها يكدحون. فأعطِ هؤلاء الأشراف,
فإذا استقام لك ما تريدُ عدتَ إلى أحسن ما
كنتَ
عليه من القسم.
فقال عليّ : أتأمروني أن اطلب النصر بالجور فيمن
وليتُ
عليه من الإسلام؟!
فوالله
لا أفعلُ
ذلك ما لاحَ
في السماء نجم!
إن
هذا الرجل البسيط من أنصار عليّ أراد
أن يساعد إمامَه عن طريق اقتراح فكرةٍ " ذكية
" بنظره: أن يُداهنَ عليّ ويجامل في سياسته, إلى أن يستتب له
الأمر, ثم يعود إلى العدل بعدها! ولكن غاب عنه أن علياً يعتبر الحق كلّاً لا يتجزأ وأنه لا يمكن
له أن يظلمَ قليلاً ويعدلَ أكثر, لأن
ذلك نقيض معدنه ورسالته.
كان
الامام عليّ يعرف أن طريق الحق باهظة التكاليف وأن التمسّك بالمبادئ قد يؤدّي الى
خسائر دنيوية فادحة ولكن رغم ذلك فهو إمامُ
هدىً ولا يساوم . قال " والله ما معاوية بأدهى منّي, ولكنّه يغدر ويفجر . ولولا
كراهية الغدر لكنتُ من
أدهى الناس: ولكن لكل غدرة فجرة, وكل فجرة كفرة. ولكل غادر لواءٌ يُعرف به يوم القيامة . والله ما استغفل بالمكيدة , ولا
استغمز بالشديدة "[61]
قال
ابن ابي الحديد " آكدُ الأسباب في تقاعد العرب عن أمير
المؤمنين عليه السلام أمرُ
المال. فإنه لم يكن يفضل شريفاً على مشروف, ولا عربياً على عجمي. ولا
يُصانعُ الرؤساءَ وأمراءَ القبائل كما
يصنع الملوك, ولا يستميل أحداً إلى نفسه.
وكان معاوية بخلاف ذلك, فترك الناس علياً والتحقوا بمعاوية.
....
إن امرأتين أتتا علياً
عليه السلام , إحداهما من العرب والأخرى من الموالي. فسألتاه, فدفع إليهما دراهمَ وطعاماً بالسواء.
فقالت
إحداهما : إني امرأة من العرب, وهذه من العجم!
وهكذا قرر عليٌ تجذير
المواجهة : لن يكون هناك حلّ وسَط مع رجال عهد عثمان, وأبرزهم معاوية. وما على
هؤلاء سوى الرحيل! وسوف يسير عليٌ إلى هدفه بطريقٍ مستقيم, مهما تكن العواقب.
روى
ابن قتيبة في الامامة والسياسة:
" وكتبت نائلة بنت
الفرافصة إلى معاوية تصف دخولَ
القوم على عثمان, وأخذه المصحف ليتحرم به, وما صنع محمد بن أبي بكر. وأرسلت
بقميص عثمان مضرجاً
بالدم ممزقا, وبالخصلة التي نتفها الرجل المصري من
لحيته, فعقدت الشعرَ في
زر القميص. ثم دعت النعمان بن بشير الأنصاري فبعثته إلى معاوية "
وروى
ابن كثير في البداية والنهاية "خرج
النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بدمه, ومعه اصابع نائلة التي اصيبت
حين حاجفت عنه بيدها فقطعت مع بعض الكف. فورد به على معاوية بالشام فوضعه
معاوية على المنبر ليراه الناس , وعلق الاصابع في كم القميص , وندب الناسَ الى
الاخذ بهذا الثأر والدم وصاحبه. فتباكى الناس حول المنبر , وجعل القميص يرفع تارة
ويوضع تارة "
وقد ذكر ابن عساكر
في تاريخ دمشق روايتين[64]
حول قميص عثمان : الأولى عن أبي سبرة تقول أن زوجته نائلة بنت الفرافصة هي
التي أرسلت لمعاوية بالشام قميص عثمان الملطخ بالدم مع رسالة تصف له فيها ما جرى
له وأن معاوية قد أطاف بالقميص على أجناد الشام وحرضهم على الطلب بدمه فبايعوه على
ذلك. والثانية تقول ان أم حبيبة بنت أبي سفيان قد أخذت قميص عثمان من اهله
وأرسلته مع خصلة الشعر التي نتفت من لحيته إلى معاوية مع النعمان بن بشير, فنشر
معاوية القميص على المنبر وبايعه الشاميون على الطلب بدمه.
وروى البلاذري
في انساب الاشراف ان ام حبيبة ارسلت بالقميص الملطخ بالدماء الى معاوية "
فأخذه ابو مسلم الخولاني من معاوية فكان يطوف به في الشام في الاجناد ويحرض
الناس على قتلة عثمان"
وفي رواية الامامة
والسياسة:
"
فصعد المنبرَ
معاوية بالشام, وجَمَع الناسَ ونشر عليهم
القميص. وذكر ما صُنع
بعثمان, فبكى الناس وشهقوا, حتى كادت نفوسهم أن تزهق.
ثم دعاهم إلى الطلب بدمه. فقام إليه أهل الشام
فقالوا : هو ابن عمك وأنتَ وليّه, ونحن الطالبون معك بدمه"
[65]
وروى
الطبري " وضع معاوية القميص
على المنبر وكتب بالخبر الى الاجناد وثاب اليه الناس وبكوا سنة وهو على المنبر
والاصابع معلقة فيه"
وقد
وصف أحدهم مدى الشحن النفسي الذي مارسه معاوية في الشام على النحو التالي " إني
قد خلفتُ بالشام خمسين ألف شيخ, خاضبي لحاهم
بدموع أعينهم, تحت قميص عثمان, رافعيه على أطراف الرماح. قد عاهدوا الله ألاّ
يشيموا سيوفهم حتى يقتلوا قتلته , أو تلحق أرواحهم بالله"[66]
وربما
تكون هناك مبالغة في هذا الوصف. ولكن لا شك أن رجلاً كمعاوية ما كان له أن لا
يستغلّ , إلى أقصى حد, قميصَ
عثمان الملطّخ بالدماء. وعامة الناس في الشام لا بد لهم ان يتأثروا بذلك المنظر
وبما يسمعوه من كلامٍ عن قتل الخليفة, الشيخ الكبير, الصائم, المظلوم, بغياً على
أيدي عصابةٍ من الغوغاء.
ووصف الذهبي
في سير اعلام النبلاء, مشهدا مثيرا على لسان مندوب عليّ جرير بن عبد الله عندما
وصل الى الشام حاملا رسالة علي . قال ",,, فاذا هو (معاوية) يخطب والناس يبكون حول قميص عثمان وهو معلق على
رمح"
ولكن من المرجح أن تكون ذروة الشحن النفسي الذي مارسه
معاوية لرجاله بشأن مقتل عثمان قد تأخرت إلى بضعة أشهر من المقتل, حين اتضحت
الصورة أكثر لمعاوية, خاصة مع التطورات في البصرة وبدء استعداداته لمعركة صفين.
كان
عامة أهل الشام جزءً مهماً من المجتمع العربي الواسع المنتشر حديثاً في الأمصار التي تم فتحها. وكان المجتمع
الشامي – على خلاف ما تحاول بعض المصادر التاريخية أن تصوره بمظهر القوم الجفاة
الذين لا حسّ دينيا لهم ولا يعرفون سوى طاعة معاوية العمياء– يمتلك الخصائص العامة
للمجتمع المسلم . لا شك أنه كان بينهم مَن
يمكن أن يُسموا " القراء"[68]
الذين تميّزوا بتدينهم وبتعلقهم برموز الإسلام وحرفية نصوص القرآن. وهؤلاء يناظرون
"قراء" الكوفة المشهورين , مع الاختلاف في العدد وفي القدرة على
التأثير. وهؤلاء "القراء" كانوا
مصدراً مهماً
" للشرعية" وخاصة على الصعيد الشعبي بين العامة. وكان معاوية حريصاً على تقديم تبرير "شرعي"
لتمرده
على عليّ , مهما بدا ذلك التبرير سطحياً أو
كاذباً, ولم يكتفِ
فقط بممارسة سياسة القوة.
وبادر
معاوية إلى التهيئة الشعبية الواسعة لحربه المقبله ضد الخليفة
الشرعي. فتشاور معاوية مع عمرو بن العاص حينما قدم جرير بن عبد الله من عند عليّ
طالباً منه البيعة , فأشار عليه عمرو بأن يبذل
جهده لشراء ذمة شرحبيل بن السمط الكندي وأن يتجنب في هذه المرحلة المبكرة
الدعوة العلانية لأهل الشام إلى رد بيعة عليّ لأن الوقت لذلك لم يحن بعد :
"
ورأسُ
الشام شرحبيل بن السمط الكندي, وهو عدو لجرير
المرسل إليك. فأرسل إليه ووطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن علياً قتل عثمان, وليكونوا أهل الرضا عند
شرحبيل, فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب. وإن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج
منه بشيء أبدا"
وكانت
نصيحة عمرو في غاية الذكاء. فشرحبيل شيخ القبائل اليمانية في الشام, وهو يعرف أن
له تأثيراً كبيراً على عامة الناس ولا بد من كسبه بأي وسيلة.
وبالفعل
بدأ معاوية في تنفيذ خطة شراء شرحبيل والهيمنة عليه . فأرسل إليه يستدعيه من حمص
" لأمرٍ جَلل".
وفي نفس الوقت طلب معاوية من مجموعة من أتباعه المقربين , الذين هم من رؤساء
القبائل اليمانية وأبناء عمومة شرحبيل, أن يلقوه في الطريق ويخبروه أن علياً قتل عثمان.
فلما وصله كتاب معاوية, استشار شرحبيل أهل حمص
في الأمر. وحصل بينهم نقاشٌ
وأخذ وردّ. فنصَحَه
بعضهم, وخاصة عبد الرحمن بن غنم الأزدي " وكان أفقه أهل الشام" ,
بأن ينأى بنفسه وبقومه عن حرب عليّ لأنه الخليفة الشرعي "وقد بايعه المهاجرون
والأنصار" وطلب منه ألاّ يسير إلى معاوية وأن يجنب قومه الهلاك, بل وطرح
عليه فكرة أن يذهب إلى عليّ فيبايعه باسم أهل الشام[69]!
وهذا
الموقف يشير إلى أنه كانت في مجتمع أهل الشام شرائح وفئات يمكن لعليّ بن أبي طالب
أن يركّز عليها ويستهدفها, فيستميلها عن
طريق مخاطبتها مباشرة, وتجاوز معاوية. ولكن علياً لم يفعل, ولم يرغب في
أساليب ملتوية لاستقطاب أناسٍ بعينهم.
ولكن
شرحبيل لم يكن ليتخذ هكذا قرار دون أن يقابل معاوية ويسمع ما عنده. فقرر التوجه
إلى دمشق , حيث وجد معاوية بانتظاره وقد جهّز له كل مظاهر التوقير والتعظيم وأظهر
له وداعة ورقة ليس لها نظير , حتى صوّر له نفسه وكأنه السيد ومعاوية التابع:
قال نصر بن
مزاحم " لما قدم شرحبيل على معاوية تلقاه الناس فأعظموه.
ودخل على معاوية, فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال : يا شرحبيل! إن جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة عليّ. وعليّ خيرُ الناس لولا أنه
قتل عثمان بن عفان. وقد حبستُ نفسي عليك. وإنما أنا رجلٌ من أهل الشام.
أرضى ما رضوا وأكره ما كرهوا"
ولا
بدّ من ملاحظة مدى الدهاء في خطاب معاوية. فهو في هذه المرحلة لا يطرح نفسه نداً
لعليّ , وإنما هو "رجلٌ من أهل الشام " !
وكان معاوية طبعاً
يعرف أن أي زعيم عشائري يوضع في هكذا موقف, لا بد له أن يرجع إلى قومه ليشاورهم.
وكان معاوية قد أعد العدة لذلك عن طريق عملائه من أقرباء شرحبيل الذين سيرجع إليهم
للتشاور. وفعلا قام شرحبيل يشاور عشيرته في الأمر[70].
وأدّى عملاء معاوية من أقربائه دورهم على أكمل وجه! فهوّلوا الأمر – مقتل عثمان –
على شرحبيل وأظهروا له ضرورة حرب عليّ وقتلة عثمان,
إلى درجة جعلت شرحبيل يعود إلى معاوية مطالباً
إياه بحرب أهل العراق! وهكذا نجحت خطة معاوية وعمرو. وانعكست الآية فبدا وكأنّ
معاوية فقط يستجيب لضغط شرحبيل وأهل الشام! نتابع نص نصر
:
"
فخرجَ فلقيه هؤلاء النفر الموطؤون له, فكلهم
يخبره أن علياً قتل
عثمان بن عفان. فخرج مغضباً إلى
معاوية فقال : يا معاوية : أبى الناس إلاّ أن علياً قتل عثمان.
ووالله لئن بايعتَ له
لنخرجنك من الشام أو لنقتلنك! قال
معاوية : ما كنتُ
لأخالف عليكم . وما أنا إلاّ رجلٌ من
أهل الشام. قال : فرُدّ هذا الرجلَ إلى صاحبه إذاً. قال : فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت
بصيرته في حرب أهل العراق. وأن الشام كله مع شرحبيل"
ويروي
نصر بن مزاحم أن معاوية بعدما ضمن تأييد شرحبيل بن السمط الكندي قال
له:
" ... فسِر في مدائن
الشام ونادِ
فيهم بأن علياً قتل
عثمان , وأنه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه.
فسارَ فبدأ بأهل حمص, فقام خطيباً, وكان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها
. فقال : يا أيها الناس! إن عليا قتل عثمان بن عفان. وقد غضب له قومٌ فقتلهم , وهزم الجميع وغلب على الأرض
فلم يبق إلاّ الشام. وهو واضعٌ
سيفه على عاتقه, ثم خائضٌ به
غمارَ الموت, حتى يأتيكم أو يحدث الله أمراً. ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية, فجدّوا
وانهضوا.
فأجابه
الناس إلاّ نسّاك أهل حمص, فإنهم قاموا عليه فقالوا : بيوتنا قبورنا ومساجدنا,
وأنت أعلم بما ترى.
وهكذا
فإن معاوية , وبمساعدة فاعلة من شرحبيل بن السمط, نجح في تصوير عليّ لعموم
الشاميين بمظهر الغازي القادم إلى الشام فاتحا, عدا عن كونه قاتل الخليفة المظلوم,
وبالتالي نجح في تحريضهم على الدفاع عن ترابهم ونسائهم وعرضهم, فنال منهم
تعبئة نفسية كبيرة. وكان هذا نجاحاً
عظيماً لمعاوية, وتتويجاً لجهوده العظيمة في حملة دعائية هائلة.
فمن المؤكد أن علياً لم يتصرف أبداً
كفاتح إزاء مسلمين آخرين "ضالين", مثلما أثبت ذلك في البصرة, ومثلما
سيثبت ذلك لاحقا في النهروان.
ورواية
ابن اعثم هذه تظهر حرص معاوية على
إظهار الجانب الدفاعي في موقفه وكيف أنه , وأهل الشام, يتعرضون الى تهديد ظالم
بالعدوان من قبل عليّ واهل العراق " اللهم فانصرنا على أقوام يوقظون
نائمنا ويخيفون قاعدنا ويريدون إراقة دمائنا وإخافة سبلنا ".
وبالتوازي مع جهود شرحبيل لم يكن معاوية يتوقف عن مخاطبة
اهل الشام وعرض حجّته وتوضيح سلامة موقفه وتذكيرهم بتاريخه معهم. روى ابن عساكر ان معاوية قال" ايها الناس قد
علمتم أني خليفة امير المؤمنين عمر وأني خليفة امير المؤمنين عثمان عليكم وأني لم
أقم رجلا منكم على خزاية قط وأني وليّ عثمان وابن عمه , وقد قال الله في كتابه :
ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لولّيه سلطانا "
قرر عليّ ان يقوم بالخطوة الاخيرة الواجبة عليه قبل ان
يتجه في مسار المواجهة الشاملة مع اهل الشام. فقد كان لا بد من عرض السلام عليهم
اولاً , بغض النظر إن كانت هناك فرصة حقيقية للسلام أم لا , انما لا بد من عرض
السلام ولا بد أن يأتي الرفض قبل الانطلاق نحو حل المواجهة العسكرية.
أرسل عليّ رجلاً علماً من قبيلة بجيلة اليمانية[74]
الى معاوية, هو جرير بن عبد الله[75].
وهناك ملابسات كثيرة حول قرار علي هذا ولغطٌ كبير في الراويات التاريخية بشأن هذه
الشخصية وتفاصيل ما جرى. لذلك سنتطرق لهذا الموضوع بشيء من التوسع, وبالذات لأن هناك
ملاحظة تكررت في سيرة الامام عليّ في الكوفة : أشخاصٌ من جماعته , مندوبيه / ولاته
/ ممثليه / قياداته , يتركونه بعد خلافات ومشاكل وبعضهم ينضمون الى عدوه ! فهل
هي مسألة سوء اختيار من طرف عليّ ؟ هل يسيئ اختيار الاشخاص المناسبين ؟ ام انه كان
مخدوعاً بهؤلاء ثم توضحت له الصورة فيما بعد ؟ أم ماذا ؟
سنتطرق هنا الى حالة جرير بن عبد الله ( وفي فصول لاحقة
سنأتي للحالة الأشهر : ابي موسى الاشعري).
في تاريخ دمشق لابن
عساكر عدة روايات حول إرسال علي لجرير لأخذ بيعة معاوية , ألخصها كما
يلي :
-
كان جرير عاملا على همدان فنزعه عليّ لما تولّى , فقدم عليه وبايعه.
-
طلب جرير بنفسه من علي أن يكون هو رسوله إلى معاوية لأن علاقته به ودية (لم
يزل لي مستنصحا ووداً فآتيه فأدعوه على أن يسلم هذا الأمر لك ويجامعك على الحق وأن
يكون أميراً من أمرائك وعاملاً من عمالك ما عمل بطاعة الله واتبع ما في كتاب الله)[76] ,
ومعظم أهل الشام من قومه ( وأدعو أهل الشام إلى طاعتك وولايتك فإن جلهم قومي
وقد رجوتُ ألاّ يعصوني ).
-
إذن يبدو ظاهراً أن جريراً كان من دعاة الحل السلمي مع معاوية ويسعى
إلى ترتيب تفاهم معه يدخله في طاعة علي ولكن مع الحفاظ على وضع مقبول له. وهذا ما
أثار اعتراضات العناصر الراديكالية في معسكر علي من أمثال مالك الأشتر الذي عبّر
لعليّ عن شكوكه بجرير ( لا تبعثه ولا تصدقه, فوالله إني لأظن هواه هواهم ونيته
نيتهم)
-
وافق عليّ على إعطاء جرير الفرصة ليمارس سفارته, ولكن مع التشديد على
رفض إصدار أية وعود لمعاوية (فإتِ معاوية بكتابي فإن دخل فيما دخل فيه
المسلمون وإلاّ فانبُذ إليه على سواء وأعلمه أني لا أرضى به أميرا وان العامة
لا ترضى به خليفة). وفيما يلي نص كتاب علي " من عبد الله عليّ أمير
المؤمنين الى معاوية بن ابي سفبان. أما بعد فإن بيعتي لزمتك وانتت بالشام
لأنه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوا عليه. فلم يكن
لشاهدٍ ان يختار ولا لغائبٍ ان يرد وإنما الشورى للمهاجرين والانصار فإذا
اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك رضى . فإن خرج من امرهم خارج بطعنٍ او رغبة
ردّوه الى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله على
ما تولى ويصله جهنم وساءت مصيرا. وإن طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي وكان
نقضها كردهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر امر الله وهم كارهون. فادْخلْ
فيما دخل فه المسلمون فإنّ أحبّ الأمور إليّ فيك العافية , إلّا أن تعرض
للبلاء فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك. وقد أكثرتَ في قتلة عثمان
فادخل فيما دخل فيه الناس ثم حاكم القوم اليّ أحملك وإياهم على كتاب الله .
فأما تلك التي تريدها يا معاوية فهي خدعة الصبي عن اللبن. ولعمري لئن نظرت بعقلك
دون هواك لتجدنّي أبرأ قريش من دم عثمان. واعلم يا معاوية انك من الطلقاء الذين
لا تحل لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى. وقد ارسلت اليك والى من قبلك جرير بن
عبد الله وهو من اهل الايمان فبايعْ ولا قوة الا بالله"
-
الظاهر ان أداء جرير لمهمته كان مقبولاً, بل وجيدا. فبعد أن سلّم معاوية كتابَ
علي, ألقى خطبة أكد فيها على صحّة وإلزامية بيعة علي بل انه وصل إلى حد التهديد ( أما
بعد يا معاوية فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين وأهل المصرين وأهل الحجاز
واليمن ومصر وعمان والبحرين واليمامة, فلم يبقَ إلاّ أهل هذه الحصون التي أنتَ
فيها لو سال عليها من أوديته سيلٌ غرقها), واختتم كلامه بفكرة رائعة وبليغة : تداول
السلطة , حين قال لمعاوية ( فإن قلتَ استعملني عثمان ثم لم يعزلني فإن هذا
أمرٌ لو جازَ لم يقم لله دينٌ, وكان لكل امرئ ما في يديه. ولكن الله جعل للذخر من
الولاة حق الأول , وجعل تلك الأمور موطأة وحقوقاً ينسخ بعضها بعضاً ).
-
قام معاوية باحتجاز جرير لديه لفترة طويلة , إلى حد أن شكوك علي قد ثارت
بشأن جرير فكتب إليه يأمره بعدم المكوث في الشام وأن لا يساوم معاوية بل يخيّره
بين الدخول في الطاعة التامة أو الحرب (حرب مجلية أو سلم مخزية)[77].
ويبدو ان معاوية احتجز جريرا لأنه أراد التأكد من صلابة تأييد قاعدته في الشام له
إذا قرر الذهاب إلى آخر الشوط واختيار المواجهة. وكان بحاجة إلى وقت قبل أن يعطي
جوابه النهائي.
-
وخلال وجوده في الشام تواجه جرير مع خصمه القبائليّ : شرحبيل بن السمط
الكندي ودار بينهما كلام كثير , ومنه مثلا ( قال له شرحبيل : إنك أتيتنا بأمر
ملفف لتلقينا في لهوات الأسد فأردتَ أن تخلط الشام بالعراق وقد أطريتَ عليا وهو
القاتل عثمان والله سائلك عما قلتَ يوم القيامة. فقال جرير : أما قولك اني جئتُ
بأمر ملفف فكيف يكون ملففا وقد أجمع عليه المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم
بإحسان وقاتلوا معه طلحة والزبير. وأما قولك اني ألقيك في لهوات الأسد ففي لهواته
ألقيتَ نفسك . وأما خلط الشام بالعراق فخلطهما على حق خيرٌ من فرقتهما على باطل.
وأما قولك ان عليا قتل عثمان فوالله ما في يديك من ذلك إلاّ قذفٌ بالغيب من مكان
بعيد وان ذلك لباطلٌ ولكنكَ مِلتَ إلى الدنيا وأهلها وأمر كان في نفسك)[78]. بل ان نصر بن مزاحم يقول أن جريرا كاد أن يقلب أفكار شرحبيل
رأساً على عقب,
حين أكد له براءة علي من دم عثمان وذكّره بفضله في الإسلام وموضعه من الرسول الى
درجة ان شرحبيل عاد متردداً
وقال " لا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة."
مما استدعى تدخل معاوية الفوري ليتدارك الموقف " ,,, ولفّف له معاوية الرجالَ يدخلون إليه ويخرجون. ويعظمون عنده قتل
عثمان ويرمون به علياً,
ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلفة, حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه".[79]
-
وأخيراً أطلقه
معاوية عائدا الى العراق حاملاً جوابه النهائي الى عليّ : لن أبايعك , وأهل الشام
معي[80]!
ويحدثنا ابن ابي الحديد
– نقلا عن نصر بن مزاحم – أن جريرا عندما عاد للكوفة واجه اتهاماً قاسيا من الأشتر
الذي شكك به وقال انه لو كان هو المندوب " .. لحملتُ معاوية على خطة أعجله
فيها عن الفكر" وأن جريرا دافع عن نفسه وقال ان أهل الشام , وبالأخص عمرو
وحوشب وذو الكلاع, يتهمون الأشتر بقتل عثمان ولو وصلهم لقتلوه. وتابع: أن الأشتر
قال لجرير أيضا " إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يداً بمسيرك إليهم, ثم رجعتَ
إلينا من عندهم تهددنا بهم, وأنت والله منهم ولا أرى سعيك إلاّ لهم! لئن أطاعني
فيك أمير المؤمنين ليحبسنك وأشباهك في حبس لا تخرجون منه حتى تستتم هذه
الأمور ويهلك الله الظالمين"
واختتم ابن ابي الحديد
الرواية بالقول ان ذلك أدى إلى مفارقة جرير لعلي " فلحق بقرقيسياء ولحق به
ناسٌ من قسر من قومه, فلم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر رجلا ولكن شهدها من أحمس
سبعمائة رجل[81]"
ورواية الدينوري
في الاخبار الطوال تتشابه في معالمها الأساسية مع ما ذكره ابن عساكر وابن ابي
الحديد ونصر. ولكن فيها تفصيل أدق بشأن مفارقة جرير للامام علي عند عودته من
سفارته , حيث يظهر السياق ان هروب جرير نتج بالتحديد عن موقف الاشتر الذي اتهمه
وهدده " فغضب جرير مما استقبله به الاشتر, فخرج من الكوفة ليلا في اناس
من اهل بيته, فلحق بقرقيسيا, وهي كورة من كور الجزيرة فأقام بها."
وموضوع مفارقة جرير لعليّ ولجوئه الى الجزيرة يكاد يتفق
عليه المؤرخون [82]. وقد روى
ابن أبي الحديد ايضا بشأن جرير نقلا عن
كتاب المعارف لابن قتيبة " واعتزل عليا عليه السلام ومعاوية, وأقام
بالجزيرة ونواحيها حتى توفي بالشراة سنة 54 في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة"
وتقول الروايات[83]
ان هروب جرير أثار غضب عليّ الشديد . روى الدينوري
في الاخبار الطوال "وغضب علي لخروجه عنه. فركب الى داره فأمر بمجلس له
فأحرق. فخرج ابو زرعة بن عمرو, ابن عم جرير فقال : إن كان إنسان قد
أجرم فإن في هذه الدار أناسا كثيرا لم يجرموا إليك جرما. وقد روعتهم! فقال علي:
أستغفر الله". وقال ابن أبي الحديد
" ويذكر أهل السير أن عليا عليه السلام هدم دار جرير ودور قوم ممن خرج
معه, حيث فارق عليا عليه السلام منهم أبو اراكة بن مالك بن عامر القسري,
كان ختنه على بنته" كما نقل عن اسماعيل بن جرير قوله " هدم
علي دارنا مرتين"!
وهناك روايات تفيد بأن جريرا كان " مُبغضا "
للامام علي ! أي أن مشكلته معه اكبر من مجرد الخلاف بشأن سفارته لمعاوية. فمثلاً
ذكر ابن أبي الحديد اسم جرير بن عبد الله البجلي ضمن قائمة
المفارقين لعلي والمبغضين له . وروى عن الأعمش حادثة فيها أن جريرا والأشعث بن قيس
كانا مجتمعين يذمان عليا فمرّ بهما ضبٌ يعدو " فنادياه : يا أبا
حسل ! هلم يدك نبايعك بالخلافة. فبلغ عليا عليه السلام قولهما فقال : أما انهما
يحشران يوم القيامة وإمامهما ضب". وذكر أيضا أن حنظلة الكاتب قد خرج هو وجرير
بن عبد الله من الكوفة إلى قرقيسيا وقالا " لا نقيم ببلدة يعاب فيها
عثمان". كما أخرج ابن عساكر
في تاريخ دمشق رواية يترحّمُ فيها جرير على المغيرة بن شعبة لدى وفاته حيث
قام جرير خطيبا وقال " أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له, وأن تسمعوا
وتطيعوا حتى يأتيكم أمير. استغفروا للمغيرة بن شعبة غفر الله له فإنه كان يحب
العافية"
مع ان سيرة المغيرة في لعن الامام علي على منبر الكوفة
معروفة , ولا تخفى على جرير.
وقال الذهبي
في سير اعلام النبلاء" بعث علي الي ابن عباس والاشعث وأنا(الراوي : ابنُ
جرير بن عبد الله ) بقرقيسياء فقالا :
امير المؤمنين يقرئك السلام ويقول : نعم ما رأيت من مفارقتك معاوية. واني أنزلك
بمنزلة رسول الله (ص) التي أنزلكها .
فقال جرير : ان رسول الله (ص) بعثني الى اليمن أقاتلهم
حتى يقولوا لا اله الا الله , فاذا قالوا حرمت دماؤهم وأموالهم . فلا أقاتل من
يقول لا اله الا الله "
وهذه الرواية تظهر ان جريرا حين قام بالسفارة الى
معاوية لم يكن يفعل ذلك من منطلق ولائه لعلي, بل انه كان من أنصار الحل الوسط منذ
البداية , ولما لم تسر الامور باتجاه التفاهم السلمي بين علي ومعاوية اعتزلهما
معا. فالرواية هذه تظهره قريبا من أفكار ابي موسى الاشعري .
وقد استفضنا في الحديث عن جرير بن عبد الله وسفارته الى
معاوية ليس لأهميتها بحد ذاتها ( كان من كان شخص مندوب عليّ: لن يغير معاوية موقفه
) بل كمثال على الفوضى التي كانت موجودة في معسكر عليّ وتعدد الرؤوس مما كان
يؤدي الى قرارات غير مفهومة وباعثة على الحيرة من جانب عليّ .
مبعوث معاوية الى عليّ في العراق : معاوية
يقيم الحجة[84] !
ذكر
نصر بن مزاحم " إن أبا مسلم الخولاني قدم إلى معاوية[85] في
أناس من قراء أهل الشام.
فقالوا له: يا معاوية! علامَ تقاتل علياً وليس لك مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته
ولا سابقته؟
قال
لهم : ما أقاتل عليا وأنا أدعي أن لي في الإسلام مثل صحبته ولا هجرته ولا قرابته
ولا سابقته[86].
ولكن خبروني عنكم: ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً ؟
قالوا بلى.
قال : فليدفع إلينا قتلته فنقتلهم به , ولا
قتال بيننا وبينه.
قالوا
: فاكتب إليه كتاباً
يأتيه به بعضنا.
فكتب إلى عليّ هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني.
فقدِم به على عليّ .
فقام
أبو مسلم خطيباً
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد.. فإنكَ قد قمتَ بأمر وتوليته. والله ما أحب أنه لغيرك إن أعطيتَ الحق من نفسك. إن عثمان قتل مسلماً محرماً مظلوماً , فادفع إلينا قتلته وأنتَ أميرنا! فإن خالفك أحدٌ من الناس كانت أيدينا لك ناصرة,
وألسنتنا لك شاهدة وكنتَ ذا
عذر وحجة"
وفي تتمة رواية نصر أن علياً
طلب من أبي مسلم أن يأتيه في الغد ليأخذ الجواب على كتاب معاوية[87]. واضاف
نصر أنه بعد ذلك فإن الناس من جماعة عليّ لما علموا بطلب الخولاني تجمعوا وأخذوا
يصيحون : كلنا قتلة عثمان!
يتابع
نصر ويقول أن علياً دفع بكتابه الجوابي لمعاوية في اليوم
التالي وفيه :
"
والله ما أردتُ أن
أدفعهم إليك طرفة عين. لقد ضربتُ هذا الأمر أنفه وعينيه, ما رأيته ينبغي
لي أن أدفعهم إليك ولا إلى غيرك.
وأما
قولك : ادفع إلينا قتلة عثمان, فما أنت وعثمان؟! إنما أنت رجلٌ من بني أمية, وبنو عثمان أولى بذلك منك!
فإن زعمتَ أنك
أقوى على دم أبيهم منهم, فادخل في طاعتي ثم حاكم القوم إليّ, أحملك وإياهم
على المحجة"
ويذكر
نصر أن الخولاني بعدها " خرج بالكتاب وهو يقول : الآن طاب الضراب
"
ويقول ابن حبان في كتاب الثقات ان أبا مسلم الخولاني
بعد رجوعه إلى الشام قال لمعاوية "والله
لتقاتلنّ علياً أو لنقاتلنه فإنه قد أقر بقتل أمير المؤمنين عثمان! فقام
معاوية فرحاً فصعِدَ المنبر واجتمع إليه الناس فحمد الله وأثنى عليه. وقام أبو
مسلم خطيباً وحرّضَ الناسَ على قتال علي"
وهناك نصٌ طويل لرسالتين متبادلتين بين معاوية وعليّ
اورده البلاذري نقلا عن ابي مخنف,
أنقلهما هنا بتمامهما نظراً لأهميتهما في توضيح وجهة نظر كل فريق . ولستُ أرى ما
يمنع من قبول مضمونهما:
كتب معاوية هذه الرسالة وحملها لابي مسلم الخولاني "
من معاوية بن ابي سفيان الى علي بن ابي طالب ,,, أما بعد
فإن الله اصطفى محمداً بعلمه , وجعله الامين على وحيه ,
والرسول الى خلقه , ثم اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده بهم فكانوا في المنازل
عنده على قدر فضائلهم في الاسلام . وكان أنصحهم لله ورسوله خليفته , ثم خليفة
خليفته ثم الخليفة الثالث المقتول ظلماً عثمان. فكلهم حسدتَ وعلى كلهم بغيت!
عرفنا ذلك في نظرك الشزر وقولك الهجر وتنفسك الصعداء وابطائك عن الخلفاء , في كل
ذلك تقادُ كما يُقادُ الجمل المخشوش . ولم تكن لأحدٍ منهم أشد حسدا منك لابن عمتك
, وكان أحقهم أن لا تفعل به ذلك لقرابته وفضله . فقطعت رحمه وقبّحتَ حسنه
وأظهرتَ له العداوة وبطنتَ له بالغش وألّبتَ الناسَ عليه حتى ضربت آباط الابل
اليه من كل وجه , وقيدت الخيلُ من كل أفق , وشُهر عليه السلاح في حرم رسول الله(ص)
فقتل معك في المحلة وأنت تسمع الهائعة لا تدرأ عنه بقول ولا فعل. ولعمري يا ابن
ابي طالب لو قمتَ في حقه مقاماً تنهى الناسَ فيه عنه وتقبح لهم ما انتهكوا منه ما
عدل بك من قبلنا من الناس أحداً , ولمحى ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من
المجانبة له والبغي عليه . وأخرى انت بها عند اولياء ابن عفان ظنينا : ايواؤك
قتلته , فهم عضدك ويدك وانصارك. وقد بلغني انك تتنصل من دم عثمان وتتبرأ منه,
فإن كنت صادقا فادفع الينا قتلته نقتلهم به , ثم نحن اسرع الناس اليك وإلّا فليس
بيننا وبينك الا السيف. ووالذي لا اله غيره لنطلبنّ قتلة عثمان في الجبال والرمال
والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق ارواحنا بالله . والسلام"
وكانت رسالة علي الجوابية كما يلي :
" من عبد الله علي امير المؤمنين الى معاوية بن
ابي سفيان ,,, أما بعد
فإن أخا خولان قدم عليّ بكتابٍ منك تذكر فيه محمدا وما
أكرمه الله به من الهدى والوحي . فالحمد لله الذي صدق له الوعد ومكّن له في البلاد
وأظهره على الدين كله وقمع به أهل العداوة والشنآن من قومه الذين كذبوه وشنعوا له وظاهروا
عليه وعلى اخراج اصحابه وقلبوا له الامور حتى ظهر امر الله وهم له كارهون . فكان
أشد الناس عليه الأدنى فالأدنى من قومه , إلا قليلا ممن عصم الله.
وذكرتَ أن الله جل ثناؤه وتباركت اسماؤه اختار له من
المؤمنين أعوانا أيده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدم فضائلهم في الاسلام ,
فكان أفضلهم خليفته وخليفة خليفته من بعده . ولعمري ان مكانهما من الاسلام لعظيم
وإن المصاب بهما لرزء جليل . وذكرتَ ان ابن عفان كان في الفضل ثالثا , فإن يكن
عثمان محسنا فسيلقى ربا شكورا يضاعف الحسنات ويجزي بها . وإن يكن مسيئا فسيلقى ربا
غفورا رحيما لا يتعاظمه ذنب أن يغفره . واني لأرجو اذا اعطى الله المؤمنين على قدر
اعمالهم أن يكون قسمنا أوفر قسم اهل بيتٍ من المسلمين.
ان الله بعث محمدا (ص) فدعا الى الايمان بالله والتوحيد
له , فكنا اهل البيت اول من آمن وأناب , فمكثنا وما يعبد الله في ربع سكن من
أرباعي العرب أحد غيرنا , فبغانا قومنا الغوائل وهموا بنا الهموم وألحقوا بنا الوشائظ
, واضطرونا الى شعبٍ ضيق , وضعوا علينا فيه المراصد , ومنعونا من الطعام والماء
العذب وكتبوا بينهم كتابا أن لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا
ولا يكلمونا أو ندفع اليهم نبينا فيقتلوه أو يمثلوا به . وعزم الله لنا على منعه
والذب عنه , وسائر من أسلم من قريش أخلياء مما نحن فيه , منهم من حليف ممنوع وذي
عشيرة لا تبغيه كما بغانا قومنا , فهم من التلف بمكان نجوة وأمن. فمكثنا بذلك ما
شاء الله. ثم أذن الله لرسوله في الهجرة وأمره بقتال المشركين . فكان اذا حضر
البأس ودعيت نزال قدّم أهل بيته فوقى بهم اصحابه. فقتل عبيدة يوم بدر وحمزة يوم
أحد وجعفر يوم مؤته, وتعرّض من لو شئتُ ان أسمّيه سمّيته لمثل ما تعرضوا له من
الشهادة , لكن آجالهم حضرت ومنيته أخّرت.
وذكرتَ ابطائي عن الخلفاء
وحسدي لهم . فأما الحسدُ فمعاذ الله أن اكون أسررته أو أعلنته. وأما الابطاءُ فما
اعتذر الى الناس منه. ولقد اتاني
أبوك حين قبض رسول الله (ص) وبايع الناس أبا بكر فقال : انت أحق الناس بهذا الامر
فابسط يدك أبايعك . قد علمت ذلك من قول ابيك, فكنتُ الذي أبيتُ ذلك مخافة الفرقة ,
لقرب عهد الناس بالكفر والجاهلية. فإن تعرف من حقي ما كان ابوك يعرفه تُصِبْ رشدك
وإلّا تفعل فسيغني الله عنك.
وذكرت عثمان وتأليبي الناس
عليه. فإن عثمان صنع ما رأيتَ فركب الناس منه ما قد علمت وانا من ذلك بمعزل إلّا
أن تتجنّى فتجنّى ما بدا لك.
وذكرتَ قتلته – بزعمك – وسألتني دفعهم اليك. وما اعرف
له قاتلاً بعينه. وقد ضربتُ الامرَ أنفه وعينيه فلم أره يسعني دفعُ من قبلي ممن
اتهمته وأظننته اليك .
ولئن لم تنزع عن غيّك وشقائك لتعرفنّ الذين تزعم انهم
قتلوه طالبين لا يكلفونك طلبهم في سهل ولا جبل . والسلام"
لماذا رفض عليّ تسليم قتلة عثمان ؟
يبدو أنه كان هناك إجماعٌ في المعسكر العراقي على رفض سياسة
"فرّق تسد" التي يريد معاوية أن يطبقها عليهم, بحيث يجبرهم على أن
يفرزوا من بينهم مجموعة يسمونها "قتلة عثمان" ليقوم هو بقتلها بينما
يتفرج الباقون عليهم!
كان الناس في
المعسكر العراقي بصرختهم " كلنا قتلة عثمان" يعربون عن رفضهم
لإعطاء الحق لمعاوية , من حيث المبدأ, في تطبيق الحد الشرعي على من نفّذوا عملية
القتل.
فبالإضافة إلى أن معاوية لا يمتلك أية صفة تجيز
له أن يكون مسؤولاً عن تطبيق حد
شرعي بوجود خليفة عادل, كان هناك إدراك
جمعي بأن ما يطلبه معاوية هو المستحيل بعينه. فــ "قتلة
عثمان" مصطلح فضفاض وغير محدد! فمن الذي يعرف على وجه الدقة مَن هما
الشخصان, أو الثلاثة , أو الستة الذين قتلوا
الخليفة في داره في ظل تلك الفوضى؟
وعلى فرض أن
القاتل عُرف, فهل يكتفي معاوية بالشخصين أو
الأربعة الذين قاموا بعملية القتل , أم أنه سيوسّع الدائرة لتشمل كل من تمرّدوا على عثمان ( وهم حوالي الألف ) وكانوا
في المدينة حين ذاك؟
ومَن
يضمن أنه لن يوسّع الدائرة أكثر لتشمل كل مَن
كانوا من منتقدي عثمان والمُعيبين
عليه؟
وماذا عن مَن لم يكن على انسجام مع عثمان في سياساته
كلها؟
إذن كان هناك إدراكٌ
بأن الموافقة على "مبدأ" تسليم القتلة إلى معاوية كان في معناه العملي
نقضاً لبيعة عليّ وإنكارا لشرعية خلافته!
فمعاوية يصبح عندئذ في موقع يتيح له أن يضع ما
شاء من شروط على عليّ , وأن يطلب منه المستحيلات, وكل ذلك دون أن يكون معاوية قد
ألزم نفسه بأي تعهد تجاه عليّ وخلافته, حتى وإن لبّى له كل رغباته!
كان شرط معاوية
ذاك في صميمه نوعاً من
الاستسلام المطلوب من عليّ, لأن معناه أن يتخلّى عليّ عن أنصاره وعماد حكمه ,
مقابل ماذا ؟ أن يصبح رهينة لمعاوية
وجماعته!
ولذلك لم يكن
جواب عليّ للخولاني إلاّ تعبيراً عن
وحدة موقف, بين الإمام ورعيته, تجاه هذا الأمر الجلل.
لقد
كان معاوية حريصاً على أن يبعث
بكتابه إلى عليّ مع قراء الشام لأنه يريدهم هم بالذات أن يكونوا في صفه ويشهدوا
له. كان بإمكان معاوية أن يتوقع جواب عليّ وأنصاره. وكان يدرك أن القراء بسذاجتهم
لن يفهموا موقف الخليفة عليّ
وإصراره على رفض المطلب " البسيط " الذي عرضوه عليه, وأنهم سوف يخرجون
بنتيجة أكيدة وهي أن علياً كان
ضالعاً في قتل عثمان! وذلك ما حصل من قبل أبي
مسلم الخولاني, وذاك ما أراده معاوية.
لم
يكن جواب علي لأبي مسلم وقراء الشام تهّوراً
ولا عدم خبرة في السياسة. بل كان على العكس تماماً
:
إدراكاً لخبث المطلب,
ووعياً لآثاره المدمرة على خلافته في حال
تلبيته.
*****
والنتيجة النهائية لكل جهود معاوية الإعلامية كانت أنه
نجح في ترسيخ وتعميم فكرة "الطلب بدم عثمان", التي كانت عائشة
أول من أعلنها, كأساسٍ رسميّ مُعلنٍ لتمرّده وانشقاقه على الخليفة علي. وبَرَعَ
معاوية في استعمال هذا الشعار حتى جعله سيفاً مُصلتاً يُشهرهُ بوجه علي في كل حين.
وبذلك وفر معاوية لكل أشياعه وأتباعه , ولكل مّن كره علياً وسياسته, عذراً "
شرعياً " يستعملونه لتبرير سلوكهم وعدائهم لعلي بن أبي طالب.
وقد بلغ هذا الشعار حداً من الذيوع والانتشار في أوساط
مُبغضي علي إلى درجة الابتذال والصفاقة. فرجلٌ مثل طليحة بن خويلد الأسدي, بكل ما
له من سجلّ رديءٍ , وتاريخ قميءٍ معروفٍ ومشهور في الإسلام, لم يتردد في القول انه
"يطلب بدم عثمان" في معرض رفضه لحكم وسلطان علي في الكوفة![88]
تساؤل بشأن الحس الامبراطوري لدى معاوية
وما
كان لرجل له مثل دهاء معاوية وحسّه السياسي أن يغفل عن الخطر الخارجي الذي قد
يتهدد دولته في الشام من قبل الرومان. ولذلك كان لا بد له وهو يتجهز لخوض
حربٍ طاحنة ضد أبناء جلدته من العرب
العراقيين أن يأمن خطر الرومان بأي وسيلة. فلجأ معاوية إلى الموادعة, وقبل أن يدفع
لهم نوعاً من الجزية , مقابل تعهدٍ بعدم شنّ هجوم على الشام في تلك الظروف الدقيقة
والصعبة على معاوية " وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادَعَه"[89]
وهنا لا بأس من طرح تساؤل جدي حول الحس الامبراطوري
لدى معاوية. فمن المُسلم به أن معاوية بن أبي سفيان كان رجل دولة وسياسياً من
طراز رفيع, ولكن قراره بالمضي قدماً في حربٍ شاملة ضد الخليفة عليّ الذي يقود جيوش
العراق, يلقي ظلالاً من الشك حول سلامة أولويات معاوية الاستراتيجية. فهو
بقراره ذاك كان يعرّض الامبراطورية العربية كلها لخطر الإنهيار. فمعاوية يعرف أكثر
من غيره مدى ضخامة وفعالية القوة الحربية الموجودة بأمرته في الشام, وكذلك التي
تناظرها , إن لم تزد عليها, في العراق. وبغض النظر عن حجم الخلاف بشأن قتل عثمان,
أو حول خلافة عليّ, أو عزل الولاة وغير ذلك من أمور إشكالية, فإنه كان على معاوية
أن يدرك أن تلك كلها شؤونٌ عربية داخلية, وهو بالفعل كان يدرك ذلك, وأنه لا يجوز
السماح بالمخاطرة بتدمير تلك القوة ذاتياً وبالتالي نقض الانجازات التي تحققت على
يد الرسول والخلفاء.
لقد اتخذ معاوية القرار ومضى إلى نهاية الشوط.
وإنّ فشل قيادة الدولة البيزنطية في استغلال الحرب
الأهلية الهائلة داخل صفوف أمة العرب, أمرٌ مذهل حقاً. لقد أضاعت تلك القيادة فرصة
تاريخية نادرة لاستعادة ما خسرته على مدى ربع قرن من حروبها مع العرب. ولم تذكر
المصادر التاريخية أي مبادرات هجومية, ولا حتى ضغوطات, من جانب الرومان أثناء
الأشهر الطويلة التي استغرقتها معركة صفين وما تلاها. وإن الأموال والهدايا التي
أرسلها معاوية للقيادة الرومانية ليست بأي مقياس ثمناً مناسباً يمكن لتلك القيادة
أن تتقاضاه مقابل موقفها الساكن أثناء تلك الظروف العصيبة التي مرت بها أمة العرب.
[1] مصادر هذا البحث : شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد (ج18 ص130 و ص309 و ج3 ص188-190), أسباب النزول للواحدي (ص306 وص163), أنساب الأشراف للبلاذري(ج3 ص165-167), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج11 ص494 و ج23 ص439), المستدرك على الصحيحين للحاكم
(ج2 ص332).
[2] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
[3] على
الرغم من حرص أبي سفيان على مظاهر "الشرف" الجاهلية, ومنها إغاثة
الملهوف, إلاّ أن الكرم, بمعنى البذل والعطاء النابع من النفس, لم يكن أبدا من خصاله الحقيقية,
ولا كانت نفسه تجود بشيء إلاّ إن كان وراء ذلك هدف ومنفعة :
"
كان أبو سفيان بن حرب ينحر كل أسبوع جزورين. فأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصا,
فأنزل الله تعالى (أرأيت الذي يكذّب
بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم)" . ذكر ذلك الواحدي في أسباب
النزول
[4] وقد ذكر الإمام عليّ مرة مقارنة بين بني هاشم وبني أمية في
جوابه لرجل سأله عن قريش " ... وأما بنو عبد شمس فأبعدها رأيا, وأمنعها
لما وراء ظهورها . وأما نحن فأبذل لما في أيدينا , وأسمح عند الموت بنفوسنا . وهم
أكثر وأمكر وأنكر, ونحن أفصح وأنصح وأصبح". وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه لكلام عليّ انه " أراد
كثرة بني عبد شمس , فبالكثرة تمنع ما وراء ظهورها. وكان بنو هاشم أقل عددا من بني
شمس , إلاّ أن كل واحد منهم على انفراده أشجع وأسمح بنفسه عند الموت من كل واحد
على انفراده من بني عبد شمس "
[6] أسباب النزول للواحدي
. وكذلك روى ابن
عساكر في تاريخ دمشق وفيها ذكر أبي جهل وعتبة بن ربيعة أيضا. ومثل ذلك رواه الحاكم في
المستدرك على الصحيحين .
[7] ويبدو أن معاوية كان يشارك أمّه رأيها في أخيها الذي انضمّ مبكرا
إلى ركب محمد(ص) وترك أباه! قالت هند تهجو أخاها أبا حذيفة :
فما
شكرت أباَ ربّاك من صغرٍ
حتى شببتَ شبابا غير محجون
الأحول
الأعثم المشؤوم طائره أبو
حذيفة شرّ الناس في الدين
روى ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج70 ص176)
[9] مصادر هذا البحث : مسند أحمد بن
حنبل (ج1 ص246), المستدرك على
الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3
ص542.),
كتاب المنمق في اخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي
(ص312), البداية والنهاية لابن كثير
(ج8 ص22), صحيح البخاري (ج4 ص 55), شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج6 ص32 و
ج2 ص65 و ج5 ص130 و ج10 ص101).
[12] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
. ونقل ابن أبي الحديد ايضا عن شيخه أبي القاسم البلخي قوله إن معاوية وعمرو بن
العاص كانا ملحدين.
[16] مصادر هذا البحث : تاريخ
المدينة المنورة لابن شبة النميري (ج2
ص686 و ج3 ص 826 وص832 و ص817), تاريخ دمشق لابن
عساكر (ج70 ص185-186), تاريخ الطبري
(ج3 ص287 و ص165), سير أعلام النبلاء للذهبي (ج2
ص7), كتاب الموطأ للإمام مالك (ج2 ص634).
[18] تاريخ المدينة المنورة لابن شبة
النميري .
[19] تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر.
وتبدو لي نبوءة ابي سفيان , الكلمة الاخيرة " فإن بلغته أورثته عقبك" ,
مُقحمة على الرواية.
[22] هذا الاقتباس وما قبله من تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري. والخبر الذي بعده عن عياض بن
غنم هو من نفس المصدر .
[24] من كتاب"علي إمام المتقين" لعبد
الرحمن الشرقاوي (ص648).
وفي سيرة معاوية اللاحقة ما يؤيد شدة نهمه
بالطعام. وقد روى الشيخ أبو رية
في"شيخ المضيرة" (ص 226 ) نقلا عن ابن كثير في البداية والنهاية أن
معاوية كان يأكل في اليوم سبع أكلات بلحم! ووصف الأحنف بن قيس طعام معاوية بقوله :
دخلت على معاوية فقدم لي من الحار والبارد والحلو والحامض ما كثر تعجبي منه. ثم
قدم لونا لم أعرف ما هو. فقلت : ما هذا؟ فقال : مصارين البط محشوة بالمخ قد قلي
بدهن الفستق, وذرّ عليه بالطبرزد.
ويروى في كتب التراث الكثير حول مدى نهم
معاوية, وولعه بالطعام, وعشقه لأصنافه, إلى
درجة انه قد أصيب بأحد أمراض التخمة, فصار يخطب وهو جالس, فكان أول من خطب جالسا
في الإسلام!
وروى ابن أبي الحديد
في شرح نهج البلاغة (ج18 ص398 ) نقلا عن المدائني " كان يأكل في اليوم
أربع أكلات , أخراهن عظماهن. ثم يتعشى بعدها بثريدة عليها بصل كثير, ودهن كثير قد
شغلها. وكان أكله فاحشا, يأكل فيلطخ منديلين أو ثلاثة قبل أن يفرغ. وكان يأكل حتى
يستلقي ويقول : يا غلام: ارفع. فلأني والله ما شبعت ولكن مللت".
[31] مصادر هذا البحث : كتاب المغازي
للواقدي (ج2 ص201), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج6 ص291 و ج2 ص247 و ج1 ص270), نهج
البلاغة
بشرح محمد عبده (ج1 ص110), تاريخ دمشق لابن عساكر
(ج21 ص11).
[40] أبو الأعور السلمي من أهم قادة
جيش معاوية كانت قد نزلت الآية "يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين
والمنافقين" فيه وفي أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل حين قدموا المدينة بعد أحُد. جاء ذلك في أسباب النزول للواحدي (ص236) . وربما الأصح انها نزلت في والده سفيان بن عبد شمس السلمي الذي كان من
قيادات الأحزاب التي هاجمت المدينة في غزوة الخندق.
[41] ويمكن أن يضاف أبو هريرة الى هذين الصحابيين. وقد خصصنا فصلاً عن
وضعية ابي هريرة واحاديثه في خدمة دولة معاوية عند تطرقنا الى غزوة بسر أرطأة
للمدينة المنورة بأمر معاوية سنة 40 للهجرة. فليراجع في موضعه لاحقا.
[42] والكلام عن سلوكه الشخصي وانحرافاته يطول. ويكفي ذكر حادثة الزنا
التي اتهم بهم في زمان عمر بن الخطاب , حين شهد عليه ثلاثة , ابو بكرة ونافع بن
الحارث وشبل بن معبد , انهم " رأوه يولجه ويخرجه " في امرأة في البصرة ,
ولكن الرابع , زياد بن ابيه, أنقذه من الاعدام حين أبي أن يشهد بذلك امام عمر. روى
ذلك الذهبي في سير اعلام النبلاء (ج3
ص27).
[43] ويمكن بسهولة اشتمام رائحة السياسة ومآربها في كثير من الاحاديث
التي رواها المغيرة بن شعبة. ومن ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده (ج4 ص247) عن المغيرة " ... وقد رأيتُ
رسولَ الله(ص) صلّى خلفَ عبد الرحمن بن عوف ركعةً من صلاة الصبح .."
فيبدو هذا الحدث مصمما لكي يسهّل الأمرَ على المتدينين من أهل الشام ويقنعهم
بشرعية الصلاة خلف رجلٍ فاقد الشرعية كمعاوية , قال لهم إن رسول الله(ص) صلّى خلف
غيره من المسلمين ! فإذا كان رسول الله(ص) , القائد والمعلم والمثل الأعلى, يصلي
خلف رجلٍ من المسلمين, فلا بأس إذن من الصلاة خلف معاوية.
وكذلك روى المغيرة حديث " الضحضاح " المشهور والذي يؤكد فيه ان
مصير أبي طالب , والد علي, هو نار جهنم.
[44] وعبيد الله هذا عنده خشية قديمة من عليّ بن ابي طالب تعود الى يوم
اغتيال ابيه عمر عندما قام بقتل الهرمزان وابنته الصغيرة انتقاما منه لأبيه وبدون
أدلة بل بالشبهة فقط. فكان رأي عليّ أن يُعاقب بالاعدام ولكن الخليفة عثمان عفى
عنه.
[46] ورد في تاريخ
ابن معين برواية الدوري (ج1 ص 170) : قال يحيى بن معين" أهل المدينة
يقولون : لم يسمع النعمان بن بشير من النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما يروي أحاديث
النعمان عن النبي صلى الله عليه وسلم الكوفيون والشاميون"
[52] تفاصيل دوره التثبيطي
اوردناها في سياق كلامنا عن حرب الجمل , وتفاصيل دوره في قضية التحكيم ستأتي لاحقا
عندما نصل الى مرحلة ما بعد صفين.
[55] صحيح البخاري كتاب الفتن (ج9 ص72). وهكذا سيرى الناس ان الصحابي عبد الله بن عمر
قد بايع كلا من : معاوية ويزيد وعبد الملك , بينما رفض مبايعة علي!
[57] مصادر هذا البحث : انساب الأشراف للبلاذري
(ج3 ص10), سير أعلام النبلاء للذهبي
(ج3 ص139),
الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص
174), نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج2
ص278), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
(ج2 ص197 – 201), تاريخ دمشق لابن عساكر
(ج59 ص131).
[58] أنساب الأشراف , من طريق ابي مخنف.
[61] نهج البلاغة , بشرح محمد عبده
[63] مصادر هذا البحث: الإمامة والسياسة لابن
قتيبة (ج1 ص64 وص100), تاريخ دمشق لابن عساكر ( ج59 ص117 و ص122), سير اعلام
النبلاء للذهبي (ج3 ص139 و ج2 ص536),الأخبار
الطوال للدينوري (ص142), انساب الاشراف للبلاذري
(ج3 ص76), البداية والنهاية لابن كثير
(ج7 ص 255), تاريخ الطبري (ج3 ص561).
[64] وروى الذهبي
في سير اعلام النبلاء نفس الروايتين اللتين رواهما ابن عساكر (الاولى عن الواقدي ,
والثانية عن الشعبي).
[67] مصادر هذا البحث : تاريخ دمشق لابن عساكر (ج59 ص134-135 و ص130), وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري (ص 46 و ص49-50), الاخبار الطوال للدينوري (ص160), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص509 و 518).
[68] روى ابن عساكر ان رجل معاوية, شرحبيل بن السمط الكندي, اثناء
دورانه على مدن الشام محرضا الناس للنهوض مع معاوية " فأجابه اهل حمص إلّا
نفر من نساكهم وقرائهم فأنه أبوا ولزموا بيوتهم"
[69] وقد أخرج ابن عساكر
في تاريخ دمشق هذا الخبر عن الكلبي , ولكن دون الجزء الأخير الذي فيه اقتراح عبد
الرحمن بن غنم بمبايعة علي.
[70] وفي رواية ابن اعثم ان
الناس الذين شاورهم شرحبيل كانوا من "رؤوس اهل الشام " من امثال حابس
بعد سعد الطائي و ابي الاعور السلمي ويزيد بن اسد والحصين بن نمير وذي الكلاع
الحميري ,,,, وأن معاوية كان طلب منهم أن يساعدوه في اقناع شرحبيل فوافقوا وشهدوا
أن عليا هو القاتل فاقتنع شرحبيل بذلك " شهد عندي العدول ان عليا قتل
الخليفة ظلما "
[71] الأحداث تشير إلى أن موقف
شرحبيل بن السمط , الحاسم في تأييد معاوية وحشد أهل الشام خلفه, لم يكن ببساطة ناتجاً
عن عملية " خداع " تعرّض لها على يد معاوية الذي " ضلله
" وأقنعه بأن عليا قتل عثمان, بل كان
ثمرة صفقة كاملة بينهما. لا بد أن ترتيباً قد تم بين معاوية والزعيم القبلي
وتضمن أموالاً ووعودا بمكانة ومناصب. فالحماس الذي أظهره شرحبيل , حين سار في
مدائن الشام ليحشد أهلها خلف معاوية, لا ينسجم مع شخص متردد أو مخدوع بل شريك كامل
في القرار والمسؤولية.
[73] مصادر هذا البحث : تاريخ
دمشق لابن عساكر ( ج59 ص127-128 و ج60
ص57), كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم
(ص27-49), أسد الغابة لابن الاثير (ج1
ص280 ), تاريخ المدينة المنورة لابن شبة
النميري(ج2 ص), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد
( ج4 ص74-75 وص93 وج3 ص83-116), الاخبار الطوال للدينوري (ص161), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج2 ص536), الاستيعاب لابن
عبد البر (ص 121), كتاب الفتوح لابن
اعثم (ج2 ص506 و 515).
[74] روى ابن الأثير في
ترجمته لجرير ما يفيد بأن جريرا كان سيدا في قومه بجيلة وأرسله عليهم عمر بن
الخطاب إلى العراق بعد هزيمة الجسر. وقال انه مات سنة 51 أو 54.
[75] وروى ابن شبة في تاريخ المدينة أن جرير بن عبدالله
كان قدم على رسول الله(ص) على رأس وفد قومه من بجيلة في السنة العاشرة للهجرة وأن
الرسول(ص) سُرّ به ووصفه بأنه " من خير ذي يمن " وعلمه أصول
الإسلام.
[77] وفي رواية ابن اعثم أن
علياً كتب لجرير " فانظر , إن بايعك الرجل , وإلّا فأقبل . ولا تكنْ
رخو الجنان "
[78] ولدى مراجعة كتاب وقعة صفين
لنصر بن مزاحم يظهر تشابه يكاد يصل حد التطابق بين روايات ونصوص ابن
عساكر أعلاه وبين ما ذكره نصر( توفي سنة 212). ولكن توجد تفاصيل أكثر وأشعار لدى
نصر.
[79] وقد روى ابن أبي الحديد
في شرح نهج البلاغة أخبار جرير بن عبد الله وشرحبيل بن السمط نقلا عن كتاب صفين
لنصر بن مزاحم , وهي في اجمالها تتشابه مع روايات ابن عساكر أعلاه.
[80] وقال ابن عبد البر في الاستيعاب انه لما جاء جريرٌ
معاوية "...حبسه مدة طويلة , ثم ردّه برقّ مطبوع غير مكتوب, وبعث معه
من يخبره بمنابذته له"
[82] وابن الأثير في أسد
الغابة لم يذكر أي شيئ عن سفارة جرير لدى
معاوية وتجاهل الموضوع كليا في ترجمته لجرير. ولكنه قال عرضا " ولما أتى
علي الكوفة وسكنها سار جرير عتها إلى قرقيسيا فمات بها وقيل مات بالسراة". ورغم ان ابن
عبد البر لم يذكر اخباراً عن خلاف بين عليّ وجرير إلاّ أنه روى " ونزل
جرير الكوفة وسكنها, وكان له بها دار, ثم تحول الى قرقيسياء ومات بها سنة 54"
وروى الذهبي في سير اعلام النبلاء عن
ابن سعد نقلا عن الواقدي " لم يزل جرير معتزلا لعلي ومعاوية بالجزيرة
ونواحيها حتى توفي بالشراة في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة"
[83] والروايات هذه تتحدث عن هدم عليّ لبيت جرير , أو إحراقه , بل وبعضها
يقول ان غضب علي امتد ليشمل بالهدم دوراً لأقربائه ! وهذا أمر لا ينسجم مع اخلاق
الامام عليّ المعروفة, ولذلك لا يمكن تصديقها.
[84] مصادر هذا البحث : وقعة صفين لنصر
بن مزاحم المنقري (ص 86 و ص58), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج59 ص132), كتاب الثقات لابن حبان ( ج2
ص285), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج3
ص140), انساب الاشراف للبلاذري (ج3
ص66-70).
[86] رواية الذهبي في سير
اعلام النبلاء ( عن كتاب صفين ليحيى الجعفي) تشبه هذه ولكن فيها اضافة على لسان معاوية
"اني لأعلم انه أفضل مني وأحق بالأمر مني. فليدفع إليّ
قتلة عثمان, وأسلم له ". وانا
أستبعد صحة هذه الاضافة.
[87] لم تذكر روايات ابن عساكر في تاريخ دمشق تفاصيل الحوار بين علي
وابي مسلم ولا عن كلام عموم العراقيين " كلنا قتلة عثمان " ولا عن عودة
أبي مسلم مؤيداً لحرب علي.
[88] كتاب "الثقات" لابن حبان (ج2 ص274). وطليحة هذا كان من ضمن
"الأنبياء" الكذابين الذين ظهروا بعد وفاة الرسول(ص) مباشرة. وبعد أن
هُزم وأتباعُه في حروب "الردّة" أعلن توبته.
[89] وقعة صفين لابن مزاحم
المنقري( ص44). وكذلك جاء في الأخبار الطوال للدينوري
(ص158) أن عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يرسل إلى قيصر الروم فيوادعه ويصالحه
ويردّ إليه كل أسرى الرومان لديه.