عليّ يصر على الحسم [1]
لم
يُظهر عليّ أدنى تردد في سعيه لتحقيق هدفه.
كانت إعادة توحيد أمة محمد(ص) تحت قيادة تمتلك شرعية إسلامية, مسألة لا تحتمل
المماطلة ولا أنصاف الحلول بنظره. وكان عليّ يعرف أكثر من غيره أن معاوية ومَن معه لا يمكن ان يدخلوا في طاعته, لأن
ذلك ببساطة يعني نهاية وجودهم. وفي الواقع لم يكن عليّ يعرض أي صفقة يمكن لرجل مثل
معاوية أن يقبلها.
لم
يكن هناك أي لبس أو تردّد في
ذهن عليّ. فهو يعرف أنه يسير إلى حربٍ طاحنة, ولكنه
كان يراها واجباً دينياً , قبل أي شيئ. هو قال عن معاوية وحزبه:
"
وقد قلّبتُ هذا
الأمرَ , بطنه وظهره, فما وجدتني يسعني إلاّ
قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد(ص)!
إذن
هو يرى أن ترك معاوية وحزبه يعادل الكفر بكل ما
جاء به النبي(ص). ولم يكن يسعه عمل ذلك.
وهو قد وصف أعداءه مرة فقال لأتباعه :
" إنما تقاتلون الطلقاءَ وأبناءَ الطلقاءِ,
ممن أسلم كرهاً وكان لرسول الله(ص) حرباً. أعداء السنة والقرآن, وأهل الأحزاب
والبدع والأحداث, ومَن كانت بوائقه تتقى, وكان عن الدين منحرفاً. وأكلة الرشا
وعبيد الدنيا...وإن منهم لمن شرب فيكم الحرام وجلد حداً في الإسلام, فهؤلاء قادة
القوم ومَن تركتُ ذكرَ مساويه منهم شرٌ وأضر. وهؤلاء الذين لو ولوا عليكم لأظهروا
فيكم الغضب واالفخر, والتسلّط بالجبروت, والتطاول بالغضب, والفساد في الأرض.
ولاتبعوا الهوى وحكموا بالرشا... "[3]
كان
معاوية رجلا عَملياً,
يقوم بحسابات الربح والخسارة بدقة, وكان من المؤكد أن علياً , لو أراد, لكان بإمكانه أن يعقد معه
صفقة تتضمن اعترافاً من
معاوية بشرعية عليّ وخلافته وسلطته على كل بلاد المسلمين, مقابل المحافظة على وضع
قيادي لمعاوية في الدولة. كان معاوية سيكتفي من عليّ بإقراره على
ولاية الشام[4] , الغنية
والقوية, وإطلاق يده فيها. فما دام معاوية سيستمر مسيطراً
على مصادر قوته في الشام, المال والرجال, فلا بأس بعدها من الاعتراف بخليفة
في المدينة يمتلك "مؤهلات" إسلامية لا تتوفر عند معاوية. لا شك أن هكذا
ترتيب كان مناسباً , في حينه على
الأقل, لمعاوية الذي كان يدرك أن الظروف لم تتهيأ بعد لإعلان طموحه إلى المنصب
الأعلى في دولة المسلمين. وعلى الرغم من البغض الشخصي الذي كان معاوية يكنّه لعليّ
, بسبب معارك الإسلام التي خاضها عليّ مع رسول الله(ص) وكان له فيها الدور الأبرز
في مواجهة أبي سفيان وكل الأمويين وما نتج عنها من ثاراتٍ
لهم تمكنت من نفوسهم, إلاّ ان معاوية كان حتما قادراً
على تجاوز البعد الشخصي في الموضوع إذا عُرضت
عليه تسوية مقبولة[5].
طبعاً كان معاوية يتمنى وجود شخص آخر غير عليّ
في منصب زعامة الدولة, من بطون قريش غير الهاشمية , والذي سيكون لا شك أقل
"مؤهلات" وشرعية من عليّ بكثير وبالتالي أقل قوة منه , إلاّ أن معاوية
بحكم طبيعته العملية كان يدرك أن قريبه عثمان قد قتل ولن يعود, وليس هناك أمويّ
آخر يمتلك حَداً
أدنى من الشرعية لكي يترشح للخلافة. ولذلك كان مضطراً
إلى قبول خليفة من غير بني أمية.
كان معاوية يعرف أن عليه الانتظار لفترة أخرى,
قد تطول, قبل أن يصرّح بذاك الطموح. فكلما مرت الأعوام ازداد المسلمون بُعداً
عن العهد النبوي, وقلّ أيضاً عدد
الأشخاص الذين يمتلكون شرعية تنبع من ماض مشرف واتصال مباشر مع رسول الله(ص).
فما
كان معاوية يحتاجه هو الزمن. ولكن الشرط الأساسي لأي ترتيب مع معاوية كان
المحافظة على الوضع القائم. لا بد لمعاوية أن يكون متأكدا أن الخليفة في
المدينة, أياً كان هذا الخليفة من شخصيات الصحابة
الذين لا زالوا على قيد الحياة, لن يتدخل في عمله وولايته.
والمعضلة
الرئيسية هنا هي أن علياً لم
يكن يعرض أي شيء على الإطلاق على معاوية. فما كان يصل معاوية من أخبار عليّ كان
ينذر بالشؤم والشر بالنسبة له. لم يُظهر عليّ أي احترام لعهد عثمان بن عفان وحكمه وإدارته
وترتيباته وسياسته. بل على العكس , عبّر عليّ عن رفضه التام لتوجهات الخليفة
المقتول وأعلن عليّ عزمه على نقض سياسة عثمان بن عفان وقراراته!
ولا بد أن معاوية قد بلغته أولى إعلانات عليّ الذي كان يعتبر ما فعله عثمان من
توزيع القطائع من أموال وأملاك المسلمين على أقربائه وبطانته , ظلماً صارخا وخروجاً
على نهج الاسلام وتعاليم الرسول(ص). وكان معاوية يعلم أن علياً مصمم على ردّ كل قطائع عثمان إلى
المسلمين,
بقوله " والله لو وجدته قد تزوّج
به النساء وملك به الإماء لرددته . فان في العدل سعة , ومَن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق
"[6]
ولا
يمكن لشخص مثل معاوية, يسيطر على إقليم الشام منذ حوالي العشرين عاما, أن يقبل
ببساطة أن يتحول إلى ضحية لا حول لها ولا قوة لسياسة الخليفة الجديد! كان معاوية يعلم أن عليا لن يقبل منه أي حل وسط, فلا
شيئ غير التسليم المطلق ,وبلا شروط, بسلطة عليّ يمكن أن يُجنب معاوية حربا ضروسا
وهذا ما كان يحتويه كتاب عليّ لجرير بن عبد الله البجلي لمّا أرسله إلى معاوية :
" أما بعد: فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على
الفصل, وخذه بالأمر الجزم. ثم خيّره بين حرب[HC1] مجلّية , أو سلم مخزية. فإن اختار الحربَ فانبُذ إليه, وإن اختار السِلمَ فخذ
بيعته , والسلام"[7]
بدء التعبئة والحشد[8]
كان
على عليّ أن يسير بجحافل أهل العراق لقتال الشاميين. ولم تكن تلك الخطوة سهلة أبداً, ولم يكن أي قائد بقادر على اتخاذ مثل
ذلك القرار والشروع بتنفيذه بكل تصميم, سوى شخص من طراز عليّ , لا يعرف في الحق
مهادنة.
وأعلمَ عليّ خاصته بقراره الصعب ذاك. وشجعه
مقربوه , وخاصة عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة ومالك الأشتر وزعماء الأنصار مثل قيس
بن سعد وخزيمة بن ثابت وسهل بن حنيف , على المضيّ قدُماً بلا تردد في حرب أهل الشام.
ولكنّ
علياً سمع أيضاً
من بعض أتباعه قلّة من الأصوات المخالفة, والمترددة والداعية إلى المفاوضات مع أهل
الشام, بعضها كان متأثراً بما
جرى يوم الجمل , وبعضها كان متهيّباً لمواجهة مفتوحة مع الشاميين.
ذكر نصر
بن مزاحم " فقام رجلٌ من بني فزارة يقال له أربد فقال :
أتريد أن تسيرنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك, كما سرتَ بنا إلى
إخواننا من اهل البصرة فقتلناهم؟! كلا والله لا
نفعل"[9]
وقال
رجلٌ من بني تميم " يا أمير المؤمنين: إنا قد مشينا إليك بنصيحة فاقبلها
منا, ورأينا لك رأياً فلا
تردّه علينا. فإنا نظرنا لك ولمن معك: أقم
وكاتب هذا الرجل, ولا تعجل إلى قتال أهل الشام.
فإني والله ما أدري ولا تدري لمن تكون إذا التقيتم الغلبة, وعلى مَن تكون الدبرة"[10]
ولكن
مثل هذه الأصوات كانت أقلية وسط موج من التأييد الحاسم الذي حصل عليه عليّ من عامة
أهل العراق , وخاصة الزعماء القبليين منهم , من أمثال عدي بن حاتم الطائي ويزيد بن
قيس الأرحبي وحجر بن عدي الكندي وعبد الله بن بديل الخزاعي:
"
ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال : يا أمير المؤمنين ! إن
القوم لو كانوا الله يريدون , أو لله يعملون, ما خالفونا. ولكن القوم إنما يقاتلون
فراراً من الأسوة, وحُباً بالأثرة وضَناً
بسلطانهم, وكرهاً
لفراق دنياهم التي في أيديهم.
وعلى
إحنٍ في أنفسهم, وعداوةٍ يجدونها في صدورهم لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم
قديمة, قتلتَ
فيها آباءهم وإخوانهم.
ثم
التفتَ إلى الناس وقال : كيف يبايع معاوية عليا
وقد قتل أخاه حنظلة, وخاله الوليد, وجده عتبة , في موقفٍ واحد؟!
والله
ما أظن أن يفعلوا , ولن يستقيموا لكم دون أن تقصد فيهم المران, وتقطع على هامهم
السيوف, وتنثر حواجبهم بعمد الحديد, وتكون أمور جَمّة
بين الفريقين"[11]
كما بذل عدي
بن حاتم الطائي[12]
جهداً في توحيد صفوف أهل العراق حول موقف عليّ
وألقى فيهم خطاباً مؤثرا تكلم فيه
عن خصال أمير المؤمنين:
" أيها الناس : إنه والله لو غير عليّ دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما
أجبناه . ولا وقع بأمر قط إلاّ ومعه من الله برهان, وفي يديه من الله سبب. وإنه
وقف عن عثمان بشبهة , وقاتل أهل الجمل على النكث وأهل الشام على البغي. فانظروا في
أموركم وأمره. فإن كان له عليكم فضل فليس
لكم مثله, فسلموا له وإلاّ فنازعوا عليه.
والله لئن كان
إلى العلم بالكتاب والسنة, إنه لأعلم الناس بهما. ولئن كان إلى الإسلام إنه لأخو
نبي الله, والرأس في الإسلام. ولئن كان إلى الزهد والعبادة إنه لأظهر الناس زهداً وأنهكهم عبادة. ولئن كان إلى العقول
والنحائز إنه لأظهر الناس عقلا وأكرمهم نحيزة. ولئن كان إلى الشرف والنجدة إنه
لأعظم الناس شرفاً
ونجدة. ولئن كان إلى الرضا لقد رضي به المهاجرون والأنصار في شورى عمر رضي الله
عنهم وبايعوه بعد عثمان ونصروه على أهل الجمل وأهل الشام..."[13]
وقال
يزيد بن قيس الارحبي لعلي " ان الناس على جهاز وهيئة وأهبة وعدة,
وأكثرهم اهل القوة, وليست لهم علة, فمر مناديك فلينادِ في الناس أن يخرجوا الى
معسكرهم في النخيلة"[14]
ولعب
عمار بن ياسر دوراً
بناء في حشد التأييد للمسير إلى الشام , فكان يرتجز :
سيروا
إلى الأحزاب أعداء النبي
سيروا فخيرُ الناس
أتباعُ علي
وكان
عمار يؤكد لعامة الناس على مشروعية قتال معاوية وابن العاص ويقول لهم :
وأعلن
قيس بن سعد بن عبادة دعم الأنصار اللامحدود لعليّ
فقال له[16]
" يا أمير المؤمنين : انكمِش
بنا إلى عدونا ولا تعرد. فوالله لجهادهم أحب إليّ من جهاد الترك والروم, لإدهانهم
في دين الله, واستذلالهم أولياءَ الله من أصحاب محمد(ص) من المهاجرين والأنصار
والتابعين بإحسان : إذا غضبوا على رجل منهم حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه !
وفيئنا لهم في أنفسهم حلال , ونحن لهم فيما يزعمون قطين. قال يعني : رقيق "[17]
وحسم
عليّ الأمر , واتخذ القرار التاريخي الصعب , فقام وأعلن لعموم أهل العراق :
"
سيروا إلى أعداء الله. سيروا إلى أعداء السنن والقرآن. سيروا إلى بقية الأحزاب
, قتلة المهاجرين والأنصار"[18]
واستجاب العراقيون في اجمالهم لدعوة عليّ, رغم وجود اقلية من المتشككين . روى الدينوري
في الاخبار الطوال" فأجابه جل الناس الى المسير إلاّ أصحاب عبد
الله بن مسعود, وعبيدة السلماني والربيع بن خثيم في نحو من اربعمائة رجل من
القراء فقالوا ( يا أمير المؤمنين : قد شككنا في هذا القتال , مع معرفتنا
فضلك. ولا غنى بك ولا بالمسلمين عمن يقاتل المشركين, فولنا بعض هذه الثغور لنقاتل
عن اهله)
فولاهم ثغر قزوين والري وولى عليهم الربيع بن خثيم و عقد
له لواء . وكان اول لواء عقد بالكوفة"[19]
وبدأ التحرك نحو الشام بعد أن وصلت قوات البصرة ايضا ,
يقودها عبد الله بن عباس[20]
وقد حضر معه رؤساء قبائل البصرة الذين ذكرهم البلاذري
على النحو التالي : خالد بن المعمر على بني بكر بن وائل , وعمرو بن مرحوم على عبد
القيس , وصبرة بن شيمان على الأزد[21] ,
وشريك بن الاعور على اهل العالية , والاحنف بن قيس على بني تميم وضبة والرباب.
وطبعاً لم يكن معاوية متفاجئاً بتحرك عليّ , بل كان
يستعد لذلك من فترة طويلة وكان بالفعل قد مهّد الارضية في الشام للمواجهة الكبرى
وقام بكل ما يلزم من تعبئة نفسية واستنفار لمجتمع الشام. ولذلك فإنه لم يواجه
صعوبة تذكر حين ذكّر الشاميين بالتهديد القادم اليهم . فخاطب الناس وقال لهم ان
عليّا جاءهم " ومعه أفاعي أهل العراق من ذي شرف يحامي عن شرفه وذي دين
يحامي عن دينه وذي كلب يؤمل فيكم الغارة! أتاكم والله مَن درعُهُ الأنصار , وسيفه
همدان , ورمحه عبد القيس, وسنانه أخلاط العرب. فإن كنتم تريدون الصبر فهذا وقت الصبر"[22].
وسرعان ما جاءه الرد المتوقع على لسان حوشب ذي الظليم
الذي عبّر عن التحدّي الشامي للـ " غزو العراقي " بقوله "يا
معاوية ! والله ما إيّاك ننصر ولا لك نغضب ولا عليك نحامي , إلّا على الشام ! فكفّ
الخيلَ بالخيل والرجالَ بالرجال . ولا يهولنّك عليّ ومن معه , فإن ما له ولأصحابه
عندي إلّا حملة واحدة فأفرّق جمعهم وأبدّد شملهم".
الجيشان يتواجهان[23]
واتخذ
علي من النخيلة , قرب الكوفة, معسكراً
لقواته, التي تجمعت فيها للإنطلاق إلى الشام. وسار الجيش العراقي بقيادة عليّ من
النخيلة إلى الصراة, ثم المدائن, فالأنبار فالرقة[24]
إلى أن وصل صفين في شهر ذي الحجة سنة 36 . وكان معاوية قد سار بقواته من الشام,
بعد أن بلغه خبر مسير عليّ, إلى أن وصل صفين قبل وصول جيش العراق إليها.
وتجمع
الجيشان أخيراً متقابلين مكتملين في صفين, وهي من خرائب
الرومان القديمة على ضفاف الفرات. وفي تلك المساحة الصغيرة بالذات كانت توجد
بالفعل كل قوة العرب على الإطلاق. لقد استنفر الفريقان الشامي والعراقي كل
قوتهما وإمكاناتهما واصطفّا متواجهين يستعدان لمواجهة مرعبة لم يسبق لها مثيل.
كان أبناء القبائل العربية من كافة أنحاء جزيرة العرب وأطرافها, القيسية واليمانية,
يتواجدون موزعين على الفريقين! كانت القبيلة الواحدة يقاتل جزء من أبنائها في
صفوف الجيش العراقي والجزء الآخر في صفوف جيش الشام! وحتى تقسيم الفرق
والكتائب في صفوف الفريقين كان على أساس قبليّ : فكان لقضاعة الكوفة قائدهم الذي
يوازيه من الجانب الآخر قائد لقضاعة دمشق. وهكذا أمر معظم القبائل.
وكانت
تعبئة الجيش العراقي (الوضعية القتالية ) على النحو التالي[25] :
-
الميمنة : تكونت
من اليمنيين, كندة, وبالأخص مذحج وهمدان, وكان عليها الأشعث بن قيس, ثم تولى
قيادتها عبد الله بن بديل. وكان على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعي.
-
الميسرة : تكونت
من قبائل ربيعة , وكان عليها عبد الله بن عباس, ومحمد بن الحنفية. وكان على رجالة
الميسرة الحارث بن مرة العبدي.
-
القلب : تكون
أساسا من قبائل مضر الكوفة والبصرة ومن أهل المدينة الأنصار, وكان عليه عليّ ,
ومعه من خزاعة وكنانة عدد مهم.
-
خيل أهل الكوفة
: كان عليهم مالك الأشتر وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف
-
رجالة أهل الكوفة عليهم عمار بن ياسر, ورجالة
أهل البصرة عليهم قيس بن سعد ومعه هاشم بن عتبة.
-
وكان القراء
موزعين على الوحدات القتالية , وكانوا يتبعون أربعة قادة وهم: عمار بن ياسر وقيس
بن سعد وعبد الله بن بديل ومسعر بن فدكي ( قراء البصرة ).
-
الراية كانت مع
عمرو بن الحرث بن عبد يغوث.
وأما
جيش الشام فكانت تعبئته على النحو التالي[26] :
-
الميمنة : تكونت
من قبائل اليمن وقضاعة, وخاصة حِمير
. وكان عليها ذو الكلاع الحِميري. وضمت الميمنة كلاً
من أهل حمص وأهل قنسرين , الذين كان عليهم زفر بن الحارث.
-
الميسرة : تكونت
من قبائل يمنية مثل عك, والأزد وبجيلة, وكان عليها حبيب بن مسلمة (القرشي). وضمت الميسرة كلا من أهل الأردن واهل فلسطين,
الذين كان عليهم مسلمة بن مخلد.
-
القلب : جند
دمشق, والقبائل القيسية, وغطفان وهوازن وسليم, وكان عليها معاوية.
-
خيل أهل الشام :
كان عليها جميعا عمرو بن العاص. وكان على خيل أهل دمشق : أبو الأعور السلمي
-
وعلى رجالة أهل
دمشق مسلم بن عقبة المري. وعلى رجالة الناس كلها الضحاك بن قيس(القرشي).
وبالإضافة إلى هذا التشكيل العسكري
الأساسي , قام كل من عليّ ومعاوية بتوزيع الألوية والرايات على كل القبائل
المشاركة في جيشيهما.
فمثلاً
كان لواء عبد القيس – الكوفة مع صعصعة بن صوحان , بينما كان لواء عبد القيس –
البصرة مع عمرو بن حنظلة. وكان لواء تميم – الكوفة مع عمير بن عطارد بينما لواء
تميم – البصرة مع الأحنف بن قيس , وهكذا في الجانب العراقي.[28]
وفي الجانب الشامي أيضا كانت الألوية قد
وزعت على القبائل. فمثلا كان على قضاعة – دمشق حسان بن بحدل الكلبي , بينما كان
على قضاعة – الأردن حبيش بن دلجة القيني.
التردّد الطويل قبل الاشتباك[29]
كانت
فكرة الحرب الشاملة بين الجيشين العربيين مخيفة ومرعبة لكليهما. وعلى الرغم من أن
التعبئة الأيدولوجية من كلا الطرفين قد بلغت أوجها, وعلى الرغم من الحماسة الظاهرة
للقتال التي كانت تبديها العناصر الأكثر تصميما من الجانبين , إلاّ أنه, ولا شك ,
كان هناك خوف حقيقي من المواجهة المفتوحة بين الجيشين بكامل طاقتهما. كان أفراد
المعسكرين ينظرون إلى بعضهما البعض فيرون بوضوح التكافؤ العسكري الذي كان قائما
بكل جلاء. وربما تؤدي مواجهة كهذه إلى الفناء المتبادل. فأكثر الروايات تشير إلى
أن عدد أفراد الجيش العراقي كان يتراوح حوالي الــ 90 ألفاً ومثلهم كان عدد مقاتلي جيش الشام [30].
والجدول
التالي به مقارنة بين الارقام الواردة في عدة مصادر بشأن عدد الجيشين المحتشدين :
عدد الجيش الشامي
|
عدد الجيش العراقي
|
المصدر
|
120 الف
|
90 الف
|
التنبيه والاشراف للمسعودي
|
70 الف
|
50 الف , وقيل 90 الف , وقيل 100 الف
|
تاريخ الاسلام للذهبي
|
70 الف , ويقال 100 الف
|
قالوا
: 50 الف , ويقال 100 الف
|
انساب الاشراف للبلاذري
|
83 الف
|
190 الف
|
الامامة والسياسة لابن قتيبة
|
"اقبل معاوية في نحوٍ منهم"
130 الف
60 الف
|
150 الف "من اهل العراق"
100 الف "او يزيدون"
120 الف
|
البداية والنهاية لابن كثير :
-عن جابر الجعفي
- عن ابن ديزيل
- عن البيهقي
|
لم يذكر
|
80 الف رجل "سوى الاتباع والخدم"
|
الاخبار الطوال للدينوري
|
لم يذكر
|
70 الف
|
وهذا
الخوف من الالتحام العسكري التام بين جيشين بهذا الحجم , وهما في النهاية جيشان
شقيقان , شاء القادة ذلك أم أبوا, هو ما يفسر الفترة الطويلة جدا التي قضاها
الجيشان معسكرين قبالة بعضهما , والتي زادت عن ثلاثة أشهر, قبل بدء المعركة
الحقيقية. فالأمر كان خطيراً جداً ويحمل في طياته تهديداً لمستقبل الوجود العربي كله في الشام
والعراق. فهذان الجيشان المتقابلان قاما بالفعل بإلحاق الهزيمة بجيوش فارس والروم
خلال ربع قرن من الزمان. كانت المواجهة الشاملة بينهما تعني المجازفة بكل ما انجزته أمة العرب من فتوح
عظيمة وتوسع كبير, لذا فالتردد والحذر كان أمراً طبيعيا . والتمهّل يشير إلى إدراك القيادتين لذلك.
وخلال
تلك الفترة الطويلة كانت المراسلات تدور بين قيادة عليّ ومعاوية. ولكنها لم تحمل
أي شيء جديد. فكلٌ منهما يكتفي
بتكرار مواقفه ومطالبه التي يصر على أنها عادلة. كانت القيادتان حريصتين على أن
تظهر كل منهما , أمام جنودها ومقاتليها على الأقل, بمظهر الراغبة في تجنب حرب
إبادة لأمة العرب. ولذلك كان الاهتمام من قبل كل من عليّ ومعاوية بتفنيد حجج الطرف
الآخر وبيان بطلانها , كبيرا. وكان هناك حرص أيضا على"إشهاد الشهود "
على ما يعلنه كل منهما.
وفيما
يلي استعراض للمراسلات التي حصلت :
هناك روايات أن معاوية لجأ الى إرسال صحابة
لمطالبة علي بتسليم قتلة عثمان: أبو هريرة وأبو الدرداء.
ففي تلك الفترة كان معاوية حريصاً جدا على أن يطرح نفسه كصاحب مطلبٍ بسيطٍ
وشرعيّ وهو القصاص من قتلة عثمان, ولم يكن
حينها معاوية قادراً بعد على إعلان
نفسه كخليفةٍ منافس لعليّ. وكان معاوية في مرحلة حشد
أهل الشام خلفه ودفعهم للقتال معه ولذا كان يريد أن يثبت لهم أن علياً قتل عثمان,
والدليل أنه يرفض تسليم قاتليه. وكان معاوية بحاجة إلى شهودٍ له على ذلك, وبالتالي فأن أبا هريرة كان
مناسباً للقيام بهذا الدور لأن معاوية سيقول لعموم
جماعته : هذا أحد أصحاب رسول الله يشهد على عليّ! ولست أنا وعمرو ابن العاص فقط مَن يقول بذلك.
روى ابن قتيبة
في الامامة والسياسة :
قال معاوية لأبي هريرة وأبي
الدرداء لما قدما عليه من حمص , وهو بصفين :
" لستُ أزعم أني أولى
بهذا الأمر من عليّ . ولكني أقاتله حتى يدفع إليّ قتلة عثمان .
فقالا : إذا دفعهم إليك ماذا يكون؟
قال : أكون رجلاً من المسلمين.
فأتيا علياً فإن
دفع إليكما قتلة عثمان جعلتها شورى "
وطبعاً كان معاوية يعرف جوابَ عليّ الأكيد على هذا المطلب.
وهكذا
إذن ذهب أبو هريرة إلى عليّ يطالبه ليس فقط بتسليم "قتلة عثمان" ولكن
أيضا بالتنحّي عن الحكم وجعلها شورى ( وكلمة شورى هنا لا تعني عموم المسلمين, بل
العودة لنظام عمر بن الخطاب : شورى كبار الصحابة من قريش, علما بأنه لم يبقَ منهم
حياً الّا القليل, ومعاوية يعلم تماما أنه عملياً لم تعد شورى عمر ممكنة ولا واردة
لأن الزمن تغير)!
ولمّا
رفض عليّ طبعاً, عاد أبو هريرة إلى اهل الشام بالأخبار
التي يمكن لمعاوية أن يستغلّها على أحسن وجه في دعايته .
وقد أثار هذا الدور الذي لعبه أبو هريرة استياء
الكثيرين من أصحاب الضمير الاسلامي الصرف والميّالين الى عليّ بالضرورة , حتى من
أهل الشام أنفسهم! فيروي صاحب الإمامة والسياسة :
" وإن
أبا هريرة وأبا الدرداء انصرفا إلى منزلهما بحمص. فلما قدما حمص لقيهما عبد الرحمن
بن عثمان (الأشعري ) فسألهما عن مسيرهما فقصّا عليه القصة.
فقال : العجب منكما أنكما من صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم. أما والله لئن كففتما أيديكما فما كففتما ألسنتكما.
أتأتيان علياً
وتطلبان إليه قتلة عثمان وقد علمتما أن المهاجرين والأنصار لو حرّموا دم عثمان
نصروه, وبايعوا علياً على
قتلته, فهل فعلوا ؟ وأعجب من ذلك رغبتكما عمّا صنعوا, وقولكما لعليّ : اجعلها شورى واخلعها من
عنقك! وإنكما
لتعلمان أن مَن
رضي بعليّ خيرٌ ممن كرهه, وأنّ مَن بايعه خيرٌ ممن
لم يبايعه. ثم صرتما رسولي رجل من الطلقاء لا تحلّ له الخلافة"
وذكر ابن كثير في
البداية والنهاية عن ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد ان الصحابيين الذين ارسلهما معاوية كانا ابا
الدرداء وابا امامة. فقال انه لما كان الجيشان متواجهين في صفين" خرج
ابو الدرداء وابو امامة فدخلا على معاوية فقالا له : يا معاوية, على ما تقاتل هذا
الرجل ؟ فوالله انه أقدم منك ومن ابيك اسلاماً , وأقرب منك الى رسول الله(ص) وأحق
بهذا الامر منك. فقال : أقاتله على دم عثمان وانه آوى قتلته. فاذهبا اليه فقولا
له فليقدنا من قتلة عثمان ثم انا أول من بايعه من اهل الشام.
فذهبا الى علي فقالا له ذلك فقال : هؤلاء الذين تريان .
فخرج خلق كثير فقالوا : كلنا قتلة عثمان! فمن شاء فليرمنا.
قال : فرجع ابو الدرداء وابو امامة فلم يشهدا لهم حربا"
وخلافاً للصحابة الذين ارسلهم معاوية لأغراض دعائية محضة
, فإنه أرسل وفداً " جدياً " يمثله هو ونظام حكمه .
وقد ذكر ابن كثير,
عن الطبري من طريق ابي مخنف, ان معاوية كان قبل ذلك قد أرسل وفداً رفيع المستوى من
قياداته , أثناء اصطفاف الجيشين في صفين:
" وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري , وشرحبيل
بن السمط, ومعن بن يزيد بن الاخمس الى علي , فدخلوا عليه . فبدأ حبيب , فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال : أما بعد, فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهدياً عمل بكتاب الله
وثبت لامر الله , فاستثقلتم حياته , واستبطأتم وفاته , فعدوتم عليه فقتلتموه.
فادفع الينا قتلته إن زعمتَ أنك لم تقتله , ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى
بينهم فيولي الناس أمرهم من جمع عليهم رأيهم .
فقال له علي : وما أنت لا أم لك وهذا الامر وهذا العزل؟!
فاسكت فإنك لستَ هناك ولا باهل لذاك.
فقال له حبيب : أما والله لتريني حيث تكره.
فقال له علي : وما أنت ولو أجلبتَ بخيلك ورجلك؟! لا أبقي
الله عليك إن أبقيت . اذهب فصعد وصوب ما بدا لك"
وجديرٌ لابذكر ان العلامة ابن كثير توقف
عن الرواية عند هذه المرحلة وقال " ثم ذكر أهل السير كلاماً طويلاً جرى
بينهم وبين علي, وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر. فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما
ينتقص فيه معاوية وأباه , وانهم انما دخلوا في الاسلام ولم يزالا في تردد فيه ,
وغير ذلك. وانه قال في غبون ذلك : لا أقول ان عثمان قتل مظلوما ولا ظالماً .
فقالوا : نحن نبرأ ممن لم يقل ان عثمان قتل مظلوماً , وخرجوا من عنده. فقال علي (
انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء اذا ولوا مدبرين. وما انت بهادي العمي عن
ضلالتهم ان تسمع إلاّ ان يؤمن بآياتنا فهم مسلمون – النمل 80) . ثم قال لأصحابه :
لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم .
وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه"
وفي هذا الموقف من ابن
كثير تظهر نزعته الاموية بوضوح.
وفيما يلي الكلام الذي قاله علي لشرحبيل بن السمط ومعن
بن يزيد , والذي لم يرُق لابن كثير فلم يروه وأعلن عدم تصديقه له , لا لشيئ إلاّ
لأنه ينتقص فيه من معاوية وأبيه. فقد روى الطبري
في تاريخه من رواية ابي مخنف ان عليا قال للرجلين[32]:
" اما بعد , فإن الله جل ثناؤه بعث محمدا (ص)
بالحق فأنقذ به من الضلالة وانتاش به من الهلكة وجمع به من الفرقة , ثم قبضه الله
اليه وقد أدّى ما عليه (ص). ثم استخلف الناس ابا بكر رضي الله عنه واستخلف ابو بكر
عمر رضي الله عنه فأحسنا السيرة وعدلا في الأمة , وقد وجدنا عليهما ان توليا علينا
ونحن آل رسول الله(ص) , فغفرنا ذلك لهما.
وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه ,
فساروا اليه فقتلوه . ثم أتاني الناس وانا معتزل أمورهم فقالوا لي : بايع, فإن
الامة لا ترضى إلاّ بك, وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس. فبايعتهم.
فلم يرعني إلاّ شقاق رجلين قد بايعاني, وخلاف معاوية
الذي لم يجعل الله عز وجل له سابقة في الدين, ولا سلف صدق في الاسلام : طليق ابن
طليق, حزب من هذه الأحزاب , لم يزل لله عز وجل ولرسوله (ص) وللمسلمين عدواً هو
وأبوه حتى دخلا في الاسلام كارهين .
فلا غرو إلاّ خلافكم معه وانقيادكم له وتدعون آل نبيكم
(ص) الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم , ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحداً .
ألا اني أدعوكم الى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه (ص)
وإماتة الباطل وإحياء معالم الدين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكل مؤمن ومؤمنة
ومسلم مسلمة.
فقال : أتشهد ان عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً ؟
فقال لهما : لا أقول انه قتل مظلوما ولا أقول انه قتل
ظالما
قالا: فمن لم يزعم ان عثمان قتل مظلوما فنحن منه براء.
ثم قاما فانصرف.
فقال علي : انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء اذا
ولوا مدبرين ولا أنت بهادي العمي عن ضلالتهم. إن تسمع الا من يؤمن بآياتنا فهم
مسلمون.
ثم أقبل علي على أصحابه فقال : لا يكن هؤلاء أولى بالجد
في ضلالهم منكم بالجد في حقكم وطاعة ربكم"
وبالعودة الى وفد معاوية, يلاحظ اختلاف الطلبات التي
وجهها حبيب بن مسلمة الى علي عن تلك التي وجهها الصحابة ( ابو هريرة / ابو
الدرداء/ ابو امامة) له. فهو الآن ينطق بلسان معاوية وقيادته فيطلب من علي
التنحي عن منصب الخلافة بدون مواربة, بخلاف الآخرين الذين كان معاوية يستغلهم
بالحديث عن مظلومية عثمان وضرورة الاقتصاص من قتلته.
وأما بالنسبة للرسل الذين بعثهم عليٌ الى معاوية
: لم يكن ثمة شيئ ليعرضوه على معاوية سوى الدخول في طاعة علي بدون شروط. وهي
بالتالي كانت مهمة فاشلة حتماً. وأخبار حواراتهم وسجالاتهم مع معاوية فيها
الكثير من الخطب والمواعظ والتهديدات , وأحياناً لا تخلو من طرافة.
واهم وفدٍ أرسله عليٌ الى معاوية, حينما وصل جيشه الى
صفين وعسكر الجيشان على ضفاف الفرات, كان مكونا من ثلاثة رجال, وهم من قبائل
مختلفة : بشير بن عمرو بن محصن الانصاري, وسعيد بن قيس الهمداني, وشبث بن ربعي
التميمي. وقد اقترح شبث بن ربعي على عليّ حين وجّههم ان يقدم بعض الوعود لمعاوية
ليحفزه على الدخول في طاعته " ألا تطمعه في سلطان توليه اياه ومنزلة يكون
له بها اثرة عندك إن هو بايعك؟" ولكن علياً لم يجبه الى شيئ وطلب منه
الاقتصار على دعوة معاوية الى الطاعة بدون أي عرض محدد. فقد روى الطبري في تاريخه عن ابي مخنف ان الوفد ذهب الى
معاوية في أول ذي الحجة" فأتوه ودخلوا عليه, فحمد الله وأثنى عليه أبو
عمرة بشير بن عمرو وقال : يا معاوية ان الدنيا عنك زائلة وانك راجع الى الآخرة ,
وان الله عز وجل محاسبك بعملك وجازيك بما قدمت يداك . واني أنشدك الله عز وجل أن
تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها
فقطع عليه الكلام وقال : هلا أوصيتَ بذلك صاحبك؟
فقال ابو عمرة : ان صاحبي ليس مثلك ان صاحبي أحق البرية
كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الاسلام والقرابة من الرسول (ص)
قال : فيقول ماذا ؟
قال : يأمرك بتقوى الله عز وجل وإجابة ابن عمك الى ما
يدعوك اليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك
قال معاوية : ونطل دم عثمان رضي الله عنه ؟! لا والله لا
أفعل ذلك.
فذهب سعيد بن قيس يتكلم فبادره شبث بن ربعي فتلك .
فحمد الله واثنى عليه وقال : يا معاوية اني قد فهمتُ ما
رددتَ على ابن محصن . انه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب . انك لم تجد
شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلاّ قولك قتل إمامكم
مظلوماً فنحن نطلب بدمه. فاستجاب له سفهاءٌ طغام . وقد علمنا ان قد أبطأتَ عنه
بالنصر وأحببتَ له القتل لهذه المنزلة التي أصبحتَ تطلب . ورب متمني أمر وطالبه
الله عز وجل يحول دونه بقدرته . وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته وواله مالك
في واحدة منهما خير : لئن أخطأتَ ما ترجو انك لشرّ العرب حالاً في ذلك, ولئن أصبتَ
ما تمنى لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلى النار . فاتق الله يا معاوية. ودع ما أنت
عليه ولا تنازع المر أهله .
فحمد الله واثنى عليه ثم قال : أما بعد , فإن أول ما
عرفتُ فيك سفهك وخفة حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه . ثم عنيتَ
بعدُ فيما لا علم لك به, فقد كذبتَ ولومت ايها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما
ذكرتَ ووصفتَ.
انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني وبينكم إلاّ السيف. وغضب.
وخرج القوم وشبث يقول : أفعلينا تهول بالسيف؟! أقسم
بالله ليعجلن بها عليك"
كما روى الطبري عن
ابي مخنف ايضاً ان عليا أرسل وفدا آخر بعد ذلك, حين حل شهر محرم وتوادع الفريقان
فيه, يضم عدي بن حاتم[33]
الطائي, ويزيد بن قيس الارحبي , وشيث بن ربعي و زياد بن خصفة. وقد حصلت خلاله
مشادات حادة . فمثلاً قال عدي في معرض كلامه " فانتهِ يا معاوية لا يصبك
الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل" فأجابه " كأنك انما جئتَ
متهدداً , لم تأتِ مصلحاً . هيهات يا عدي كلا والله! اني لابنُ حربٍ ما يقعقع لي
بالشنآن..." ولما طالبهم معاوية بتسليم قتلة عثمان ليقتلهم أجابه شبث
" أيسرّك يا معاوية أنك أمكنتَ من عمار تقتله؟ " فردّ عليه
معاوية بجواب صاعق " وما يمنعني من ذلك؟ والله لو امكنتُ من ابن سمية
ما قتلته بعثمان رضي الله عنه ولكن كنتُ قاتله بناتل مولى عثمان!"
فانفعل شبث وقال " وإله الارض وإله السماء أما عدلت معتدلاً . لا والذي
لا إله إلاّ هو لا تصلُ الى عمار حتى تندُرَ الهامُ عن كواهل الأقوام وتضيق الارض
الفضاء برحبها !" . وتضيف الرواية ان معاوية حاول رشوة زياد
بن خصفة على انفراد لكي ينضم اليه ويترك علياً, فرفض.
ومن المصادر الشيعية, ورد في كتاب سليم بن قيس الهلالي أن معاوية أرسل أبا هريرة وأبا
الدرداء (وهم بصفين) برسالة الى علي يطلب منه فيها أن يمكنه من قتلة عثمان ليقتلهم
ويسلم له الأمر ويبايع هو وأهل الشام. فرفض علي واشترط الدخول في طاعته أولا ومن
ثم التخاصم بين يديه والشكوى ضد من قتلوا عثمان " فهؤلاء بنو عثمان
رجالٌ قد أدركوا, ليسوا بأطفال ولا مولى عليهم. فليأتوا أجمع بينهم وبين قتلة
أبيهم, فإن عجزوا عن حجتهم فليشهدوا لمعاوية بأنه وليهم ووكيلهم وحربهم
في خصومتهم. وليقعدوا هم وخصماؤهم بين يدي مقعد الخصوم الى الامام والوالي الذي
يقرون بحكمه وينفذون قضاءه. وأنظر في حجتهم وحجة خصمائهم. فإن كان أبوهم قتل
ظالما وكان حلال الدم أبطلتُ دمه, وإن كان مظلوما حرام الدم أقدتهم من قاتل أبيهم:
فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا عفوا وإن شاؤوا قبلوا الدية[34].
وهؤلاء قتلة عثمان في عسكري يقرون بقتله ويرضون بحكمي
عليهم ولهم. فليأتني ولد عثمان أو معاوية – إن كان وليهم ووكيلهم – فليخاصموا
قتلته وليحاكموهم حتى أحكم بينهم وبينهم بكتاب الله وسنة نبيه(ص)
.... ثم خرج ابو هريرة وابو الدرداء, فإذا نحو من عشرين
الف رجل مقنعين بالحديد فقالوا: نحن قتلة عثمان ونحن مقرون وراضون بحكم علي عليه
السلام علينا ولنا فليأتنا أولياء عثمان فليحاكمونا الى امير المؤمنين عليه السلام
في دم ابيهم. فإن وجب علينا القود أو الدية اصطبرنا لحكمه وسلمنا"
هذه كانت استعراضاً لما دار من مراسلات ومناقشات
ومطالبات بين الطرفين من خلال الوفود المتبادلة , والتي كانت كلها بلا أي نتيجة .
وطبعا
كانت فترة الأشهر الثلاثة مناسبة أيضاً لكي
يُظهر كل طرف تصميمه وحُسن استعداده. وكانت تحصل بشكل يومي مواجهات
محدودة تقوم بها فرق معينة من الجانبين. وكانت هناك الكثير من الدعوات الفردية
للقتال والبراز يقوم بها فرسان من هنا وهناك لإظهار الشجاعة وإرهاب الخصم. وكانت
تحصل مناورات عسكرية يقوم بها الخيالة تستهدف هدفاً
معينا من الجيش المقابل, شخص مشهور , أو قبيلة معينة أو ما شابه. وكان الرماة
يتبادلون التراشق بالنبال في بعض الأحيان.
وفي
غالب الأحيان كانت تلك المناوشات تنتهي بالتحاجز فيما بينهما , دون خسائر كبيرة.
وقد عبّر
الدينوري عن ذلك بقوله:
" يزحف بعضهم إلى بعض, فيحجز بينهم
القراء والصالحون, فيتفرقون من غير حرب , حتى فزعوا في هذه الثلاثة الأشهر خمساً وثمانين فزعة. كل
ذلك يحجز بينهم القراء"[35]
بدء القتال[36]
بعد
انتهاء الأشهر الحرم, تزايدت حدة المواجهات بين الفريقين. وأرسل عليّ منادياً
يصيح في معسكر معاوية :
"
إنا أمسكنا لتنصرم الأشهر الحرم, وقد تصرمت. وإنا ننبذ إليكم على سواء.
إن الله لا يحب الخائنين"[37]
وبدأ
القتال الفعلي بين الجيشين, ولكنه حتى تلك اللحظة كان لا زال محدوداً في حجمه. ولم ينخرط فيه كل الجيشين بعد.
فكانت الكتائب يقودها قادة بارزون تواجه مثيلتها من الطرف الآخر ويدور بينها قتال
طاحن يسفر عن مقتل الكثيرين. ثم تتوقف المعارك لتعاود الحدوث على أيدي كتائب أخرى
تخوض معارك شرسة , فيها كرّ وفرّ ضد نظيرتها. وفي بعض الأيام كانت الكفة
تميل إلى الجانب العراقي , وفي أيام أخرى إلى الجانب الشامي. ولم يحصل تفوق
ساحق لأيهما.
وارى
من المناسب هنا استعراض هذا النص الذي يظهر أخلاقيات الحرب عند عليّ :
روى الطبري
في تاريخه عن ابي مخنف عن جندب الازدي " ان عليا كان يأمرنا في كل موطن
لقينا فيه معه عدوا فيقول:
لا تقاتلوا القومَ حتى يبدأوكم فأنتم بحمد الله عز وجل
على حجة, وتركُكم اياهم حتى يبدأوكم حُجة أخرى لكم.
فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم :
فلا تقتلوا مُدبراً
ولا تجهزوا على جريح
ولا تكشفوا عورة
ولا تمثلوا بقتيل
فإذا وصلتم الى رحال القوم :
فلا تهتكوا ستراً
ولا تدخلوا داراً إلاّ بإذن
ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلاّ ما وجدتم في عسكرهم
ولا تهيجوا امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم
وصلحاءكم, فإنهن ضعاف القوى والانفس"
وليس
هذا الكلام مستغرباً من عليّ , وهو يشبه كلامه ووصاياه لقواته يوم الجمل في
البصرة. ولا ننسى طبعا ان القتال يدور بين المسلمين ولذلك التشديد على عدم هتك
الاستار وكشف العورات ,,,,
وفي
ارض الميدان , تحدثنا الروايات عن الدور المركزي والكبير الذي لعبه الصحابي
القديم عمار بن ياسر في شحذ الهمم والمعنويات لدى مقاتلي الجيش العراقي عن
طريق التأكيد المتواصل على صوابيّة موقف الامام علي في الصراع وايضا ايضاح مدى خبث
وسوء نية معاوية وجماعته.
وفي النص التالي يشن عمار هجوماً تحريضياً شديداً ضد شخص
معاوية :
" يا أهل الإسلام : أتريدون أن تنظروا إلى مَن
عادى الله ورسوله, وجاهَدَهُما , وبغى على المسلمين وظاهر المشركين , فلما أراد
الله أن يظهر دينه وينصر رسوله, أتى النبيّ فأسلمَ وهو والله فيما يرى راهب غير
راغب, وقبض الله رسوله(ص) وإنا لنعرفه بعداوة المسلم ومودة المجرم؟
ألا وإنه معاوية. فالعنوه , لعَنه الله. وقاتلوه, فإنه
ممن يطفئ نور الله ويظاهر أعداء الله" [38]
وفي رواية ابي مخنف[39]
لدى الطبري المزيد عن الدور التحريضي
لعمار بن ياسر :
" ان عمار بن ياسر خرج الى الناس فقال : اللهم
انك تعلم أني او أعلمُ أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. اللهم انك
تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في صدري ثم أنحني عليها حتى تخرج من
ظهري لفعلت. وإني لا أعلم اليوم عملا هو ارضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين .
ولو أعلم أن عملا من الاعمال هو أرضى لك منه لفعلته"
" إن عماراً قال يومئذ : مَن يبتغي رضوان ربه ولا يلوي إلى مال ولا
ولد؟ فأتته عصابة من الناس .
فقال : أيها الناس ! اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم
الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوماً. والله ما قصدهم الأخذ بدمه ولا الأخذ بثأره.
ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها واستمروا الآخرة فقلوها. وعلموا أن الحق إذا
لزمهم
حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم.
ولم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم ولا الولاية عليهم.
ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات ,
وتعقله عن إرادة الدنيا وطلب العلو فيها وتحمله على اتباع الحق والميل إلى أهله. فخدعوا
أتباعهم بقولهم إمامنا قتل مظلوماً, ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً. وتلك مكيدة
بلغوا بها ما ترون. ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان,
ولكانوا أذل وأخس وأقل. ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين. فسيروا إلى
الله سَيراً جميلاً واذكروا ذِكراً
كثيراً"
ولا شك عندي أن عمار بن ياسر وهو يظهر ذلك الحماس
والاخلاص في تأييده علياً كان يتذكّر أيامه مع رسول الله(ص) ويستحضر جهاده معه
والحروب التي خاضوها معاً ضد كبار قبيلة قريش في بدر وأحد والخندق , وعلى رأسهم
طبعاً أبو سفيان , والد معاوية. وكان لا
بد أن تأتي النهاية : قتل عمار , وسقط في ارض المعركة شهيداً في سبيل عليّ , والحق
الذي يمثاه عليّ. نتابع الرواية :
"
..... رأيتُ عماراً يوم صفين شيخا كبيراً, آدمَ طوالاً, أخذ الحربة بيده ويده ترعد.
فقال : والذي نفسي بيده! لقد قاتلتُ بهذه الراية مع
رسول الله ثلاث مرات, وهذه الرابعة. والذي نفسي
بيده! لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفتُ أننا على الحق
وأنهم على الضلالة!
.... ورأيتُ عماراً لا يأخذ وادياً من أودية صفين إلاّ اتبعه مَن كان هناك من أصحاب رسول الله.
ورأيته
جاء إلى هاشم بن عتبة, وهو صاحب راية عليّ, فقال : يا هاشم تقدم! الجنة تحت ظلال
السيوف, والموت في اطراف الأسنة. وقد فتحت أبواب الجنة وتزينت الحور العين :
اليومَ ألقى الأحبّه محمداً وحِزبَه
ثم
حملا هو وهاشم فقتلا, رحمهما الله تعالى "
ومواقف عمار هذه وكلامه في صفين ذكرها حتى اهل الحديث ,
وليس فقط أهل التاريخ والاخبار. فهذا الامام احمد في مسنده يُخرج عن عبد الله بن سلمة
انه قال" رأيتُ عماراً يوم صفين شيخا كبيراً, آدمَ طوالاً, أخذ الحربة بيده ويده ترعد.
فقال : والذي نفسي بيده! لقد قاتلتُ بهذه الراية مع رسول الله ثلاث مرات,
وهذه الرابعة. والذي نفسي بيده! لو ضربونا حتى يبلغوا بنا شعفات هجر لعرفتُ أن مصلحينا على الحق وأنهم على الضلالة"
وكان
قتل عمار بن ياسر من الأمنيات التي تحققت لبني أمية. لقد جعلوا قتل عمار من
أولويات أهدافهم. وكان ابتهاجهم بقتله عظيماً
, وكان عملاؤهم وأتباعهم الباحثون عن الغنائم يدركون ذلك. فتنازع عدة أشخاص
"شرف" قتل عمار![41]
ولم
يكن عمار وحده من يتذكر ايامه وجهاده مع الرسول (ص), بل قيس بن سعد بن عبادة ايضا
كان يذكر جهاد قومه الأنصار , فقام بين الناس قائلا :
"
هذا اللواء الذي كنا نحفّ به ,,,, مع النبيّ وجبريلٌ لنا مَدَد "[42]
وقفة مع حديث: تقتله الفئة الباغية (عمار
بن ياسر)[43]
روى الامام البخاري في صحيحه عن ابي سعيد " أتى ذكر
بناء المسجد, فقال : كنا نحمل لبنة لبنة , وعمار لبنتين لبنتين , فرآه النبي(ص) ,
فينفض التراب عنه ويقول : ويحَ عمار ! تقتله الفئة الباغية, يدعوهم الى الجنة
ويدعونه الى النار.
قال يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن"
وقال ابن حجر العسقلاني
في فتح الباري ان هذا الحديث الصحيح قد روي في الكثير من كتب الحديث المعتبرة وعن
طريق عدد كبير من الصحابة , بالاضافة الى ابي سعيد الخدري :
" روى حديث تقتل عمارا الفئة الباغية جماعة من
الصحابة, منهم قتادة بن النعمان – كما تقدم – وأم سلمة عند مسلم , وأبو هريرة عند
الترمذي, وعبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي, وعثمان بن عفان وحذيفة وأبو
أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو اليسر وعمار نفسه
وكلها عند الطبراني وغيره, وغالب طرقها صحيحة أو حسنة , وفيه عن جماعة آخرين يطول
عدهم"
ولكن ابن حجر رغم اعترافه بأن
هذا الحديث ينطبق بالتحديد على أهل الشام في حرب صفين ( وقد تحدث عن محاولات للبعض
لإلصاق هذا الحديث بالخوارج والادعاء بأنهم هم الفئة الباغية , فقام بردّ تلك
المحاولات وبيّن بطلانها ) إلاّ أنه قدم اعتذاراً عنهم وتأويلاً لنعت " الفئة الباغية " التي تلزمهم
بنص الحديث .
فقال عن عمار" فإن قيل : كان قتله بصفين وهو مع علي , والذين قتلوه
مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة , فكيف يجوز عليهم الدعاء الى النار؟
فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون الى الجنة . وهم مجتهدون لا لوم
عليهم في اتباع ظنونهم.
فالمراد بالدعاء الى الجنة الدعاء الى سببها وهو طاعة الامام.
وكذلك كان عمار يدعوهم الى طاعة علي , وهو الامام الواجب الطاعة إذ ذاك,
وكانوا هم يدعون الى خلاف ذلك , لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم"
وابن حجر يقول
هذا الكلام عن المجتهد المخطئ والصحابة المعذورون بالتأويل,,,, نظراً لكونه فقيهاً
ملتزماً على مذهب اهل السنة والجماعة. وهذا الرأي من صلب المذهب : تنزيه الصحابة ,
كل الصحابة, عن كل المثالب والعيوب.
وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق
أنه قد روى حديث " ويح ابن سمية ! تقتله الفئة الباغية " 23
صحابياً وهم : عمار نفسه, وعثمان بن عفان, ومعاوية بن ابي سفيان, وعبد الله بن
عباس, وعمرو بن العاص, وابنه عبد الله, وابي رافع , وعبد الله بن مسعود, وحذيفة بن
اليمان, وابي هريرة, وزيد بن ابي أوفى, وجابر بن سمرة, وأبي قتادة, وعمرو بن حزم,
وخزيمة بن ثابت, وابي اليسر كعب بن عمرو, وزياد بن القرد, وكعب بن مالك, وجابر بن
عبد الله, وانس بن مالك, وابي امامة, وعائشة وأم سلمة.
وقد أخرج أحاديثهم بأسانيدها, وألفاظها المختلفة والمتقاربة. ويلاحظ ان
هناك روايتين حول المناسبة التي قال بها النبي(ص) هذا الكلام لعمار : الاولى هي
أثناء بناء المسجد , والثانية أثناء حفر الخندق. وفي الحالتين بسبب انهماك عمار
وحماسته الشديدة اثناء العمل بما يفوق غيره. وبعض الروايات فيها إضافة " وقاتله
في النار" وفي بعضها الآخر " وآخر زادك من الدنيا ضياح من لبن[44]".
وقال ابن كثير في البداية
والنهاية " وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع امير المؤمنين علي بن
ابي طالب : قتله اهل الشام وبان وظهر بذلك سر ما أخبره به الرسول (ص) من أنه تقتله
الفئة الباغية . وبان بذلك ان علياً محق وان معاوية باغ [45]"
وتقول المصادر انه بعد مقتل عمار صار هناك تشكك لدى بعض
الناس في جبهة معاوية بسبب حديث الفئة الباغية , مما اضطر معاوية الى ابتكار جوابٍ
خلّاق لهذه الاشكالية ! فمثلاً يقول لنا البلاذري
في رواية من طريق الاعمش أن معاوية رد على تساؤل عبد الله بن عمرو بن العاص بعد
مقتل عمار بقول " أنحنُ قتلناه ؟! انما قتله الذين جاؤوا به , يعني
علياً وأهل العراق "
مما ورد اعلاه يتضح لنا ان هناك اتفاقاً وإجماعاً بين
الفقهاء وأهل الحديث على صحة حديث " تقتله الفئة الباغية ". ومن الصعب
تجاهل ذلك خاصة وانه مرويّ على لسان عدد كبير من الصحابة.
ولكني مصرّ على موقفي : اشك في جميع الاحاديث النبوية
التي فيها نبوءات وكلام عن اشخاص محددين في سياق الفتنة الكبرى. سواء لصالح الامام
علي او ضده. وأرى تلك "الاحاديث" ذات مآرب وأغراض سياسية ومذهبية.
وانا أرى ان كون معاوية وجماعته هم الفئة الباغية واضح
كالشمس لكل ذي عينين وقلبٍ منصف, وليس بحاجة الى حديث منسوب للنبي(ص) لاثبات ذلك.
بل ان سياق الاحدث والتطورات , وما حصل بالفعل , يثبت ذلك.
*******
وقفة مع قرشيّ من رجال عليّ : هاشم بن
عتبة[46]
ويكثر ذكر هاشم بن عتبة المرقال ضمن الرجال المخلصين في
ولائهم لعلي بن ابي طالب , وخاصة عند الحديث عن معركة صفين. ويمكن اعتبار هذا
الرجل حالة فريدة بالفعل : فهو قرشيٌ صميم, وهو ابنٌ لواحدٍ من أشرس أعداء رسول
الله (ص) في مكة. فأبوه عتبة بن ابي وقاص كان من ضمن أربعة رجال من قريش تعاهدوا
على قتل محمد (ص) قبيل بدء معركة أحد, كما روى الواقدي في المغازي , وكادوا ينجحون
في مسعاهم ولكن الله سلم رسوله رغم إصابته بجروح. وان عهدنا بهؤلاء الرجال الذين
عرفوا بحدّة عدائهم لرسول الله(ص) , كالعاص بن وائل وعقبة بن ابي معيط وابي سفيان
والحكم بن ابي العاص وصفوان بن أمية وغيرهم, أن يكونوا هم وأبناؤهم صفاً
مرصوصاً في عدائهم لعلي بن ابي طالب ,
وخاصة أيام خلافته. ولكن هاشماً كان على النقيض من ذلك : شديد الولاء لعلي .
ومما يزيد في غرابة موقف هاشم أن عمه سعد بن ابي وقاص
كان على قيد الحياة أثناء نشاط هاشم في دعم علي. وسعد كان من اهل شورى عمر
وبالتالي مرشحاً مقبولاً للخلافة بنظر النظام القرشي. أي أنه كان منافساً لعلي. ولذلك
كان طبيعياً أن يكون هوى هاشم مع عمه سعد , صاحب الموقف السلبي المشهور من علي
وبيعته وحكمه.
وليس عندي أسبابٌ واضحة تفسّر اندفاع هاشم في تأييد علي
بن ابي طالب بتلك الهمة والحماسة. ولكن يظهر أنه كان من فئة الرجال شديدي التديّن
وصادقي النية[47]. وربما
كان تاريخ أبيه القاتم تجاه النبي(ص) حافزاً له لكي يعوّض عما سلف عن طريق الولاء
الخالص للرسول (ص) ولعليّ من بعده.
وربما كان ما يراه من انحراف وفساد في عهد ولاة عثمان بن
عفان دافعاً آخر له لكي يوالي علياً , من اجل الاصلاح والتغيير. وقد روى ابن سعد في الطبقات الكبرى حادثة تظهر اصطداماً
وقع بين هاشم وبين والي عثمان على الكوفة : سعيد بن العاص .
" ثم انصرف سعيد بن العاص الى الكوفة , فأضرّ
باهلها إضراراً شديداً. وعمل عليها خمس سنين إلاّ شهراً .
وقال مرة بالكوفة : من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر
رمضان.
فقال القوم : ما رأيناه .
فقال هاشم بن عتبة بن ابي وقاص : أنا رأيته.
فقال له سعيد بن العاص : بعينك هذه العوراء رأيته من بين
القوم ؟!
فقال هاشم : تعيرني بعيني؟ وإنما فقئت في سبيل الله .
وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك.
ثم أصبح هاشم في داره مفطراً. وغدى الناس عنده.
فبلغ ذلك سعيد بن العاص فأرسل اليه فضربه وحرق داره.
فخرجت ام الحكم بنت عتبة بن ابي وقاص , وكانت من
المهاجرات, ونافع بن ابي وقاص , من الكوفة حتى قدما المدينة . فذكرا لسعد بن ابي
وقاص ما صنع سعيدٌ بهاشم.
فأتى سعد عثمانَ فذكر ذلك له. فقال عثمان : سعيد لكم
بهاشم اضربوه بضربه ودار سعيد لكم بدار هاشم فاحرقوها كما حرق داره.
فخرج عمر بن سعد بن ابي وقاص, وهو يومئذ غلام يسعى, حتى
أشعل النار في دار سعيد بالمدينة. فبلغ الخبر عائشة فأرسلت الى سعد بن ابي وقاص
تطلب اليه وتسأله أن يكف ففعل"[48]
وقال ابن عبد البر
في ترجمته في الاستيعاب[49]
" أسلم هاشم بن عتبة يوم الفتح , يعرف بالمرقال. وكان من الفضلاء الخيار ,
وكان من الابطال البهم, فقئت عينه يوم اليرموك , ثم أرسله عمر من اليرموك مع خيل
العراق الى سعد, كتب اليه بذلك. فشهد القادسية وأبلى فيها بلاء حسناً . وقام منه
في ذلك ما لم يقم من أحد. وكان سبب الفتح على المسلمين. وكان بهمة من البهم,
فاضلاً خيراً.
وهو الذي افتتح جلولاء : عقد له سعد لواء ووجهه, وفتح
الله عليه جلولاء, ولم يشهدها سعد. وقد قيل : ان سعدا شهدها. وكانت جلولاء تسمى
فتح الفتوح, وبلغت غنائمها ثمانية عشر الف الف . وكانت جلولاء سنة 17. وقال قتادة
: سنة 19.
وهاشم بن عتبة هو الذي امتحن مع سعيد بن العاص زمن عثمان
, إذ شهد في رؤية الهلال وأفطر وحده, فأقصّه عثمان من سعيد على يد سعد بن ابي وقاص
في خبر فيه طول.
ثم شهد هاشم مع علي رضي الله عنه الجمل, وشهد صفين ,
وأبلى فيها بلاء حسناً مذكوراً. وبيده كانت راية علي على الرجالة يوم صفين. ويومئذ
قتل رضي الله عنه . وهو القائل يومئذ:
أعور يبغي اهله محلا قد عالج الحياة حتى
ملا
لا بد ان يفل أو يفلا
وقطعت رجله يومئذ, فجعل يقاتل من دنا منه وهو بارك ويقول
:
الفحل يحمي شوله معقولا
وقاتل حتى قتل . وفيه يقول ابو الطفيل عامر بن واثلة :
يا هاشم الخير جزيتَ الجنة قاتلتَ في الله عدو السنة
أفلح بم فزتَ به من مِنة"
****
إذن تلقى الجانب
العراقي ضربة موجعة في تلك المعارك حين قتل عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة, ومن
بعدهما عبد الله بن بديل الخزاعي .
وكان عبد الله
بن بديل, وهو يقود ميمنة عليّ , قد استبسل في القتال بنفسه وكان يحمّس جنوده ويضرب
لهم المثل في البطولة , ويلقي فيهم الخطب المؤثرة :
" إن
عبد الله بن بديل قام في أصحابه فقال :
إن معاوية ادّعى
ما ليس له. ونازعَ
الأمرَ أهله ومَن ليس مثله. وجادل بالباطل ليدحض به الحق. وصال عليكم
بالأعراب والأحزاب, وزين لهم الضلالة وزرع في قلوبهم حب الفتنة, ولبس عليهم
الأمر وزادهم رجسا إلى رجسهم.
وأنتم والله على
نور من ربكم وبرهان مبين.
قاتلوا الطغام
الجفاة ولا تخشوهم. وكيف تخشونهم وفي أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبروز ( أتخشونهم ؟
فالله أحق ان تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم
عليهم ويشفِ
صدور قوم مؤمنين)
وقد قاتلتهم مع
النبي (ص) . والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى ولا أبر.
قوموا إلى عدو
الله وعدوكم"[50]
وتقول
الرواية انه شنّ حملة شديدة على ميسرة أهل الشام, وكان مصمماً على قتل معاوية ذاته.
وفعلاً اقترب منه بقواته , فوجد معاوية نفسَه
في وضع صعب إلى أن أنقذه حبيب بن مسلمة ورجاله ,الذين شنوا حملة معاكسة أرجعت قوات
العراق إلى قواعدها. ولكن ابن بديل رفض التراجع وثبَتَ في موقعه المتقدم والقريب من معاوية
ومعه مائة من قراء العراق . فحوصر معهم من قبل جيش ابن مسلمة , فلم يستسلموا بل
استبسلوا , ولم يستطع جيش معاوية القضاء عليهم بالقتال والمواجهة, بل قذفوهم
بالحجارة عن بُعد إلى أن قتلوا.[51]
******
وفي
الجانب الشامي كان معاوية وقياداته حريصين على إظهار الجانب الدفاعي في
موقف أهل الشام, أمام عامة المقاتلين. وحسب النص التالي قام أحد قيادات معاوية , يزيد بن أسد البجلي,
يخطب في الناس يوم صفين :
"
... ثم قد كان مما قضى الله أن جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض. والله يعلم أني كنتُ لذلك كارهاً, ولكنهم لم يبلعونا ريقنا, ولم يتركونا نرتاد
لأنفسنا, وننظر لمعادنا حتى نزلوا بين أظهرنا , وفي حريمنا وبيضتنا.
وقد
علمنا ان في القوم أحلاماً
وطغاماً , فلسنا نأمن طغامهم على ذرارينا
ونسائنا . وقد كنا نحب ألاّ نقاتل أهلَ ديننا , فأخرجونا حتى صارت الأمور إلى
ان قاتلناهم كراهية, فإنا لله وإنا إليه راجعون..."[52]
و
تعرض معاوية لخسارة قاسية حين قتل قائده العسكري الفذّ والبارز, والفارس المشهور :
ذو الكلاع الحِميري.
وكان
ذو الكلاع قد ألقى خطبة مهمة قبيل مقتله, بطلبٍ من معاوية, توضح بجلاء الفلسفة الدعائية
التي استند إليها معاوية , ولم يملّ من
تكرارها أمام جنوده بشكل متواصل, من أجل استمرار
ثباتهم. وفيها أربع نقاط:
"
... لم أرَ
يسعني أن يُهدر
دم عثمان , صهر رسول الله (ص) نبينا.... فإن كان أذنبَ, فقد أذنب مَن هو خيرٌ منه وقد قال الله عز وجل لنبيه : ليغفر لك الله ما
تقدم من ذنبك وما تأخر...
....
إنا لنعلم إنه
قد كانت لابن أبي طالب سابقة حسنة مع رسول الله . فإن لم يكن مالأ على قتل
عثمان فقد خذله...
...
ثم قد أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا في شامكم وبلادكم...
وقتل حوشب ذو ظليم, قائد رجّالة حمص.
وايضاً كانت خسارة معاوية كبيرة بمقتل عبيد
الله بن عمر بن الخطاب[54],
أحد عناصر التعبئة والدعاية المهمة له.
وعلى الرغم من كل ذلك القتال الشديد :
"
كان أهل العراق وأهل الشام أيام
صفين إذا انصرفوا من الحرب, يدخل كل فريق منهم في الفريق الآخر فلا يعرض أحدٌ لصاحبه. وكانوا يطلبون قتلاهم,
فيخرجونهم من المعركة ويدفنونهم"[55]
مبارزات
وهمية[56]
في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم
يظهر النفس الملحمي , حيث لقاءات الأبطال والمبارزات , والأشعار والمفاخرات. وليس
غريبا حدوث مبارزات ومواجهات فردية بين فرسان من الجانبين, ولكن يلاحظ مبالغات في
ذلك, خاصة حين يتعلق الأمر بالقيادات العليا للفريقين, أو بكبار السن ممن يستحيل
التصديق بقدرتهم على خوض منازلات تعتمد على القوة الجسدية أساساً. ويلاحظ في
روايات نصر تركيز على إظهار بطولات الامام علي , وعمار, ومالك الاشتر بالذات,
مقابل تخاذل معاوية وعمرو .
ففيما يتعلق بعمرو بن العاص, فقد كان في الثمانينات من عمره, فكيف يعقل ان
يبادر الى التصدي بنفسه ليبارز الفرسان؟ ومتى كان عمرو يتصدى ويباشر القتال بنفسه؟
لقد أشار الامام علي مرة الى حرصه على حياته وعدم مباشرته القتال فقال " فإذا
كان عند الحرب فأيّ زاجرٍ
وآمرٍ هو, ما لم تأخذ السيوف مآخذها" . وهو كان قصير القامة ولم يعرف عنه القوة
الجسمانية أو البطولة الفردية , حتى وهو أصغر سنا بكثير.
فهل يعقل انه يتصدى ليبارز مالك الاشتر؟! قال نصر:
ان معاوية[57] طلب من
مروان بن الحكم ان يخرج في الخيل ليقاتل الاشتر , فرفض مروان لأن معاوية يفضل
عمراً عليه. فطلب معاوية من ابن العاص ان يتصدى للأشتر, فوافق وخرج في الخيل فلقيه
الاشتر أمام الخيل وهو يرتجز شعراً " فعرف عمرو أنه الاشتر, وفشل حيله
وجبن, واستحيا أن يرجع" ثم تقدم عمرو نحو الاشتر وهو يرتجز بدوره شعرا
" فلما غشيه الاشتر بالرمح زاغ عنه عمرو, فطعنه الاشتر في وجهه فلم يصنع
(الرمح) شيئا, وثقل عمرو فأمسك (عنان فرسه وجعل يده) على وجهه, ورجع راكضا الى
العسكر"
وفي موضع آخر يذكر نصر ان عمرو
بن العاص كان يتقدم قوات للشاميين ويرتجز شعرا, فاعترضه علي وهو يرتجز شعرا يعارضه
به " ثم طعنه , فصرعه, واتقاه عمرو برجله, فبدت عورته, فصرف علي وجهه
عنه! وارتث. فقال القوم : أفلت الرجل يا أمير المؤمنين. قال : وهل تدرون من
هو؟ قالوا : لا . قال : فإنه عمرو بن العاص تلقاني بعورته فصرفت وجهي عنه.
ورجع عمرو الى معاوية فقال له: ما صنعت يا عمرو؟ قال : لقيني علي فصرعني.
قال : احمد الله وعورتك..."
ويبدو التصنع ظاهرا في هذه الرواية, خاصة حين يسترسل نصر في الحديث عن كلام معاوية لعمرو , وتندره
عليه, وقوله شعرا يعيبه به ويمتدح عليا وشجاعته!
بل ان ابن قتيبة في الامامة
والسياسة روى ان مبارزة ابن العاص لعلي كانت عن تصميم وإرادة , وليست عارضة كما في
رواية نصر " وذكروا ان عمراً قال لمعاوية : أتجبن عن علي وتتهمني في
نصيحتي اليك؟ والله لأبارزنّ علياً ولو متّ ألفَ موتة في أول لقائه.
فبارزه عمرو. فطعنه علي فصرعه, فاتقاه بعورته, فانصرف عنه علي, وولى بوجهه
دونه.
وكان علي رضي الله عنه لم ينظر قط الى عورة أحد, حياء وتكرماً, وتنزهاً عما
لا يحل ولا يجمل بمثله, رضي الله عنه"
ولا بد من ملاحظة التناقض الصارخ في هذه الرواية بين حماسة عمرو
وتحدّيه, وبين احتمائه بعورته!
ومن ذلك ما رواه نصر بن مزاحم من
مبارزة بسر بن أرطأة لعلي نفسه. فقد روى أن معاوية اقترح على بسر أن يخرج ليبارز
عليا فوافق بعد كلام كثير" فاستقبله بسر قريبا من التل, وهو مقنع في
الحديد لا يعرف. فناداه : أبرز اليّ أبا حسن. فانحدر اليه علي تؤدة غير مكترث. حتى
اذا قاربه طعنه وهو دارع. فألقاه على الأرض. ومنع الدرع السنانَ ان يصل اليه, فاتقاه
بسر (بعورته) وقصد ان يكشفها, يستدفع بأسه. فانصرف عنه علي عليه السلام
مستدبرا له. فعرفه الاشتر حين سقط, فقال : يا أمير المؤمنين هذا بسر بن أرطأة عدو
الله وعدوك. فقال : دعه عليه لعنة الله, أبعدَ أن فعلها؟ "
وبالإضافة الى مبارزته عمرو بن العاص وبسر بن ارطأة , وفرارهما منه بعد كشف
عورتهما, يروي نصر بن مزاحم ان عليا
بارز بنفسه , وقتل, عددا آخر من فرسان أهل الشام, منهم حريث مولى معاوية, وكريب بن
الصباح الحميري, وابو داود عروة بن داود الدمشقي, وابن عم ابي داود .
ورغم انه لا شك مطلقا بقدرات أمير المؤمنين علي في ميدان الحرب, وبطولته
وقوته وقدرته على الانتصار في البراز, إلاّ أنه من المبرر الشك في هذه
المبارزات المنسوبة له يوم صفين. فهو كان وقتها القائد الأعلى لجيوش العراق ولذلك
فمن غير المنطقي أن يترك شؤون القيادة والتوجيه وينخرط شخصياً في مبارزات مع أشخاص
من جيش الشام.
ومما يؤيد هذا التحليل موقفٌ سابقٌ لأمير المؤمنين علي
عندما اسشاره الخليفة عمر بن الخطاب بشأن الخروج الى غزو
الروم بنفسه:
" إنّك متى تسِر الى هذا العدوّ بنفسك فتلقهم بشخصك
فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم . ليس بعدك مرجع يرجعون اليه . فابعث
اليهم رجلاً
محرباً , واحفز معه أهل البلاء والنصيحة , فان
أظهر الله فذلك ما تحبّ , وان تكن الأخرى كنتَ رِدءً للناس ومثابة للمسلمين
"[58]
فهو هنا يقول لعمر ان منصب القائد الأعلى للجيوش أهم وأسمى من مباشرة
الحرب والقتال بنفسه. فالقائد ينبغي أن يكون موجهاً لجنوده ومرجعاً لهم, مما
يحمله مسؤولية تحول بينه وبين الانخراط في العمل الميداني بنفسه.
روى ابن عبد البر في الاستيعاب :
" وكان بسر بن أرطاة من الأبطال الطغاة , وكان مع معاوية بصفين ,
فأمره أن يلقى علياً في القتال . وقال له : سمعتك تتمنى لقاءه , فلو أظفرك الله به
وصرعته, حصلتَ على دنيا وآخرة . ولم يزل به يشجعه ويمنيه حتى رآه, فقصده في الحرب
فالتقيا, فصرعه علي رضوان الله عليه, وعرض له معه مثل ما عرض فيما ذكروا لعلي رضي
الله عنه لعمرو.
ذكر الكلبي في كتابه في أخبار صفين ان بسر بن أرطأة بارز علياً رضي الله
عنه يوم صفين, فطعنه علي رضي الله عنه فصرعه فانكشف له, فكفّ عنه , كما عرض له
فيما ذكروا مع عمرو بن العاص , ولهم فيها أشعار مذكورة في موضعها من ذلك الكتاب ,
منها فيما ذكر ابن الكلبي والمدائني قول الحارث بن النضر السهمي .
قال ابن الكلبي : وكان عدواً لعمرو وبسر :
أفي كل يوم فارس ليس ينتهي وعورته وسط العجاجة باديه
يكفّ لها عنه عليٌ سنانه ويضحك منه في الخلاء معاويه
بدت أمسِ من عمرو فقنّع رأسه وعورة بسر مثلها حذو حاذيه
فقولا لعمروٍ ثم بسرٍ : ألا انظرا سبيلكما لا تلقيا الليث ثانيه
ولا تحمدا إلاّ الحيا وخصاكما هما كانتا والله للنفس واقيه
ولولاهما لم ينجوا من سنانه وتلك بما فيها عن العَود ناهيه
متى تلقيا الخيلَ المشيحة صُبحة وفيها عليٌ فاتركا الخيلَ ناحيه
وكونا بعيداً حيث لا تبلغ القنا نحوركما إن التجارب كافيه
قال أبو عمر : إنما كان انصراف علي رضي الله عنه عنهما وعن أمثالهما من
مصروع ومنهزم , لأنه كان يرى في قتال الباغين عليه من المسلمين ألاّ يُتبع مدبرٌ
ولا يُجهز على جريح ولا يُقتل أسير . وتلك كانت سيرته في حروبه في الاسلام رضي
الله عنه"
وقال العلامة ابن كثير في البداية
والنهاية" وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم ان عليا رضي الله عنه بارز في
ايام صفين وقاتل وقتل خلقا, حتى ذكر بعضهم انه قتل خمسمائة. فمن ذلك ان كريب بن
الصباح قتل اربعة من اهل العراق ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى : هل من مبارز؟ فبرز
اليه علي فتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قال علي : هل من مبارز؟ فبرز اليه
الحارث بن وداعة الحميري فقتله. ثم برز اليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله. فتلا
علي قوله تعالى (والحرمات قصاص).
ثم نادى ويحك يا معاوية ! ابرز اليّ ولا تفن العرب بيني وبينك!
فقال له عمرو بن العاص : اغتنمه فإنه قد أثخن بقتل هؤلاء الاربعة.
فقال له معاوية: والله لقد علمت ان عليا لم يقهر قط. وانما أردت قتلي لتصيب
الخلافة من بعدي. اذهب اليك! فليس مثلي يخدع
وذكروا ان عليا حمل على عمرو بن العاص يوما فضربه بالرمح فألقاه الى الارض
فبدت سوؤته فرجع عنه. فقال له اصحابه: مالك يا امير المؤمنين رجعت عنه؟ فقال :
أتدرون ما هو؟ قالوا : لا! قال : هذا عمرو بن العاص تلقاني بسوؤته فذكرني
بالرحم فرجعت عنه. فلما رجع عمرو الى معاوية قال له: احمد الله واستك"[59]
وفي المصادر الشيعية يظهر دور الامام علي في مباشرة القتال بنفسه أكبر من
ذلك بكثير. وهذا مثال من مبالغات الروايات الشيعية : يروي ابن ابي الفتح الاربلي في كشف الغمة" والامام
عليه السلام قد باشرها بنفسه, فكم قتل من رجالها وأردى من فرسانها, وكم أنحى على
كتيبة فما عاد إلاّ بعد تفريق جمعها وهدّ أركانها..... وأمير المؤمنين فارس ذلك
الجمع وأسده وإمامه ومولاه وسيده, وهادي من اتبعه ومرشده, يهدر كالفحل ويزأر
كالأسد..... فما لقي شجاعا إلاّ وأراق دمه, ولا بطلاً إلاّ وزلزل قدمه, ولا مريدا
إلاّ وأعدمه ولا قاسطاً إلاّ قصر عمره.... وكان كلما قتل فارساً أعلن بالتكبير,
فأحصيت تكبيراته ليلة الهرير فكانت خمسمائة وثلاثا وعشرين تكبيرة بخمسمائة وثلاث
وعشرين قتيلا من أصحاب السعير. وقيل : إنه في تلك الليلة فتق نيفق درعه لثقل ما
كان يسيل من الدم على ذراعه. وقيل : إن قتلاه عرفوا في النهار فإن ضرباته كانت على
وتيرة واحدة, إن ضرب طولاً قدّ أو عرضاً قط, وكانت كأنها مكواة بالنار"
ومن تلك الاخبار التي لا بد من ردها ما ذكره ابن
سعد في طبقاته عن ابي رزين " والتقى عمار بن ياسر وعبيد الله
بن عمر . فقال عبيد الله : انا الطيب بن الطيب. فقال له عمار : انت
الخبيث بن الطيب . فقتله عمار "
فعمار بن ياسر كان يقترب من التسعين من عمره, فهل يعقل انه قادر على مباشرة
القتال بنفسه؟ وهل يعقل انه يتغلب على رجل شرس يصغره بما يزيد على اربعين عاماً
؟
وقد أشار ابن سعد نفسه الى الشك
في صحة هذا الخبر , فقال ان هناك من يقول ان عبيد الله قتله رجل من الحضارمة, أو
رجل من همدان, أو من ربيعة أو من بني حنيفة.
قتالُ ليلة الهرير[60]
وتصاعدت حدة القتال إلى أن وصلت إلى المواجهة الشاملة والالتحام الكلي بين
الجيشين :
"
وإن علياً رضي
الله عنه أشاع أنه يخرج إلى أهل الشام بجميع الناس, فيقاتلهم حتى يحكم الله
بينه وبينهم.
ففزع الناس لذلك فزعا شديداً. وقالوا : إنما كنا إلى اليوم تخرج
الكتيبة إلى مثلها, فيقتتلون بين الجمعين. فإن التقينا بجميع الفيلقين فهو فناء
العرب.
وقام
عليٌ في الناس خطيباً فقال : ألا إنكم ملاقو القومَ غداً بجميع الناس.
فأطيلوا الليلة القيام, وأكثروا قراءة القرآن, وسلوا الله الصبر والعفو, والقوهم
بالجد"[61]
وبدوره خطب معاوية بجنوده " ...يا أهل الشام : فإنما
تلقون غداً العدوّ فكونوا على إحدى ثلاث خلال :
إما قوماً تطلبون ما عند الله بقتالكم قوماً بَغوا
عليكم
وإما قوماً تطلبون بدم الخليفة عثمان, فإنه
خليفتكم وصهر نبيكم
وإما قوماً تدفعون عن نسائكم وذراريكم..."[62]
وكانت الذروة في ما يعرف بليلة
الهرير:
" وكانت ليلة الجمعة : تقصفت الرماح
ونفذت النبال, وصار الناس إلى السيوف.
وعليٌ رضي الله عنه يحرض القبائل, ويتقدم عليهم يأمر
بالصبر والثبات وهو أمام الناس في قلب الجيش, وعلى الميمنة الأشتر , تولاها بعد
قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة -
وعلى الميسرة ابن عباس , والناس يقتتلون من كل جانب.
فذكر غير واحد من علمائنا علماء السير- أنهم
اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت, وبالنبال حتى فنيت وبالسيوف حتى تحطمت. ثم صاروا إلى
أن تقاتلوا بالأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه, وتعاضوا بالأسنان يقتتل
الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم
يقومان فيقتتلان كما كانا ....
ولم
يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك. وصلى الناس الصبح إيماءً وهم في القتال حتى تضاحى النهار..."[63]
وقد
وصف ابن قتيبة قتال ليلة الهرير " ثم اقتتلوا
حتى تكسرت الرماح, وتقطعت السيوف وأظلمت الأرض من القتام وأصابهم البهر[64],
وبقي بعضهم ينظر إلى بعض بهيراً........."[65]
وقد وصف الدينوري في الاخبار الطوال دور علي شخصياً في قتال ليلة
الهرير فقال " وان عليا رضي الله عنه لينغمس في القوم , فيضرب بسيفه
حتى ينثني , ثم يخرج متخضباً بالدم حتى يسوى له سيفه, ثم يرجع فينغمس فيهم"
وأضاف انه في اليوم التالي " حمل عليٌ بنفسه على أهل الشام حتى غاب فيهم,
فانصرف مخضباً بالدماء , فلم يزالوا كذلك يومهم كله والليل حتى مضى ثلثه. وجرح
عليٌ خمس جراحات : ثلاث في رأسه واثنتان في وجهه"[66]
وهذا وصفٌ آخر معبّر لقتال ليلة الهرير وشراسته " وقامت
الفرسان في الركب فاصطفقوا بالسيوف وارتفع الرهجُ وثار القتامُ وتضعضعت الرايات
وحطّت الألوية وغابت الشمس وذهبت مواقيت الصلاة حتى ما كان في الفريقين أحدٌ
يصلي ذلك اليوم ولا سجد سجدة لله ولا كانت الصلاة الا بالتكبير والايماء نحو
القبلة. وهجم عليهم الليلُ واشتدّت الحربُ , وهذه ليلة الهرير, فجعل بعضهم يهرّ
على بعض ويعتنق بعضهم بعضا.. وجعل عليّ رضي الله عنه يقف ساعة بعد ساعة ويرفع
رأسى الى السماء وهو يقول : اللهم ! اليك نقلت الأقدام واليك أفضت القلوب ورفعت
الايدي ومُدّت الاعناق وطلبت الحوائج وشخصت الابصار . اللهم افتح بيننا وبين قومنا
بالحق وانت خير الفاتحين . ثم انه حمل في سواد الليل وحملت الناسُ معه"[67]
قال
هشام جعيط بشأن قتال ليلة الهرير :
"
كانوا عرباً
يعرف بعضهم بعضاً في
الجاهلية. وإنهم لحديثو عهدٍ
بها. فالتقوا في الإسلام وفيهم بقايا تلك الحمية ( الغضب في القتال لأجل العرض
والدم), وعند بعضهم بصيرة الدين والإسلام.
فتصابَروا واستحيوا من الفرار حتى كادت الحرب
تبيدهم. إن مفاهيم الحميّة والأحساب والدين كانت المحركات
المستبطنة في كل رجل , لمعركة متساوية عدداً, لا يمكنها أن تؤدي إلى غالبٍ أو مغلوب. إنها معركة أبطال , حيث لم يكن أحدٌ يُظهر
استعدادَه للتراجع ولو قيد انملة, وحيث كان كل
واحد يضع حياته في الميزان, وحيث كانت تتضافر خصال العروبة والإسلام القتالية
الكبرى.
إن
الحماس الشديد والمقاومة في المعارك, باسم الدين, كانا فقط وقفاً على أقلية. وإن السواد الأعظم من المقاتلين اضطر في نهاية
المطاف أن ينهل من قيم الشرف والعرض في الجاهلية, التي مقتها الإسلام. إن بعض
الصور في وقعة صفين تظهر الرجوع إلى "النداء بالأحساب" وهو مفهومٌ يختلط فيه النسب واللقب والشرف بطريقة
طقوسية. يتعلق الأمر بتراجع ونكوصٍ بالنسبة إلى الروح الإسلامية. لكنهم وصلوا إلى ذلك
الحد"[68]
والنص
التالي يوضح كيف اضطر أبناء القبيلة الواحدة , الموزعين على الجانبين, إلى
الاقتتال فيما بينهم :
"
إن عبد الله بن حنش الخثعمي, رأس خثعم الشام, أرسل إلى أبي كعب الخثعمي,
رأس خثعم العراق : إن شئت تواقفنا فلم نقتتل. فإن ظهر صاحبكم كنا معكم, وإن
ظهر صاحبنا كنتم معنا. ولا نقتل بعضنا بعضاً.
فأبى
أبو كعب ذلك.
فلما
التقت خثعم وخثعم وزحف الناس بعضهم إلى بعض, قال عبد الله بن حنش لقومه: يا معشر
خثعم ! إنا قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة , صلة لأرحامها , وحفظا
لحقها, فأبوا إلاّ قتالنا. وقد بدؤونا بالقطيعة. فكفوا أيديكم عنهم حفظاً لحقهم أبداً ما كفوا عنكم. فإن قاتلوكم فقاتلوهم.
فخرج
رجل من أصحابه فقال : إنهم قد ردوا عليك رأيك, وأقبلوا إليك يقاتلونك.
ثم
برز. فنادى رجل : يا أهل
العراق!
فغضب
عبد الله بن حنش فقال : اللهم قيض له وهب بن مسعود – يعني رجلاً من خثعم الكوفة, كان شجاعاً يعرفونه في الجاهلية, لم يبارزه رجل قط
إلاّ قتله – فخرج إليه وهب بن مسعود. فقتله.
ثم
اضطربوا ساعة. واقتتلوا أشد القتال.
فجعل
أبو كعب يقول لأصحابه : يا معشر خثعم ! خدّموا ( أي اضربوا موضع الخدمة , وهي
الخلخال , يعني اضربوهم في سوقهم).
فناداه
عبد الله بن حنش : يا أبا كعب! الكل قومك فأنصف.
قال
: أي والله وأعظم.
واشتد
قتالهم.
فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي, من خثعم الشام, على
أبي كعب فطعنه فقتله. ثم انصرف يبكي ويقول : يرحمك الله أبا كعب!
لقد قتلتك في طاعة قومٍ أنتَ أمسّ بي رحماً منهم, وأحب إليّ منهم نفساً.
ولا أرى قريشاً إلاّ وقد لعبت بنا.
ووثب
كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه, فأخذها. ففقئت عينه وصرع.
ثم
أخذها شريح بن مالك الخثعمي . فقاتل القوم تحتها حتى صرع منهم حول رايتهم نحو 80
رجلا, وأصيب من خثعم الشام مثلهم"[69]
وأورد نصر بن مزاحم
أخباراً كثيرة عن أشخاص من الجانبين اضطروا إلى مبارزة أو مواجهة إخوان لهم, أو
أبناء عم أو أقرباء غير بعيدين, وروى كيف كان البعض منهم يتراجعون في اللحظة
الأخيرة, بينما مضى آخرون إلى النهاية وقتلوا بعضهم البعض. وفيما يلي نص يوضح
مشاعر قبيلة الأزد العراقية لما وجدت نفسها في مواجهة قبيلة الأزد
الشامية , كما عبر عنها مخنف بن سليم :
"إن من الخطب الجليل والبلاء العظيم أنا صُرفنا
إلى قومنا وصُرفوا إلينا. فوالله ما هي إلاّ أيدينا نقطعها بأيدينا! وما هي
إلاّ أجنحتنا نحذفها بأسيافنا. فإن نحن لم نفعل, لم نناصح صاحبنا, ولم نواسِ
جماعتنا. وإن نحن فعلنا فعزّنا أبَحنا ونارَنا أخمدنا"[70]
ويمكن بكل يسر فهم أسباب تلك الحيرة المأساوية في كلام
مخنف. فإن هم مضوا في المواجهة قتلوا إخوانهم وأقرباءهم, وإن هم نكصوا يكونوا قد
خانوا إمامهم وقائدهم!
والنتيجة كانت أنهم اضطروا للقتال, وذكر نصر أسماء عدد
من ضحايا تلك المواجهة بين جناحي قبيلة الأزد.
وهكذا كان القتال في ذلك اليوم شرساً, وقاسياً,
ومأساوياً. والصورة التي أوردها ابن أبي الحديد حول الرجل الخثعمي الذي يقتل قريبه
من أهل العراق ثم ينصرف وهو يبكي حزناً عليه, حقيقية بلا شك, وربما تكررت كثيراً
في ذلك اليوم.
ورغم ذلك كله فإن تصميم عليّ على مواصلة القتال لم
يتزعزع, وإرادته لم تضعف :
"ثم إن علياً قام من صبيحة ليلة الهرير في الناس
خطيباً فحمد الله واثنى عليه ثم فال : أيها
الناس ! إنه قد بلغ بكم وبعدوكم الأمر إلى ما ترون. ولم يبقَ من القوم إلاّ
آخر نفس. فتأهبوا رحمكم الله لمناجزة عدوكم غدا, حتى يحكم الله بيننا وبينهم .
وهو خير الحاكمين"[71]
روايات "فرار معاوية"[72]
قال نصر بن مزاحم
في "وقعة صفين" في رواية عن ابن اسحق " واصبح عليّ فرحل الناس
وهو يريد ان ينزل على اهل الشام في عسكرهم. فقال معاوية : فأخذتُ معرَفة فرسي, ووضعتُ
رجلي في الركاب, حتى ذكرتُ أبيات عمرو بن الاطنابة:
أبت لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
فعدتُ الى مقعدي فأصبتُ خير الدنيا"
واكد هذه الرواية الامام الذهبي الذي روى في سير اعلام
النبلاء عن ابي حاتم السجستاني " قال معاوية : لقد وضعتُ رجلي في
الركاب وهممتُ يوم صفين بالهزيمة فما منعني الاّ قول ابن الاطنابة :
أبت لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
واكراهي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشمت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي "
وروى اليعقوبي
في تاريخه " وزحف اصحاب علي وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً, حتى
لصقوا به , فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه , فقال له عمرو بن العاص : الى
اين؟ قال : قد نزل ما ترى , فما عندك؟ قال : لم يبقَ إلاّ حيلة واحدة : أن ترفع
المصاحف, فتدعوهم الى ما فيها, فتستكفهم وتكسر من حدهم, وتفت في أعضادهم. قال
معاوية: فشأنك. فرفعوا المصاحف..."
وبالرجوع الى ما رواه الدينوري
في الاخبار الطوال يمكن ملاحظة ثلاث مرات ورد فيها كلام عن تفوق كاسح حققه جيش
العراق بقيادة علي الى درجة دفعت معاوية الى التفكير بالهرب: مرتان منها تذكر ان
معاوية (دعا بفرسه ليركبها) ومرة تقول انه (أخلى سرادقه)!! وانه كان
يغير رأيه في آخر لحظة.
وروى البلاذري
عن الزهري " فلما خاف أهل الشام ظهور القوم عليهم قال عمرو
لمعاوية – وهو على الفتال : هل انت مطيع في أمر اشير به؟ مُرْ رجلا فلينشر المصحف
ثم يقول : يا اهل العراق بيننا وبينكم كتاب الله.."
وروى ابن عبد ربه
في العقد الفريد " لما كان يوم
الهرير, وهو أعظم يوم بصفين, زحف أهل العراق على أهل الشام فأزالوهم عن مراكزهم
, حتى انتهوا الى سرادق معاوية, فدعا بالفرس وهمّ بالهزيمة. ثم التفت الى عمرو
بن العاص وقال له : ما عندك؟ قال : تأمر بالمصاحف فترفع في أطراف الرماح, ويقال :
هذا كتاب الله يحكم بيننا وبينكم"
كانت تلك بعض الروايات التي تصوّر معاوية وهو على وشك
الفرار من الميدان بسبب الهزيمة الساحقة لقواته, وهناك المزيد منها. ولكن التعمق
في الموضوع اكثر و تتبع الكثير من الروايات المشهورة التي تتناول سير القتال في
صفين , يجعلنا نخرج برأي مغاير ويشير الى أن الجيش العراقي هو الذي عانى من ضغط
عسكري أشد . فمثلا يروي الطبري في
تاريخه عن ابي مخنف أن ميمنة الجيش العراقي , وهي مكونة أساسا من قبائل همدان
وغيرها من اليمانية, قد انهزمت أمام ضغط الجيش الشامي, وان الامام علي – ومعه بنوه
- اضطر الى اللجوء الى ميسرته – المكونة من قبائل ربيعة - بعد ان اصبح وضعه صعبا.
وتذكر الرواية ان عليا طلب من مالك الاشتر – كونه يمانيا – ان يلحق بالفارين
ليردّهم فيقول لهم " اين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه,
الى الحياة التي لن تبقى لكم". فلما وصل علي الى قبائل ربيعة ارتفعت
معنوياتها واستثيرت حميتها وأخذ رجالها يقولون " إن أصيب عليّ فيكم وقد
لجأ الى رايتكم افتضحتم.... لا عذر لكم في العرب إن وصل الى عليّ وفيكم رجلٌ حي!
وإن منعتموه فمجد الحياة اكتسبتموه" فقاتلت ربيعة قتالا شديدا واستبسلت
حتى أزالت الخطر, وان ذلك سرّ عليا حتى انه وصف رايات ربيعة بأنها " رايات
الله ". وتقول الرواية انه لما عاد المنهزمون اليمانيون الى ميمنة علي
واستأنفوا القتال بقوة, لامهم وقال لهم " اني قد رأيت جولتكم وانحيازكم
عن صفوفكم, يحوزكم الطغاة الجفاة وأعراب أهل الشام , وأنتم لهاميم
العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق اذ ضل الخاطئون.
فلولا إقبالكم بعد إدباركم, وكركم بعد احيازكم, وجب عليكم ما وجب على المولي يوم
الزحف دبره وكنتم من الهالكين.."
وروى ابن كثير
في البداية والنهاية قريباً من هذه الرواية : قال ابن لهيعة انه بعد حملة اهل
الشام بقيادة حبيب بن مسلمة " .. ولم يبق مع علي من تلك القبائل إلاّ أهل
مكة وعليهم سهل بن حنيف . وثبتت ربيعة مع علي رضي الله عنه , واقترب اهل الشام
منه حتى جعلت نبالهم تصل اليه.." ثم يذكر قيام علي بالطلب من الاشتر
ان يلحق بالمنهزمين ليردهم, ففعل, حتى أعاد تجميعهم.
وكذلك روى الطبري
عن ابي مخنف أن حامل راية علي , هاشم بن عتبة المرقال , قال عن قوات الشام في خطبة
له وهو يحمّس جنوده " لا يهولنكم ما ترون من صبرهم ! فوالله
ما ترون فيهم إلاّ حمية العرب وصبرها تحت راياتها وعند مراكزها, وانهم لعلى الضلال
وانكم لعلى الحق..."
وظاهرٌ من الكلام مدى المعاناة التي واجهها العراقيون من
قوة وثبات جيش الشام.
وروى الطبري من طريق ابي مخنف ايضا " فلما كان اليوم
الخامس خرج عبد الله ابن عباس والوليد بن عقبة فاقتتلوا قتالا شديدا. ودنا ابن
عباس من الوليد بن عقبة فأخذ الوليد يسب بني عبد المطلب وأخذ يقول : يا ابن عباس:
قطعتم أرحامكم وقتلتم إمامكم, فكيف رأيتم الله صنع بكم؟ لم تعطوا ما طلبتم
ولم تدركوا ما أملتم, والله إن شاء مهلككم وناصرٌ عليكم"
وجدير بالملاحظة قول الوليد بن عقبة بن ابي معيط (فكيف
رأيتم الله صنع بكم). فهذا لا يصدر عمن هو مهزوم في الميدان.
ويمكن الاشارة ايضا الى ما ورد على لسان النعمان بن بشير الانصاري في معرض
لومه من الانصار بسبب تأييدهم المتواصل لعلي. فقد روى ابن
قتيبة في الامامة والسياسة ان النعمان قال لقيس بن سعد وهما بين الصفوف
في صفين "
... فقد والله وجدتم
رجال الحرب من أهل الشام سراعاً إلى
برازكم, غير أنكاس عن حربكم. ثم لم ينزل بعليّ أمرٌ قط إلاّ هونتم عليه المصيبة, ووعدتموه الظفر. وقد
والله أخلفتموه, وهان عليكم بأسكم وما كنتم لتخلوا به انفسكم, من شدتكم في الحرب,
وقدرتكم على عدوكم. وقد اصبحتم أذلاء على أهل الشام, لا يرون حربكم شيئا وأنتم
اكثر منهم عددا ومَدَداً. وقد والله كاثروكم بالقلة, فكيف لو كانوا مثلكم في
الكثرة؟ والله لا تزالون أذلاء في الحرب بعدها ابداً, إلاّ أن يكون معكم أهل الشام. وقد
أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم , نحن أحسن بقية وأقرب إلى الظفر, فاتقوا
الله في البقية...."
والخلاصة ان
الروايات التي تتحدث عن أن معاوية كان على وشك الفرار وركوب فرسه ,,,,, ليست
صحيحة.
عدد القتلى في معركة صفين[73]
ذكرت
اغلبية المصادر أن قتلى معركة صفين كانوا سبعين ألفا , منهم 45 ألفا من أهل
الشام و25 ألفا من أهل العراق
والجدول
التالي به مقارنة بين الارقام الواردة في عدة مصادر بشأن عدد قتلى الطرفين :
قتلى جيش الشام
|
قتلى الجيش العراقي
|
المصدر
|
45 الف
|
25 الف
|
تاريخ خليفة
بن خياط
|
20 الف
45 الف
|
40 الف
25 الف
|
البداية والنهاية لابن كثير:
- عن البيهقي
-عن ابن سيرين وسيف
|
45 الف
|
25 الف
|
التنبيه والاشراف للمسعودي
|
45 الف
|
25 الف
|
وقعة صفين لنصر
بن مزاحم
|
45 الف
|
25 الف
|
انساب الاشراف للبلاذري (قالوا)
|
45 الف
|
25 الف
|
كتاب الثقات لابن حبان (قيل)
|
وتبدو
هذه الأرقام التي أوردتها اغلبية المصادر غير دقيقة, ومأخوذة من راوٍ واحد يميل
إلى تضخيم خسائر الجانب الشامي. والأرجح أن يكون العدد الإجمالي
للقتلى هو بحدود السبعين ألفا من الجانبين, وموزعين بالتساوي تقريبا
بينهما. وأستبعد تماما ان تكون خسائر الجانب الشامي أكبر بكثير من خسائر
العراقيين, كما توحي بذلك نسبة 45:25
ولم أعثر على روايات تتحدث عن الآثار الاجتماعية لذلك
العدد الكبير من القتلى في الجانب الشامي. فسقوط 45 ألف قتيل من شأنه ولا شك أن يؤدي الى الكثير من العواقب البالغة
التأثير على المجتمع الشامي بأسره : العائلات , القبائل, الايتام, الارامل ....
الخ ناهيك عن الجرحى والمعوقين وغير ذلك من المآسي. ومهما كان معاوية مقنعا في
حججه أمام عامة أفراد جيشه ورعيته, ومهما بذل من جهد لتأليف زعماء العشائر ووجهاء
الناس, فلا بد أن يولد ذلك العدد الكبير نوعا من المعارضة للسياسة التي أدت الى
تلك الخسارة, ولا بد ان تنفجر تلك المعارضة بوجه معاوية مهما كان حاذقا.
وفي المقابل, توجد عدة روايات تتحدث عن حالات الحداد
والحزن والبكاء على القتلى في الجانب العراقي. فمثلا يروي الطبري في تاريخه عن ابي مخنف أن عليا لما رجع
من صفين " مرّ عليٌ بالثوريين فسمع البكاء فقال : ما هذه الاصوات؟ فقيل
له: هذا البكاء على قتلى صفين. فقال : أما اني أشهد لمن قتل منهم صابرا
محتسبا بالشهادة. ثم مرّ بالفائشيين فسمع الاصوات فقال مثل ذلك ثم مضى حتى مرّ
بالشباميين فسمع رجة شديدة فوقف فخرج اليه حرب بن شرحبيل الشبامي. فقال علي :
أيغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهونهن عن هذا الرنين؟ فقال : يا أمير المؤمنين : لو كانت
دارا أو دارين أو ثلاثا قدرنا على ذلك, ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل,
فليس دار إلاّ وفيها بكاء ..."
وذكر ابن خلدون
في تاريخه ان عليا لما رجع من صفين " دخل الكوفة, فسمع رجة البكاء في
الدور. فقال : يبكين على القتلى. فترحم لهم"
ويمكن اعتبار ما ذكره ابن كثير حول
زيادة نسبة خسائر الجانب العراقي عن الشامي رواية شاذة بالنظر الى كثرة الروايات
المعاكسة, لكنها تبدو لي اقرب للصواب.
اذن
وصلت حمى القتل إلى ذروتها, وبلغ جنون الموت حدّه الأقصى. فأرقام الخسائر هذه
هائلة ومذهلة بكل المقاييس. وحتى لو لم يصل العدد الحقيقي للقتلى إلى مائة ألف ,
أو سبعين ألف, وحتى لو كان العدد أربعين الفاً أو ثلاثين, فذلك لا يغير من حقيقة
أن الأمر تحوّل إلى مقتلةٍ رهيبة يمارسها أبناء قبائل العرب بحق بعضهم بعضاً.
وللمقارنة
فقط, لا بدّ من تذكّر أن رسول الله(ص) في حروبه وغزواته على مدى إحدى عشر عاماً
, وحّد خلالها أمة العرب كلها, لم يفقد من أتباعه وأنصاره سوى بضع
مئات! ولو أضيف إليهم عدد القتلى من اعدائه أيضاً فربما يصل العدد الإجمالي للقتلى
في حروب الرسول(ص) إلى بضعة آلاف في أعلى تقدير.
وها
هي أمة العرب تفقد خلال أيامٍ معدودة عشرات الآلاف من ابنائها في قتالٍ داخليّ
رهيب.
بل
إنه ربما لم تفقد أمة العرب خلال حروبها التي هزمت فيها امبراطوريتي فارس والرومان
على مدى سنوات طويلة مثل هذا العدد من القتلى.
كان
الأمر رهيباً , والمأساة فظيعة. فكان لا بد أن يحدث شيئ ليوقف هذا النزف.
وحصل
ذلك بالفعل, ولكن على حساب عليّ بالذات!
هناك إجماعٌ بين المؤرخين على أنه لما احتدم القتال
وتساقط القتلى بعشرات الألوف, أمر معاوية وعمرو بن العاص جنودهما برفع المصاحف
على رؤوس الرماح والصراخ على أهل العراق مطالبين بوقف القتال وبتحكيم كتاب
الله بين الطرفين.
وهذه رواية اليعقوبي:
" وزحف أصحاب علي وظهروا
على أصحاب معاوية ظهوراً
شديداً , حتى لصقوا به, حتى دعا معاوية بفرسه لينجو به.
فقال له عمرو بن العاص : إلى أين ؟
قال : قد نزل ما ترى. فما عندك؟
قال
: لم يبقَ
إلاّ حيلة واحدة : أن ترفع المصاحف فتدعوهم إلى ما فيها, فتستكفهم وتكسر من حدهم
وتفت في أعضادهم .
قال معاوية : فشأنك.
فرفعوا المصاحف ودعوهم إلى التحكيم فيما بعد.
وقالوا : ندعوكم إلى كتاب الله !"
وهذه رواية ابن كثير:
"وتوجه النصر لأهل العراق على أهل الشام.
وذلك ان الأشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة,
فحمل بمن فيها على أهل الشام وتبعه
عليّ, فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون , وعند ذلك رفعَ أهلُ الشام المصاحفَ فوق الرماح
وقالوا : هذا بيننا وبينكم! قد فني الناس فمَن للثغور؟ ....
إن
الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص, وذلك لما رأى ان أهل العراق قد استظهروا في ذلك
الموقف.... فقال إلى معاوية : إني قد رأيتُ أمراً لا يزيدنا هذه
الساعة إلاّ اجتماعا ولا يزيدهم إلاّ فرقة!
أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها. فإن أجابوا
كلهم إلى ذلك بَرَدَ القتالُ. وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم وقائل لا
نجيبهم, فشلوا وذهب ريحهم..."
وروى الدينوري
في الاخبار الطوال:
"... وبلغ ذلك معاوية. فقال لعمرو : ما
ترى؟ فإنما هو يومنا هذا وليلتنا هذه. فقال عمرو : إني قد أعددتُ بحيلتي أمراً أخرته إلى هذا اليوم. فإن قبلوه
اختلفوا وإن ردوه تفرقوا. قال معاوية : فما هو ؟ قال عمرو : تدعوهم إلى كتاب
الله حكما بينك وبينهم. فإنك بالغ به حاجتك.
قالوا
: وإن الأشعث بن قيس قال لقومه وقد اجتمعوا إليه : قد رأيتم ما كان في اليوم
الماضي من الحرب المبيرة. وإنا والله إن التقينا غدا, إنه لبَوار العرب وضَيعة الحرمات.
قالوا
: فانطلقت العيون إلى معاوية بكلام الأشعث. فقال : صدق الأشعث. لئن التقينا غدا
ليميلنّ الروم على ذراري أهل الشام, وليميلن
دهاقين فارس على ذراري أهل العراق. وما يُبصر هذا الأمرَ إلاّ ذوو الأحلام. اربطوا المصاحف على اطراف
القنا....
فنادوا : يا معشر العرب ! الله الله في نسائكم
وأولادكم من فارس والروم غدا. فقد فنيتم. هذا كتاب الله بيننا وبينكم"
وفي
رواية الإمامة والسياسة " إن معاوية أمر أهل الشام أن ينادوهم
. فنادوا في سواد الليل نداء معه صراخ واستغاثة , يقولون : يا أبا الحسن! مَن لذرارينا من
الروم إن قتلتنا؟ الله الله ! البقيا ! كتاب الله بيننا وبينكم"
وفي رواية الطبري
أن عمرو بن العاص قال لمعاوية " نرفع المصاحف ثم نقول ما فيها حكمٌ بيننا
وبينكم. فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدتَ فيهم مَن يقول : بلى. ينبغي أن نقبل. فتكون
فرقة. وإن قالوا : بلى نقبل ما فيها, رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجَل "
وليس هناك من فكرة يمكن أن تكون أكثر ذكاءً ودهاءً من
هذه. فبهذه الدعوة العلنية إلى السلام يضرب معاوية عدة عصافير بحجر واحد :
-
فهو أولاً يسعى إلى المحافظة على جيشه وقواته , ودرء خطر الإبادة
عنها.
-
وهو يسعى إلى الظهور أمام عامة المسلمين , من الجانبين الشامي والعراقي, بمظهر
الداعي إلى السلام, والحريص على تجنب الفناء المتبادل بين أبناء أمة العرب.
-
وهو يهدف إلى زرع بذور الشقاق داخل صفوف الجانب العراقي, عن طريق
خلق خلافٍ بين مَن تعبوا من هَول المعركة وكثرة القتل, وبين مَن يعطون الأولوية
لإنجاز المهمة التي خرجوا أساساً من أجلها وهي إلحاق الهزيمة بمعاوية وجيشه.
-
وهو أخيراً يسعى إلى حشر عليّ في زاويةٍ ضيقة إن هو أصرّ على مواصلة
الضغط العسكري والاستمرار في الحرب. فكيف سيفسّر شخصٌ مثل عليّ لقواته وجنوده
رفضَه قبولَ عرضٍ لتحكيم " كتاب الله " ؟! ألن يظهر عليّ حينذاك بمظهر
اللامبالي بمصلحة عامة المسلمين , الرافض لحكم القرآن, المصمم على مواصلة طريق
الموت والفناء؟!
اذن لا خلاف على ان المبادرة الى رفع المصاحف جاءت من
الجانب الشامي. ولكن هل كان ذلك مؤشر ضعفٍ وهزيمة ؟؟ تحاول المصادر ان تقول
ذلك , ولكن الصحيح هو : كلا. لم يكن ذلك ناتجاً عن الهزيمة . بل اني مقتنع
, بعد دراسة وتحليل كل الروايات والاخبار , ان الوضعية العسكرية للجيش الشامي
لم تكن أسوأ من الجيش العراقي , بل ربما كانت افضل قليلا.
وقفة :الاشعث بن قيس الكندي[75]
يتردد اسمه كثيرا جدا في ثنايا سيرة الامام عليّ في
العراق. وقد لعب دورا في منتهى السلبية تجاه عليّ قبيل واثناء وبعد معركة صفين.
والمدقق في تفاصيل علاقته بالامام عليّ سيرى فيها شبهاً كبيرا بسيرة عبد الله
بن ابي بن سلول تجاه النبي (ص) في المدينة.
فمن المفيد القاء الضوء على شخصية الاشعث بن قيس , زعيم
قبيلة كندة ورأس القبائل اليمانية في العراق .
ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب
في ترجمته " كان في الجاهلية رئيساً مطاعا في كندة, وكان في الاسلام وجيها
في قومه. إلاّ أنه كان ممن ارتدّ عن الاسلام بعد النبي(ص), ثم راجع الاسلام في
خلافة ابي بكر الصديق , وأتي به أبو بكر الصديق رضي الله عنه أسيراً.
قال أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كأني أنظر
الى الأشعث بن قيس , وهو في الحديد يكلم أبا بكر, وهو يقول : فعلتُ وفعلتُ , حتى
كان آخر ذلك سمعتُ الأشعث يقول : استبقني لحربك , وزوجني أختك! ففعل أبو بكر رضي
الله عنه.
قال ابو عمر : أخت أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي
زوجها من الأشعث بن قيس هي أم فروة بنت ابي قحافة , وهي أم محمد بن الأشعث.
فلما استخلف عمر , خرج الاشعث مع سعد الى العراق , فشهد
القادسية والمدائن , وجلولاء ونهاوند , واختط بالكوفة داراً في كندة , ونزلها ,
وشهد تحكيم الحكمين , وكان أحد شهود الكتاب"[76]
وقال ابن الاثير في ترجمته من
اسد الغابة انه كان قدم الى النبي(ص) في السنة العاشرة للهجرة في وفد قبيلة كندة[77]
اليمانية فأسلموا. ولكن" كان الاشعث ممن ارتدّ بعد النبي(ص). فسيّر ابو
بكر الجنود الى اليمن, فأخذوا الاشعث أسيراً. فأحضر بين يديه. فقال له : استبقني
لحربك وزوجني بأختك. فأطلقه أبو بكر وزوجه أخته, وهي أم محمد بن الأشعث".
اذن هناك اتفاق بين المؤرخين على المعالم الرئيسية لشخصية الاشعث ,
الى الفترة ما قبل بدء علاقته بعليّ:
-
فهو كان من كبار زعماء قبيلة كندة الكبيرة في اليمن . وحسب تعبير بعض
الروايات "ملوك كندة"
-
في اواخر عهد النبي (ص) ترأس الاشعث وفدا من قبيلته وجاؤوا لاعلان اسلامهم
وطاعتهم.
-
تعرض للهزيمة على يد قوات ابي بكر , وألقي القبض عليه وأرسل الى المدينة
مأسوراً.
-
وفي عهد عمر انخرط الاشعث في حركة الفتوحات وشهد جميع معاركها في العراق[80].
ومن ثم استقر في الكوفة.
-
وفي عهد عثمان , عيّنه الخليفة والياً على اذربيجان , بعد أن تصاهرا[81]
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق
المزيد من التفاصيل حول ارتداد الاشعث, وحول تصرفاته ونفسيته المتكبرة. فقال ان الاشعث
كان هو الذي حث قومه وشجعهم على الردة بعيد وفاة النبي(ص). وروى ان بعض قومه
من كندة قد ناشدوه أن يراعي العهد وألاّ ينكث وذكروه بوفادته على رسول الله(ص).
فلما أبى وأصرّ على رأيه خوّفوه من والي رسول الله(ص) على اليمن , وهو زياد بن
لبيد الأنصاري. فما كان من الأشعث إلاّ أن أظهر الاستهزاء والاستخفاف به وقال
" زياد بن لبيد؟ فيتضاحك الاشعث وقال : اما يرضى زياد أن أجيره!"
ثم يروي تفاصيل المعركة التي خاضها زياد ضد المرتدين وحصارهم بقيادة الاشعث في حصن
النجير , والمدد الذي أتاه من الخليفة ابي بكر, الى أن استسلموا. وذكر أن السبب
الذي دفع زياد بن لبيد الى عدم قتل الاشعث هو كتاب الخليفة ابي بكر الذي ينهاه فيه
عن قتل " الملوك من كندة" وان الاشعث كان احد هؤلاء,
فاكتفى زياد بإرسال الأشعث مكبلاً الى ابي بكر ليرى فيه رأيه. فلما وصل المدينة
اعتذر من ابي بكر فعفا عنه ووافق على تزويجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة.
وعندما وصل عليّ الى الكوفة , قرر ان يعامل الاشعث
كواحدٍ من ولاة عثمان (الفاسدين). فكان أن عزل الاشعث من منصبه كوالٍ على اذربيجان
بعد ان اتهمه بالفساد .
روى
نصر بن مزاحم أن الإمام عليّ كتب له
حين قدم الكوفة :
"
أما بعد, فلولا هَنّات كنّ فيكَ كنتَ المقدم في هذا الأمر
قبل الناس, ولعل أمركَ يحمل بعضه بعضاً إن اتقيتَ الله......... وإن عملك ليس لك بطعمة,
ولكنه أمانة. وفي يديك مال من مال الله وأنت من خزان الله عليه حتى تسلمه
إليّ. ولعلي ألاّ أكون شر ولاتك لك إن استقمتَ. ولا قوة إلاّ بالله"
وقريبٌ من هذه الرواية وردت في كتاب "الثقات" لابن حبان وفيه أن عليا كتب للأشعث وهو وال على
آذربيجان" فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم واحمل ما غللتَ من المال"
ويذكر اليعقوبي في تاريخه كتاب عليّ للأشعث وفيه عبارات أكثر قسوة واتهاما
" فإنما غرّك من
نفسك وجرأك على آخرتك, إملاء الله لك. إذ ما زلتَ قديماً تأكل رزقه,
وتلحد في آياته وتستمتع بخلاقك, وتذهب بحسناتك إلى يومك هذا . فإذا أتاك رسولي
بكتابي هذا فأقبل, واحمل ما قبلك من مال المسلمين"
وكما
هو متوقع أثار قرار عزله والتشكيك بذمته المالية غضب الأشعث بن قيس الشديد . يقول نصر بن مزاحم ان غضب الاشعث إلى حد دفعه إلى
التفكير في خيانة عليّ والانضمام إلى معاوية!
" فلما أتى منزله دعا أصحابه فقال : إن
كتاب عليّ قد أوحشني. وهو آخِذ
بمال أذربيجان. وأنا لاحقٌ بمعاوية. فقال القوم : الموت خيرٌ لك من ذلك. أتدعُ مصركَ وجماعة
قومك وتكون ذنباً لأهل الشام؟!
فاستحيا
فسار حتى قدِم
على عليّ."
وقال ابن حبان
"ثم قال الأشعث : والله لأدعنه بحال مضيعة, ولأفسدنّ عليه الكوفة".
وتقول الرواية أن الاشعث ارتحل بالفعل نحو معاوية لولا أن حجر بن الادبر لحقه
وناشده "انك إن أتيتَ معاوية أقبلنا جميعا الى الشام. وأنشدك الله الا نظرتَ
الى أيتام قومك وأياماهم فإني لا آمن أن يفتضحوا غدا. قال : فما تريد يا حجر
؟ قال : تنحدر معي الى الكوفة فإنك شيخ
العرب وسيدها والمطاع في قومك , وسيصير الأمر اليك..." الى أن وافق
على التوجه للكوفة.
ويبدو ان الامام علي قرر ان يعيد النظر في تعامله مع الاشعث بعد حضر
اليه من اذربيجان. فالظاهر أنه في بداية تعامله مع الأشعث في الكوفة, بدأ يسير
معه كمثل سيرة رسول الله(ص) مع الطلقاء والاعداء , من الأشراف والزعماء, عن طريق
تألفهم. فيروي ابن عساكر أن عليا وافق
على طلب من الأشعث نفسه أن يتزوج ابنه الحسن من ابنته جعدة[82] .
لا شك ان علياً أدرك مدى النفوذ الذي يتمتع به الاشعث على القبائل اليمانية
الكبيرة في الكوفة[83] ,
فأراد أن يستميله الى جانبه.
وهكذا حافظ الاشعث على وضعه ومكانته[84]
في الكوفة, وبقي مؤثرا جدا على قبيلته , كندة, ومعها قطاع عريض من القبائل اليمانية
الاخرى.
ورغم نجاحه في الحفاظ على مكانته الرفيعة في الكوفة
واعتراف عليّ بذلك , إلّا أن الاشعث بن قيس لم يكن يوماً مخلصا لعلي,,,
ابدا. بقي الاشعث مصدر بلبلة وشقاق في صفوف عليّ. وكان يخالف توجهات
الخليفة في كثير من القضايا , وخصوصاً تلك المتعلقة بالنظرة الى معاوية واهل الشام
والطريقة المثلى لمعالجة الخلاف معهم.
أخرج الذهبي
في سير اعلام النبلاء رواية تشير الى التوجهات السلمية للأشعث بن قيس حتى قبل
بدء حرب صفين. فخلافاً لرواياتٍ غيرها تقول ان جيش معاوية قد خلى بين جيش
العراق وماء الفرات بالقوة وبعد قتال (وكان قد وصلها قبل علي) فإن رواية الذهبي
هذه تقول ان ذلك تم سلمياً وبعد تدخل الأشعث " حدثني أبو الصلت الحضرمي
قال : حلنا بين اهل العراق وبين الماء. فاتانا فارسٌ , ثم حسر, فإذا هو الأشعث بن
قيس فقال : الله الله يا معاوية في أمة محمد(ص)! هبوا أنكم قتلتم أهل العراق,
فمن للبعوث والذراري؟ أم هبوا أنا قتلناكم, فمن للبعوث والذراري؟ ان الله يقول
(وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما). قال معاوية : فما تريد؟
قال : خلوا بيننا وبين الماء. فقال لأبي الأعور : خل بين اخواننا وبين الماء"
وهذه الرواية تشير الى ان الأشعث لم يرد الحرب أصلاً
, وأنه كان يتصور التحكيم والسلام الحل المناسب من الأساس. وبالتالي فموقفه
حين رفع الشاميون المصاحف متوقع تماماً.
ومع مرور الوقت تفاقمت الخلافات بين عليّ والاشتر ووصلت
الى حد الكراهية الشخصية [85]
وتبادل التهديدات! وقد أخرج الذهبي في سير اعلام النبلاء رواية توضح مدى
السوء الذي بلغته علاقة علي بالأشعث " عن قيس بن ابي حازم قال : دخل
الأشعث على علي في شيء, فتهدده بالموت! فقال علي : بالموت تهددني ؟! ما
اباليه! هاتوا لي جامعة وقيداً. ثم أومأ الى أصحابه. قال : فطلبوا اليه فيه. فتركه"
وسوف يأتي الكلام بالتفصيل عن الدور لخطير الذي لعبه
الاشعث في معركة صفين , في موضعه.
*****
وحصل ما أراده معاوية . يروي ابن قتيبة في الامامة والسياسة وهو يصف الأجواء في الجانب
العراقي, وصعوبة وضع عليّ, بعد دعوة الشاميين إلى تحكيم القرآن :
" فأقبل الأشعث بن قيس في أناس كثير من أهل
اليمن فقالوا لعلي : لا ترد ما دعاك القوم اليه! قد أنصفك القوم. والله لئن لم
تقبل هذا منهم لا وفاء معك, ولا نرمي معك بسهم ولا حجر, ولا نقف معك موقفا
"
ورواية اليعقوبي
فيها عبارات أكثر قسوة وحدة وجهها الاشعث الى عليّ وصلت الى تهديده بتسليمه الى
اهل الشام إن لم يأمر بوقف القتال !
" فقال عليّ : إنها مكيدة! وليسوا بأصحاب قرآن.
فاعترض الأشعث بن قيس الكندي, وقد كان معاوية
استماله وكتبَ
إليه ودعاه إلى نفسه. فقال : لقد دعا القوم إلى الحق!
فقال علي : إنهم إنما كادوكم, وأرادوا صرفكم
عنهم!
فقال الأشعث : والله لئن لم تجبهُم انصرفتُ عنك !
ومالت اليمانية مع الأشعث. فقال الأشعث :
والله لتجيبنهم إلى ما دَعوا
إليه أو لندفعنك إليهم برمتك!
فتنازع
الأشتر والأشعث في هذا كلاماً عظيماً, حتى كاد أن
يكون الحرب بينهم, وحتى خاف عليّ أن يفترق عنه أصحابه. فلما رأى ما هو فيه أجابهم
إلى الحكومة."[87]
وروى
لنا نصر بن مزاحم مدى احباط عليّ وغضبه
وهو يخاطب جيشه بعد أن اضطروه لقبول وقف القتال:
" فقام علي أمير المؤمنين فقال : انه لم
يزل أمري معكم على ما أحب الى أن أخذت منكم الحرب , وقد والله اخذت منكم وتركت ,
واخذت من عووكم فلم تترك, وانها فيهم انهى وأنهك.
ألا
اني كنت أمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأمورا , وكنت ناهيا فأصبحتُ
منهيا. وقد أحببتم البقاء وليس لي ان أحملكم على ما تكرهون "
وهذه
رواية الزهري كما عرضها البلاذري في
انساب الاشراف. وفيها ان قرار الاستجابة لمصحف اهل الشام ووقف القتال اتخذه
عليّ بإرادته[88]
لأنه رأى اختلاف اصحابه بين مؤيد ومعارض فأراد انهاء التنازع . ولم يذكر الزهري
أن عليّ تعرض للتهديد من الاشعث او مسعر بن فدكي او غيرهما.
"
,,, فاختلف اهل العراق !
فقالت
طائفة منهم كرهتْ القتال : أجبنا الى كتاب الله.
وقالت
طائفة : ألسنا على كتاب الله وبيعتنا وطلب الحق. فإن كانت ها هنا شبهة او شك فلمَ
قاتلنا ؟!
فوقعت
الخصومة بين اهل العراق . فلما رأى عليّ ما فيه اصحابه وما عرض لهم من الخلاف
والتنازع , ورأى وهنهم وكراهة من كره منهم القتال , قارب معاوية فيما دعا اليه
وقال : قبلنا كتاب الله "
عليّ يجد نفسَه في الدوامة : ما الذي حصل
بالضبط في الجانب العراقي؟[89]
واضحٌ من النصوص أعلاه كيف
أن الأشعث بن قيس الكندي لعب
دوراً سلبياً
في غاية الخطورة أثناء المعركة. وكان بحكم وضعه القبلي في موقع يؤهله للضغط على
الإمام عليّ من أجل وقفٍ
فوري للقتال والاستجابة إلى نداء أهل الشام. فليس بوسع أي قائدٍ مسؤول أن يغامر بانشطار جيشه إلى قسمين ,
أحدهما يستمر بالقتال والآخر يضع السلاح! بدا للإمام عليّ أن ذلك هو ما سيحصل إذا
واصل إصدار أوامره للأشتر النخعي باستمرار التقدم. كان الأشعث بن قيس يستغل
الإنهاك العام الذي لا بد وأصاب كل أفراد الجيش بسبب شدة القتال وضخامة الخسائر في
الجانبين. كانت فرصة ذهبية استغلها الأشعث في أحرج اللحظات من أجل التعبير عما
يختلج بصدره منذ قدِم
عليّ إلى الكوفة من غضبٍ شديدٍ ناتج عن ما يعتبره "سوء معاملة" من قبل
عليّ له.
فبوادر
الخيانة كانت موجودة عند الأشعث منذ بدء ولاية عليّ. ولولا أن قومه قد عابوا عليه
أن يصبح ذنباً لأهل الشام لكان ربما لحق بمعاوية. وهنا
يظهر نوع من إقليمية الولاء لدى القبائل العربية التي استوطنت البلاد المفتتحة. كان
هناك شعور من التنافس بين الإقليمين : الشامي والعراقي. وكان الإقليمان حتى ذلك
الوقت لا يجدان حرجاً في الولاء
والطاعة لمركز الخلافة في مدينة الرسول – على الرغم من أن كل الظروف المادية , من
مالٍ وثرواتٍ وسلاحٍ ورجال, قد أصبحت في غير صالح المدينة المنورة , وبفارق
شاسع, إذا ما قيست بالمصرين الشامي
والعراقي. وكلما مرت السنوات وازداد البعد الزمني عن فترة النبوة كانت المشاعر
الذاتية بالانتماء للإقليم تكبر. والأشعث بن قيس ببساطة خجل من أن يترك انتماءه
العراقي ويصير تابعاً
للشام!
وسوف اورد مثالا آخر على التنافس بين الاقليمين الشامي
والعراقي, هذه المرة فيما يتعلق بزعيم قبلي آخر غير الاشعث : الأحنف بن قيس , سيد
قبيلة تميم. فقد روى ابن سعد في
الطبقات الكبرى عن ابي المخيش " قال : كنت قاعدا عند الاحنف بن قيس إذ جاء
كتاب من عند الملك يدعوه إلى نفسه فقال : يدعوني ابن الزرقاء إلى ولاية أهل الشام!
والله لوددتُ أن بيني وبينهم جبلا من نار, مَن أتانا منهم احترق فيه, ومَن اتاهم
منا احترق فيه"
والمقصود من ابن الزرقاء في كلامه هو عبد الملك بن مروان
, و (من عند الملك) خطأ مطبعي وصحيحه (من عبد الملك).[90]
وينقل
لنا نصر بن مزاحم تفاصيل عن الأجواء
المشتعلة في المعسكر العراقي بعد رفع المصاحف :
"
ان الناس ماجوا , وقالوا : اكلتنا الحرب وقتلت الرجال .
وقال
قوم : نقاتل القوم على ما قاتلناهم عليه امس. ولم يقل هذا الا قليل من الناس , ثم
رجعوا عن قولهم مع الجماعة, وثارت الجماعة بالموادعة
".
ويفهم
من هذا النص أن الداعين لاستمرار القتال كانوا اقلية في وسط الاكثرية الساحقة التي
تريد السلام.
وكان
الناس من ابناء القبيلة الواحدة يردون على بعضهم البعض ويتجادلون . مثل هذا الكلام
الصادر عن اثنين من زعماء قبيلة بكر بن وائل:
فحين
قال حريث بن جابر البكري في ختام خطبته " فما بيننا وبين من طغى علينا الا
السيف " رد عليه قريبه شقيق بن ثور البكري" قد أكلتنا هذه
الحرب. ولا نرى البقاء الا في الموادعة"
وحتى
قبيلة ربيعة , المعروفة بشدة تأييدها لعلي والولاء له , مالت الى السلام وطلب
زعماؤها من علي , وإن بأدبٍ شديد , الاستجابة " قال خالد بن المعمر : يا امير
المؤمنين ,,,, إنا لا نرى البقاء الّا فيما دعاك اليه القوم , إنْ رأيت ذلك
, فإنْ لم تره فرأيك أفضل "
فالمؤكد
اذن أن الاشعث بن قيس لم يكن وحيدا بين زعماء القبائل الذين ارادوا وقف القتال .
وقد حاول عليّ , بكل طاقته, مقاومة هذا التيار "السلامي" في صفوف جيشه ,
ولكن دون جدوى. تحدثنا المصادر ان علياً ألقى خطبة قوية في محاولة لشحذ الهمم
والاستمرار في القتال " عبادَ الله ,, اني أحق من أجاب الى كتاب الله.
ولكنّ معاوية وعمرو بن العاص وابن ابي معيط وحبيب بن مسلمة وابن ابي سرح, ليسوا
بأصحاب دين ولا قرآن. إني أعرفُ بهم منكم, صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً فكانوا
شرّ أطفال وشرّ رجال. إنها كلمة حق يُرادُ بها باطل. إنهم والله ما رفعوها
أنهم يعرفونها ويعملون بها ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة. أعيروني سواعدكم
وجماجمكم ساعة واحدة , فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا "[91].
وقد
استجابت النواة الصلبة لمؤيدي عليّ لخطبته هذه ورأيه[92] ,
ولكن المشكلة كانت في ضرورة وحدة الصف قي تلك اللحظات الحرجة. فلا يستطيع عليّ أن
يركن إلى الأشتر وعدي بن حاتم بينما يتمسك الزعيم القبليّ الكبير , الأشعث, برأيه
بضرورة وقف القتال ومعه تيارٌ
واسع من قومه. فلم يكن هناك من خيار واقعي امام علي الا قبول عرض وقف القتال.
بل
ان هناك من الروايات ما يفيد بأن الاستجابة لعرض وقف القتال قد تمت بالفعل من
قبل الجانب العراقي حتى قبل الحصول على موافقة عليّ ! لنتأمل النص التالي الذي
يورده ابن حبان في كتاب الثقات:
" ,,, ثم جعلوا ينادون : ندعوكم الى كتاب الله والحكم بما فيه. فسُرّ الناسُ به وكرهوا القتال وأجابوا الى الصلح وأنابوا الى الحكومة وقالوا لعليّ : ان القوم يدعونك الى الحق والى كتاب الله فإن كرهنا ذلك فنحن اذن مثلهم.
" ,,, ثم جعلوا ينادون : ندعوكم الى كتاب الله والحكم بما فيه. فسُرّ الناسُ به وكرهوا القتال وأجابوا الى الصلح وأنابوا الى الحكومة وقالوا لعليّ : ان القوم يدعونك الى الحق والى كتاب الله فإن كرهنا ذلك فنحن اذن مثلهم.
فقال
علي : ويحكم ! ما ذلك يريدون ولا يفعلون.
ثم مشى الناس بعضهم الى بعض , وأجابوا الصلح والحكومة
وتفرقوا الى دفن قتلاهم.
ولم يجد عليّ
بدّاً من ان يقبل الحكومة لما رأى من اصحابه"
وهذه الرواية لا تذكر أسماء أشخاص بعينهم بل
تستعمل مصطلح "الناس" في الإشارة إلى مَن ضغطوا على عليّ. وهي تشير إلى
رغبة عارمة في السلام إلى درجة دفعت قطاعات واسعة من الجانب العراقي إلى التوقف عن
القتال وقبول عرض الصلح الشامي دون حتى انتظار رأي القائد الأعلى عليّ , الذي لم
يجد بُداً عندها من قبول ما هو حاصلٌ بالفعل!
وهناك
نصٌ آخر يشير إلى أن موقف الأشعث بن قيس
أثناء المعركة قد تم بتنسيق مسبق مع معاوية. وهذا أمرٌ
ممكن , لأن معاوية ربما قرر أن يخاطب الزعيم القبلي اليماني قبل أن يدعو إلى
مكيدته علناً. ومن المؤكد أن معاوية كان لديه علمٌ
بالخلاف القديم بين عليّ والأشعث وبالتالي رأى أن هذه هي اللحظة المناسبة التي
يمكن أن يفيده الأشعث فيها. وربما قدّر معاوية أن الأشعث قد أصبح الآن في موقف
يتيح له أن يقول لقومه إن العتب قد رفِع , وإننا قد أدّينا ما علينا وخضنا الحرب مع عليّ
ولا بأس الآن من الصلح ! ولن يستطيع قومه أن يعيّروه بالجبن أو بالتبعية لأهل الشام بعد
كل هذه المعركة الطاحنة. بل على العكس, سوف يستطيع الأشعث أن يبرر سلوكه أمام قومه
بالحرص عليهم. وقد أورد صاحب الإمامة والسياسة
النص:
" إن معاوية دعا عتبة بن أبي سفيان وقال
له : ألِن
إلى الأشعث كلاماً ,
فإنه إن رضي بالصلح رضيت به العامة.
فخرج عتبة حتى إذا وقف بين الصفين نادى الأشعث
فأتاه
فقال عتبة .... إنك رأس أهل العراق , وسيد أهل
اليمن, ومَن قد
سلف إليه من عثمان ما قد سلف من الصهر والعمل. ولستَ كأصحابك .... وأما أنتَ فحاميتَ عن أهل
العراق تكرماً, وحاربتً أهل الشام حمية. وقد والله بلغنا منك ما أردنا , وبلغتَ
منا ما أردتَ. وإنا لا ندعوك إلى ما لا يكون منك من تركك علياً, ولا نصرة
معاوية. ولكنا ندعوك إلى البقية , التي فيها صلاحك وصلاحنا"
ومن
الجدير بالملاحظة مدى الحرص في اختيار العبارات من قبل عتبة بن أبي سفيان : فهو
يقول للأشعث صراحة أنه لا يريده أن يترك علياً
وينضم إلى معسكر معاوية في مثل هذه الظروف ( فهو يدرك أن هكذا تصرّف يستحيل أن
يصدر عن الزعيم القبلي العربي, لأنه سيجرّ عليه عار الدهر ), وأنه ببساطة يدعوه
إلى ما فيه خير الطرفين , وهو البقاء.
ولا
بد من الإشارة إلى أنه توجد طائفة من الروايات الأخرى التي تؤكد أن قيادات "القرّاء" في المعسكر
العراقي هي التي قامت بالضغط على عليّ لحمله على قبول فكرة التحكيم التي طرحها
معسكر معاوية حين رفعوا المصاحف.
فمثلا روى الدينوري
في الاخبار الطوال ان اشتباكا حصل بين (أصحاب الجباه السود) الذين يريدون
الاستجابة الفورية لمصاحف اهل الشام المرفوعة وبين الاشتر الذي يصر على مواصلة
القتال " وكان مسعر بن فدكي وابن
الكواء وطبقتهم من القراء الذين صاروا بعدُ خوارج كانوا من أشد الناس في
الاجابة الى حكم المصحف"
ومن المصادر الشيعية ذكر ابن
ابي الفتح الاربلي انه لما رفع الشاميون المصاحف " رجع القراء
عن القتال. فقال لهم علي عليه السلام: انها فعلة عمرو بن العاص , وخديعة وفرار من
الحرب. وليسوا من رجال القرآن فيدعوننا اليه. فلم يقبلوا ! وقالوا : لا بد أن
تنفذ وترد الاشتر عن موقفه وإلاّ حاربناك وقتلناك أو سلمناك اليهم!
فأنفذ في طلب الاشتر , فأعاد اليه أنه ليس بوقت يجب ان
تزيلني فيه عن موقفي وقد أشرفتُ على الفتح. فعرّفه بالاختلاف الذي وقع .
فعادَ ولامَ القراءَ وعنفهم , وسبهم وسبوه . وضرب وجه دوابهم وضربوا وجه دابته .
وأبوا إلاّ الاستمرار على غيّهم وانهماكاً في بغيهم . ووضعت الحرب أوزارها"
ولكني
أرى ان هذه الروايات غير صحيحة. فهي تهدف ببساطة إلى إلقاء تبعة وقف القتال
على القراء, الذين سيصبح جزء منهم خوارج فيما بعد, وذلك من أجل إظهار تهافت منطقهم
عندما دخلوا في حرب مع الإمام عليّ. فهكذا روايات تريد أن تقول أن نفس الأشخاص الذين
أجبروا علياً على وقف القتال, جاؤوا بعد قليل ليقولوا
له: لماذا أوقفتَ القتال؟!
فلا
يمكن التسليم بأن قيادات القرّاء هي التي أجبرت علياً على وقف القتال,
لأنها كانت أصلاً غير قادرة على
ذلك حتى لو أرادت. فهي كانت أقلية صغيرة ضمن الجيش العراقي الكبير. كما أن سلوك
ومواقف هؤلاء لاحقاً, الذين أصبحوا
خوارج فيما بعد, يؤكد أن مسألة وقف القتال بالذات , والقبول بالتحكيم, كانت هي
أساس تحركهم وتمردهم ضد عليّ ومأخذهم الوحيد عليه.
والرواية التالية من الامامة والسياسة لابن
قتيبة تؤيد هذا المنحى . فبعد أن استجاب علي وقرر وقف القتال " قام
الى علي أناس , وهم القراء, منهم عبد الله بن وهب الراسبي , في أناس كثير قد
اخترطوا سيوفهم, ووضعوها على عواتقهم . فقالوا لعلي : اتقِ الله! فإنك قد
أعطيتَ العهدَ وأخذته منا : لنفنينَ أنفسنا أو لنفنينّ عدونا , أو يفيء الى
أمر الله. وإنا نراك قد ركبتَ الى أمر فيه الفرقة والمعصية لله, والذل في الدنيا .
فانهض بنا الى عدونا , فلنحاكمه الى الله بسيوفنا , حتى يحكم الله بيننا
وبينهم , وهو خير الحاكمين, لا حكومة الناس"
والخلاصة إذن أن وقف القتال قد تم بضغط من
الزعماء القبليين, وخاصة الأشعث بن قيس, الذين يتمتعون بنفوذ كبير لدى
المقاتلين من أبناء عشائرهم, على الإمام عليّ. وقد كان موقف الزعماء القبليين
انعكاسا لتيار واسع بين أفراد المعسكر العراقي يرى ضرورة الاستجابة لمصاحف أهل
الشام ووقف المقتلة والقبول بالموادعة.
ومما يدعم هذا التحليل ما رواه الدينوري من قيام الأشعث بن قيس بحمل كتاب
التحكيم بين الفريقين والدوران به على كل القبائل المشاركة في الجيش العراقي
للتأكد من التزامها بوقف القتال. والأهم من ذلك هو ردة فعل النواة الاولى للخوارج
(لم يكونوا قد أصبحوا "خوارج" بعد) الذين عارضوا وقف القتال مع أهل
الشام. فبعض فهؤلاء الأفراد المطالبين باستمرار القتال صبّوا جام غضبهم على الأشعث
بالذات حتى وصل الأمر إلى حد محاولة الاعتداء عليه جسديا!
" وإن الأشعث أخذ الكتاب فقرأه على الفريقين,
يمر به على كل, راية راية, قبيلة قبيلة , فيقرؤه عليهم....
فقال عروة بن أدية : أتحكمون
في دين الله الرجال؟! فأين قتلانا
يا أشعث؟ ثم حمل بسيفه على الأشعث, فأخطأه, وأصاب السيف عجز دابته. فانصرف الأشعث
إلى قومه, فمشى إليه سادات تميم, فاعتذروا إليه فقبل وصفح"[93]
وطبعاً فإن قيام بعض العناصر التي ستصبح " خوارج
" فيما بعد بالتهجم على الأشعث ومحاولة الاعتداء عليه يشير إلى عِظم الدور
الذي اضطلع به في عملية وقف الحرب.
وسوف يتحوّل غضب الخوارج فيما بعد لينصبّ بالكامل على
عليّ , باعتباره القائد الأعلى المسؤول عن كل ما يجري, بما
في ذلك خضوعه لضغوط الأشعث وغيره من الزعماء القبائليين.
واخيرا
هناك رواياتٌ تشير إلى أن علياً كان يأخذ بعين الاعتبار, عند موافقته في
النهاية على التحكيم, حجم الانهاك العظيم الذي أصاب المسلمين من جراء القتال .
فقد قال علي في إحدى محاججاته مع الخوارج فيما بعد :
"
... وأما قولكم : لمَ
جعلتَ بينك وبينهم أجلاً في التحكيم ؟ فإنما فعلتُ ذلك ليتبيّن الجاهل ويتثبّت العالم.
ولعلّ الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة, ولا تؤخذ بأكظامها..."[94]
وقول
عليّ " ولا تؤخذ بأكظامها" فيه دلالة على مدى المشقة التي كان يعاني
منها المسلمون آنذاك. وفي هذا النص ذاته يظهر ان علياً كان يعتبر القبول بالتحكيم والرجوع إلى
القرآن نوعاً من
إقامة الحجة على صحّة موقفه, لمن ينشد الحق من المسلمين. فكأنّه
يقول للناس إنّه لم يَدَع سبيلاً إلاّ سلكه في سبيل وحدة الأمة,
وحتى لا يتّهم بأنه لا يعطي خصومَه
فرصة الرجوع إلى الحق , سلماً.
وقفة :بشأن الراوي الابرز أبي مخنف
يعتبر لوط بن يحي , المعروف بأبي مخنف, من اهم المصادر
القديمة لأخبار الفتنة الكبرى , إن لم يكن أهمها. وهو من المصادر القديمة والقريبة
نسبياً من الاحداث. فهو قد توفي سنة 157 للهجرة وهذا يعني انه ربما كان شاباً
واعيا سنة 100 للهجرة وأنه ربما قابل بالفعل اشخاصاً عاصروا احداث الفتنة الكبرى ,
أو حتى شاركوا بها (حرب صفين وقعت سنة 38 للهجرة).
وابو مخنف من ابناء الكوفة , نشأ وعاش بها. وهو ينتمي
الى قبيلة الأزد اليمانية المعروفة. وكان راوية متخصصاً بالتاريخ , وألف كتباً
عديدة تتناول وقعة صفين والخوارج واغتيال علي , وقبل ذلك حرب الجمل والثورة على
عثمان. وللأسف لم تصلنا كتبه مباشرة وإنما وصلتنا مقاطع كبيرة منها من خلال
الحافظين الكبار للمادة التاريخية وأبرزهم طبعا الطبري والبلاذري.
وهو من أكثر الذين أخذ المؤرخون الكبار عنهم بشأن اخبار
الفتنة الكبرى , بالاضافة الى المدائني والزهري والواقدي وابن اسحق والشعبي وهشام
الكلبي وعوانة بن الحكم, من الجيل المؤسس لعلم التاريخ في الاسلام.
وكمثال على أهمية ابي مخنف يكفي ان نذكر ان الطبري في
تاريخه أخذ عنه 116 رواية بشأن أحداث الصراع بين عليّ ومعاوية , بينما البلاذري في
انساب الاشراف اخذ عنه 37 رواية حول نفس الموضوع[95].
وكثيرٌ من الباحثين والمهتمين بالتاريخ , قديماً وحديثاً
, يأخذون على ابي مخنف انحيازه لعليّ في الصراع[96].
وبالتالي يلقون ظلالاً من الشك حول رواياته ومصداقيتها. ويزداد ذلك
"الاتهام" لأبي مخنف حدة اذا عرفنا أن جدّه المباشر , مخنف بن سليم
الأزدي , كان أحد المقاتلين في جيش عليّ في حرب الجمل وصفين, بل ويقال انه كان من
حملة الرايات. وذلك يعني أن لديه انتماءً أسرياً قديما ومتوارثاً لعليّ ومعسكره
وللجانب العراقي من الصراع ككل.
ولكني ارى أن من الظلم لأبي مخنف أن يتهم بالتلفيق او
الكذب او تزوير الاخبار لمجرد أن جده كان في عداد جيش عليّ. وقد يكون صحيحا ان
عنده ميولاً تجاه عليّ , انما ذلك من حقه كإنسان وكمسلم أن يكون محباً لمن يراه
معبرا عن الحق والعدل والخير. وليس ذلك مبررا للقدح به.
ثم ان رواياته في مجملها تتفق مع روايات كثيرين آخرين , وبعضهم
ليس لديهم أية ميول علوية. أي ان السياق العام لرواياته ليس شاذا ولا يجوز ردها
كلها وتجاهلها باعتبار ابي مخنف " علوي الهوى " . بل يجب التعامل معها
رواية رواية وتحليلها وربطها بالوقائع والاحداث للنظر في معقوليتها وامكانيتها.
وجدير بالذكر ان المصدر المهم الاخر لأحداث حرب صفين
بالتحديد , نصر بن مزاحم , لم يأخذ رواياته من طريق ابي مخنف, بل من طرق غيره
وأبرزهم عمر بن سعد الأسدي , ومع ذلك كانت متشابهة الى حد كبير مع راويات ابي
مخنف. ولعل هذا يضفي مصداقية نوعا ما على روايات ابي مخنف.
وكون جده مشاركا وفاعلاً في الاحداث قد يكون عنصراً
ايجابيا على نحو ما . فهذا يعني ان ابا مخنف كان قريبا من البيئة الحقيقة لمسرح
الاحداث من خلال اسرته ومن خلال بقية القبائل اليمانية التي كانت مستوطنة في
الكوفة. أي انه ينقل لنا بتفصيل كبير البيئة العراقية لأحداث الفتنة الكبرى. وهذه قيمة
تاريخية عالية بحد ذاتها.
الفصل الرابع :بعد المعركة : مؤتمر التحكيم
بعد توقف القتال
انتقل الفريقان إلى محاولة التوصل لصيغةٍ معينة " للتحكيم " بينهما. وتم
الاتفاق مبدئياً على أن يرسل كلٌ منهما وفداً إلى
مكانٍ محايد يرأسه " حَكم " . وسوف يتداول الحكمان في شأن النزاع ويُصدرا حُكماً
يتفق مع " كتاب الله ".
وشكّل اختيار الحكم المنتدب من الجانب
العراقي مشكلة جديدة وخطيرة لعليّ !
تعيين
أبي موسى الأشعري حكماً [97]
نظرا لأهمية
الموضوع , وغرابته , سوف اقوم باستعراضٍ موسع للروايات بشأنه في مصادر عديدة .
خصص ابن عساكر
في تاريخ دمشق كلاما كثيرا واخرج روايات عديدة حول هذا الموضوع: بعضها تلقي
باللائمة عن اختيار ابي موسى على " أهل الكوفة " , وبعضها على "
اليمانية" , وبعضها على الاشعث بن قيس بالتحديد.
فقد ذكر أن معاوية قال لابن العاص في معرض تكليفه بمهمة
التحكيم نيابة عنه ".. ان أهل
الكوفة أكرهوا عليا على أبي موسى وهو لا يريده..."
واخرج ايضا عن عكرمة من طريق ابن سعد رواية تلقي
بالمسؤولية عن اختيار ابي موسى على " اليمانية ":
" لما
كان يوم الحكمين فحكم معاوية من قبله عمرو بن العاص , قال الاحنف بن قيس لعلي: يا
امير المؤمنين حكّم ابنَ عباس فإنه نحوه, وابنُ عباس رجل مجرب . قال علي: فأنا
أفعل. فحكّمَ ابنَ عباس. فأتت اليمانية وقالوا : لا! حتى يكون منا رجل , ودعوا
الى أبي موسى الاشعري . فجاء ابن عباس الى علي فقال : علامَ تحكّم أبا موسى ,
فوالله لقد عرفتَ رأيه فينا. فوالله ما نصرَنا وهو يرجو ما نحن فيه , فتدخله الآن
في معاقد الأمر؟! مع ان أبا موسى ليس لك بصاحب ذاك. فإذا أبيتَ أن تجعلني مع عمرو
فاجعل الاحنف بن قيس فإنه مجرب من العرب وهو قرن لعمرو. فقال علي: فأنا أجعل
الاحنف! فأتت اليمانية ايضا ًوقالوا : لا يكون فيها إلاّ يمان . فلما غلِبَ علي
جعل ابا موسى"
كما أخرج رواية أخرى عن عكرمة من طريق محمد بن عمر
(الواقدي) فيها ذكر للأشعث بن قيس بالتحديد "سمعتُ ابن عباس يقول : قلتُ
لعلي يوم الحكمين : لا تحكّم الأشعري فإن معه رجلاً حذراً مرساً قارحاً من الرجال.
فلزّني الى جنبه فإنه لا يحل عقدة إلاّ عقدتها ولا يعقد عقدة إلاّ حللتها ! قال
: يا ابنَ عباس فما أصنع؟ إنما أوتى من أصحابي , قد ضعفتُ بينهم وكلّوا في الحرب .
هذا الاشعث بن قيس يقول لا يكون فيها مضريان أبداً حتى يكون أحدهما يمان. قال ابن
عباس : فعذرته وعرفتُ انه مضطهد وان أصحابه لا نية لهم"[98]
وتابع ابن عساكر مخرجا روايتين متناقضتين تماماً :
الاولى من طريق الاعمش وفيها ان عليا قال " يا
أبا موسى : احكمْ ولو على حز عنقي! "
والثانية من طريق الاحوص " قال علي في الحكمين :
أحكّمكما على أن تحكما بكتاب الله, وكتاب الله كله لي, فإن لم تحكما بكتاب الله
فلا حكومة لكما[99]"
والروايتان الأخيرتان غير صحيحتين ! فكيف يمكن ان يقول
علي لأبي موسى , وبتلك الحميمية العجيبة "احكم ولو على حز عنقي" بعد ما
حصل بينهما في الكوفة؟! وكيف يمكن ان يجعل علي الحكم لصالحه شرطاً للتحكيم, مع ان
ذلك يناقض فكرة التحكيم ذاتها؟ يمكن ان يتوقع الحكم لصالحه , ولكن لا يمكنه اشتراط
ذلك.
وأما ابن كثير فقد خلط في
روايته لقصة اختيار ابي موسى ما بين "القرّاء" والأشعث بين قيس, وجعل
مسؤولية اختيار ابي موسى عليهم معا! جاءت روايته على النحو التالي " وأراد
عليٌ أن يوكل عبد الله بن عباس – وليته فعل – ولكنه منعه القرّاء[100]
ممن ذكرنا وقالوا : لا نرضى إلاّ بأبي موسى الأشعري . وذكر الهيثم بن عدي
في كتاب الخوارج له ان اول من أشار بأبي موسى الأشعري الأشعث بن قيس,
وتابعه أهل اليمن , ووصفوه بأنه كان ينهى الناسَ عن الفتنة والقتال .
وكان أبو موسى قد اعتزل في بعض أرض الحجاز.
قال علي : فإني أجعل الأشتر حكماً . فقالوا : وهل سعّر الحرب وسعر الأرض
إلاّ الأشتر ؟
قال : فاصنعوا ما شئتم!
.... فأبوا إلاّ أبا موسى الأشعري.
فذهبت الرسل الى أبي موسى الأشعري – وكان قد اعتزل – فلما قيل له ان الناس
قد اصطلحوا قال : الحمد لله . قيل له : وقد جُعِلتَ حكماً فقال : إنا لله وإنا
إليه راجعون .
ثم أخذوه حتى أحضروه الى علي رضي الله عنه وكتبوا بينهم كتاباً .."
وأما ابن الأثير فقد أخرج رواية
يبدو فيها عليّ بمظهر عديم الشخصية تماما ويكتفي بالموافقة على أي اقتراح يُعرض
عليه !
" حكم معاوية عمرو بن العاص. فقال الاحنف بن قيس لعلي : يا أمير
المؤمنين حكم ابنَ عباس فإنه نحوه.
قال : أفعل.
فقالت اليمانية : يكون احد الحكمين منا! واختاروا أبا موسى.
فقال ابن عباس لعلي رضي الله عنهما : علامَ تحكم أبا موسى؟ فوالله لقد عرفت
رأيه فينا. فوالله ما نصرَنا وهو يرجونا فتدخله الآن في معاقد الأمر؟ مع أن أبا
موسى ليس بصاحب ذلك . فاجعل الاحنف فإنه قرن لعمرو.
فقال : أفعل.
فقالت اليمانية أيضاً – منهم الاشعث بن قيس وغيره - : لا يكون فيها إلاّ
يمان. ويكون أبا موسى.
فجعله علي رضي الله عنه"
وأما اليعقوبي فقد أوجز القصة , كعادته , بعباراته
المختصرة والحادة , فقال :
"وقال
علي : أرى أن أوجّه
بعبد الله بن عباس.
فقال الأشعث :
إن معاوية يوجه بعمرو بن العاص, ولا يحكم فينا مضريان. ولكن توجه أبا موسى الأشعري
فإنه لم يدخل في شيء من الحرب.
وقال علي : إن أبا موسى عدو! وقد خذل الناسَ عني بالكوفة, ونهاهم أن يخرجوا معي!
قالوا : لا نرضى
بغيره!
فوجّه علي أبا موسى على علمه بعداوته له
ومداهنته فيما بينه وبينه.
وألقى ابن حبان
في كتاب الثقات بالمسؤولية حصرا على عاتق الاشعث:
" .. وأراد علي ان يحكم ابن عباس . فقال الاشعث
بن قيس – وهو يومئذ سيد الناس - : لا
يحكم في هذا الامر رجلان من قريش, ولا افترق الفريقان على هذا الجمع على
حكومة, بعد ان كان من القتال بينهما ما كان, إلاّ وأحد الحكمين منا!
وتبعه أهل اليمن على ذلك. ثم قال الاشعث : لا نرضى
إلاّ بأبي موسى الاشعري"
ومن المصادر الشيعية , يلوم ابن ابي الفتح
الاربلي في كشف الغمة القراء ويحملهم مسؤولية اختيار ابي موسى
" وعين علي عليه السلام عبد الله بن عباس , فلم يوافقوا
وقالوا : لا فرق بينك وبينه! فقال : فأبو الأسود؟ فأبوا عليه. فاختاروا ابا
موسى الاشعري . فقال عليه السلام : ان أبا موسى مستضعف وهواه مع غيرنا! فقالوا : لا
بد منه . فقال : إذا أبيتم فاذكروا كلما قلتُ وقلتم"
وانفرد
البلاذري برواية (عن صالح بن كيسان ,
ذي النزعة الاموية ) تتجاهل تماما فكرة فرض ابي موسى على عليّ من قبل اصحابه ! بل
تقول انه بعد وقف القتال اختار الناس (دون تحديد) من الجانبين الشامي والعراقي
رجلين من الانصار ليكونا حكمين : عبادة بن الصامت و شداد بن اوس بن ثابت , ولكن تم
رفض ذلك من قبل معاوية , ثم " قال معاوية : عمرو , وقال علي : ابو موسى
الاشعري. وتراضيا بذلك" أي ان عليا اختار ابا موسى بارادته الحرة !
اذن
تظهر اغلبية الروايات أن الأشعث بن قيس واصل دورَه
المشبوه تجاه عليّ, عن طريق الضغط عليه لاختيار أبي موسى الأشعري مندوباً عن الجانب العراقي في مؤتمر التحكيم
المنوي عقده. وهي كذلك تظهر علياً
بمظهر الزعيم المغلوب على أمره.
ومن
الصعب التسليم بصحة هذه الصورة التي ترسمها الروايات تلك. فالواضح منها أنها تريد
تحميل الأشعث وزر اختيار أبي موسى الأشعري , الذي سيظهر فشله الكبير لاحقاً, بالإضافة إلى مسؤولية إجبار عليّ على
وقف القتال بالأصل.
فالأشعث
بن قيس كان بمقدوره فعلاً أن
يضغط على عليّ من أجل وقف سفك الدماء المتبادل, لأن ذلك ولا شك غدا مطلباً مُلحاً من قواعد المقاتلين, ولكن لا يمكن تصوّر
أنه أيضاً كان قادراً
على تسمية الحكم من الجانب العراقي! وحتى لو كان
الأشعث راغباً في تسمية أبي موسى , فإن علياً كان بإمكانه أن يرفض. فتسمية الحكم ليست
أمراً طارئا يحتاج قراراً فورياً
, مثل وقف القتال وسفك الدماء, بل هي حتما تحتمل التأجيل لعدّة أيام للنظر
والتفكير فيها, ما دامت المعركة قد توقفت بالفعل.
ويبقى
سؤالٌ مهم : كيف إذن قبل عليّ بتسمية أبي
موسى الأشعري مندوباً عنه
للتحكيم؟
من
المؤكد أن علياً لم يكن يحترم أبا موسى ولا يثق به على الإطلاق. وما صدر منه بالكوفة قبيل وصول
عليّ إليها , ودوره المثبّط للناس عن عليّ, لم يكن قد مرّ عليه زمنٌ طويل. ومن المستحيل أن يكون علي
اختار أبا موسى بإرادته ومشيئته.
وكما
رأينا فإن بعض الروايات تذكر أن علياً أراد تسمية مالك الأشتر مندوباً عنه. وهذا هو الأقرب للحقيقة لأن
ثقة عليّ بالأشتر كانت كبيرة, واستمرّت إلى نهاية حياته.
ولذا
لا مفر من الاعتقاد بأن "شيئاً
قاهراً" قد أجبر علياً على قبول تسمية أبي موسى! ولكن كيف؟ ومَن الذي أجبره؟ الأمر يبعث على الحيرة.
يبدو
أن ما حصل في المعسكر العراقي في تلك الظروف كان فوضى رهيبة وشقاق عظيم, أكبر مما
يظهر في كل الروايات, إلى درجة أن علياً لم يكن أمامه من سبيل سوى الخروج من ذلك الموقف بأي
وسيلة, ولو كانت تعيين واحد من خصومه مندوباً عنه للتحكيم! وقد يكون عليّ فقد زمام السيطرة على
الجيش وصارت القيادة بالفعل بأيدي الزعماء القبائليين في الجانب العراقي.
هناك
تخبّط في الروايات التي تذكر اختيار أبي موسى حكماً.
وقد مرت بنا الروايات التي تتحدث عن مسؤولية "القراء" و تقول أن
الاختيار تم من قبل شخصيات أصبحت خوارج فيما بعد, من أمثال مسعر بن فدكي, وزيد بن
حصين! بل انه توجد روايات أخرى في الطبري
والإمامة والسياسة تتحدّث عن دور لـ"زعماء الأنصار" في ذلك الاختيار!
وفي كل الأحوال, كان اختيار أبي
موسى الأشعري يمثل انتصاراً
مؤقتا للتيار الأكثر سلبية في صفوف جيش عليّ تجاه كل ما جرى من صراع.
ذلك التيار الذي كان يجنح إلى اعتزال "الفتنة" ويرى في "سفك دماء
المسلمين" شراً مستطيراً ويدعو المؤمنين إلى "الفرار
بدينهم" من الفتن!
وهنا
تظهر هذه الأحداث ظاهرة مهمة في الجانب العراقي من الصراع. فعليّ كان يحكم
بالاستناد إلى شرعيته الإسلامية أولا وأخيراً, ولم يكن يحكم مستندا إلى دعائم إدارية وتنظيمية
راسخة البنيان. فطاعة جنوده وجيشه وأهل العراق جميعاً له كانت ناتجة عن اقتناع فردي من كل
الناس بأهليته وصلاحيته وإخلاصه. ولكنّ هذه العلاقة لم يجر تأطيرها بالشكل الكافي
لتصبح, فوق ذلك, علاقة حاكم بمحكوم, بالشكل التنظيمي المحدد, ذي البعد الإداري
بتسلسلاته وهيكليته. وذلك أمر خطير, وسوف يعاني منه عليّ شرّ المعاناة, لأنه يعني أن
لعليّ عشرات الألوف من الشركاء في الحكم! عشرات الألوف من الذين عليه أن يقنعهم
بصحة كل قرار يتخذه وكل سياسة يتبعها! فهؤلاء يحبوه ويوالوه, ولكنهم ليسوا مرتبطين
مصلحيا معه. ولا يلام عليّ على ذلك. فهو قد جاء العراق من مدة قصيرة جداً, ولم تتح له الفرصة لكي يرسي دعائم حكم
وتنظيم فعال. وكانت جبهة عليّ وجيشه تضمّ صحابة أولين , والأنصار , إلى جانب أشراف
القبائل وأهل القادسية والأيام, وجماعات الروادف ومجموعات القراء, وهي عناصر تختلف
في درجة تقديرها لمصالحها, وفي نظرتها لقريش ولسلطان المدينة, وفي فهمها لأبعاد
الصراع الذي تخوضه. فلم يكن هناك تجانس في الآراء في معسكر عليّ, ولم تكن قبائله
منضبطة.
كل
ذلك بعكس وضع معاوية في الشام, الذي كان يتربّع على هرم سلطة إدارية , فعّالة
ومنظّمة, منذ حوالي العشرين عاما. ولم يكن مضطرا إلى هدر الكثير من الجهد لإقناع افراد
جيشه وقياداته, المعتادين على تلقّي أوامره والمستفيدين من عطاياه, بصواب قراراته.
إذن
دبّ الخلاف والشقاق في صفوف الجيش العراقي, فعاد إلى العراق وهو على أسوأ حال :
" خرجوا مع عليّ إلى صفين وهم متوادون أحباء, فرجعوا متباغضين أعداء.
ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم. ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله
ويتشاتمون ويضطربون بالسياط. يقول الخوارج
: يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله عز وجل وحكمتم. وقال الآخرون : فارقتم إمامنا
وفرقتم جماعتنا"[102]
ولمّا
وصل جيش عليّ إلى العراق افترق الذين مالوا إلى رأي المحتجين على عليّ
"الخوارج" ثلاث فرق :
-
فرقة رجعت إلى
أمصارها ومنازلها في العراق.
-
فرقة أقامت
وقالت : " لا نعجل. ننظر إلى ما يصير بشأنه"
-
فرقة شهدت على
عليّ بالكفر, وهو الذين تجمعوا في حروراء , ثم في النهروان.
مؤتمر التحكيم
قبل
التطرق إلى تفاصيل مؤتمر التحكيم وما جرى فيه, لا بد من التوقف قليلاً عند مسار الأحداث التي أدت إلى ذلك
المؤتمر, وما هو ممكن من انعقاده.
فمن المؤكد أن التوجه نحو نوع من التحكيم
هو دليل أكيد على توازنٍ ما
في القوى العسكرية بين الفريقين. ولذلك, وكما سبق وذكرنا, لا ينبغي التسليم
بالروايات التي تشير إلى أن جيش العراق كان متفوقاً
بشدة عند وقف القتال وأن معاوية وابن العاص كانا على وشك الفرار. وكون المبادرة
إلى رفع المصاحف والمطالبة بوقف القتال جاءت من الجانب الشامي لا تعني بالضرورة
أنهم هزموا. فهنا لا بد من ربط هذا التصرف من جانب معاوية بالهدف الذي
خاض من أجله كل من الطرفين المعركة.
فالإمام عليّ, كخليفة شرعيّ للمسلمين,
جاء إلى صفين وأمامه هدف وحيد لا يحتمل أنصاف الحلول : إلحاق الهزيمة الكاملة
بمعاوية وجيش الشام. فهؤلاء بنظره يمثلون انشقاقاً
في جسد الأمة, وليس أمامهم من سبيل سوى الدخول في الطاعة, إن لم يكن سلماً , فحرباً.
فأي اتجاه آخر, أو حل وسط, ليس مقبولاً ولا
ممكناً بالنسبة لعليّ, لأنه يعني استمرار
انقسام أمة العرب التي وحدها محمد(ص), والتي يرى عليّ نفسه المؤتمن عليها. لذلك كان
عدم الحسم, أو الهدنة, أو التأجيل, يساوي الهزيمة ذاتها.
وعلى النقيض من ذلك كان وضع معاوية.
فالنجاح الأعظم بالنسبة له كان بالفعل قد تحقق, وهو حشد جيوش الشام من خلفه. وفي
اليوم الذي سارت فيه جيوش الشام وقبائلها معه كان النصر قد كتب له. فلم يكن
ممكناً , بكل المقاييس, إلحاق هزيمة تامة
بالجيش الشامي المكون من 90 ألف رجل ما دام متماسكاً.
فكانت مهمة معاوية الأساسية خلال تلك المواجهة هي المحافظة على صمود قواته
وترابطها, وليس هزيمة جيش العراق.
ولذلك كان معاوية شديد الاهتمام بتماسك
صفوفه ومنع قواته من التأثر بدعاية أهل
العراق , أو بشخصية علي بن أبي طالب. وقبيل بدء المعركة في صفين, عندما انشق على
معاوية مجموعة من المتدينين والقراء الشاميين بقيادة شمر بن ابرهة بن الصباح
الحميري , وانضموا إلى صفوف عليّ, عقد معاوية وابن العاص اجتماعاً طارئا على الفور وتناوبا على الخطابة أمام
جنود الشام مؤكدين على شرعية موقفهم, ومظلومية عثمان , طالبين من الناس الصبر معهم
" ... أيها الناس أعيرونا أنفسكم وجماجمكم, لا تفشلوا ولا تخاذلوا..."[103]
فهدف معاوية إذن في معركة صفين كان يتلخص
بالصمود.
فخوض المواجهة ضد عليّ والصمود فيها كان غاية ما يطمح إليه معاوية في حينه.
فالصمود في الحرب يعني فعلياً أن
معاوية نجح في فرض أمر واقع على عليّ, وتثبيت فكرة التقاسم بينهما : هذه الأرض لي,
وتلك لك!
وهكذا يمكن القول أن معاوية خرج إلى صفين
للقتال بهدف الوصول إلى هدنة. وذلك ما نجح في تحقيقه.
فما
الذي يمكن لمؤتمر التحكيم أن يحققه؟ هل كان ممكنا لذلك المؤتمر أن
يعيد توحيد الأمة؟ هل كان بإمكان ذلك المؤتمر أن يحكم , كما يوحي بذلك اسمه, بين
الفريقين؟ هل كان ممكنا للمؤتمر أن يقرر في مسائل الخلاف والشقاق وأن يبتّ فيها؟
كل
تلك الأسئلة مشروعة تماماً في
مواجهة تركيز الكثير من الرواة على فكرة " الخديعة " أو " الغدر
" الذي حصل في ذلك المؤتمر من طرف عمرو بن العاص تجاه أبي موسى. فهناك ميلٌ واضح لتضخيم دور عمرو بن العاص "
الداهية " على حساب أبي موسى " الساذج ". ورغم أنه لا شك أبداً
في خصال الغدر والدهاء لدى ابن العاص, وقدراته الشخصية والبلاغية الكبيرة والتي
تجعله قادراً , دون أدنى ريب, على مراوغة شخص سطحيّ
كأبي موسى والتفوق عليه, إلاّ أن تصوير النتائج الهزيلة التي أسفر عنها مؤتمر
التحكيم وفشله, وكأنه ناتج عن سوء أخلاق عمرو بن العاص ونواياه, فيه تعسّف كبير ,
ولا ينبغي أخذه بجدية.
لم
تكن هناك أي نتيجة عملية يمكن أن تنتج عن مؤتمر التحكيم سوى تثبيت الأمر الواقع.
وبغض النظر عن اسم الشخصين الذي أرسلا لتمثيل الطرفين في ذلك المؤتمر, سواء كانا
أبا موسى وعمرو, أو ابن عباس وعمرو, أو غيرهم, فالنتيجة واحدة. فبعد تلك
المعركة الطاحنة, ودماء عشرات الألوف التي سالت, لا يمكن تخيّل أن أي طرف يحتمل أن
يقبل بحل لا يوافق مصلحته وسياسته بسبب فصاحة فلان أو بلاغة علان. فلن يقبل معاوية الدخول في طاعة عليّ مهما كانت حجة
مندوب العراق قوية ومؤثرة. ولن يقبل عليّ الاعتراف باستقلالية معاوية واقليمه
الشامي مهما ساق مندوبه من براهين على صوابية موقفه.
ومن
هنا يمكن النظر إلى مؤتمر التحكيم على أنه استراحة لالتقاط الأنفاس قبل معاودة
واستئناف الصراع المسلح بين الطرفين, والذي لا بد أن ينتهي بالحسم لمصلحة
أحدهما.
وكل
ما يروى من تفاصيل حول ما جرى داخل أروقة ذلك المؤتمر من جدالات, واقتراحات,
ومناورات, صحيحة على الأغلب , يجب النظر إليها من قبيل التفاصيل ليس إلاّ, لا من
قبيل الأحداث الرئيسية.
ويمكن أيضاً استعراض نص تفصيلي لكتاب التحكيم بين الطرفين لتوضيح مدى
عمومية عباراته وفقراته :
نص كتاب التحكيم[104]
أفضل نص يلخص الاتفاق الذي تم هو ما رواه الدينوري
في الأخبار الطوال:
" هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان
وشيعتهما[105],
فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنة نبيّه (ص). قضية عليّ على أهل العراق
شاهدهم وغائبهم, وقضية معاوية على أهل الشام شاهدهم وغائبهم.
إنا تراضينا أن نقف عند حكم القرآن[106]
فيما يحكم من فاتحته إلى خاتمته, نحيي ما أحيا ونميت ما أمات. على ذلك تقاضيا
وبه تراضيا.
وإن عليا وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس ناظراً وحَكماً, ورضي معاوية وشيعته
بعمرو بن العاص ناظراً وحكماً.
على أن علياً ومعاوية أخذا على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله
وميثاقه, وذمته وذمة رسوله أن يتخذا القرآن إماماً ولا يعدو به إلى غيره في الحكم
بما وجداه فيه مسطوراً, وما لم يجدا في الكتاب ردّاه إلى سنة رسوله الجامعة, لا
يتعمدان لها خلافاً ولا يبغيان فيها بشبهة"[107]
وواضحٌ أن الكلام عن حكم القرآن وإحياء ما أحياه واتخاذه إماماً .... الخ ,
لا يحمل أي معنى محدد ولا يزيد عن كونه عبارات عامة مُتفق عليها أصلاً ولا خلاف
بشأنها. فهذا الكتاب لا يتطرّق إلى أسباب الأزمة ولا إلى الحلول الممكنة.
والاكتفاء بأخذ العهد والذمة للحكمين ليس له أي أهمية حقيقية لأن كليهما قادرٌ على
تأويل أي رأي يراه أو قرارٍ يتخذه.
وجديرٌ بالذكر أنه حصل بين الجانبن خلافٌ بشأن الشكليات والديباجة :
روى ابن كثير في البداية
والنهاية " ... هذا ما قاضى عليه علي بن ابي طالب أمير المؤمنين .
فقال عمرو بن العاص [108]: اكتب
اسمه واسم أبيه . هو أميركم وليس بأميرنا .
فقال الأحنف: لا تكتب إلاّ أمير المؤمنين !
فقال علي : امْحُ أمير المؤمنين واكتب : هذا ما قاضى عليه علي بن ابي طالب
. ثم استشهد علي بقصة الحديبية حين امتنع اهل مكة هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله
فامتنع المشركون من ذلك وقالوا : اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله"
وحتى هذا التنازل من طرف عليّ لم يكن كافياً لحل الإشكال . أضاف ابن كثير :
"ان اهل الشام أبوا ان
يبدأ باسم علي قبل معاوية وباسم اهل العراق قبلهم , حتى كتب كتابان : كتابٌ
لهؤلاء فيه تقديم معاوية على علي , وكتاب آخر لأهل العراق بتقديم اسم علي واهل
العراق على معاوية واهل الشام "
وأضاف اليعقوبي في روايته فقرة
ذات مغزى في ختام كتاب التحكيم :
",,,
واشترط على الحكمين في الكتابين أن يحكما بما في كتاب الله من فاتحته إلى
خاتمته لا يتجاوزان ذلك ولا يحيدان عنه إلى هوى, ولا إدهان.
وأخذ عليهما
أغلظ العهود والمواثيق فإن هما جاوزا بالحكم كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته فلا
حكم لهما[109]"
وتقول المصادر ان الطرفين اتفقا على يكون اجتماع التحكيم (بتعبيرهم :
القضاء) في شهر رمضان المقبل , او ما بعده اذا تراضيا على ذلك. وأن يأتي مع كل حكم
400 رجل من كل طرف. وتم التوقيع على الكتاب بشهادة الشهود يوم 13 صفر سنة 37. ولكن
هناك اختلاف بين المصادر بشأن مكان الاجتماع : حيث مرة يرد ذكر " دومة
الجندل [110]"
ومرة ذكر "أذرح[111]
" . وكلاهما من المناطق الصحراوية الحدودية بين الشام والعراق والحجاز. وقد
حل ابن كثير الاشكالية على النحو
التالي :
"على ان يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان... فإن
لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح" . واما الطبري
فقد حل في رواية لأبي مخنف إشكالية مكان المؤتمر ( أذرح – دومة الجندل) كما
يلي : ان وفدي العراق والشام " توافوا بدومة الجندل بأذرح"!
واعطى ابن كثير توضيحاً جغرافيا
بشأن أذرح " وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام , بينها وبين كل من
البلدين تسع مراحل "
لخص اليعقوبي في تاريخه ما
جرى على النحو التالي:
"ووجه
علي بعبد الله بن عباس في أربعمائة من أصحابه ونفذ معاوية أربعمائة من أصحابه
واجتمعوا بدومة الجندل في شهر ربيع الأول[113]
سنة 38.
فخدع
عمرو بن العاص أبا موسى !
وذكر
له معاوية فقال : هو وليّ ثأر
عثمان وله شرفة في قريش. فلم يجد عنده ما يحب.
قال : فابني عبد الله ؟
قال
: ليس بموضع لذلك.
قال
: فعبد الله بن عمر ؟
قال : إذا يحيي سنة عمر. الآن حيث به.
فقال
: فاخلع علياً , وأخلعُ
أنا معاوية . ويختار المسلمون.
وقدّم عمرو أبا موسى إلى المنبر, فلما رآه
عبد الله بن عباس قام إلى عبد الله بن قيس فدنا منه فقال : إن كان عمرو فارقك على
شيء فقدمه قبلك, فإنه غدر.
فقال : لا . قد اتفقنا على أمر .
فصعد المنبرَ
فخلعَ علياً.
ثم صعد عمرو بن العاص فقال : قد ثبتّ معاوية كما ثبتّ
خاتمي هذا في يدي!
فصاح به أبو موسى : غدرتَ يا منافق! إنما مثلك مثل الكلب إن تحمل
عليه يلهث أو تتركه يلهث.
قال عمرو : إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً!
وتنادى
الناس : حكم والله الحكمان بغير ما في الكتاب, والشرط عليهما غير هذا. وتضارب
القوم بالسياط. وأخذ قوم بشعور بعض.
وافترق الناس .
ونادت
الخوارج : كفر الحكمان. لا حكم إلاّ لله."[114]
وذكر الطبري في
تاريخه تفاصيل ما جرى في التحكيم اعتمادا على روايات ابي مخنف. وهي تتشابه في
إطارها العام مع رواية اليعقوبي أعلاه,
مع اختلاف في التفاصيل. فأبو مخنف يقول ان طرح اسم عبد الله بن عمر بن الخطاب كان
من جانب ابي موسى ( وليس عمرو كما لدى اليعقوبي)
ويمكن
تصديق أن أبا موسى يختار عبد الله بن عمر كحلٍ لمشاكل الأمة.
فهو مثله من التيار السلبي الداعي إلى " اعتزال الفتنة ". وربما كان أبو
موسى يحنّ إلى العصر الذهبي لعمر بن الخطاب, عصر الفتوحات والانتصارات. بل ان رواية لأبي مخنف تظهر انه ذهب للمؤتمر أصلاً وهو
يضمر اسم ابن عمر كحل لمشاكل الأمة " قال ابو موسى : أما والله لئن
استطعت لأحيين اسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه". ولكن لما رفض عمرو بن
العاص اقتراح ابي موسى , كان الحل الذي اتفقا عليه :
" فقال له عمرو : خبرني ما رأيك؟
قال : رأيي أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى
بين المسلمين. فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا.
فقال له عمرو : فإن الرأي ما رأيت"
ولكن هل من الممكن ان يكون الحكمان اتفقا على
"حل" كهذا؟ أن يخلع كل منهما صاحبه؟ أن يختار المسلمون من أحبوا؟ لم
توضح الرواية كيف يمكن للمسلمين ان يختاروا من يحبوا. والى ان يختار المسلمون من
أحبوا , من سيتولى أمر القيادة بعد خلع علي ومعاوية؟ وماذا لو كان المسلمون يحبون
عدة رجال ؟ هل الحكمان بهذه السذاجة؟
وفي إحدى روايات ابي مخنف يظهر ابو موسى وبكل بساطة وهو
يوافق عمراً على أن عثمان قتل مظلوما وأن معاوية هو وليّه ! وتقول ان عمراً عرض
عليه الرشوة "إن ولي أكرمك كرامة لم يكرمها خليفة" ولكنه رفض الموافقة
على تولية معاوية الخلافة لأنه "لم يكن ليولي معاوية ويدع المهاجرين
الأولين".
وتركز روايات ابي مخنف كثيرا على أسلوب عمرو الخداع عن
طريق تبجيله الظاهري لأبي موسى وتقديمه على المنبر. كما تشير بكثير من الوضوح الى "نباهة"
ابن عباس وتحذيره لأبي موسى من غدر عمرو وتنبيهه له ألاّ يتكلم قبل عمرو, فلم
يستمع له, فوقع المحذور: ان عمرو بن العاص قال " إن هذا قد قال ما
سمعتم وخلع صاحبَه. وأنا أخلع صاحبَه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية "
ولكن هل يجوز تصديق ان أبا موسى كان بالفعل مغفلاً
الى هذا الحد؟ الجواب هو بالنفي. فأبو موسى كان يمتلك خبرة إدارية وقيادية
ممتازة منذ عهد عمر بن الخطاب. وأمضى سنوات عديدة حاكماً لولاية مهمة وهي البصرة.
وكانت له مساهمات بارزة في قيادة الجيوش والفتوحات في بلاد فارس. ومن المعلوم أن
عمر بن الخطاب كان حريصاً جدا على اختيار القادة والولاة من أهل الكفاءة والقوة
والذكاء. ولو كان ابو موسى مغفلا أو أحمقا لما استطاع أن يشغل ذلك المنصب الصعب
لسنوات طويلة.
وأما ابن كثير, صاحب النزعة
الأموية, فقدم في البداية والنهاية اعتذاراً
ودفاعاً حاراً عن عمرو بن العاص وموقفه. فبعد أن ذكر عدة روايات عن الواقدي وابي
مخنف والامام احمد وابن جرير حول تفاصيل الاجتماع قال " فلما اجتمع
الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين , ونظرا في تقدير أمور, ثم اتفقا على
أن يعزلا علياً ومعاوية , ثم يجعلا الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح لهم
منهما أو من غيرهما.....
ثم جاءا الى المجمع الذي فيه الناس – وكان عمرو لا يتقدم بين يدي ابي
موسى , بل يقدمه في كل الأمور أدباً وإجلالاً – فقال له : يا أبا موسى : قم
فأعلم الناسَ بما اتفقنا عليه .
فخطب ابو موسى الناسَ فحمد الله واثنى عليه ثم صلى على رسول الله(ص) ثم قال
: أيها الناس ! إنًا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نرَ أمراً أصلح لها ولا ألمّ
لشعها من رأي اتفقتُ أنا وعمرو عليه, وهو أنا نخلع علياً ومعاوية ونترك الأمر شورى
, وتستقبل الأمة هذا الأمر فيولوا عليهم من أحبوه . وإني قد خلعتُ علياً ومعاوية.
ثم تنحّى وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن هذا قد
قال ما سمعتم , وإنه قد خلع صاحبه , وإني قد خلعته كما خلعه وأثبتّ صاحبي معاوية,
فإنه ولي عثمان بن عفان والطالب بدمه وهو أحق الناس بمقامه!
وكان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي الى مفسدة
طويلة عريضة , أربى مما الناس فيه من الاختلاف. فأقرّ معاوية لما رأى ذلك من
المصلحة , والاجتهادُ يخطئ ويصيب"
وهكذا فإن ابن كثير يعتبر تصرّف
عمرو بن العاص وخيانته لأبي موسى هو مجرد اجتهادٍ منه لمصلحة الأمة ! فبنظره
ان الصحابي الجليل رأى أن ترك الأمة بلا إمام لا يجوز , فالحل إذن هو خلع علي بن
ابي طالب وتثبيت معاوية في منصب الخلافة! ولم يوضح ابن كثير وجه الاجتهاد في ذلك ؟
ولو كان ابن كثير قد أنكر حصول الحدث
من الأصل – خداع عمرو لأبي موسى وكذبه على المنبر – لأمكن ربما التماس عذر له في
رأيه الودّي بعمرو بن العاص. لكنه لم يفعل , بل أثبت الواقعة , ثم خرج بذلك الرأي
العجيب! فلا يبقى إذن سوى ان ابن كثير
دفعه تعصّبه المذهبي وعداؤه للشيعة الى إعلان رأيه ذاك. فهو يريد أن يجلّ عمرو بن
العاص رغم أنف الجميع!
والملاحظ على روايات ابن كثير خضوعها
للتشذيب! فهو يحذف منها ما يراه من عبارات مسيئة للشخصيات التي
يجلها ! فمثلاً هو يقول انه بعد إعلان عمرو" ويُقال ان أبا موسى تكلم معه
بكلام فيه غلظة وردّ عليه عمرو بن العاص مثله". وهكذا تجنب ابن كثير ذكر
الكلام المتبادل الذي رواه غيره من المؤرخين الذين ينقل عنهم وخاصة الاستشهاد
بآيات الكلب الذي يلهث والحمار الذي يحمل أسفاراً.
وهناك رواية لدى ابن سعد
في الطبقات الكبرى تفيد بأن معاوية كان قد حاول رشوة أبي موسى قبيل انعقاد
المؤتمر. فعن أبي بردة بن أبي موسى الاشعري " قال أبو موسى : كتب اليّ
معاوية سلامٌ عليك أما بعد : فإن عمرو بن العاص قد بايعني على الذي قد بايعني عليه
. وأقسم بالله لئن بايعتني على ما بايعني عليه لأبعثنّ ابنيك أحدهما على البصرة
والآخر على الكوفة , ولا يغلق دونك باب ولا تقضى دونك حاجة. وإني كتبتُ اليك بخط
يدي فاكتب اليّ بخط يدك.
فقال : يا بني انما تعلمتُ المعجم بعد وفاة رسول الله(ص)
. قال : وكتب اليه مثل العقارب :
أما بعد فإنك كتبتَ اليّ في جسيم أمر أمة محمد(ص) : لا
حاجة لي فيما عرضتَ عليّ!
قال : فلما ولي أتيته فلم يغلق دوني باب ولم تكن لي
حاجة إلاّ قضيت"[115]
وليس ببعيد أن يكون معاوية قد كاتب أبا موسى لما علم
بتعيينه مندوباً عن اهل العراق محاولاً استمالته أو على الأقل جس نبضه, خاصة وانه
يعلم بمشاكله مع عليّ في الكوفة.[116]
وعلى كل حال, فإن أبا موسى شعر بهول الفاجعة التي تسبب
بها لعليّ, والطعنة التي وجهها لشرعيته وعدالة قضيته. ولم يستطع أبو موسى العودة
إلى العراق لأنه لا يستطيع أن يقابل علياً بعد الذي صنعه, فقرر الانسحاب من المسرح
وفرّ إلى مكة وبقي فيها.
موقف الطرفين من نتائج المؤتمر[117]
اعتبر معاوية النتائج التي أسفر عنها مؤتمر التحكيم
نصراً مؤزراً له. وأعلن معاوية لكل أتباعه وأنصاره, وأرسل إلى الأمصار المختلفة
كتباً يشرح فيها كيف أن المؤتمر الذي رضيته الأمة لحل خلافها قد أصدر حكماً
لصالحه. وقال معاوية إن إجماع المسلمين, المبني على حكم كتاب الله , قد انعقد
على خلع عليّ من منصب الخلافة, وأن ذلك تم بموافقة مندوب أهل العراق.
وبناءً على نتائج هذا المؤتمر , أعلن معاوية نفسَه
خليفة للمسلمين[118],
وقام أتباعه في الشام بمبايعته بإمرة المؤمنين. ومن تلك اللحظة أصبح لأمة العرب
التي وحدها رسول الله (ص) خليفتان. وتكرّس الإنقسام من خلافٍ فعليّ إلى انشقاقٍ
رسمي وشرعي.
وأما عليّ فلما بلغته
أخبار مؤتمر التحكيم وما جرى به, أعلن رفضه لكل ما
حصل واعتبر أن الحكمين انحرفا عن كتاب الله وحكما الأهواء في شؤون المسلمين. وأعلن
تصميمه على مواصلة حربه ضد معاوية وحزبه :
"
قام عليّ بالكوفة على المنبر, فحمد الله وأثنى عليه
ثم
قال : أما بعد. فإن معصية العالم الناصح تورّث
الحسرة وتعقب الندامة. وقد كنتُ
أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري, فأبيتم إلاّ ما أردتم!
فأحييا
ما أمات القرآن, وأماتا ما أحيا القرآن! واتبع كل منهما هواه, يحكم بغير حجة ولا
سنة ظاهرة. واختلفا في أمرهما وحكمهما. فكلاهما لم يرشد الله, فبرئ الله منهما
ورسوله وصالحو المؤمنين.
فاستعدّوا للجهاد, وتأهبوا للمسير, ثم
أصبحوا في معسكركم يوم الاثنين بالنخيلة.
وإنما
حكمنا من حكمنا ليحكما بالكتاب. وقد علمتم أنهما حكما بغير الكتاب وبغير السنة.
ووالله لأغزونهم ولو لم يبق أحد غيري لجاهدتهم!
[1] مصادر هذا البحث : نهج البلاغة
بشرح محمد عبده (ج1 ص42 و ص80 و ج3 ص318), الإمامة والسياسة لابن قتيبة
(ج1 ص178), سير أعلام النبلاء للذهبي (ج3
ص140), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج59
ص135).
[2] نهج البلاغة بشرح محمد عبده.
[4] روى الذهبي في سير أعلام النبلاء أن معاوية قال
لمندوب علي , جرير بن عبد الله , في ختام محاورتهما " اكتب إلى علي أن
يجعل لي الشام, وأنا أبايع له ما عاش "
[5] ذكر ابن عساكر
في تاريخ دمشق روايتين (عن الكلبي) : الأولى تقول إن معاوية كتب لعلي من خلال مندوبه
جرير بن عبد الله أنه يمكن أن يبايعه ما دام حيا على أن لا يبايع لأحد من بعده
بشرط أن يجعل له الشام. والثانية بشرط أن يجعل له الشام ومصر. وأن كتابه " فشا
في العرب " وأن الوليد بن عقبة كتب له شعراً يلومه فيه على ذلك ويحثه على
حرب علي بلا هوادة.
[8] مصادر هذا البحث : وقعة
صفين لنصر بن مزاحم (ص 93/94/ 96 /102/
215), الدينوري في
الاخبار الطوال (ص164), الكامل في التاريخ لابن
الاثير (ص428), تاريخ ابن خلدون
(ج3 ص4), انساب الاشراف للبلاذري (ج3
ص77-79), الإمامة
والسياسة لابن قتيبة, كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص565).
[9] نفس هذا النص ذكره الدينوري
في الاخبار الطوال وفيه ان الاشتر تصدى للرجل , فهرب, فلحقه الناس وضربوه حتى مات.
فأدّى علي ديته لأهله من بيت المال لأنه لم يعرف قاتله.والرواية اخرجها ايضا البلاذري في انساب الاشراف, بلفظ
"قالوا".
[10] وقعة صفين لنصر بن مزاحم
[11] وقعة صفين لنصر بن مزاحم.
والأسوة هي التسوية بين المسلمين في قسمة المال. وتقصد : تكسر . والمران : الرماح
الصلبة.
[12] هناك روايات تقول ان عدي بن حاتم
الطائي بقي على ولائه العظيم لعلي بن أبي طالب إلى آخر يوم في حياته. فمثلاً ورد
في تاريخ ابن خلدون أن عدي بن حاتم قال
لمعاوية بن أبي سفيان, لما سمعه ينتقص علياً " والله إن القلوب التي
أبغضناك بها لفي صدورنا وإن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ولئن أدنيتَ
إلينا من الغدر شبراً لندنينّ إليك من الشر باعاً. وإن حز الحلقوم وحشرجة الحيزوم
لأهون علينا من أن نسمع المساءة في عليّ ". ولكني استبعد أن يجرؤ عدي على
مخاطبة معاوية , وهو خليفة منتصر, بهذه اللغة.
[16] وموقف قيس هذا حصل على الرغم من قيام علي, قبل ذلك, بعزل قيس عن
ولاية مصر. وهو يدل على مدى أصالة معدن قيس وإخلاصه لعليّ. فهو لم ينظر إلى الجانب
الشخصي من قضية عزله عن ولاية مصر, واستمر في تمسكه بالنهج الأنصاري العام المعادي
لطلقاء قريش والموالي لرسول
الله(ص) وآله.
[17] هذا الاقتباس وما بعده من
وقعة صفين لنصر بن مزاحم. والانكماش هو
الإسراع والجد. والتعريد هو الفرار والإحجام. والإدهان هو الغش والمصانعة. والقطين
: الخدم والأتباع.
[18] وقريب من هذا النص ذكره الدينوري
في الاخبار الطوال
" ايها الناس : سيروا إلى أعداء السنن والقرآن. سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار. سيروا الى الجفاة الطغام الذين كان اسلامهم خوفا وكرها. سيروا الى
المؤلفة قلوبهم ليكفوا عن المسلمين بأسهم"
[19] الاخبار الطوال للدينوري.وفي رواية الكامل لابن الاثير " وتخلف عنه نفرٌ من اهل
الكوفة , ومنهم مرَة الهمداني ومسروق, أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين"
[21] وعلق البلاذري قائلاً
: "وقيل انه لم يحضر من أزد البصرة الا عبد الرحمن بن عبيد , وأقل من عشرة
نفر". وربما يكون ذلك صحيحاً نظرا لتأثير موقعة الجمل المدمّر على قبيلة
الأزد في البصرة.
[23] مصادر هذا البحث : وقعة صفين لنصر
بن مزاحم( الصفحات 205, 206, 207, 208 و223), الكامل في التاريخ لابن الاثير
(ص432).تاريخ الطبري (ج4 ص 24 و ص7 ),
انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص81).
[24] يقول البلاذري ان
الرقة كان بها تجمع للعثمانية الذين اهواؤهم مع معاوية. فلما وصلها عليّ طلب من
اهلها ان يصنعوا له جسراً لكي يعبر بجيشه الفرات ولكنهم أبوا , لولا ان مالك
الاشتر هددهم فعندها صنعوه وعبر عليّ بقواته الى الضفة الاخرى وواصل مسيره.
[25] هذه المعلومات من وقعة
صفين لنصر بن مزاحم. ورواية ابي مخنف
في تاريخ الطبري فيها مثل هذه
المعلومات ولكن باختصار.
[26] وهناك روايات تقول أن عبد الله بن عمرو
بن العاص كان على ميمنة معاوية وأن عبيد الله بن عمر بن الخطاب كان على خيله.
وروايات تقول انه كان على مقدمة قواته أبو الأعور السلمي, وعلى ساقته بسر بن
أرطأة, وعلى الميمنة يزيد العبسي, وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص.
[27] واما رواية ابن الاثير
في الكامل فتذكر التوزيع التالي لقوات معاوية :
على الميمنة :
ابن ذي الكلاع الحميري . على الميسرة : حبيب بن مسلمة الفهري. على المقدمة : ابو
الاعور السلمي. على خيل دمشق : عمرو بن العاص. على رجّالة دمشق : مسلم بن عقبة المري.
و " على الناس كلهم " : الضحاك بن قيس.
[28] يتحدث ابو مخنف لدى الطبري
عن تنافس داخلي على راية قبيلة ربيعة الكبيرة ضمن قوات اهل العراق. ويقول ان علياً
– بعد أخذ ورد – حسم الامر واعطى راية كل ربيعة لخالد بن المعمر.
[29] مصادر هذا البحث : الأخبار الطوال للدينوري
(ص 167 و ص 170), تاريخ الطبري ( ج3 ص570 وص562 و ج4 ص2 و ص4), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص288 و ص290) , ابن قتيبة في الامامة والسياسة (ج1 ص128- 129 وص124),كتاب سليم بن قيس الهلالي (ص290-293), التنبيه والإشراف للمسعودي (ص256), تاريخ الاسلام للذهبي (ج3 ص542), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص97), تاريخ بغداد الخطيب البغدادي (ج1 ص204)
[30] يقدر هشام جعيط في "الفتنة" ص199 , بعد تحليله لكل
الروايات الواردة حول عدد المقاتلين من الجانبين ولظروف ذلك الزمان, أن جيشي الشام والعراق كانا متعادلين,
ب 70 ألفا لكل منهما.
[31] ويُلاحظ أن الطبري في
تاريخه الضخم لم يذكر صراحة عدد جيش عليّ , وإنما ذكره عَرَضاً في سياق بيت من
الشعر قاله الامام عليّ اثناء خروجه لصفين في رواية لعبد الله المروزي "
لأصبحنّ العاصيَ ابنَ العاصي **** سبعين ألفاً عاقدي النواصي ". اذن هم 70
ألفاً . كما انه لم يذكر عدد جيش الشام .
[32] ويلاحظ ان كلامه معهما اختلف
عن كلامه الحاد مع حبيب بن مسلمة, ربما لأنهما غير قرشيين فأمِل بأن يستميلهما
بخلاف حبيب الفاقد منه الرجاء
[33] رغم ان اجمالي الروايات في المصادر تفيدنا بأن عدي بن حاتم كان من
رجالات عليّ وقياداته المخلصين إلّا ان هناك رواية لدى الخطيب البغدادي ( من طريق علي بن المديني) تلقي ظلالاً من
الشك بشأن ولائه لعليّ :
"خرج
عدي بن حاتم وجرير بن عبد الله البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة فنزلوا قرقيسيا
وقالوا : لا نقيم ببلدٍ يٌشتم فيه عثمان "
[34] ويبدو كلام عليّ في هذه
الرواية منطقياً وأقرب ما يكون الى رأيه وموقفه الحقيقي من موضوع قتل عثمان.
وبرأيي أن هذه الرواية في جوهرها قريبة جدا من الصحة إن لم تكن صحيحة تماما.
[35] الأخبار الطوال للدينوري
[36] مصادر هذا البحث : وقعة صفين لنصر بن
مزاحم (ص214), الأخبار الطوال للدينوري (ص 171), تاريخ الطبري ( ج4 ص6 و ج3 ص26), البداية
والنهاية لابن كثير (ج7 ص 297). وابن سعد
في الطبقات الكبرى (ج3 ص257), و المستدرك على الصحيحين للحاكم (ج3 ص384), المحبر لابن حبيب البغدادي (ص296), مسند احمد بن حنبل
(ج4 ص319), كتاب
الفتوح لابن اعثم (ج3 ص158) , أسد
الغابة لابن الاثير (ج4 ص216).
[40] البداية والنهاية لابن كثير. وقريبٌ من ذلك رواه ابن
سعد في الطبقات الكبرى. وأجزاء من هذه الرواية وردت في المستدرك على
الصحيحين للحاكم .
[41] و توارث الأمويون الفرحة بقتل عمار جيلا بعد آخر! فقد روى ابن حبيب البغدادي في المحبر أنهم كانوا يسمون
قتل عمار "فتح الفتوح"! وأن أحد الذين قتلوا عمار من الذين طال عمرهم
كثيرا, ويدعى "أبو الغادية" قد أقبل على الخليفة الأموي سليمان بن عبد
الملك, فاستأذن للدخول عليه, وقال للحاجب بكل فخر : قل له هذا أبو الغادية قاتل
عمار!
[43] مصادر هذا البحث: صحيح البخاري
( ج1 ص122), فتح الباري لابن حجر العسقلاني
(ج1 ص452), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج 32 ص417), البداية والنهاية لابن كثير(ج7
ص296), مسند احمد بن حنبل (ج4 ص319), انساب
الاشراف للبلاذري (ج3 ص95).
[44] روى الامام احمد
في مسنده عن ابي البختري أن عماراً وهو في المعركة في صفين طلب شربة من لبن لأن
النبي(ص) كان قال له ان ذلك سيكون آخر ما يشربه في هذه الدنيا, ثم تقدم حتى قتل.
[45] ورغم ان هذا الكلام في ظاهره منصف للامام علي الذي يصفه
ابن كثير بأنه محق, إلاّ أن نظرة أعمق تكشف موقفاً في غاية السلبية والخطورة :
فابن كثير يعتبر الحديث النبوي الدلالة الوحيدة على صحة موقف الامام علي ولولاه
لما عرف أي الفريقين على حق؟!
[46] مصادر هذا البحث : ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج5 ص32) , تاريخ دمشق لابن
عساكر (ج21 ص115), ابن الاثير في
اسد الغابة (ج5 ص49), ابن عبد البر في
الاستيعاب ( ص 747), وكتاب المنمق لابن حبيب البغدادي (ص397)
[47] ولكن يشكل على سيرة هاشم ما رواه ابن حبيب البغدادي في كتاب المنمق " وحدّ
عثمانُ أيضاً هاشم بن عتبة بن ابي وقاص في الخمر, بشهادة قوم من أهل الكوفة"
!
[51] وهذا الاستبسال الذي أظهره
ابن بديل ليس غريباً. فأخوه الأكبر, نافع بن بديل الخزاعي كان من ضمن الصفوة من
أصحاب النبي(ص) الذين بعثهم إلى أهل نجد فغدروا بهم وقاتلوهم حتى استشهدوا عن بكرة
أبيهم في بئر معونة قبل حوالي 33 سنة. ذكر ذلك ابن
اسحق في سيرة ابن هشام (ج3 ص171).
[54] يروي البلاذري في انساب الاشراف (ج3 ص102) تفاصيل
كثيرة حول مقتله , وكيف أنه طلب من معاوية أن يوليه قيادة " الغمامة"
وهي ما يشبه وصف " قوات النخبة" في ايامنا , من أجل التصدي للضغط
العسكري الذي كانت تشكّله قبيلة ربيعة من الجانب العراقي , وأن ذلك أدى الى مقتله
على ايديهم واحتجاز جثته عندهم مما دفع زوجته بحرية , وهي من قبيلة ربيعة , الى
الذهاب لقومها العراقيين للحصول عليها ودفنه.
[56] مصادر هذا البحث : وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ص
440 و ص407 و ص460 و ص458 و ص272), ابن
قتيبة في الامامة والسياسة (ج1 ص127), نهج البلاغة بشرح محمد عبده
(ج2
ص181), الاستيعاب لابن عبد البر ( ص
91), ابن كثير في البداية والنهاية (ج7
ص292), ابن ابي الفتح الاربلي في كشف
الغمة (ج1 ص255), الطبقات الكبرى لابن سعد
(ج5 ص20), الاخبار الطوال للدينوري
(ص176).
[57] وجديرٌ بالذكر ان معاوية لم يكن يمارس القتال بنفسه أبداً . ودوره
كان دائماً التخطيط والتوجيه والإشراف, فقط. بل ان هناك روايات تفيد بأن معاوية
كان قد ابتدع نظام " الشبيه " الذي هو موجود لدى بعض الزعماء في
ايامنا هذه , حين يقوم شخصٌ يشبه الرئيس او الزعيم بالمشاركة في مناسبات عامة
بدلاً منه , فيراه الناسُ من بعد ولا يعرفون انه يؤدي الدور المطلوب منه. روى الدينوري في الاخبار الطوال
ونصر بن مزاحم في وقعة صفين " قالوا
: وكان فارس معاوية الذي يبتهي به حريث مولاه. وكان يلبس بزة معاوية, ويستلم
سلاحه, ويركب فرسه, ويجمل متشبها بمعاوية فإذا حمل قال الناس: هذا معاوية".
[59] وهذه الرواية , بكل ما فيها
, لا يمكن تصديقها. بل هي تندرج في اطار الروايات الدعائية المتخيّلة والهادفة الى
الحط من قدر معاوية وعمرو بن العاص وإظهارهما بمظر الجبن والتخاذل.
[60] مصادر هذا البحث : وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ص262-263), ابن قتيبة في الامامة والسياسة (ج1 ص 144), الأخبار الطوال للدينوري (ص 179 و ص183-184), البداية والنهاية لابن
كثير (ج7 ص 302), كتاب
"الثقات " لابن حبان (ج2
ص290),
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج5
ص205 و ص 249 و ص340), كتاب الفتوح لابن اعثم(ج3 ص180).
[61] الأخبار الطوال للدينوري
[62] كتاب "الثقات " لابن حبان . وبرأيي أن كلام معاوية هذا في منتهى
الذكاء والتوفيق. هو يخاطب جنوده وأهل الشام بمنطقٍ سلس مقنع!
[66] رغم أني لا اشك في بطولة
عليّ في ساحات الوغى وشجاعته وبسالته ,,, إلّا اني لا استطيع قبول هذه الرواية
التي يظهر فيها عليّ وقد انخرط بشخصه ليباشر القتال في المعركة. لقد كان القائد
الاعلى للجيش , الخليفة , وكان يمتلك من الحكمة ما يجعله يعرف ان دوره في هذه
المرحلة هو الاشراف والتوجيه واتخاذ القرارات , لا الانغماس في القتال لما في ذلك من
خطر على المصلحة العليا.
[69] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد
. وقد اورد العلامة ابن ابي الحديد في الجزء الخامس من كتابه الكبير المزيد عن
نداءات القبائل العربية لبعضها أثناء المعركة, يمكن لمن شاء الرجوع اليها.
[72] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 : ص4 و ص 8 و ص13-27), انساب
الاشراف للبلاذري (ج3 ص103).وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ص395), ابن قتيبة في الامامة والسياسة (ج1 ص131 ), الأخبار الطوال
للدينوري (ص181-183-186),
البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص293), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج3
ص142), العقد الفريد لابن عبد ربه (ج3
ص90), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص188).
[73] مصادر هذا البحث : تاريخ خليفة بن
خياط (ص146). التنبيه والإشراف
للمسعودي (ص256). نصر بن مزاحم في وقعة صفين (ص558), ابن حبان
في كتاب "الثقات" (ج2 ص291), ابن كثير
في البداية والنهاية (ج7 ص304), تاريخ الطبري
(ج4 ص45), تاريخ ابن خلدون (ج2 ص176), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص98).
[74] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص34), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص189) , ابن قتيبة في الامامة والسياسة (ج1 ص
144), الأخبار الطوال للدينوري (ص192),
البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص
302).
[75] مصادر هذا البحث : الاستيعاب لابن
عبد البر (ص72), اسد الغابة لابن
الاثير (ج1 ص98), فتوح البلدان للبلاذري
(ج1 ص121), وقعة صفين لنصر
بن مزاحم
(ص21), تاريخ دمشق لابن
عساكر(ج9 ص128 و ص139), كتاب الثقات لابن
حبان (ج2 ص286), تاريخ اليعقوبي (ج2
ص 200), الأخبار الطوال للدينوري
(ص156), المعجم الكبير للطبراني
(ج1 ص239), سير اعلام النبلاء للذهبي
(ج2 ص40-41).
[77] وقال ابن عبد البر ان الاشعث كان قد وفد على رسول الله (ص) في ثلاثين راكباً من كندة " وقالوا
: يا رسول الله: نحن بنو آكل المرار, وأنت ابن آكل المرار! فتبسم رسول الله (ًص)
وقال : نحن بنو النضر بن كنانة , لا نقفو امنا ولا ننتفي من أبينا"
[78] ذكر البلاذري في فتوح
البلدان انه بعد ان ارتد الاشعث قاتله زياد بن لبيد الذي كان والي اليمن
حينها ,فلجأ وجماعته إلى حصن النجير في اليمن إلى أن استسلموا بعد حصارهم.
[79] في تقديري أن ابا بكر عامله من باب " المؤلفة قلوبهم "
وقرر استمالته نظرا لمكانته القبلية الرفيعة.
[81] روي نصر بن مزاحم أنه لما بويع عليّ بالخلافة كان
الأشعث عاملاً لعثمان بن عفان على أذربيجان, وأنه كانت
بينه وبين عثمان علاقة مصاهرة حيث كان عمرو بن عثمان قد تزوج ابنة الأشعث قبل ذلك.
وذكر
الدينوري في الأخبار الطوال " وكانت
ولايته (على اذربيجان ) مما عتب الناس فيه على عثمان, لأنه ولاّه عند مصاهرته إياه
وتزويج ابنة الأشعث من ابنه"
[82] ويبدو ان الاشعث غار من سعيد
بن قيس الهمداني لما علم ان الحسن كان ينوي الزواج من ابنته , فرأى نفسه أكثر
أهلية لشرف هذا الصهر من حفيد النبي وابن أمير المؤمنين
[83] خاصة وأنه كان كبير السن ايضا. فسيرته تقول انه سنة 11 للهجرة قاد
قبيلته في حركة الردة والتمرد على الاسلام ايام ابي بكر. وابن عبد البر يقول انه توفي بعد اغتيال عليّ بأربعين
يوما (سنة 40 ) , وفي رواية أخرى سنة 42 للهجرة. أي أن احداث صفين حصلت بعد 26 سنة
من قيادته لقبيلته في الردة. أي أنه لا شك كان كبيرا جدا في العمر , ومكانته بين
قومه تكون أكبر وأكبر.
[84] صار بإمكان الاشعث اذن أن يفتخر بأنه تربطه علاقات
نسب ومصاهرة مع الخلفاء الثلاثة ابي بكر(اخته ام فروة) وعثمان(ابنه عمرو) وعلي
(عن طريق ابنه الحسن)!
[85] وفيما بعد , عندما انتصر معاوية ودخل الكوفة عقب صلحه مع الحسن ,
سوف يعبر الاشعث امامه عن رأي قبيح جدا في علي! روى الطبراني في المعجم الكبير ان الاشعث استأذن على
معاوية وهو بالكوفة , فحجبه مليا بسبب وجود الحسن وابن عباس عنده , فغضب الاشعث
وقال له " أعن هذين حجبتني يا امير المؤمنين! تعلم ان صاحبهما جاءنا
فملانا كذبا, يعني عليا" مما دفع ابن عباس الى التصدي له وتوجيه كلام
قاس جدا اليه.
[86] مصادر هذا البحث : تاريخ اليعقوبي
(ج2 ص189), تاريخ الطبري (ج4 ص34), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص103), الامامة والسياسة لابن قتيبة
(ج1 ص147) , وقعة صفين لنصر بن مزاحم (ص484).
[87] وفي رواية تاريخ الطبري أن مسعر بن فدكي وزيد بن الحصين ( من
"القراء" ) هما اللذان قالا لعلي " ... وإلاّ ندفعك
برمتك إلى القوم ..." وأن علياً اضطر أن يبعث إلى الأشتر النخعي ويوقف
حملته على معسكر معاوية في لحظات حرجة , حين كان على وشك الظفر.
[88] وليس غريبا ان تكون رواية
الزهري على هذا النحو. فهو من كبار " أهل الحديث" ورواة صحيح البخاري ,
وهو بالتالي من رموز مذهب " أهل السنة والجماعة " , وكان مقرباً من
خلفاء بني أمية. أي أن فكرة رغبة الصلح والسلام بين الاشقاء وعدم جذرية الخلاف بين
علي ومعاوية تناسب توجهه المذهبي تماما.
[89] مصادر هذا البحث : وقعة صفين لنصر
بن مزاحم (ص 485 وص489), الطبقات الكبرى لابن سعد (ج7
ص96), الإمامة
والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص 137 وص144
وص148), كتاب الثقات لابن حبان (ج2
ص292), الاخبار الطوال للدينوري
(ص191 وص197), كشف الغمة لابن ابي الفتح الاربلي
(ج1 ص256),
نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج2 ص173)و تاريخ الطبري
(ج4 ص39 وص34).
[90] وهذه الرواية يمكن قبولها, ويدعمها ما راوه ابن سعد نفسه أن الاحنف كان صديقا لمصعب بن
الزبير وتوفي أثناء ولايته على الكوفة من قبل أخيه. ومصعب شقيق عبد الله بن الزبير
, عدو عبد الملك اللدود.
[91] نص هذه الخطبة من وقعة صفين لنصر
بن مزاحم نقلاً عن رواية عمر بن سعد الأسدي. وروى الطبري في تاريخه نفس هذه الخطبة تقريباً نقلا عن
رواية أبي مخنف.
[92] تنبغي الإشارة هنا إلى موقف زعيم قبليّ مهم آخر وهو عدي بن
حاتم الطائي, الذي كان رأيه مع استمرار القتال وعبّر عن ثقته بالنصر حين قال
للإمام عليّ " يا أمير المؤمنين ! إن أهل الباطل لا تعوق أهل الحق. وقد
جزع القوم حين تأهبتَ للقتال بنفسك. وليس بعد الجزع إلاّ ما تحب. فناجز
القومَ" كما ورد في رواية الامامة والسياسة.
[94] نهج البلاغة بشرح محمد عبده . والأكظام جمع كظم : مخرج النفس . والأخذ بالأكظام :
المضايقة والاشتداد
[96] ومنهم من وصفه بأنه " شيعي " .ولكن حتى لو كانت لديه
ميول نحو عليّ , الا انه لا تظهر في راوياته تلك " المحاججة "
والايدولوجية الشيعية التي نراها عند الشيخ المفيد وغيره من ذوي المذهبية الشيعية
الذين كتبوا في التاريخ. روايات ابي مخنف تاريخية بالدرجة الاولى وبعيدة عن
التشيّع المذهبي.
[97] مصادر هذا البحث : تاريخ
دمشق لابن عساكر (ج46 ص171) و (ج32
ص92) , سير اعلام النبلاء للذهبي (ج2
ص395), البداية والنهاية لابن كثير (ج7
ص306), كتاب الثقات لابن حبان(ج2 ص292), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص189) , أسد الغابة لابن
الاثير (ج3 ص246), كشف الغمة لابن ابي
الفتح الاربلي(ج1 ص256) , انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص107) , تاريخ الطبري (ج4 ص36-39 وص45-46).
[104] مصادر هذا البحث : الأخبار الطوال للدينوري (ص194), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص307 و ص313), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص189), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص108).
[105] هذا اول استخدام لمصطلح " شيعة " في تاريخ الاسلام.
وكما هو ظاهر استخدم للاشارة الى الطرفين : شيعة عليّ وشيعة معاوية. وفي مرحلةٍ
لاحقة اقتصر استخدامه على عليّ وذلك بعدما سيطر معاوية على مقاليد الحكم وصار
"خليفة المسلمين" وبالتالي صار شيعته يصنفون من ضمن " أهل السنة
والجماعة" .
[106] حسب تعبير رواية ابن كثير
" ننزل عند حكم الله وكتابه , ونحيي ما أحيا
الله , ونميتُ ما اماتَ الله".
[107] ويراجع ايضا : رواية المدائني في انساب الاشراف للبلاذري وفيها
عبارة لفتت نظري " السنّة العادلة الحَسَنة الجامعة غير المفرّقة
"! لا تبدو هذه العبارة منسجمة مع لغة ذلك الزمان , بل هي اقرب الى لغة
الفقهاء في مرحلة زمنية لاحقة.
[108] وأما في رواية اليعقوبي فإن الذي طالب بمحو صفة "امير
المؤمنين" من اسم عليّ كان الاشعث بن قيس , وأدى ذلك الى رد شديد القسوة عليه
من جانب الاشتر النخعي.
[109] لا شك عندي ان هذه الفقرة " فإن هما جاوزا بالحكم كتاب
الله من فاتحته إلى خاتمته فلا حكم لهما"مقحمة على النص ومضافة لاحقا ,
وتهدف الى اعطاء تبرير لقرار الامام علي برفض نتائج مؤتمر التحكيم التي جاءت في
غير صالحه.
[112] تاريخ اليعقوبي (ج2
ص189), تاريخ الطبري (ج4
ص51-52), البداية والنهاية لابن كثير (ج7
ص314), الطبقات الكبرى لابن سعد (ج4
ص112 و ج3 ص32), تاريخ دمشق لابن عساكر
(ج32 ص95-96)
[113] وكما هو الحال بشأن مكان انعقاد مؤتمر التحكيم فإن هناك
اختلافا بين المؤرخين حول زمانه ! فالروايات تقول انه انعقد في شعبان , او رمضان,
او ربيع الاول سنة 38 !
[114] وكذلك ورد في تاريخ الطبري وفيه ان عمرو بن العاص قال " إن
هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبَه. وأنا أخلع صاحبَه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية
"
[116] وقد استمر معاوية في مكاتبة ابي موسى , حتى بعد انتهاء
المؤتمر وهو عائذ بمكة . فلا شك ان تصرف ابي موسى كان محل تقدير شديد من معاوية.
فعلى الرغم من انه لم يدعُ لبيعة معاوية صراحة , إلاّ انه وجّه كل ذلك المؤتمر
لصالحه بالفعل حين وافق على خلع علي وهو مندوبه! فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق ان معاوية كتب لأبي
موسى عارضاً عليه أن ينضم اليه في الشام حيث سيكون على الرحب والسعة ( أقبل
الى الشام فإنها أوسع لك)!