المقدمة

المقدمة

هذا كتاب يبحث في أحداث قضية كبيرة في تاريخ صدر الاسلام.  وهو يتناول وقائع الفتنة الكبرى التي امتدت أحداثها في الفترة ما بين سنة 23 للهجرة (بداية حكم الخليفة عثمان) الى سنة 41 للهجرة ( سيطرة معاوية على مقاليد الحكم).  ولكن هذا ليس تأريخاً لتلك الفترة الزمنية, بل هو بحث تاريخي فيها. أي أن الأحداث والوقائع المغطاة في هذا البحث هي تلك فقط التي لها علاقة بالفتنة الكبرى, وهي منتقاة من بين أحداث أخرى في ذات الفترة لم يكن لها ارتباط بموضوع الكتاب.
فهذا العمل بحثٌ وتنقيبٌ  في أمهات الكتب والمصادر الأصيلة للتاريخ الاسلامي. وقد قمتُ بمقارنة كيف روي الخبر الواحد في المصادر المختلفة وملاحظة الاختلاف أو الاتفاق فيما بينها . وحرصتُ على إثبات النصوص كما وردت في مصادرها بدقة متناهية وبدون تصرّف. وتركتُ للقارئ الفرصة للنظر فيها وفهمها وهي بلغتها القديمة.
فمن أجل الوصول الى الحقيقة التاريخية كان لا بد من البحث والتحقيق والمقارنة بين المصادر وتحليل الأخبار وربطها بظروفها الموضوعية من أجل الاستقرار على الخبر الصحيح . وكان لا بد من الربط بين الوقائع وتسلسلها وتتابعها ودراسة خلفياتها.
وهذه مهمة صعبة بالنظر الى كثرة الروايات واختلاف التفاصيل , فكان لا بد أن يكون منهج البحث علمياً عقلانياً يأخذ بعين الاعتبار الإمكانية التاريخية للحَدَث ويتمعّن في الأزمان والتواريخ والبلاد والاسماء. وفي أكثر الأحيان تكون الحقيقة موزعة بين شتى الروايات بحيث تكمل بعضها بعضاً. فمن النادر أن تكون رواية بعينها تروي غليل الباحث عن الحقيقة تماماً , بل الأغلب أن تكون حتى أصح الروايات بحاجة الى ما يكملها أو يوضحها أو يغطي جوانب الضعف والنقص فيها. وهناك فرق بين قبول الروايات التي تتعلق بمجمل سير الأحداث, وبين قبول تفاصيلها. فمن الممكن أن تكون الرواية مقبولة في إطارها العام ولكن بعض تفاصيلها مغلوطة أو مكذوبة. وهذا الأمر يبرز كثيراً عند تناول الوقائع التاريخية الكبرى حيث هناك في الأغلب اتفاقٌ على مجمل مسار الأحداث, مع اختلافٍ في التفاصيل وفي الأقوال المنسوبة للشخصيات المعنية بتلك الأحداث. والنتيجة أنه من الجائز قبول جزء من روايةٍ ما, وعدم قبول جزءٍ آخر منها. وطبعاً يمكن قبول رواياتٍ من مصدرٍ ما ورفض رواياتٍ أخرى من نفس المصدر. فالانتقائية مسموحة, بل ويمكن القول إنها مطلوبة في السعي من أجل التخلص مما علق بالروايات من شوائب التشويه ورواسب تزييف بعض ذوي الأهواء أو مبالغات الرواة وأخطائهم. ومن البديهي القول انه لا يجوز التسليم الكامل بصحة كل ما ورد في أي مصدر من مصادر الحديث أوالسيرة أوالتاريخ, مهما بلغ ذلك المصدر من الشهرة والذيوع. ولا ينبغي أن يكون هناك حَرَج في الإشارة إلى ما يعتري بعض جوانب الكتب المشهورة من خلل أو وهن. ولا يعني ذلك بالضرورة قدحاً في مؤلفيها أو أو تهويناً من شأن الجهود الجبارة التي بذلوها.

إنصاف المؤرخين

وأرغب هنا في تأكيد عظمة الدور الذي لعبه المؤرخون والإخباريون في حفظ التراث التاريخي العربي. فهؤلاء هم الحافظون للذاكرة الجماعية لأمة العرب ولولاهم لما كان هناك تاريخ إسلامي قط. ولولا تلك الطبقة من الرواة الأوائل , الذين نجهل الكثيرين منهم, لحصلت قطيعة مع الماضي ولما وجدنا هذه المادة التاريخية الغزيرة التي نراها في كتب الطبري والبلاذري وغيرهما. كان هناك مجهود حقيقي كبير لجمع وتدوين وتوثيق المادة التاريخية بدأت ارهاصاته  في القرن الأول الهجري ثم يلبث أن تطور وتقدم على أيدي محترفين ومتخصصين في القرن الهجري الثاني, الى أن بلغ ذروته مع عمالقة القرن الثالث. وهذا كله مجهود ينبغي أن يُشكر ويُحمد.
إلاّ أن تراثنا الاسلامي قد اولى مكانة كبيرة وبارزة للمحدّثين والفقهاء. وهؤلاء كانوا ميالين على الدوام الى التقليل من قيمة المؤرخين , بل وازدرائهم ومقتهم. وفي هذا ظلم كبير.
فعلم الإسناد والحديث والجرح والتعديل, رغم أهميته وعظمته, لا يجوز اعتماده معياراً لعلم التاريخ بل ينبغي حصره في نطاقه الديني والشرعي.  واما فيما يتعلق بالتاريخ فإن البحث في أسانيد الروايات , والتركيز فقط على ذلك من أجل اعتمادها لتكون مقياساً وميزاناً نهائياً للحُكم على صحتها , خطأ جسيم  لأنه سيؤدي إلى الانغلاق في حدود نصوص قليلةٍ جداً لا تكفي حتى للإحاطة بالتصوّر العام لأحداث السيرة النبوية وتاريخ صدر الإسلام. وستضيع بسبب ذلك نصوصٌ صحيحة لم يتيسر لها سندٌ يعرفه المحدثون أو الإخباريون. فالكمّ الأكبر من الروايات التاريخية التي وردت في أمهات الكتب لا يجوز أن تخضع لمعايير علماء الجرح والتعديل وشيوخ علم الرجال. ولا يجوز إهمال الذاكرة الجمعية للشعوب والأمم والتي استوعبت ووَعَت عدداً كبيراً مما شاع من أخبار, تناقلتها الأجيال وسجلها المؤرخون. فالأحاديث النبوية يترتب عليها في الغالب أحكام شرعية أو انها تتعلق بأصل الدين ولذا فمن المنطقي – بل والضروري – أن يَعرف المحدّثُ تسلسلَ رواتها ويتأكد من أهليتهم الدينية. وليس ذلك حال الأخبار التاريخية.
كما ان الضوابط والمعايير التي وضعها علماء الجرح والتعديل لقبول الرواة تتضمن بُعداً مذهبياً واضحاً. فرغم انه لا خلاف على أهمية صفات الصدق والأمانة في النقل لدى رواة الأحاديث والسير والأخبار , إلاّ أن اشتراط أن يكون الراوي من المؤمنين بمقولاتٍ ومعتقداتٍ مذهبية معينةٍ, أدّي عملياً إلى ردّ ورفض الكثير من الروايات الصحيحة التي يوجد في أسانيدها بعضُ مَن لم يرَهُ المحدّثون المتعصبون أهلاً للرواية لا بسببٍ يتصل بأمانته وصدقه, بل بسبب عدم اتفاقه مع بعض آرائهم في أمور مذهبية.  وهنا منبع الاتهام بالتشيع الذي كان كثيرا ما يوجه الى المؤرخين .  وقلما نجا احدٌ من رجال علم التاريخ والأخبار من الاتهام بالتشيع من قبل أهل الفقه والحديث. فطالت تلك التهمة أبا مخنف وهشام الكلبي والواقدي وابن اسحق واليعقوبي ونصر بن مزاحم والمسعودي وابن أعثم وغيرهم الكثيرين. وحتى الامام الطبري – وهو الذي أشاع في كتابه قصص ابن سبأ وروّج لمرويات سيف بن عمر المعادية لكل ما هو شيعي – اتهم بالتشيّع من قبل الحنابلة وعانى الكثير من جراء ذلك في بغداد. فأوساط المحدثين والفقهاء لم تكن ترتاح لمن يتصدى للحديث عن أخبار الفتنة الكبرى والحروب الأهلية الكبيرة التي حدثت بين المسلمين في النصف الأول من القرن الهجري الأول . وحين يصل الكلام الى الحديث عن الخلافات بين كبار الصحابة ودورهم في أحداث الفتنة الكبرى تبلغ حساسية المحدثين والفقهاء ذروتها ويصبحون كمن يخوض معركة للدفاع عن ذاته! فالمحدثون والفقهاء تبنوا نظرية عدالة كل الصحابة وروّجوها , وهي التي ترفع من مقام الصحابة الى ذرىً سامقة وتمنحهم نوعاً من العصمة والحصانة ضد النقد وتحولهم الى شخصيات دينية غير تاريخية. فلا تريد أوساط المحدثين والفقهاء أن تسمع شيئاً عن صراعات كبار الصحابة لأنها تتمسك بالصورة التي تخيلتها وارتضتها لمجتمع الصحابة المثالي وشخصياته المتحابّة المضحّية المتفانية في خدمة الدين. فإذن قرر المحدثون والفقهاء إقفال باب البحث والنقاش فيما جرى , حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة . ولذلك كانوا ينظرون شزراً لأهل الأخبار والتاريخ , ويهاجمونهم ويضعفونهم ويتهمونهم كلما وجدوا الى ذلك سبيلا.
فالمشكلة إذن ليست من لدن الإخباريين والمؤرخين بل هي مسألة مبدأ لدى أهل الفقه والحديث, الذين لن يرضوا عنهم إلاّ إذا تركوا علمهم جملة وتفصيلاً , أو أنهم توقفوا عن موضوعيتهم وتحولوا الى مروّجين لتاريخ متخيّل وهميّ تغيب فيه الحقيقة لحساب نظرية عدالة الصحابة كما يفهمها الفقهاء.
وحتى لو كان المؤرخ شيعياً فما الضير في ذلك؟ وهل الموضوعية والمصداقية والتحليل العقلاني حكرٌ على مذهب دون غيره؟ وهل كون الكاتب "سنياً" يمنحه ميزة ويجعله متفوقاً على نظيره "الشيعي"؟ هذه الأسئلة جديرة بالطرح نظراً الى كثافة الهجوم على المؤرخين والتشكيك في جهدهم وعملهم العملاق.
والحق أنه حتى لو كانت هناك "ميول" شيعية في كتابات بعض أهل الأخبار والتاريخ , كأبي مخنف واليعقوبي ونصر بن مزاحم, فهي لا تعدو كونها تفصيلات هنا وهناك , أو تلوين للروايات اذا شئت, ولا تمسً جوهر الحدث التاريخي. فؤلاء كانوا مؤرخين محترفين ولا يوجد في كتاباتهم أي نوع من "المحاججة" المذهبية . هم كانوا يريدون أن يخبروا , لا أن يبرهنوا. هم اهتموا بالحقيقة التاريخية , ولم يريدوا تلفيقها. وهم بالاجمال حافظوا على حد مقبول من الموضوعية. ولا بأس بعد ذلك إن كان للمؤرخ عواطف. فهؤلاء بشر ولا يمكن أن يكونوا محايدين تماماً  في مشاعرهم إزاء أحداث صراع ملحميّ وكبير. وفي مقابل الميول الشيعية لبعض أهل التاريخ والأخبار هناك " ميول أموية" عند البعض الآخر , وذلك أمر مفهوم ولا يقلل من مكانة علم التاريخ ولا أعلامه.

مصادر البحث  

لقد لجأتُ إلى المصادر الأقدم والأقرب للأحداث. فكان جلّ الاعتماد على أعمال مؤرخي القرن الثالث الهجري. ويمكن تقسيم المصادر الى رئيسية أساسية وثانوية مساعدة.
وعلى رأس المصادر الأساسية للمادة التاريخية يأتي بالطبع كتاب تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري (توفي عام 309 للهجرة), الذي هو موسوعة تاريخية عُظمى حَوَت شتى الروايات للأحداث بأسانيدها وتفاصيلها. ولا يقل شأناً عنه المصدر الموسوعي الآخر وهو البلاذري (توفي عام 279 للهجرة), وكتابه أنساب الأشراف. ويختلف كتابا الطبري والبلاذري في الشكل والتصنيف, فالأول كتاب تاريخ عام اعتمد مبدأ التسلسل الزمني للأحداث بينما ألّف البلاذري كتابه ليكون كتاب أنساب يتعرض فيه للشخصيات وسيرتها. وخلال ترجمته للشخصيات التي أوردها بحسب درجة قرابتها من رسول الله (ص) قدم البلاذري تاريخاً كاملاً وافياً لصدر الاسلام. ورغم ذلك الاختلاف الظاهري يشترك كتابا الطبري والبلاذري في غناهما الهائل بتفاصيل المادة التاريخية. ويمتاز هذان المؤرخان بالشمولية والنزعة الموسوعية, الى حد تسجيل الحركات واللفتات واللمحات, فضلاً عن الكلمات والمواقف والحوادث, بدقة متناهية واستيعابٍ لا نظير له. ولذلك يمكن اعتبارهما ذروة التاريخ المدوّن لصدر الاسلام.
ويستقي الطبري والبلاذري مادتهما التاريخية من مصادر أقدم مكتوبة ولكن لم تصلنا إلا من خلالهما. وتعود هذه المصادر الى مؤرخين وإخباريين مهمين عاشوا في القرن الثاني الهجري. كانت لهؤلاء مؤلفات عديدة تناولت بتركيز شديد كل جوانب أحداث النصف الأول للقرن الهجري الأول. تلك الطبقة تضم سيف بن عمر (لدى الطبري) الذي توفي عام 180 للهجرة, وأبا مخنف لوط بن يحيى (توفي عام 157 للهجرة), وأبا عبد الله الواقدي (توفي عام 207 للهجرة), ومحمد بن شهاب الزهري (توفي عام 124 للهجرة), وعلي بن محمد المدائني (توفي عام 225 للهجرة), وهشام الكلبي (توفي عام 204 للهجرة), وعوانة بن الحكم (توفي عام 147 للهجرة), ومحمد بن اسحق (توفي عام 150 للهجرة) , والهيثم بن عدي (توفي عام 206 للهجرة).كان هؤلاء بمؤلفاتهم في مجال الأخبار والأنساب والفتوح والمغازي والسير المصدر المكتوب الأساسي الذي استند اليه المؤرخان الموسوعيان الحافظان الكبيران الطبري والبلاذري.
وهؤلاء بدورهم يرجعون الى طبقة أقدم من أهل الأخبار , من القرن الهجري الأول. وأشهر هؤلاء هو عامر الشعبي ( توفي عام 105 للهجرة) الذي يمكن اعتباره شيخ أهل العلم في زمانه , ومحمد بن سيرين ( توفي عام 110 للهجرة). ولا ينسى ابان بن عثمان بن عفان (توفي عام 105 للهجرة) وعروة بن الزبير (توفي عام 94 للهجرة), رغم شهرتهما في مجال السيرة. وقد قام الشعبي وغيره بجمع الأخبار والروايات والمأثور التاريخي الشفهي والمنقول من جيل لآخر والمتداول في أوساط القبائل العربية التي شارك أسلافها في أحداث الفتنة الكبرى. فالشعبي معبرٌ عن الذاكرة الجماعية الأكثر قدماً والتي بدورها تمثل هيكل الوقائع الأساسي. فبعض أسانيد أبي مخنف مدهشة في تسلسلها : الشعبي, مجالد بن سعيد, عبد الرحمن بن ابي الكنود, فضيل بن خديج , ابو الجناب الكلبي ثم يأتي شاهد العيان. فإذن أجيال المؤرخين واهل الأخبار تتتالى وتتواصل , حلقة فحلقة , وطبقة فطبقة , الى أن نصل الى الحافظين الكبار من أهل القرن الثالث الهجري.
ولكنّ هناك إشكالاً بخصوص مصادر الطبري المتعلقة بأخبار الفتنة الكبرى. فرغم تنوّع مصادر رواياته إلاّ أن الفترة الأولى من احداث الفتنة الكبرى – زمان الخليفة عثمان بن عفان – تميزت بإفراطه في الاعتماد على مصدر بعينه : سيف بن عمر. فلو أحصينا[1] رواياته عن أحداث زمان الخليفة عثمان لوجدناها كما يلي :
سيف بن عمر : أخذ عنه 97 رواية
 الواقدي: أخذ عنه 59 رواية
الزهري : أخذ عنه روايتين
المدائني : أخذ عنه 8 روايات
 وهشام الكلبي : أخذ عنه روايتين
فالامام الطبري قرر كما هو ظاهر من هذه الارقام اعتماد روايات سيف كمصدر رئيسي لأخبار فترة خلافة عثمان , وهنا الإشكالية. فسيف بن عمر التميمي – رغم غزارة رواياته – مصدرٌ لا يمكن الاطمئنان اليه . وبنظري فإن الإمام الطبري ارتكب خطأ جسيماً حين أثبت روايات سيف في تاريخه وبالتالي صار مسؤولاً عن شيوع الكثير من الأفكار الخاطئة – بل والغريبة الشاذة – حتى يومنا هذا. ولكن موضوع سيف بن عمر طويل ويحتاج بحوثاً مستقلة وهو يرتبط بقصص عبدالله بن سبأ الخرافية ونظريات التآمر اليهودي. ولستُ بصدد بحث ذلك بالتفصيل هنا. ولمن شاء أن يراجع ما كتب حول ابن سبأ وسيف بن عمر من أبحاث قيمة[2].
وأنا رغم اعتراضي على مجمل روايات سيف بن عمر واعتقادي بأنه كان يتعمد تلفيق رواياته لخدمة خطه العقائدي والمذهبي إلاّ أنني تعاملتُ مع هذه الروايات التي يزخر بها تاريخ الطبري. فلم أعرض عنها بل بذلتُ جهداً في نقدها وتوضيح مكامن الخلل فيها وتناقضاتها .
وأما البلاذري فقد كان أكثر توازناً في مصادره عن فترة حكم عثمان. وهنا الإحصائية :
 الواقدي: أخذ عنه 62 رواية
أبو مخنف : أخذ عنه 36 رواية
الزهري : أخذ عنه 16 رواية
عوانة بن الحكم : أخذ عنه 6 روايات
المدائني : أخذ عنه 42 رواية
 وهشام الكلبي : أخذ عنه 14 رواية
الهيثم بن عدي :أخذ عنه 5 روايات
أي أن الواقدي هو المشترك بين الطبري والبلاذري فيما يتعلق بهذه المرحلة التاريخية. والملاحظ أن اعتماد الطبري على روايات سيف سوف ينتهي بعد معركة الجمل وقبيل معركة صفين, حيث تحول بعدها الى الاعتماد على أبي مخنف والآخرين. أي أن الطبري يميز بين مصادره , فلكل مرحلة تاريخية ما يناسبها عنده.
ورغم عدم شهرته[3] إلاّ أنّ كتاب تاريخ المدينة لابن شبة النميري (توفي عام 262 للهجرة) مصدرٌ رائع لأحداث عهد الخليفة عثمان. وهو يحتوي كماً مدهشاً من الروايات التي تتناول الاحداث التي وقعت في عهده والنهاية الاليمة التي لقيها. ولعله لا يوجد نصٌ قديم عالج حياة عثمان والمجتمع المدني وأحداث الفتنة بمثل تلك الدقة والتوسع الموجودة في كتاب ابن شبة هذا, مما يجعله من اهم المصادر الأصيلة المتاحة للباحث. ومما زاده تألقاً أن المؤلف يورد أخباره بإسنادٍ كامل الى أن يصل شاهد الحادثة أو سامعها أو ناقلها. ولكن الكتاب ينتهي عند مقتل عثمان ولا يتناول ما بعد ذلك.
وأما كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد (توفي عام 230 للهجرة) فهو قديم ومشهور. ورغم أنه في الأساس كتاب في علم تراجم الرجال إلاّ أنه يمكن اعتباره مصدراً مميزاً لتاريخ صدر الاسلام من خلال ما حواه من اخبار وروايات مسندة عن احداث الفتنة في سياق استعراضه لشخصيات الصحابة وحياتهم.
وهناك كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي (توفي عام 314 للهجرة). وهو مما تأخر اكتشافه وتحقيقه. ولكنه يحتوي روايات مفصلة وكثيرة عن حداث الفتنة . وبخلاف المصادر الأساسية التي ذكرناها يعتمد مؤلفه أسلوب الاسناد الجمعي حيث يذكر أسماء من وصله الخبر عن طريقهم مرة واحدة ثم يعلن كيفية تدخله" وقد جمعت ما سمعتُ من رواياتهم على اختلاف لغاتهم فألفته حديثا واحدا على نسق واحد". وتضم مصادره أبو مخنف والواقدي والشعبي وحفيد عبد الرحمن بن عوف وغيرهم.
واختلف كتاب تاريخ اليعقوبي (توفي عام 284 للهجرة) عن غيره من المصادر الرئيسية بتركه للاسناد التفصيلي للروايات التاريخية. كما تميز بنزعة للاختصار والتلخيص مما قلل من شأنه كمصدر بالقياس الى الطبري والبلاذري.
وقد أوضح منهجه بقوله "ولم نذهب إلى التفرد بكتاب نصنفه ونتكلف منه ما قد سبقنا إليه غيرنا ، لكنا قد ذهبنا إلى جمع المقالات والروايات لأنا قد وجدناهم قد اختلفوا في أحاديثهم وأخبارهم وفي السنين والأعمال ، وزاد بعضهم ونقص بعض ، فأردنا أن نجمع ما انتهى إلينا مما جاء به كل امرئ منهم لان الواحد لا يحيط بكل العلم"
وقد أجمل ذكر مصادره كما يلي " وكان من روينا عنه ما في هذا الكتاب : إسحاق بن سليمان بن علي الهاشمي عن أشياخ بني هاشم ، وأبو البختري وهب بن وهب القرشي عن جعفر بن محمد وغيره من رجاله ، وأبان بن عثمان عن جعفر بن محمد ، ومحمد بن عمر الواقدي عن موسى بن عقبة وغيره من رجاله ، وعبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي ، وأبو حسان الزيادي عن أبي المنذر الكلبي وغيره من رجاله ، وعيسى بن يزيد بن دأب ، والهيثم بن عدي الطائي عن عبد الله بن عباس الهمداني ، ومحمد بن كثير القرشي عن أبي صالح وغيره من رجاله ، وعلي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني ، وأبو معشر المدني ، ومحمد بن موسى الخوارزمي المنجم ، وما شاء الله ، الحاسب في طوالع السنين والأوقات . وأثبتنا عن غير هؤلاء الذين سمينا جملا جاء بها غيرهم ورواها سواهم وعلمناها من سير الخلفاء وأخبارهم ، وجعلناه كتابا مختصرا ، حذفنا منه الاشعار وتطويل الاخبار "
وعند تناول معركة صفين وما جرى بها لا يمكن تجاهل كتاب " وقعة صفين " لنصر بن مزاحم المنقري. فهو كتاب متخصص بهذا الحدث الكبير وقد أودع فيه مؤلفه ( وهو من المصادر القديمة – توفي سنة 212 للهجرة) تفاصل كثيرة جدا عن القتال و المعارك, والمساجلات والمراسلات , والاشعار والخطب , وكل ما يتعلق بتلك الحرب. والكتاب به نفسٌ ملحميّ , وهو بالتالي ميالٌ الى المبالغات وبراعة التصوير , ولكنه غنيّ بالمادة التاريخية. ومن مزياه ايضا اعتماد مؤلفه على مصدر قديم غير ابي مخنف والواقدي : عمر بن سعد الأسدي والذي جاءت رواياته بشكل عام غير متناقضة مع رواياتهما.
وكذلك يعتبر كتاب " الاخبار الطوال " لأبي حنيفة الدينوري (توفي سنة 282 للهجرة) من المصادر المفيدة للباحث كونه يحتوي تفاصيل كثيرة عن حربي الجمل وصفين واغتيال عليّ وتنازل الحسن لمعاوية. ولم يعتنِ مؤلفه بذكر اسانيد رواياته بل اعتمد اسلوب انتقاء الاخبار التي وجدها من المصادر القديمة وقال " وجدتُ في كتب اهل العلم بالاخبار الاولى " ثم يسترسل بالسرد. ولم يذكر اسماء مصادر رواياته الا قليلا , ومنهم الشعبي والكلبي والهيثم بن عدي.
    
واما المصادر المساعدة فهي كثيرة . وأهمها كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر (والذي هو عملٌ موسوعيّ ضخم ومفيدٌ, إلاّ أن مؤلفه من المتأخرين) , وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد, والبداية والنهاية لابن كثير والامامة والسياسة لابن قتيبة (رغم أن هناك شكاً في صحة نسبة الكتاب اليه) والثقات لابن حبان وكتب تراجم الرجال وخاصة أسد الغابة لابن الأثير والاستيعاب لابن عبد البر وتاريخ خليفة بن خياط (الذي هو قديم ولكنه مختصر).
وقد أوليتُ عناية خاصة لابن كثير ورواياته وآرائه , لكونه يمثل اتجاهاً واضحاً منحازاً للخليفة عثمان ولبني أمية بشكل عام. فيمكن القول إنه المؤرخ الرسمي للحكام ولمؤسسة الخلافة برمتها. ويقترب من خطه الامام الذهبي في كتابيه سير أعلام النبلاء وتاريخ الاسلام.
وهناك مصادر هامشية لجاتُ اليها لتدعيم روايات أو إكمالها مثل الاصابة لابن حجر ومروج الذهب للمسعودي وتاريخ ابن خلدون .

*****

وقد قررتُ أن أسمّي هذا الكتاب " صعود معاوية " نظراً لما في ذلك من غرابةٍ تصل الى حد العجب : إذ كيف يصلُ رجلٌ من الطلقاء الى رئاسة دولة الرسول (ص) وهم الذين أصرّوا على الصمود في معاداته ومعاداة دعوته الى الرمق الاخير ؟! كيف يتجاوز المهاجرين والانصار الذين صنعوا ملحمة الاسلام بدمائهم وتضحياتهم وصبرهم ؟! ما الذي جرى حتى يمكن لرجلٍ يحملُ تلك الصفة " طليق " أن يصعد الى القمة ومن ثم يؤسس لعرشٍ عائليّ تتوارثه سلالته ؟! الجواب على هذه التساؤلات الكبيرة هو : " الفتنة الكبرى " وأحداث الفتنة الكبرى , وهي موضوع هذا الكتاب. 

وقد كنتُ نشرتُ جزءاً من هذه الدراسة سنة 2012 تحت عنوان " اخبار الفتنة الكبرى : عهد عثمان بن عفان" مع وعدٍ بإكمالها بجزئين تاليين لأغطّي بقية الملحمة : حرب الجمل, صفين,  الخوارج,  وصلح الحسن.
وها أنا أفعل , وقد دمجتُ أحداث عهد عثمان بما وراءها لأخرج بهذا العمل الكبير المتكامل.

وأتمنى ان أكون قد وفقتُ في ما كتبتُ , وأن يكون هذا الكتاب إسهاماً في جلاء الحقيقة التاريخية لمن يسعى لها.

حسام عبد الكريم
ايلول 2017



[1] احصاء الروايات هذا ماخوذ من كتاب "المؤرخون العرب والفتنة الكبرى" لعدنان ملحم, ص69-77.
[2] مثلاً : كتاب "عبد الله بن سبأ" لمرتضى العسكري, وكذلك كتابات حسن بن فرحان المالكي "نحو انقاذ التاريخ الاسلامي" و " مع د. سليمان العودة في عبد الله بن سبأ". وأيضاً يراجع كتابنا " قريش وعلي".
[3] يعود ذلك الى تأخر العثور على مخطوطته الى أواخر القرن الرابع عشر الهجري. فقد ذكر حبيب محمود احمد أنه عثر عليها في مكتبة المرحوم محمد مظهر الفاروقي في المدينة المنورة فعهد بتحقيقها الى فهيم محمد شلتوت. كتب ذلك في مقدمة الكتاب بتاريخ ذي الحجة 1402 للهجرة.