الجزء الخامس : بيعة عليّ


الفصل الاول : بيعة عليّ بعد مقتل عثمان

كيف بويع عليّ ؟ [1]

بعد مقتل الخليفة عثمان كان هناك شعورٌ عام بين الناس في المدينة المنورة  بأن الأمة لا يجوز أبداً أن تبقى بدون إمام. كان شغور منصب الخليفة – ولو لفترة قصيرة – يمثل تهديداً خطيراً لوحدة أمة العرب التي أنجزها رسول الله(ص) ووطّدها الخلفاء من بعده. وقد عبّر صاحبُ الامامة والسياسة عن ذلك بقوله أن الناسَ " كلّمَ بعضهم بعضاً فقالوا : يمضي قتل عثمان في الآفاق والبلاد فيسمعون بقتله, ولا يسمعون انه بويع لأحدٍ بعده. فيثور كل رجل منهم في ناحية, فلا نأمن أن يكون في ذلك الفساد. فارجعوا إلى عليّ فلا تتركوه حتى يبايع. فيسير مع قتل عثمان بيعة عليّ, فيطمئن الناس ويسكنون"
ولذلك كان التوافد على عليّ من أجل البيعة عفوياً من أهل المدينة. وهذا الامر يجب فهمه في سياق خطورة الأوضاع التي بدأت تعصف بأمة الاسلام. يمكن القول انها كانت اقرب الى حركة شعبية تلقائية تمت دون ترتيب ولا تشاور مسبق . روى البلاذري في انساب الاشراف عن طريق الشعبي " ان عثمان بن عفان رضي الله عنه لما قتل اقبل الناسُ الى علي رضي الله عنه ليبايعوه ومالوا اليه فمدوا يده فكفها وبسطوها فقبضها.وقالوا بايع فإنا لا نرضى الا بك ولا نأمن من اختلاف الناس وفرقتهم. فبايعه الناس وخرج حتى صعد المنبر" . وظاهرٌ من الروايات أن علياً كان المرشح الطبيعي لمنصب الخلافة.
وحسب رواية ابن كثير " وقد امتنعَ عليّ من إجابتهم إلى قبول الإمارة حتى تكرّر قولهم له. وفرّ منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول. وأغلقَ بابَه فجاءَ الناس فطرقوا الباب وولجوا عليه. وجاؤوا معهم بطلحة والزبير . فقالوا له : إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير. ولم يزالوا به حتى أجابَ"
وروى ابن الاثير في اسد الغابة وابن حبان في كتاب الثقات والسيوطي في تاريخ الخلفاء :
"لما قتل عثمان جاء الناسُ كلهم إلى عليّ يهرعون,  أصحابُ محمد وغيرهم, كلهم يقول : أمير المؤمنين عليّ. حتى دخلوا عليه داره. فقالوا : نبايعك, فمدّ يدك. فأنت أحق بها. فقال عليّ : ليس ذاك إليكم. إنما ذاك إلى أهل بدر. فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة. فلم يبقَ أحدٌ إلاّ أتى علياً فقالوا : ما نرى أحداً أحق بها منك. فمُدّ يدكَ نبايعك"
ومن الرواية الاخيرة هذه يبدو ظاهراً أن علياً يُصرّ على الشرعية, المتمثلة بنظره في أهل السبق في الإسلام ونصرة الرسول والجهاد في سبيل الله, أو حسب تعبيره : أهل بدر.[2]

ومن الملاحظات المهمة على اجمالي الروايات أعلاه ان بيعة عليّ السريعة تمت في أجواء من القلق والخوف من المجهول التي سادت المدينة بعد مقتل الخليفة. فكان ذلك حافزاً اساسياً للناس للاسراع في البيعة. وجرى تجاوز نظام عمر بن الخطاب (شورى كبار المهاجرين القرشيين).


هل الثوارُ وقتلة عثمان هم الذين عينوا علياً ؟ [3]

المتابعُ للروايات يلاحظ بوضوح النشاط الكبير الذي بذله الثائرون الذين كانوا في المدينة من أجل تنصيب علي بن ابي طالب في منصب الخليفة. والحديث يتكرر عن قياداتهم وعن الدور الذي قاموا به حتى ليظن الباحث ان بيعة عليّ انما كانت عملاً من انتاج هؤلاء النشطاء الذين ساهموا مباشرة أو غير مباشرة في قتل عثمان. وكمثال على ذلك نورد ما ذكره الطبري في تاريخه عن طريق المدائني : حيث ذكر أن علياً لما امتنع في البداية عن قبول البيعة جاءه الاشتر " فأخذ بيده, فقبضها علي. فقال : أبعدَ ثلاثة؟ أما والله لئن تركتها لتقصرن عينيك عليها حينا. فبايعته العامة. واهل الكوفة يقولون أن أول من بايعه الاشتر"
وكذلك رواية البلاذري في انساب الاشراف من طريق عبدالله بن علي بن السائب وفيها "جاء علي والناس معه, والصبيان يعدون ومعهم الجريد الرطب. فدخل حائطاً في بني مبذول. وطرح الاشتر النخعي خميصته[4]  عليه ثم قال : ماذا تنتظرون؟ يا علي ابسط يدك.
فبسط يده فبايعه. ثم قال : قوموا فبايعوا . قم يا طلحة, قم يا زبير. فبايعا وبايع الناس"

ولكن حقيقة الحال لم تكن كذلك.
فهؤلاء الثوار لم يكونوا يمتلكون الشرعية التي تمكنهم من فرض خليفة. وحتى لو كانوا هم القوة المسلحة الضاربة في المدينة المنورة في تلك الايام إلاّ ان ذلك لم يكن بحالٍ ليمنحهم السلطة الشرعية ولا الاخلاقية لتعيين خليفة للمسلمين.
فالدور الذي لعبه هؤلاء كان مسانداً لأصحاب الشرعية الحقيقيين , وهم " اهل بدر " بتعبير علي , أو عموم أهل المدينة المنورة في واقع الحال.
والرواية التالية في تاريخ الطبري توضح ذلك . فالثوار " أهل مصر " قالوا لجموع أهل المدينة " أنتم أهل الشورى , وأنتم تعقدون الامامة, وأمركم عابر على الأمة, فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع. فقال الجمهور : علي بن أبي طالب, نحن به راضون"
وفي رواية الكامل لابن الاثير وصفٌ لموقف اهل المدينة وشعورهم بحراجة الموقف وضرورة مبايعة خليفة للمسلمين وكيف انهم اتجهوا الى عليّ " فغشي الناسُ عليا , فقالوا : نبايعك ! فقد ترى ما نزل بالاسلام وما ابتلينا به من بين القرى . فقال علي : دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون امراً له وجوه وله الوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول . فقالوا : ننشدك الله! الا ترى ما نحن فيه ؟ الا ترى الاسلام ؟ الا ترى الفتنة ؟ الا تخاف الله ! فقال : قد اجبتكم "

والحقيقة أن القاعدة الاساسية للذين أرادوا علياً كانت تضم مجموعة من كبار الصحابة ممن لهم رصيدٌ إسلاميٌ كبير, رغم الغياب الظاهر لكبار المهاجرين من ذوي الاصل القرشيّ.
وقد ذكر ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة عن كتاب الجمل لأبي مخنف أسماء المبادرين من هؤلاء" ان الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله(ص) لينظروا من يولونه أمرهم , حتى غصّ المسجد بأهله, فاتفق رأي عمار وأبي الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن عجلان وأبي أيوب[5] خالد بن يزيد على إقعاد أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة. وكان أشدهم عليه عمار فقال لهم : أيها الأنصار ! قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه , وأنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم. وإن علياً أولى الناس بهذا الأمر , لفضله وسابقته. فقالوا : رضينا به حينئذٍ . وقالوا بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار والمهاجرين : أيها الناس , إنا لن نألوكم خيراً وأنفسنا إن شاء الله . وإن علياً من قد علمتم , وما نعرف مكان أحدٍ أحمل لهذا الأمر منه, ولا أولى به. فقال الناسُ بأجمعهم : قد رضينا , وهو عندنا ما ذكرتم وأفضل"
ولا يخفى ان هؤلاء الذين ذكرت اسماؤهم من الصحابة رفيعي المقام – من الطبقة الاولى, وخصوصاً من الأنصار[6].
وروى البلاذري في انساب الاشراف عن طريق ابي داود الطيالسي ما يشير الى الدور المهم الذي لعبه الصحابي الكبير عمار بن ياسر في بيعة علي "قتل عثمان وعليّ بأرضٍ له يقال لها البُغيبغة فوق المدينة باربعة فراسخ. فأقبلَ عليّ فقال له عمار بن ياسر : لتنصبنّ لنا نفسك, او لنبدأنّ بك!
فنصب لهم نفسه فبايعوه"[7]


وأما الثوار من أهل الأمصار الذين كان حضورهم كثيفاً في المدينة, فلم يكن دورهم مباشراً في عملية اختيار وبيعة عليّ. فعلى الرغم من أن شخص عليّ كان يناسبهم تماماً, بسبب معارضته المعروفة لعثمان وسياساته, إلاّ أنهم كانوا يُسَلمون بأنه ليس في مقدورهم أن يمنحوا الشرعية للخليفة. وكانوا يعرفون أن أهل المدينة وحدهم هم الذين يقدرون على منح الشرعية أو حجبها[8]. ولذلك انحصر دورهم في الضغط على معارضي بيعة عليّ , بعد أن انتخبته المدينة. [9]

اذن قرر عليّ التجاوب مع نداء عامة المسلمين في المدينة, الخائفين من الوضع الخطير, وخاصة بعد أن تحقق شرطهُ بالحصول على الشرعية . وهو بقراره ذلك كان يلغي المبدأ الذي أرساه عمر بن الخطاب في حصر شؤون الخلافة في مجموعةٍ ضيقة من الصحابة القرشيين واستثناء جمهور المسلمين, سواء من الترشيح أو الترشّح. وهو بذلك يقبل أن تكون شرعية حكمه قائمة في الأساس على إجماع أهل المدينة و جمهور الأنصار.


هل كان عليّ طالبا للحكم ؟ أم تمنّع عن قبول البيعة ؟ [10]

 أرى أنه كان بالفعل طالباً لمنصب الخلافة. ولا أشك في ذلك. وهناك روايات كثيرة تبيّن ذلك , ومنها :
 رواية صالح بن كيسان[11] التي اوردها البلاذري في انساب الاشراف والتي تقول :
" قتل عثمان بن عفان لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة, فدعا علي بن ابي طالب الناسَ الى بيعته فبويع يوم السبت لاحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة"

ولكن سيرته اللاحقة تثبت أن ذلك لم يكن لأسبابٍ شخصية بل كرسالةٍ عليه أن يؤديها. وقد قال عليّ  مرّة" ... اللهم انّك تعلم أنّه لم يكن منّا منافسة في سلطان ولا التماس شيئ من فضول الحطام, ولكن لنردّ المعالمَ من دينك, ونظهر الإصلاحَ في بلادك . فيأمن المظلومون من عبادك, وتقام المعطّلة من حدودك . اللهم إنّي أول من أناب وسمع وأجاب , لم يسبقني الاّ رسول الله بالصّلاة. وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته , ولا الجاهل فيضلّهم بجهله , ولا الجافي فيقطعهم بجفائه , ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم , ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويذهب بها دون المقاطع , ولا المعطّل للسنّة فيهلك الأمّة "[12]

وعلي بن ابي طالب كان يؤمن بحقه في الخلافة منذ اليوم الاول لوفاة النبي (ص).  وموقفه من ابي بكر معروف. وهو ايضاً كان يشعر بأنه تعرض للظلم على ايدي عبد الرحمن بن عوف ومجلش الشورى الذي عينه عمر بن الخطاب فاختار عثمان على حسابه هو بالذات. ولذلك لم يكن يريد أن تتكرر الحالة فيجدُ غيرَه وقد تصدى لمنصب الخليفة فيبايعه البعضُ ليجد عليّ نفسه أمام خيار الطاعة أو خلق الفتنة  كما حصل يوم السقيفة حين انشغل علي وبنو هاشم في تجهيز النبي (ص) ليجدوا أبا بكر قد بويع وانتهى الأمر. ومن هنا نفهم هذه الرواية للبلاذري عن طريق الزهري ( انساب الاشراف) " فلما قتل عثمان برز علي للناس فدعاهم الى البيعة فبايعوه, وذلك انه خشي ان يبايع الناس طلحة, فلما دعاهم الى البيعة لم يعدلوا به طلحة ولا غيره"[13].


واما تمنع علي عن قبول البيعة فلا استبعد ان ذلك حصل بالفعل. وهناك روايات كثيرة تشير الى ذلك.
ولم يكن تمنّع عليّ عن القبول الفوري للبيعة إلاّ تعبيراً منه عن جسامة المهمة التي تنتظره. فهو كان يحمل نوايا إصلاح كبيرة جداً, وتتطلّب من جمهور المسلمين قبول تضحياتٍ لا شك عظيمة. فكأنه بتمنّعه ذاك أراد أن يقيم نوعاً من الحجة على الناس, لكي يعرفوا أنهم باختيارهم علياً, أخيراً, لا بد لهم من قبول قيادته وتوجيهاته مهما كانت مؤلمة. فهو يريد أن يقول لهم : أنتم الذين اخترتموني, وعليكم تنفيذ تعهداتكم الضمنية بالوفاء لي. لقد كان عليّ متجها نحو تغيير ثوريّ في مجمل الاوضاع التي خلقها عثمان في دولة الاسلام من خلال اثني عشرة سنة من الحكم, وتلك مهمة عسيرة وبحاجة الى جهدٍ وعرقٍ وتضحيات , وعلى الذين بايعوه أن يفهموا ذلك.


ليس صحيحاً أن علياً أراد مبايعة طلحة [14]
يجب استبعاد كل الروايات التي يظهر فيها عليّ وهو يطلب من طلحة (أو الزبير) أن يبسط يده ليبايعه. ومنها:
الرواية التي أخرجها البلاذري من طريق محمد بن سعد (انساب الاشراف) "لما قتل عثمان جعل الناس يبايعون عليا. قال فجاء طلحة فقال له عليّ : هات يدك ابايعك! فقال طلحة : انت أحق بها مني"
وكذلك رواية[15] المتقي الهندي في كنز العمال. فهو روى عن محمد بن الحنفية " لما قتل عثمان استخفى علي في دار لابي عمرو بن حصين الانصاري .
فاجتمع الناس فدخلوا عليه الدار, فتداكوا على يده ليبايعوه تداكك الابل البهم على حياضها, وقالوا : نبايعك.
قال : لا حاجة لي في ذلك. عليكم بطلحة والزبير!
قالوا : فانطلق معنا .
فخرج علي وانا معه في جماعة من الناس حتى اتينا طلحة بن عبيد الله.
فقال له: ان الناس قد اجتمعوا ليبايعوني ولا حاجة لي في بيعتهم, فابسط يدك ابايعك على كتاب الله وسنة رسوله.
فقال له طلحة : انت أولى بذلك مني وأحق لسابقتك وقرابتك. وقد اجتمع لك من هؤلاء الناس من تفرق عني.
فقال له علي : أخاف أن تنكث بيعتي وتغدر بي!
قال : لا تخافن ذلك. فوالله لا ترين من قبلي ابدا شيئا تكرهه
قال : الله عليك بذلك كفيل؟
قال : الله علي بذلك علي كفيل
ثم اتى الزبير بن العوام ونحن معه فقال له مثل ما قال لطلحة, ورد عليه مثل الذي رد عليه طلحة
وكان طلحة قد أخذ لقاحا لعثمان ومفاتيح بيت المال. وكان الناس اجتمعوا عليه ليبايعوه, ولم يفعلوا.."

انها روايات مصممة بعناية لكي تنسجم مع الخط الرسمي للفكر المذهبي السني الذي يصر على ان يُظهر الصحابة وهم في حالة مثالية من الوئام والود والترفع عن المناصب الى حد انهم يتعازمون على الخلافة والكل بها زاهد!



رواياتٌ القصْدُ منها إظهار مخالفة عائلة عليّ له ! [16]
ونتكلم بالتحديد عن عبد الله بن العباس والحسن بن علي.
ومنها رواية عن زهدم الجرمي في تاريخ دمشق لابن عساكر يذكر فيها ان ابن عباس قال لجلسائه " لما كان من أمر هذا الرجل ما كان, يعني عثمان, قلت لعلي : اعتزل, فلو كنتَ في جحر طلبتَ حتى تستخرج, فعصاني .
وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية, وذلك أن الله يقول ( ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل انه كان منصورا). لتحملنكم قريش على سنة فارس والروم وليتمنن عليكم النصارى واليهود والمجوس, فمن اخذ منكم بما يعرف نجا ومن ترك – وأنتم تاركون – كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك "
ومنها ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى عن زهدم الجرمي ايضا" خطب ابن عباس فقال : لو لم يطلب الناس بدم عثمان لرموا بالحجارة من السماء"
ولا يمكن تصديق مثل هذه الروايات , لعدة اسباب :
ففيها نبوءات بالغيب. وقد تحققت فعلاً , مما يرجح أنها تم تفصيلها بأثر رجعي لكي تنسجم مع الأحداث التي جرت لاحقاً.
وهي تجعل عبد الله بن العباس كمن يبدو معارضاً لعليّ ومؤيداً للطلب بدم عثمان ومقتنعاً بدعاية معاوية! علماً بأن ابن عباس كان مقرباً من عليّ الذي استوزره واستعمله.
ومؤلفوا هذه الروايات ظنوا أن بإمكانهم استغلال الخلاف الذي حصل بين ابن عباس وعلي في أواخر عهد عليّ (بحدود سنة 40 للهجرة) عندما كان والياً على البصرة[17] فلفقوا هذه الروايات التي ترمي الى إظهار أن معاوية كان على حق وانتصاره كان حتمياً.

ومنها ايضاً ما رواه البلاذري في انساب الاشراف عن طارق بن شهاب " قال الحسن بن عليّ  لعليّ بالربذة وقد ركب راحلته وعليها رحل له رث: اني لأخشى ان تقتل بمضيعة !
فقال : اليك عني . فوالله ما وجدت الاّ قتال القوم أو الكفر بما جاء به محمد "

وهذه الرواية تندرج في اطار سلسلة الروايات التي يهدف اصحابها الى إبراز خلاف مزعوم بين الامام علي وابنه الحسن. وكأن علياً متطرّف متعصّب والحسن معتدل ومتسامح ! ومنبع هذه النظرية هو قيام الحسن بن علي بتسليم الحكم الى معاوية بعد اغتيال والده. فكانهم يريدون ان يقولوا ان الحسن كان يرى خلاف رأي ابيه منذ البداية وبالتالي ما ان استلم الحكم حتى نفذ ما يعتقده أصلاً : الخلافة لمعاوية !
وهذا الكلام كله غير صحيح , فالحسن وابوه لهما نفس الرأي والنظرة لمعاوية ولكل الأحداث التي جرت من ايام عثمان وما بعدها. وانما قام الحسن بتسليم الحكم لمعاوية مضطراً مرغما لظروفٍ لم تترك له خياراً آخر. وسنتكلم بالتفصيل عن صُلح الحسن في فصول لاحقة.
وهل يمكن ان يقول الحسن لأبيه " لأخشى أن تقتل بمضيعة " !! هذا محال.


تفنيد رواية منكرة [18]

وفي تاريخ الطبري نجد رواية[19] سيف بن عمر التي تفيد بأن الحسن بن عليّ قد أبلغ أباه أن كل مواقفه خاطئة وأنه لو أطاعه لما حصل الذي حصل:
" قال : أمرتكَ يومَ أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولستَ بها.
ثم أمرتكَ يوم قتل ألاّ تبايع حتى تأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مَصر.
ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتكَ حتى يصطلحوا فإن كان الفساد , كان على يدي غيرك.
فعصيتني في ذلك كله"[20]
وهنا يحاول سيف بن عمر أن يقوّل الحسن انه كان من الأفضل لو أن علياً لم يتصدَ للخلافة والبيعة والاكتفاء بانتظار أن تأتيه البيعة من كل الأمصار. فهل كان الحسن يظن ان معاوية والولاة الأمويين سيطاردون أباه ويلاحقونه من أجل إعطائه البيعة وهو في بيته؟! وهل الحسن من السذاجة بحيث يعتقد أن القرشيين من جماعة الشورى سيستبعدون أنفسهم ويطلبون عليا للإمارة؟!  وهل يعقل للحسن ان يطلب من أبيه الخليفة ألاّ يخرج لملاقاة طلحة والزبير وهما يحشدان ضده!
 الحقيقة أن هذه كلها رغبات وآراء سيف الذي كان يعتبر أنه كان من الأفضل لو بقي عليّ معتزلاً أمورَ المسلمين , قاعداً في بيته, تاركاً القيادة للآخرين. ولكنه قرر أن ينسب كل ذلك لابنه الحسن.
والعبارة الأخيرة التي استعملها " كان الفساد على يدي غيرك " خبيثةٌ جداً, وهي تشي بمقصد سيف الحقيقي. فهي تعني أنه ما دام عليّ قد عصى الحسنَ في ذلك, فالفساد كان على يديه هو. فغرضه أن يوحي بأن علياً هو سبب الفساد في الأرض.



الفصل الثاني : مواقف مختلف الاطراف من بيعة عليّ

موقف كبار الصحابة من بيعة علي

هناك تضاربٌ في الروايات حول بيعة كبار الصحابة , والقرشيين منهم خاصة, لعليّ. والأرجح أن يكون أبرزهم قد بايعوه بالفعل, ولكن عن غير رغبةٍ منهم , بل ربما بضغطٍ أو نوع من الإكراه من جانب الثوار.

أولاً : طلحة والزبير[21]
 المصادر التاريخية تتفق على أنهما بايعا علياً بالفعل , ولكنها متضاربة حول بيعتهما وكيف تمّت.
فهناك روايات تقول انهما بايعا بمحض ارادتهما , طائعين ومختارين , وبحماس ظاهر . ومنها :
رواية اليعقوبي في تاريخه . فقد أكد على ان علياً نال بيعة عامة وتامة وطوعية من كبار الصحابة فقال " بايعه طلحة والزبير والمهاجرون والأنصار, وكان أول من بايعه وصفق على يده طلحة بن عبيد الله. فقال رجل من بني أسد : أول يد بايعت يدٌ شلاء أو يدٌ ناقصة.
وقام الاشتر فقال : ابايعك يا أمير المؤمنين على ان علي بيعة أهل الكوفة.
ثم قام طلحة والزبير فقالا: نبايعك يا أمير المؤمنين على ان علينا بيعة المهاجرين.
 ثم قام ابو الهيثم بن التيهان وعقبة بن عمرو وأبو أيوب فقالوا : نبايعك على ان علينا بيعة الانصار , وسائر قريش"[22]  
وايضاً روى البلاذري في انساب الاشراف عن صالح بن كيسان " وكان أول من بايعه طلحة بن عبيد الله, وكانت اصبعه أصيبت يوم أحد فشلّت, فبصر بها اعرابي حين بايع فقال: ابتدأ هذا الأمر أشل. لا يتم"
وأما الطبري في تاريخه فقد أخرج عددا كبيرا من الروايات المتعارضة حول بيعة طلحة والزبير. فبعض الروايات تذكر طلحة والزبير بالاسم , بالاضافة الى عموم الصحابة والمهاجرين والانصار, على أنهم "ألحّوا" على عليّ وطالبوه برجاء شديد أن يقبل البيعة " واجتمع المهاجرون والانصار , فيهم طلحة والزبير, فأتوا عليا فقالوا : يا أبا الحسن هلمّ نبايعك. فقال : لا حاجة لي في أمركم. أنا معكم, فمن اخترتم فقد رضيت به, فاختاروا. فقالوا : والله ما نختار غيرك..." وتذكر بعض الروايات أن طلحة بيده الشلاء كان أول من بايع , مما أدى الى تشاؤم بعض الناس من ذلك!
وروى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة  نقلاً عن كتاب الجمل لأبي مخنف " فنهض الناسُ معه حتى دخل المسجد , فكان اول من بايعه طلحة. فقال قبيصة بن ذؤيب الاسدي : تخوفت ألا يتم أمره, لأن أول يد بايعته شلاء. ثم بايعه الزبير"

إلاّ أن الأرجح والأصحّ انهما فعلا ذلك مُكرهَين . وهناك الكثير من الروايات التي تؤيد ذلك :

فمثلا روى الذهبي في سير أعلام النبلاء " كان طلحة أولَ مَن بايع. أرهقه قتلة عثمان, وأحضروه حتى بايع"
وأخرج البلاذري في انساب الاشراف رواية عن أبي مخنف عن الشعبي " وأخذ طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام مفتاح بيت المال وتخلفا عن البيعة. فمضى الأشتر حتى جاء بطلحة, يتله تلاً عنيفاً, وهو يقول : دعني حتى انظر ما يصنع الناس فلم يدعه حتى بايع عليا. فقال رجل من بني أسد يقال له : قبيصة بن ذويب: أول يد بايعت هذا الرجل من أصحاب محمد(ص) شلاء. والله ما أرى هذا الأمر يتم. وكان طلحة أول من بايع من أصحاب رسول الله(ص). وبعث علي بن أبي طالب من أخذ مفاتيح بيت المال من طلحة.
وخرج حكيم بن جبلة العبدي إلى الزبير بن العوام حتى جاء به فبايع. فكان الزبير يقول : ساقني لصٌ من لصوص عبد القيس حتى بايعتُ مكرها"
وايضا روى البلاذري في انساب الاشراف من طريق الزهري "وقد بلغنا ان عليا قال لهما : إن أحببتما أن تبايعاني فافعلا. وإن أحببتما بايعت أيكما شئتما. فقالا : بل نبايعك.
ثم قالا بعدُ : انما صنعنا ذلك خشية على انفسنا . وقد عرفنا انه لم يكن ليبايعنا. ثم طمرا الى مكة بعد قتل عثمان باربعة أشهر"[23]
وكذلك روى البلاذري عن معمر عن قتادة ان علياً قال لطلحة عندما التقيا في البصرة يوم الجمل " ويحك أما بايعتني؟ قال : بايعتك والسيف على عنقي"

وفي تاريخ الطبري  روايات تذكر أن طلحة والزبير قد أجبرا بالفعل على البيعة تحت تهديد السلاح. فالزهري يروي أنه بعد أن بويع علي " أرسل الى الزبير وطلحة فدعاهما الى البيعة. فتلكأ طلحة! فقال مالك الاشتر, وسلّ سيفه, والله لتبايعنّ أو لأضربنّ به ما بين عينيك! فقال طلحة : وأين المهرب عنه؟ فبايعه, وبايعه الزبير والناس.."
 وروى سيف بن عمر "لما قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع الناس على علي ذهب الاشتر فجاء بطلحة. فقال له : دعني أنظر ما يصنع الناس. فلم يدعه. وجاء به يتله تلاً عنيفاً. وصعد المنبر فبايع...... وجاء حكيم بن جبلة بالزبير حتى بايع . فكان الزبير يقول : جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت واللج على عنقي"

وروى ابن عبد ربه في العقد الفريد ان طلحة أجاب أهل البصرة لما سألوه عن بيعته علياً في المدينة فقال" أدخلوني في حشّ, ثم وضعوا اللجّ على قَفَيّ فقالوا : بايع وإلاّ قتلناك. قوله اللج: يريد السيف. وقوله قفي: لغة طيء , وكانت أمه طائية"
وروى ابن كثير في البداية والنهاية أن مندوبي عثمان بن حنيف حينما ذهبا لاستطلاع خبر عائشة وجمعها القادمين الى البصرة " فجاءا الى طلحة فقالا له : ما أقدمك؟ فقال : الطلب بدم عثمان. فقالا : ما بايعتَ عليا؟  قال : بلى , والسيف على عنقي! ولا أستقبله إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان. فذهبا الى الزبير فقال مثل ذلك..."
وروى صاحب الامامة والسياسة ان لا الزبير ولا طلحة نفيا , حينما واجههما الناسُ في البصرة بعد بضعة شهور بإلزامية بيعتهما لعليّ, أنهما بالفعل قد بايعاه , ولكنهما سيتعذّران أنهما بايعا مجبَرين " وقال الزبير : بايعنا علياً والسيف على أعناقنا. حيث تواثب الناس بالبيعة إليه دون مشورتنا"
و"قال طلحة : دعانا إلى البيعة بعد أن اغتصبها وبايعه الناس..... وخفنا أن نرد بيعته فنقتل, فبايعناه كارهين" .


كيف يقبل عليّ بيعة الزبير وطلحة وهما مُكْرَهان ؟؟
اذن تمت بيعة طلحة والزبير بالاكراه. وإن كان من المستبعد أن يكون عليّ قد أمرَ بذلك, إلاّ أنه ولا شك كان يدرك أنهما إنما يبايعان كارهين, وقبلَ ذلك منهما لأنه لا سبيل آخر في تلك الظروف, ولأن الشكليات مهمة أيضاً وخاصة ضرورة الظهور بنوع من الوحدة من قبل صحابة الرسول(ص).
 وسوف يصرّ عليّ لاحقاً على إلزامية بيعته في أعناق الرجلين, وسوف يحتج عليهما ببيعتهما له على الملأ ولن يقبل منهما ادعاءهما بأنهما بايعا مُكرَهين. فعليّ يعتبر أنه لا يجوز نكث البيعة بعد حصولها , بغضّ النظر عن الاقتناع الشخصي للرجل المبايع وموقفه من الخليفة.

فقد كتب عليّ إلى طلحة والزبير قبيل معركة الجمل " فإن كنتما قد بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة, وإسراركما المعصية. وإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا إلى الله من قريب"[24]
وفي رواية ابن اعثم[25] أنه احتج عليهما بتاريخهما ومكانتهما في الاسلام التي تجعل عذر "الإكراه" غير مقبول من مثلهما "فإن كنتم قد بايعتم مكرهين فقد جعلتم اليّ السبيل عليكم بإظهاركم الطاعة وكتمانكم المعصية , وأنت يا زبير فارس قريش ! وأنت يا طلحة شيخ المهاجرين! ودفعكم هذا الامر قبل أن تدخلوا فيه كان أوسع لكم من خروجكم منه بعد إقراركم"

وقال أيضا عن الزبير بالتحديد :
" يزعم أنه قد بايع بيده, ولم يبايع بقلبه, فقد أقرّ بالبيعة, وادّعى الوليجة فليأتِ عليها بأمر يعرف, وإلاّ فليدخل فيما خرج منه"[26]

 وعليّ نفسه كانت سيرته مثالاً أكيداً على هذا المبدأ : فهو قد بايعَ الخلفاءَ قبله عن غير اقتناع منه ولا رغبة . وعندما أشار معاوية بن أبي سفيان مرة, في معرض القدح, إلى أن علياً كان يبايع الخلفاء قبله مُكرهاً, لم ينفِ عليٌ ذلك بالتحديد :
" وقلتَ أني كنتُ أقاد كما يقاد الجملُ المخشوش حتى أبايع. ولعمر الله لقد أردتَ أن تذمّ فمدحتَ, وأن تفضحَ فافتضحتَ! وما على المسلم من غضاضةٍ في أن يكون مظلوماً , ما لم يكن شاكّا في دينه ولا مرتاباً بيقينه. وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها..."[27]

وقد كان قاومَ الضغوط الكبيرة التي تعرّضَ لها ليبايع أبا بكر بعد السقيفة, واستمر على موقفه ذاك فترة طويلة. ولكنه بعد أن بايعَ اعتبر أن البيعة قيدٌ ملزمٌ في عنقه يستحيل الخروج عليه. وذلك تكرر مع عمر وعثمان. لم يشق عليّ عصا الطاعة ولم يدعُ إلى ثورة , وقرر اعتبار وحدة جماعة المسلمين فوق كل اعتبار. كان الشعور الداخلي بالظلم والغبن الذي تعرّض له نوعاً من التضحية التي يقدم عليها عليّ من أجل مصلحة دين محمد(ص) وأمة العرب التي وحّدَها. ولا شك أن علياً كان يذكر أن عدداً مهماً من كبار شخصيات الصحابة قد تخلفوا عن بيعة أبي بكر في أول الأمر, وعارضوا تنصيبه خليفة, ولكنهم اضطروا إلى القبول به والاعتراف بسلطته لاحقاً, بعد أن حصل على بيعة عامة من المسلمين , في المدينة. إن غياب كل بني هاشم , وعلى رأسهم عليّ والعباس, بالإضافة إلى شخصياتٍ من عيار أبيّ بن كعب, وعمار بن ياسر, وسعد بن عبادة, وأبي ذر الغفاري, والزبير بن العوام, والمقداد بن الأسود, لم ينقض بيعة أبي بكر ولم يمنعه من ممارسة سلطته.

 وكان عليّ يؤمن أن هذا هو السلوك الواجب اتباعه من قبل الصحابة لأنه لا يمكن أبداً حصول إجماع على شخص الخليفة على صعيد الاقتناع الشخصي لكل الناس. ولا بد أن يوجد من بين الناس مَن يعتقد أن شخصاً آخر أولى من الخليفة في منصبه , فما العمل؟
 الحل بنظر عليّ هو أن مَن يمنح الشرعية هم غالبية أهل المدينة المنورة والمهاجرين, وذلك قد حصل بالفعل في حالته. مع ملاحظة أن علياً هنا يخالف منهج عمر بن الخطاب في حصر الأمر في شورى بضعة أشخاص من المهاجرين القرشيين واستثناء الأنصار من ذلك تماماً.   

 ولكن لا يمكن اعتبار طلحة والزبير معفيين من اللوم ولا بريئين من مسؤولية التمرد على الخليفة وإشعال الحرب الأهلية الأولى في الإسلام بعد بضعة شهور, حتى وإن تعرضا لضغوط لكي يبايعا! لأنه ببساطة كان ممكناً لهما أن يعتذرا من عليّ عن عدم البيعة , ولم يكن عليّ ليكرههما عليها بالقوة. فمثلاً يروي الطبري أن كلاً من سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر , وعلى انفراد, قد رفضا بيعة عليّ وقالا له : " لا نبايع حتى يبايع الناس" وأنه تركهما ولم يجبرهما على البيعة. ولا يخفى أن سعد بن أبي وقاص هو نظيرٌ لطلحة والزبير , وكان ممكناً لهما أن يفعلا مثله , بدلاً من نكث البيعة العلنية لاحقاً.

وجهة النظر الشيعية
ويمكن أخذ ما رواه الشيخ المفيد في كتاب الجمل كنموذج لرؤية المذهب الشيعي لموضوع بيعة علي.وهو يبتدأ الكلام بقوله " قد ثبت بتواتر الاخبار ومتظاهر الحديث والآثار " ثم يشرع بالحديث عن امتناع علي من قبول بيعة "الصحابة" بعد مقتل عثمان, وإصرارهم بإلحاح شديد على بيعته, وأنه قرر أن "يمتحنهم" فاقترح عليهم أن يبايعوا طلحة أو الزبير " فأبى القومُ عليه تأمير من سواه , والبيعة لمن عاداه. وبلغ ذلك طلحة والزبير فصارا اليه راغبين في بيعته, منتظرين للرضا بتقدمه عليهما, وإمامته عليهما. فامتنع! فألحّا عليه في قبول بيعتهما له. واتفقت الجماعة كلها على الرضا به وترك العدول عنه الى سواه" وبدأ الناس يتزاحمون ويتدافعون من شدة حرصهم وانكبابهم على بيعته " فتمت بيعة المهاجرين والبدريين والانصار العقبيين المجاهدين في الدين والسابقين في الاسلام من المؤمنين واهل البلاء الحسن مع النبي(ص) من الخيرة البررة الصالحين" . ثم يبدأ الشيخ المفيد بعمل مقارنة بين بيعة علي – التي تمت بذلك الاجماع الكبير طوعا وايثاراً- وبيعة الخلفاء الثلاثة من قبله. فيقول بأن بيعة علي أصحّ, لأن بيعة ابي بكر انما تمت بأربعة (عمر وابو عبيدة وبشير وسالم) , وتمت بيعة عمر بواحد (وهو ابو بكر) بينما تمت بيعة عثمان بالخمسة من اهل الشورى. ومن ذلك العرض كله يريد الشيخ المفيد أن يخلص الى النتيجة التالية " ثبت فرض طاعته وحرم على كل أحد من الخلق التعرض لخلافه ومعصيته, ووضح الحق في الحكم على مخالفيه ومحاربيه بالضلال عن هدايته والقضاء بباطل مخالفة أمره وفسقهم بالخروج عن طاعته"

ثانياً : موقف سعد بن ابي وقاص و عبد الله بن عمر[28]
 يمكن القول ان هذين الصحابيين هما من أهم رموز تيار " اعتزال الفتنة " في صفوف الصحابة في تلك الفترة. وهو التيار الذي اتخذ موقفاً سلبياً من كل ما يجري ورفض تأييد أيّ من أطراف النزاع.
لا خلاف على موقفهما هذا بين كل المصادر التاريخية.
ورغم ذلك إلاّ ان هناك قولين بشأن بيعة هذين الصحابيين :
الاول , وهو ما نذهب اليه ونعتقد بصحته , انهما لم يبايعا علياً بالخلافة على الاطلاق
والثاني , انهما قد بايعاه بالخلافة ولكنهما تخلفا ( قعدا , بالتعبير القديم) عن الخروج معه للعراق والمشاركة في حروبه هناك.

والروايات التي تدعم رأينا , وهي أنهما رفضا بيعة عليّ من حيث المبدأ, كثيرة للغاية , ومنها :
اورد البلاذري في انساب الاشراف رواية ابي مخنف عن الشعبي " واتي عليٌ بعبد الله بن عمر بن الخطاب ملببا والسيفُ مشهورٌ عليه. فقال له : بايع.
فقال : لا ابايع حتى يجتمع الناس عليك.
قال : فأعطني حميلا ألا تبرح
 فقال : لا أعطيك حميلاً.
فقال الأشتر : ان هذا رجل قد أمِن سوطك وسيفك فأمكني منه.
 فقال علي : دعه , أنا حميله. فوالله ما علمته إلاّ سيئ الخلق صغيرا وكبيرا.
وجيئ بسعد بن أبي وقاص فقيل له : بايع.
فقال : يا أبا الحسن إذا لم يبقَ غيري بايعتك.
فقال علي : خلوا سبيل أبي اسحق"[29]

وكذلك رواية ابن اعثم الكوفي في كتاب الفتوح:
" وأقبل سعد بن ابي وقاص الى علي بن ابي طالب رضي الله عنه فقال : يا ابا الحسن, والله ما أشك فيك أنك على الحق, ولكني أعلم أنك تنازعُ في هذا الامر والذي ينازعك فيه هم أهل الصلاة. فإن أحببتَ أني ابايعك فأعطني سيفاً له لسانٌ وشفتان يعرف المؤمن من الكافر حتى أقاتل معك مَنْ خالفك بعد هذا اليوم!
فقال علي رضي الله عنه : يا بن نجاح يا سعد!  أترى لو أن سيفاً نطق بخلاف ما نزل به جبريل عليه السلام هل كان إلاّ شيطاناً ؟! ليس هكذا يشترط الناسُ على واليهم. بايعْ واجلسْ في بيتك. فإني لا أكرهك على شيء.
فقال سعد : حتى انظر في ذلك يا أبا الحسن.
فوثب عمار بن ياسر فقال : ويحك يا سعد ! أما تتقي الله الذي اليه معادُك؟! أيدعوك أمير المؤمنين الى البيعة فتسأله أن يعطيك سيفاً له لسان وشفتان؟! أما والله ان فيك لهنّات"

وأما الطبري في تاريخه فرغم أنه أخرج روايات تتحدث عن إلحاح عموم "الصحابة" أو "المهاجرون والانصار" على عليّ من أجل قبول البيعة, إلاّ أنه أخرج رواية عن ابن شبة يذكر فيها صراحة أن سعداً وابن عمر امتنعا عن بيعة علي بالرغم من تعرضهما الى الضغط والتهديد من قبل الاشتر, فتركهما ولم يرغمهما. والرواية هذه قريبة من رواية الشعبي لدى البلاذري.
كما أخرج رواية عن محمد بن عمر (الواقدي) يذكر فيها" بايع الناسُ عليا في المدينة , وتربص سبعة نفر فلم يبايعوه : منهم سعد بن ابي وقاص,ومنهم ابن عمر, وصهيب, وزيد بن ثابت, ومحمد بن مسلمة, وسلمة بن وقش, واسامة بن زيد"[30]

وروى ابن قتيبة في الامامة والسياسة ان عمار بن ياسر لما طالب ابن عمر بالبيعة لعلي اعترف بفضله وأحقيته ولكنه رفض بحجة انه" جاء أمرٌ فيه السيف ولا أعرفه"
واما سعد بن ابي وقاص فإنه لما اتاه عمار " أظهر الكلام القبيح "
فرجع عمار بأخبارهما الى علي فقال " دعْ هؤلاء الرهط: اما ابن عمر فضعيف , واما سعد فحسود"[31]

ويبدو أن ابن عمر كان يرى بيعة علي غير شرعية على الاطلاق! والحل بنظره هو أن يقيل عليٌ نفسه منها ويردّ الأمر شورى حسب طريقة عمر . فابنُ ابي الحديد يروي عن ابي مخنف ان ابن عمر قد رجع لعليّ في اليوم التالي لامتناعه عن بيعته واقترح عليه " أتاه في اليوم الثاني فقال : اني لك ناصح : ان بيعتك لم يرضَ بها كلهم. فلو نظرتَ لدينك ورددتَ الأمرَ شورى بين المسلمين!  فقال علي عليه السلام : ويحك! وهل ما كان عن طلب مني له ؟ ألم يبلغك صنيعهم؟ قم عني يا أحمق, ما أنت وهذا الكلام!"

وأما الرأي الثاني , الذي يقول ان سعدا وابن عمر قد بايعا علياً كخليفةٍ ولكنهما رفضا تأييده في حروبه , فتدعمه الروايات التالية:

قال ابن سعد في الطبقات الكبرى بشأن الذين امتنعوا عن بيعة علي : " قالوا : بايعه طلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمار بن ياسر واسامة بن زيد وسهل بن حنيف وابو ايوب الانصاري ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وخزيمة بن ثابت وجميع من كان بالمدينة من اصحاب رسول الله(ص) وغيرهم" وأضاف " ثم ذكر طلحة والزبير انهما بايعا كارهين غير طائعين"

والسياق الذي يورده أبو حنيفة الدينوري في أخبار المعارضين لعلي من كبار الصحابة لا يوحي بأنهم رفضوا أن يبايعوه, بل أن تلك المعارضة ظهرت حينما انتدب عليٌ الناس للخروج معه إلى العراق. واما عند تطرقه لبيعة علي فيقول " ثم قتل عثمان رضي الله عنه. فلما قتل بقي الناس ثلاثة أيام بلا إمام , وكان الذي يصلي بالناس الغافقي. ثم بايع الناسُ عليا رضي الله عنه"
وهو على كل حال لا يذكر سوى أربعة أشخاص بعينهم. ويقول انه لما سألهم عما بلغه من تقاعسهم عن الخروج معه:
" فقال سعد : قد كان ما بلغك.  فأعطني سَيفاً يعرف المسلمَ من الكافر حتى أقاتلَ به معك!"
" وقال عبد الله بن عمر : أنشدك الله أن تحملني على ما لا أعرف"
" وقال محمد بن مسلمة : ان رسول الله(ص) أمرني أن أقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون. فإذا قوتل أهل الصلاة ضربت به صخر أحد حتى ينكسر. وقد كسرته بالأمس"
وقال له أسامة بن زيد " أعفني من الخروج معك في هذا الوجه, فإني عاهدتُ الله ألاّ أقتل من يشهد ان لا إله إلاّ الله"
ويضيف الدينوري ان مالك الاشتر اقترح على عليّ أن يعاقب هؤلاء الذين يريدون التخلف عنه بالحبس ولكنه رفض وتركهم على رأيهم.

والحاكم النيسابوري (وهو من اهل الحديث)  يتبنى نظرية ان جميع الصحابة قد بايعوا علياً .
فقد قال الحاكم في المستدرك على الصحيحين " الاخبار الواردة في بيعة أمير المؤمنين كلها صحيحة مجمع عليها. فأما قول من زعم ان عبد الله بن عمر وأبا مسعود الانصاري وسعد بن ابي وقاص وأبا موسى الأشعري ومحمد بن مسلمة الانصاري وأسامة بن زيد , قعدوا عن بيعته فإن هذا قول من يجحد حقيقة تلك الأحوال"
أي أن الحاكم يذهب الى أن تلك الشخصيات التي ذكرها قد بايعت عليا بالفعل بيعة صحيحة, ولكنها قعدت عن القتال معه فلم يخرجوا معه. قال الحاكم بعد أن استعرض الروايات بشأن مواقفهم " فبهذه الاسباب وما جانسها كان اعتزال من اعتزل عن القتال مع علي رضي الله عنه وقتال من قتاله"
وقد تحدث الحاكم عن موقف ابن عمر بالتحديد, فروى عن المدائني " ما كان الناس يشكون ان ابن عمر بايع عليا على ان لا يقاتل معه, ورضي علي منه بذلك" والجديد الذي يأتي به الحاكم هنا ان بيعة ابن عمر كانت مشروطة بألاّ يقاتل , وان علياً وافق ! ولا شك ان هذه محاولة من الحاكم لتفسير موقف ابن عمر وسعد الرافض للقتال مع علي(رغم بيعتهما) , واعطائهما عذراً شرعياً.
كما اخرج الحاكم في المستدرك روايات تتحدث عن " ندم " ابن عمر وسعد لأنهما لم يناصرا علياً :
ففي رواية عن الزهري يذكر أن رجلا أقبل يسأل ابن عمر عن آية "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما .. "ويقول له انه يريد أن يقتدي به في " فرقة الناس واعتزال الشر" فامتنع ابن عمر عن إجابته. فلما انصرف قال لمن معه "ما وجدت في نفسي من شيئ في أمر هذه الآية ما وجدت في نفسي أني لم أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عز وجل"
وبشأن سعد بن أبي وقاص , فقد أخرج الحاكم النيسابوري في نفس السياق أن رجلا قال له "ان عليا يقع فيك انك تخلفت عنه" فأجابه " والله انه لرأي رأيته وأخطأ رأيي" ثم أخذ سعد يسرد مناقب ومواقفه علي التي يعرفها من زمن رسول الله(ص).

ويتفق الشيخ المفيد, الشيعي , في كتاب الجمل مع الفكرة الاساسية للحاكم , وهي ان سعداً وابن عمر قد بايعا عليا بالفعل, ولكنهما , وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة, رفضا الخروج معه الى حرب البصرة. ويؤكد الشيخ المفيد على أن هؤلاء جميعا قد بايعوا عليا طواعية وبلا لبس, وأن تقاعسهم عن الخروج معه كان لأسباب أخفوها في نفوسهم.

*****

وموقف سعد بن أبي وقاص من بيعة عليّ يثير الدهشة فعلاً!  فسعدٌ هو الأعلمُ بحقّ عليّ وفضله, وهو بالذات روى بعضاً من أهم فضائل عليّ بن أبي طالب المشهورة . وقد روى أئمة الحديث أن سعداً هو الذي شهدَ في مواقف عدة, أحدها أمام معاوية بن أبي سفيان, أن النبي (ص) قال إن منزلة عليّ منه كمنزلة هارون من موسى يوم تبوك, وأنه امتدحه وأعطاه الراية يوم خيبر , وأن آية المباهلة  نزلت في عليّ وزوجته وابنيه, وأن الرسول (ص) قد أمسك بيد عليّ أمام المسلمين يوم غدير خم وقال : مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه.
فكيف امتنع سعدٌ عن بيعة عليّ ونصرته بعد كل ما رواه؟
هل يمكن تفسير ذلك بالتزامه الراسخ بالموقف القرشيّ المبدئيّ الرافض قطعياً لوصول عليّ إلى منصب الخلافة, تحت أي ظرفٍ من الظروف؟!
فحتى على افتراض أن سعداً كان مستاءً لمقتل عثمان بتلك الطريقة العنيفة , فلا شأن لعليّ بذلك. وسعدٌ كان يعرف أن علياً ليس مسؤولاً عن سياسة عثمان التي أدّت إلى الثورة عليه.
لقد اتخذ سعدٌ موقف الحياد السلبي خلال كل الصراع الطويل الذي خاضه عليّ ضد خصومه الكثر. وكان موقفه هذا, في النهاية, نصرة فعلية لمعاويةوهو من طلقاء قريش في مكة - لأنّه ببساطة ساوى بين الطرفين من ناحية أخلاقية , وذلك غاية ما كان يطمح اليه معاوية!
لقد أجادَ معاوية استغلال موقف سعد. فمعروفٌ أن سعداً كان من طبقة أوائل المؤمنين بدعوة محمد(ص) , ومجرّد أن يتخاذل عن نصرة عليّ , وأن يتقوقع في بيته لسنواتٍ طويلة, يعني أن لديه ميلاً نفسيا ظاهراً نحو معسكر (طلقاء) قريش ضد معسكر عليّ وأهل الرسول(ص) والأنصار .
 وإن ذلك الطلب التعجيزي لسعد من عليّ حين دعاه إلى نصرته:
 " قال سعد : أعطني سَيفاً يعرف المسلمَ من الكافر حتى أقاتلَ به معك !"[32]
يعني أن سعداً أبلغ علياً أنه لن يؤيده أبداً.[33]
وهذا كله دفع عليّاً  فيما بعد إلى أن يشير الى ضغينةٍ يكنها سعدٌ له في صدره حين قال في خطبةٍ له مشهورة " ... فصغى رجلٌ منهم لضِغنِه ... "[34]

ولكن ما يُحسبُ لسعد أنه, وهو لم يبايع علياً في الأصل, لم يشترك مباشرة في قتاله وحربه وفضّل الاعتزال فيما بعد, بعكس الزبير وطلحة الذين قررا نكث بيعتهما وشنّا عليه حرباً ضروساً.  أي أنه كان اكثر صدقاً واستقامة منهما . وهو كان صنواً للزبير وطلحة , وربما يفوقهما في المزايا الاسلامية كونه كان قائداً للجيش الذي انتصر في القادسية, وكان عضواً في مجلس شورى عمر, وبالتالي لا بد أنه قد دُعي للانضمام الى حركتهما الساعية لتقويض حكم عليّ , وعلى ذلك يكون قد رفض .

ويبدو ان التزام سعد بفكرة " اعتزال الفتنة " فاق عنده كل التزام غيره , وجعله يقدمه على واجب نصرة الحق ومواجهة الباطل.



تفنيد رواية شاذة

أخرج الذهبي في سير اعلام النبلاء رواية غريبة جداً , تقول ان ابن عمر ذكر أن علياً طلب منه , وبكل إلحاح , أن يتولى منصب والي الشام! ولكنه رفض وأصرّ على الرفض حتى اضطر ان يذهب الى مكة متهرّباً من إلحاح عليّ !
فعن ابن عيينة " عن عمر بن نافع , عن ابيه عن ابن عمر قال :  بعث إليّ عليّ فقال : يا أبا عبد الرحمن! إنك رجل مطاع في أهل الشام, فسِر فقد أمرتك عليهم.
قلتُ : أذكرك الله , وقرابتي من رسول الله (ص) , وصحبتي إياه , إلاّ ما أعفيتني !
فأبى عليّ. فاستعنتُ عليه بحفصة. فأبى.
فخرجتُ ليلاً الى مكة. فقيل له : إنه قد خرج الى الشام. فبعث في أثري فجعل الرجل يأتي المربد فيخطم بعيره بعمامته ليدركني .
قال : فأرسلت حفصة : انه لم يخرج الى الشام, إنما خرج الى مكة. فسكنَ "
وهذه رواية متطرفة جدا. فهي تقول ان ابن عمر كان بايع علياً بالفعل وبكل اريحية! وإلا ّ لما كان عليٌ يؤمره على الشام, فلا يمكن أن يؤمر رجلاً رفض بيعته. والرواية أيضاً تحاول أن تقول انه كان لعلي رأي إيجابيٌ بابن عمر, بدليل اختياره لذلك المنصب. ولكن من قال ان ابن عمر كان " مطاعاً في أهل الشام " , كما ورد على لسان علي؟ كما ليس مفهوماً الى أي قرابة من رسول الله(ص) يشير ابن عمر في جوابه؟ فابن عمر من بني عدي وليس بينه وبين النبي(ص) أي قرابة. وكذلك الأمر بالنسبة الى "صحبته" لرسول الله(ص), فالنبي (ص) توفي وابن عمر شاب يافع (النبي أكبر من أبيه عمر بما يزيد على عشر سنين).
وأخيراً الرواية تريد أن تفسر مفارقة ابن عمر لعلي ولجوئه الى مكة بالقول ان ذلك لم يكن لكراهة خلافته بل فراراً من إصرار عليّ على توليته!! وذلك تعسّف ظاهر.


*****


ثالثاً : موقف أسامة بن زيد [35]
وبالإضافة إلى سعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن عمر, كان هناك مَن شاركهم في الموقف من الصحابة من أمثال أسامة بن زيد , مع اختلاف السبب الكامن وراء هذا الموقف من بيعة عليّ. فأسامة بن زيد برّر لعليّ تقاعسه عنه بأنه قد عاهدَ اللهَ أن لا يشهر سيفه بوجه إنسانٍ يقول (لا إله إلاّ الله) أبداً, بعد ذلك الموقف الذي حصلَ معه أيام الرسول(ص) حينما قتلَ رجلاً من المشركين نطقَ بالشهادتين في آخر لحظةٍ قبل قتله, فلامَه الرسول(ص) على ذلك بشدة وكررَ قوله له " هلاّ شققتَ عن قلبه؟ "[36].

روى البلاذري في أنساب الأشراف عن الشعبي " ودعا أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله(ص) إلى البيعة فقال : أنت أحب الناس إليّ, وآثرهم عندي, ولو كنت بين لحيي أسد لآحببتُ أن أكون معك. ولكني عاهدتُ الله ألاّ أقاتل رجلا يقول : لا إله إلاّ الله"
وروى ابن الأثير في أسد الغابة أن أسامة قال لعلي " لو أدخلتَ يدك في فم تنين لأدخلتُ يدي معها. ولكنك قد سمعتَ ما قال لي رسول الله(ص) حين قتلتً ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلاّ الله"
وروى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة  نقلاً عن كتاب الجمل لأبي مخنف " ثم بعث الى أسامة بن زيد فلما جاء قال له : بايع. فقال : اني مولاك, ولا خلاف مني عليك. وستأتيك بيعتي إذا سكن الناسُ. فأمره بالانصراف"
وروى الذهبي في سير اعلام النبلاء عن الزهري " لقي علي اسامة بن زيد فقال : ما كنا نعدك إلاّ من أنفسنا يا اسامة, فلم لا تدخل معنا؟
قال : يا ابا حسن ! إنك والله لو اخذتَ بمشفر الأسد لأخذتُ بمشفره الآخر معك, حتى نهلك جميعاً أو نحيا جميعاً. فأما هذا الأمر الذي أنت فيه, فوالله لا أدخل فيه أبداً"

والظاهر أن موقف أسامة كان بالفعل نابعاً من موقفه ذاك مع رسول الله(ص) الذي يبدو أنه أثر به كثيراً وولد لديه شبهة بشأن ما حصل من قتل للخليفة عثمان والظروف التي أحاطت ببيعة علي. وليس هناك شبهات بشأن علاقة مُريبة ربطت أسامة ببني أمية أيام حكمهم , رغم انه توفي عام 54 أو 58 أو 59 كما ذكر ابن الأثير في ترجمته ( بل انه ذكر حادثة شتم قبيح وجهه لأسامة مروان بن الحكم).

وخلافاً لحال اهل التاريخ فإن أهل الحديث لا يصرحون بأن اسامة قد امتنع عن البيعة بل تجد في حديثهم نوعاً من الغموض , فيصير الكلام عن تخلف اسامة عن علي في حروبه وليس عن رفضه بيعته.
روى البخاري في صحيحه ان أسامة بن زيد أرسل مولاه حرملة الى علي وقال له:
 " إنه سيسألك الآن فيقول : ما خلّفَ صاحبك؟ فقل له : يقول لك : لو كنتَ في شدق الأسد لأحببتُ أن أكون معك فيه, ولكنّ هذا أمرٌ لم أره.
فلم يعطني شيئاً . فذهبتُ الى حسن وحسين وابن جعفر فأوقروا لي راحلتي"[37]
وشرح ابن حجر في فتح الباري هذا الحديث فقال ان أسامة وهو بالمدينة بعث مولاه الى علي في الكوفة ليسأله مالاً , وجهز عذره عن تخلفه عن علي مع مولاه لعلمه أن علياً " كان ينكر على من تخلف عنه ولا سيما مثل أسامة الذي هو من أهل البيت..." ونقل عن ابن بطال قوله "أرسل أسامة الى علي يعتذر عن تخلفه عنه في حروبه.." ولم يصرح ابن حجر بأن المال الذي أرسل أسامة يطلبه ومنعه علي هو عطاؤه من بيت المال, بل نقل عن ابن التين " انما منع علياً أن يعطي رسول اسامة شيئاً لأنه لعله سأله شيئاً من مال الله فلم يرَ أن يعطيه لتخلفه عن القتال معه . وأعطاه الحسنُ والحسينُ وعبد الله بن جعفر لأنهم كانوا يرونه واحداً منهم..."

و الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين يؤكد على صحة بيعة أسامة لأمير المؤمنين علي. وهو قد أخرج هذه رواية شدق الاسد المشهورة وأتبعها بقوله " فلا أقاتل رجلا يقول الله أكبر مما نهاني عنه حتى ألقاه (ص) " فالحاكم ملتزم بنظرية أن كل الصحابة قد بايعوا عليا بالفعل ولكن بعضهم كره القتال والخروج معه, ومنهم أسامة.
وايضا ابن سعد في الطبقات الكبرى ذكر اسم اسامة من ضمن الصحابة الذين بايعوا علياً بالفعل.

موقف طلقاء قريش[38]

وأما الطلقاء وزعماء قبيلة قريش, فقد كان خير تعبير عن موقفهم من بيعة عليّ ما قاله عبد الله بن سعد بن أبي السرح لما وصله الخبر :
" فطلعَ عليه راكبٌ. فقال : يا عبد الله ما وراءك؟ خبّرنا بخبر الناس.
قال : قتلَ المسلمون عثمان.
فقال عبد الله بن سعد : إنا لله وإنا إليه راجعون.
يا عبد الله : ثم صنعوا ماذا؟
قال : ثم بايعوا ابن عم رسول الله (ص) علي بن أبي طالب.
قال عبد الله بن سعد : إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال له الرجل : كأن ولاية علي عدلت عندكَ قتلَ عثمان؟
قال : أجل." [39]

وكذلك نذكر عدو النبي (ص) القديم, صفوان بن أمية بن خلف, الذي كان عجوزاً هرماً في مكة ايام بيعة علي. ورغم ذلك فقد بذل جهداً كبيراً في التحريض ضده وساهم في حركة التمرد عليه والتي قادتها عائشة وكان على وشك الخروج معها الى البصرة ولكنه توفي.[40]

وموقف هؤلاء كان متوقعاً, وليس فيه أي مفاجأة.
ويضاف اليهم القيادات الأموية في المدينة , وبالذات مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة. فهؤلاء كانوا طبعاً معارضين لتولي علي منصب الخلافة. وبعض المصادر[41] تقول انهم بايعوا علياً " صاغرين " , وبعضها الآخر[42] يقول انهم هربوا من وجهه ولم يبايعوه.

موقف أهل المدينة : الأنصارُ مع عليّ[43]

وأبدت المدينة المنورة حماسة وبهجة لاختيار علي بن أبي طالب خليفة. فعلى سبيل المثال :
 " وقام قومٌ من الأنصار فتكلموا. وكان أول مَن تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري, وكان خطيب الأنصار, فقال : والله يا أمير المؤمنين لئن كانوا تقدموك في الولاية فما تقدموك في الدين, ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم. ولقد كانوا وكنتَ. لا يخفى موضعك ولا يجهل مكانك. يحتاجون إليك فيما لا يعلمون, وما احتجتَ إلى أحدٍ مع علمك.
ثم قام خزيمة بن ثابت[44] الأنصاري , وهو ذو الشهادتين, فقال : يا أمير المؤمنين ! ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك, ولا كان المنقلب إلاّ إليك. ولئن صدقنا أنفسنا فيك, فلأنتَ أقدم الناس إيماناً وأعلم الناس بالله, وأولى المؤمنين برسول الله. لكَ ما لهم, وليس لهم ما لكَ".[45]

وقال رفاعة بن رافع الأنصاري " ... وقد بايعناك ولم نألُ, وقد خالفك مَن أنتَ خيرٌ منه وأرضى , فمُرْنا بأمركَ"
وقال الحجاج بن غزية الأنصاري " ....يا معشر الأنصار ! أنصروا أمير المؤمنين ثانيةً , كما نصرتم رسول الله(ص). وإن الآخرة لشبيهة بالأولى ..."[46]

وروى ابن اعثم في كتاب الفتوح " فقام نفرٌ من الانصار منهم ابو الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن العجلان وخزيمة بن ثابت والحجاج بن غزية وابو ايوب خالد بن زيد " فخاطبوا الناسَ وقالوا " انكم قد عرفتم فضلَ علي بن ابي طالب وسابقته وقرابته ومنزلته من النبي(ص) مع علمه بحلالكم وحرامكم وحاجتكم اليه من بين الصحابة, ولن يألوكم نصحاً . ولو علمنا مكان أحد هو أفضل منه وأجمل لهذا الأمر واولى به منه لدعوناكم اليه.
فقال الناس كلهم بكلمة واحدة : رضينا به طائعين غير كارهين"

روى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الشعبي ان رفاعة بن رافع[47] بن مالك قال لعلي " ... ثم بايعناك ولم نألُ . وقد خالفك من أنت في أنفسنا خيرٌ منه وأرضى, فمُرنا بامرك.
وقدم الحجاج بن غزية الأنصاري فقال : يا أمير المؤمنين :
دّرَاكِها دَرَاكِها قبل الفَوت         لا وَأَلَت نفسي إن خفتُ الموت
يا معشر الأنصار ! انصروا اميرَ المؤمنين أخرى , كما نصرتم رسولَ الله (ص) أولاً . إن الآخرة لشبيهةٌ بالأولى , إلاّ أن الاولى أفضلهما"

وروى البلاذري في انساب الاشراف من طريق يحيى بن معين " انتهت بيعة عليا[48] الى حذيفة[49] وهو بالمدائن فبايع بيمينه شماله ثم قال : لا ابايع بعده لأحدٍ من قريش. ما بعده الا أشعر أو أبتر"

وطبعاً لا ننسى أهم الشخصيات الانصارية المؤيدة لعلي بن ابي طالب والمتحمسة له ,من غير هؤلاء , وبالأخص قيس بن سعد بن عبادة, وقرظة بن كعب والاخوين سهل وعثمان بن حنيف

وهؤلاء الذين ذكرت اسماؤهم هم من أكابر الانصار وزعمائهم , وهم بالتأكيد يعبرون عن الحالة العامة السائدة في المدينة. وقد بقي الأنصار مخلصين لعلي حتى النهاية , وكانوا معه بغالبيتهم الساحقة. روى اليعقوبي[50]  " وكان مع علي يوم صفين من أهل بدر سبعون رجلاً , وممن بايع تحت الشجرة سبعمائة رجل, ومن سائر المهاجرين والأنصار أربعمائة رجل. ولم يكن مع معاوية من الأنصار إلاّ النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد"[51]

التيار العثماني في صفوف الانصار [52]

ولكن التيار العثماني, من الأنصار , وكما هو متوقع, لم يكن سعيداً بوصول عليّ للخلافة. فهؤلاء القلة الذين كانوا قد استفادوا من عهد عثمان كانوا يشعرون أن امتيازاتهم ستزول على يد عليّ.
 روى ابن عساكر :
" لما بويع عليّ بن أبي طالب, بلغَه عن حسان بن ثابت و كعب بن مالك[53]  و النعمان بن بشير, وكانوا عثمانية, أنهم يقدّمون بني أمية على بني هاشم ويقولون : الشام خيرٌ من المدينة"
وقد حصل جدالٌ بين هؤلاء الثلاثة وبين عليّ , أسفر في النهاية عن قرار عليّ بطردهم من المدينة :
" أخرجوا, فلا تجاوروني في بلدٍ أنا فيه.
فخرجوا من يومهم فساروا حتى أتوا معاوية, فقال لهم : لكم الكفاية. فأعطى حسانَ بن ثابت ألف دينار وكعبَ بن مالك ألف دينار وولى النعمان بن بشير حمص , ثم نقله إلى الكوفة بعد"[54]
وقد كان حسان بن ثابت, الشاعر, هو صاحب القصيدة المشهورة التي يحث فيها أهلَ الشام ومعاوية على الثأر لعثمان والطلب بدمه :
لتسمعنّ وشيكاً في ديارهمُ                          الله أكبر واثاراتِ عثمانا
و كان معاوية كثيرا ما يردد بيتاً من الشعر فيه اتهامٌ لعليّ بقتل عثمان, حتى كاد يتخذه شعاراً :
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني               ما كان شأن عليٍّ وابن عفانا
ورغم ان ابن عبد البر في الاستيعاب لم يتحدث عن تفاصيل تخلف حسان بن ثابت وكعب بن مالك عن بيعة علي , إلاّ أنه روى شعراً لهما فيه رثاء حارّ لعثمان وتحريض على الثأر له .
ومنها قصيدة أخرى له يقول فيها :
قتلتم وليّ الله في جوف داره           وجئتم بأمرٍ جائرٍ غير مهتدِ
فلا ظفرت أيمانُ قومٍ تعاونوا        على قتل عثمان الرشيد المسددِ
وذكر قصيدة لكعب بن مالك يقول فيها :
إني رأيتُ قتيلَ الدار مضطهداَ         عثمانُ يُهدى الى الأجداث في كفنِ
يا قـاتل الله قـوماً كـان أمرُهُمُ                قـتل الإمام الزكيّ الطيب الردنِ
ما قاتلـوه علـى ذنـبٍ ألمّ بـه                   إلاّ الذي نطـقوا زوراً ولـم يكنِ

ومن الأنصار الذين امتنعوا عن بيعة علي كان زيد بن ثابت . ولكن ذلك متوقعاً لأن زيد بن ثابت كان من رجال عثمان المقربين, وهو كان قد رَفَعَ ذِكرَه حين كلفه بنسخ المصحف, وأغدقَ عليه الأموال وولاّه بيت المال.

وروى الطبري في تاريخه اسماء مجموعة أكبر من الانصار المعارضين لعليّ " بايعت الانصار عليا إلاّ نفيرا يسيرا منهم منهم حسان بن ثابت , وكعب بن مالك , ومسلمة بن مخلد, وابو سعيد الخدري, ومحمد بن مسلمة, والنعمان بن بشير, وزيد بن ثابت, ورافع بن خديج, وفضالة بن عبيد , وكعب بن عجرة. وكانوا عثمانية"[55]

وتحدث ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة عن قيام مسلمة بن مخلد الانصاري بالتصدي لوالي عليّ المعين على مصر – قيس بن سعد- ومطالبته بدم عثمان واعتزاله هو وجماعته بيعة عليّ.

وهناك انصاري آخر خذل الامام عليا : وهب بن صيفي . فقد روى البلاذري في انساب الاشراف في رواية ابي مخنف عن الشعبي " وبعث إلى وهب بن صيفي الأنصاري ليبايعه فقال : ان خليلي وابن عمك قال لي : قاتل المشركين بسيفك فإذا رأيتَ فتنة فاكسره واتخذ سيفاً من خشب واجلس في بيتك. فتركه"[56]
ولكن السياق يظهر امتناع الرجل عن نصرة علي في حربه . وليس امتناعه من بيعته.

وذكر الامام البخاري في صحيحه اسم ابي مسعود الانصاري من ضمن المتخاذلين عن عليّ. فقال "دخل ابو موسى وابو مسعود على عمار حين بعثه عليٌ الى أهل الكوفة يستنفرهم.
فقالا : ما رأيناكَ أتيتَ أمراً أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمتَ.
فقال عمار : ما رأيتُ منكما منذ أسلمتما أمراً أكره عندي من إبطائكما عن هذا الأمر"[57]
ولكن الامام الذهبي في سير اعلام النبلاء ذكر ما يفيد بأن علياً كان حسن الرأي في ابي مسعود الانصاري في أول الأمر الى درجة انه استخلفه على عاصمته لما خرج للحرب, مما يعني أنه كان قد بايعه بالفعل :
" قال خليفة : استعمل عليّ لمّا حاربَ معاوية أبا مسعود.
وكذا نقل مجالد عن الشعبي قال : فكان يقول : ما اودّ أن تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى!
قيل : فمه؟
قال : يكون بينهم صلح.
فلما قدم علي أخبر بقوله فقال : اعتزل عملنا.
قال : وممه؟
قال : إنا وجدناك لا تعقل عقله.
قال : أما أنا فقد بقي من عقلي ان الآخر شر"

وذكر ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة نقلاً عن كتاب الجمل لأبي مخنف اسم عبد الله بن سلام من ضمن الممتنعين عن بيعة علي[58]. ورغم ان عبد الله بن سلام كان متعاطفاً مع الخليفة عثمان ويروي نبوءات من التوراة (وهو في الأصل ليس انصارياً , بل يهوديّ دخل الاسلام) عن سوء مصير قتلته , إلاّ انني لا أظنه كان يجرؤ على رفض بيعة عليّ , خصوصاً في تلك الاجواء المتوترة التي تلت مقتل عثمان في المدينة. فهو كان مكروهاً من اوساط الثوار الذين وصفوه بـ "اليهودي" وشتموه. وعلى كل حال فابن ابي الحديد يتابع ليذكر رأي المعتزلة في هذا الأمر" فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم ان هؤلاء الرهط انما اعتذروا بما اعتذروا به لما ندبهم الى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل. وانهم لم يتخلفوا عن البيعة, وانما تخلفوا عن الحرب"

ومحمد بن مسلمة [59]كان من الانصار الذين تخلفوا عن عليّ.
قال البلاذري في انساب الاشراف في رواية ابي مخنف عن الشعبي:
" وبعث علي إلى محمد بن مسلمة الأنصاري ليبايع. فقال : ان رسول الله(ص) أمرني اذا اختلف الناس أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد حتى ينقطع. فإذا انقطع أتيتُ بيتي فكنتُ فيه لا أبرح حتى تاتيني يد خاطفة أو ميتة قاضية. قال : فانطلق اذا. فخلى سبيله"[60]
وروى ابن قتيبة في الامامة والسياسة ان عمار بن ياسر ذهب الى ابن مسلمة يطالبه ببيعة علي فرفض بحجة ان رسول الله(ص) امره الا يشترك في قتال المسلمين. وتضيف الرواية ان عليا فسّر لعمار موقف ابن مسلمة منه كما يلي " وذنبي الى محمد بن مسلمة أني قتلت أخاه يوم خيبر  : مرحب اليهودي"[61]
وقد كرر ابن مسلمة كلامه لعلي حين نادى في الناس للخروج إلى العراق بعد بضعة شهور " إن رسول الله(ص) أمرني أن أقاتل بسيفي ما قوتل به المشركون, فإذا قوتل أهل الصلاة ضربتُ به صخر أحُدٍ حتى ينكسر, وقد كسرته بالأمس"[62]

وختاماً لا بد من الاقرار ان التيار العثماني في صفوف الانصار ضم شخصيات مهمة من بينهم . ورغم انه لا شك كان يعبر عن الاقلية إلاّ انه لا يمكن تجاهله. وهذا يعني ان الحكم القرشي (ابو بكر – عمر - عثمان) وعلى مدى 25 عاماً قد نجح في خلق درجة معقولة من التأييد له في صفوف الانصار, خلافاً لما كانت عليه الحال عند وفاة النبي(ص) ومشكلة سعد بن عبادة.

إجمالُ موقف الانصار من عليّ[63]

كان الأنصار , في إجمالهم, يعتبرون مآل الخلافة إلى عليّ عودة للحق إلى نصابه. واجتماعهم على عليّ , رغم مخالفة قريش ومَن والاها, كان بنظرهم أمراً يشابه اجتماعهم في السابق حول رسول الله (ص) حين عاداه نفس أولئك الذين اجتمعوا ضدّه اليوم, وآباؤهم. وقد عبّر قيس بن سعد بن عبادة عن ذلك في معرض ردّه على "الأنصاري الخائن" النعمان بن بشير[64], أثناء معركة صفين حين خاطبه الأخير معاتباً له وللأنصار بسبب نصرتهم لعلي :
" إن النعمان بن بشير الأنصاري وقف بين الصفين فقال : يا قيس بن سعد: اما أنصفكم مَن دعاكم إلى ما رضي لنفسه؟ إنكم يا معشر الأنصار أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار, وقتلكم أنصاره يوم الجمل , وإقحامكم على اهل الشام بصفين. فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم علياً كان هذا بهذا. ولكنكم خذلتم حقاً ونصرتم باطلاً ثم لم ترضوا أن تكونوا كالناس حتى أشعلتم الحرب ودعوتم إلى البراز, فقد والله وجدتم رجال الحرب من أهل الشام سراعاً إلى برازكم, غير أنكاس عن حربكم. ثم لم ينزل بعليّ أمرٌ قط إلاّ هونتم عليه المصيبة, ووعدتموه الظفر. وقد والله أخلفتموه, وهان عليكم بأسكم وما كنتم لتخلوا به انفسكم, من شدتكم في الحرب, وقدرتكم على عدوكم. وقد اصبحتم أذلاء على أهل الشام, لا يرون حربكم شيئا وأنتم اكثر منهم عددا ومَدَداً. وقد والله كاثروكم بالقلة, فكيف لو كانوا مثلكم في الكثرة؟ والله لا تزالون أذلاء في الحرب بعدها ابداً, إلاّ أن يكون معكم أهل الشام. وقد أخذت الحرب منا ومنكم ما قد رأيتم , نحن أحسن بقية وأقرب إلى الظفر, فاتقوا الله في البقية.
فضحك قيس وقال : والله ما كنت أراك يا نعمان تجترئ على هذا المقام. اما المنصف المحق فلا ينصح أخاه من غش نفسه, وأنت والله الغاش لنفسه, المبطل فيم انتصح غيره. أما ذِكركَ عثمانَ فإن كان الإيجاز يكفيك فخذه: قتلَ عثمانَ مَن لستَ خيراً منه, وخذله مَن هو خيرٌ منك.
 وأما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث.
 وأما معاوية فلو أن العرب اجتمعت على بيعته لقاتلتهم الأنصار !
وأما قولك : إنا لسنا كالناس, فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله, نتقي السيوفَ بوجوهنا, والرماحَ بنحورنا حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.
ولكن انظر يا نعمان هل ترى مع معاوية إلاّ طليقا أعرابياً أو يمانيا مستدرجا؟
 وانظر أين المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان, الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؟
 ثم انظر هل ترى مع معاوية غيرك وغير صويحبك؟ ولستما والله بدريين ولا عقبيين ولا أحديين ولا لكما سابقة في الإسلام ولا آية في القرآن[65]

وبالفعل, فقد كان الأنصارُ ووجوههم موجودين مع عليّ يوم صفّين. ومن أبرز هؤلاء الصحابة الأنصار , بالإضافة إلى قيس بن سعد وخزيمة بن ثابت وثابت بن قيس بن شماس, كان أبو مسعود الأنصاري وأبو سعيد الخدري, وأبو أمامة الصدى ين عجلان, وأبو أيوب الأنصاري, وعثمان بن حنيف, وسهل بن حنيف, وسعد بن الحارث , وأبو عمرة بشير بن عمرو وغيرهم. وبعض هؤلاء استشهد في المعركة مع عليّ.[66]

وبدوره كان عليّ يكنّ حباً عظيما للأنصار. فجَعلهم خاصته ومقربيه, واعتمدَ عليهم في القيادة والإدارة, وعيّن منهم في مناصب رئيسية في حكومته. وقد وصفهم مرة لأصحابه في الكوفة فقال :
" ... وما كانوا يوم أعطوا رسول الله(ص) أن يمنعوه ومَن معه من المهاجرين حتى يبلغ رسالات ربه إلاّ قبيلتين, قريباً مولدهما, وما هما بأقدم العرب ميلاداً, ولا بأكثرهم عدداً.
فلما آووا النبي(ص) وأصحابه, ونصروا الله ودينه, رمتهم العرب عن قوس واحدة, فتحالفت عليهم اليهود, وغزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة, فتجردوا لنصرة دين الله, وقطعوا ما بينهم وبين العرب من الحبائل, وما بينهم وبين اليهود من الحلف, ونصبوا لأهل نجدٍ وتهامة وأهل مكة واليمامة, وأهل الحزن والسهل, وأقاموا قناة الدين, وصبروا تحت حماس الجلاد, حتى دانت لرسول الله(ص) العرب, ورأى منهم قرة العين قبل أن يقبضه الله عز وجل إليه.."[67]

*****
ولم ينسَ الحكام الأمويون أبدا للأنصار مواقفهم المشهودة, سواء منها الخاذلة لعثمان والمبتهجة للخلاص منه , أو الناصرة لعليّ بن أبي طالب والموالية له. فمثلاً:
 " قدِمَ عبد الملك المدينة وهو غضبانٌ على أهلها , فصلى بهم صلاة الصبح, فقرأ بهم في الركعة الأولى ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) – آية 1 من سورة محمد – و(إذا زلزلت) وقرأ في الركعة الثانية سورة الفتح و( إذا جاء نصر الله) . ثم خرج وعليه جبة خز. وكنا بين يديه نسمعه عابساً قد حفت به الحراب, وأهل المدينة يسبحون.
 فقال : يا أهل المدينة! مالكم تسبحون كأنكم أنكرتم دخولنا المسجد؟ أما والله لو قتلتكم في نواحيها لرأيتكم حلالا! الحمد لله الذي أذلكم بعد عزكم ووضعكم بعد ارتفاعكم, وانزل بكم بأسَه الذي لا يرده عن القوم المجرمين. إنما مثلكم كمثل القرية التي ضرب الله مثلها : قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رَغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.....
وقام ابن مصقلة فقال : يا أهل المدينة ! شاهت الوجوه. أنتم والله أخبث الناس أنفساً وأخبث حجراً ومدرا"[68]

*****

موقف الأمصار من بيعة عليّ

خلال الأشهر الأولى التي تلت مقتل عثمان , نجح عليّ في الحصول على الاعتراف به في معظم الأمصار .
أولاً : البصرة[69]
 قبلت البصرة الوالي الجديد لعليّ : عثمان بن حنيف[70] الأنصاري, دون مشاكل كبيرة, بعد أن تركها والي عثمان عبد الله بن عامر. وجديرٌ بالذكر أن والي عثمان, ابن عامر, حاول جسّ نبض أهل البصرة فيما لو حاول إعلان العصيان على الخليفة الجديد ولكنه تلقى جواباً سلبياً جعله يقرر المغادرة إلى الحجاز:
قال ابن حبان في كتاب الثقات" وبلغ أهلَ البصرة قتل عثمان. فقام ابن عامر فصعد المنبر فخطب وقال : إن خليفتكم قتل مظلوماً, وبيعته في أعناقكم, ونصرته ميتاً كنصرته حياً, واليوم ما كان أمس. وقد بايع الناس علياً, ونحن طالبون بدم عثمان, فأعدوا للحرب عدتها!
فقال له حارثة بن قدامة : يا ابن عامر : إنك لم تملكنا عنوة. وقد قتل عثمان بحضرة المهاجرين والأنصار وبايع الناس علياً, فإن أقرّكَ أطعناك, وإن عزلكَ عصيناك"[71]
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن سعد ان ابن عامر لما علم بمقتل عثمان " حمل ما في بيت المال واستعمل على البصرة عبد الله بن عامر الحضرمي ثم شخص الى مكة فوافى بها طلحة والزبير وعائشة"
والطبري في تاريخه  لا يورد سوى رواية سيف بشأن تعيين عثمان بن حنيف على البصرة من قبل علي , وفيها "وأما عثمان بن حنيف فسار فلم يرده احد عن دخول البصرة ولم يوجد في ذلك لابن عامر رأي ولا حزم ولا استقلال بحرب. وافترق الناس بها : فاتبعت فرقة القوم , ودخلت فرقة في الجماعة, وفرقة قالت ننظر ما يصنع اهل المدينة فنصنع كما صنعوا"
ولكن البلاذري يشير الى ان والي علي المعيّن على البصرة قام بالقاء القبض على خليفة والي عثمان في البصرة مما يشير الى نوع من التوجس من تحركات جماعة نظام عثمان :
"وولى عليٌ عثمان بن حنيف الانصاري البصرة فوجد بها خليفة عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن عبد شمس , وهو ابن عامر الحضرمي حليف بني عبد شمس, فحبسه وضبط البصرة"

ثانياً : الكوفة[72]

اعترفت الكوفة بعليّ وبايعته بعد أن قام عليّ بتثبيت أبي موسى الأشعري, وهو الوالي الذي كانت قد اختارته وفرضته على عثمان. وكان تعيين عليّ له بناءً على نصيحة مالك الأشتر الذي قال له إن أهل الكوفة به راضون.
فأخذ أبو موسى بيعة أهل الكوفة لعليّ وكتب له " أما بعد, فقد قرأتُ كتابكَ, ودعوتُ من قبلي المسلمين, فسمعوا وأطاعوا"[73]

واخرج ابن اعثم الكوفي في فتوحه رواية توضح مدى شعبية علي بن ابي طالب في الكوفة الى درجة اضطرت واليها القائم بالاعمال ابا موسى الاشعري الى مبايعة علي:
" وبلغ اهل الكوفة قتل عثمان وبيعة الناس لعلي بن ابي طالب رضي الله عنه فقامت الناس الى اميرهم ابي موسى الاشعري فقالوا : ايها الرجل لم لا تبايع عليا وتدعو الناس الى بيعته فقد بايعه المهاجرون والانصار؟
فقال فأنشأ رجل من اهل الكوفة ابياتا مطلعها
ابايع غير مكتتك عليا    *****   وان لم يرض ذاك الاشعريا
الى آخره.
قال وأقبل هاشم بن عتبة بن ابي وقاص الى ابي موسى الاشعري فقال : يا ابا موسى ما الذي يمنعك ان تبايع عليا؟
فقال: اتظر الخبر
قال: وأي خبر تنتظر وقد قتل عثمان؟ اتظن انه يرجع الى الدنيا؟ إن كنت مبايعا لأمير المؤمنين وإلا فاعتزل امرنا! ثم انشأ ابياتا مطلعها:
ان ابن عفان اذ أودى بشقوته   ****   طغى فحل به من ذلكم غير
الى آخره.
قال : ثم ضرب هاشم بن عتبة بيده على الاخرى وقال : لي شمالي ويميني لعلي بن ابي طالب.
فلما قال هاشم ذلك وثب ابو موسى الاشعري فبايع ولم يجد بداً من ذلك
قال : وبايعت اهل الكوفة عليا رضي الله عنه بأجمعهم وانشأ هاشم بن عتبة ابياتا مطلعها:
ابابعه في الله حقا وما انا  ****   ابايعه مني اعتذارا ولا بطلا
الى آخره" [74]

ثالثاً : اليمن[75]

ذكر ابن اعثم في كتاب الفتوح ما يفيد انه كانت هناك حماسة لمبايعة علي بن ابي طالب أميراً للمؤمنين. فقد قال ان وفوداً من اليمن أقبلت لاعلان الطاعة والبيعة لعلي في المدينة :
" وبلغ ذلك أهل اليمن فبايعوا طائعين غير مكرهين. ثم انهم قدموا عليه يهنونه بالخلافة" ثم يذكر ابن اعثم اسماء رؤساء الوفود اليمانية :
" فأول من قدم عليه رفاعة بن وائل الهمداني في قومه من همدان,,,,
وقدم عليه كيسون بن سلمة الجهني في قومه من جهينة,,,
ثم قدم عليه رويبة بن وبر البجلي في قومه من بجيلة,,,,
فأقبل رؤساء القوم منهم العياض بن خليل الازدي,,,
ورفاعة بن شداد الخولاني,,,
وهشام بن أبرهة النخعي,,,
وجميع بن خيثم الكندي,,,
والاخنس بن قيس العتكي ,,,
وعقبة بن النعمان النجدي,,,
وعبد الرحمن بن ملجم المرادي"
وهذه الاسماء التي ذكرها ابن اعثم هي لأشخاص من كبرى القبائل في اليمن كما هو ظاهر. مما يشير الى اتساع قاعدة التأييد لعلي هناك. وقد أورد ابن اعثم ابياتاً شعرية حماسية قالها رؤساء الوفود تأييداً لعليّ واتهاجاً ببيعته.
وليس هناك ما يمنع من تصديق رواية ابن اعثم هذه.

واستقبلت اليمن واليها الجديد المرسل من قبل علي, عبيد الله بن عباس, وأعطته البيعة :
قال ابن حبان في كتاب الثقات" وأما عبيد الله بن عباس فإنه خرج منطلقاً إلى اليمن , لم يعانده أحد ولم يصدّه عنها صادّ , حتى دخلها فضبطها لعليّ ".
 وفرّ واليها القديم  يعلي بن أمية  إلى مكة بعد أن انتهب بيت مالها.
قال الطبري في تاريخه من رواية سيف " وانطلق عبيد الله بن عباس الى اليمن. فجمع يعلي بن أمية كل شيء من الجباية وتركه وخرج بذلك وهو سائر على حاميته الى مكة فقدمها بالمال"

رابعاً :مصر[76]
 قبلت مصر والي عليّ, قيس بن سعد بن عبادة, ودانت له, رغم وجود نواة من المتربّصين ذوي النزعة العثمانية, الذين بقوا معتزلين, ولكن مسالمين.
وبشأن دخول قيس لمصر لا يوجد في تاريخ الطبري سوى رواية سيف وفيها "افترق اهل مصر فرقاً : فرقة دخلوا في الجماعة وكانوا معه, وفرقة وقفت واعتزلت الى خربتا وقالوا إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم وإلاّ فنحن على جديلتنا حتى نحرك او نصيب حاجتنا , وفرقة قالوا نحن مع علي ما لم يقد اخواننا وهم في ذلك مع الجماعة"
وقال ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة من رواية الكلبي ان قيس بن سعد جمع اهل مصر وتلا عليهم كتاب تكليفه من قبل عليّ " فقام الناس فبايعوا , واستقامت مصر وأعمالها لقيس وبعث عليها عماله. إلاّ ان قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان , وبها رجل من بني كنانة يقال له يزيد بن الحارث , فبعث الى قيس: إنّا لا نأتيك فابعث عمالك, فالأرض أرضك , ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر الى ما يصير امر الناس"
ثم تحدث ابن ابي الحديد عن تململ في صفوف بعض ذوي النزغة العثمانية وبداية مطالبات بالثأر لدم الخليفة " ووثب  مسلمة بن مخلد بن صامت الانصاري فنعى عثمانَ ودعا الى الطلب بدمه. فأرسل اليه قيس : ويحك ! أعليّ تثب ؟! والله ما أحب ان لي ملك الشام ومصر وأني قتلتك. فاحقنْ دمك. فأرسل اليه مسلمة : اني كافّ عنك ما دمت انت والي مصر"
ولخص موقف قيس من المعارضين " وكان قيس بن سعد ذا رأي وحزم. فبعث الى الذين اعتزلوا : اني لا أكرهكم على البيعة. ولكني أدعكم وأكف عنكم. فهادنهم , وهادن مسلمة بن مخلد, وجبى الخراج وليس أحد ينازعه"
وسوف تثبت الايام ان هؤلاء "المتربصين" من ذوي النزعة العثمانية والذين تجنب قيس الاصطدام بهم سيكون لهم تأثير كبير على مجريات الأمور في مصر في ظل احتدام الصراع بين علي ومعاوية بعد فترة قليلة. فرغم ان هؤلاء حتى تلك اللحظة كانوا مستقلين تماماً عن معاوية الاّ انهم بلا شك سيكونون حلفاء طبيعيين له في معركته ضد عليّ. ولن يجد معاوية صعوية كبيرة في استقطابهم الى جانبه والاستفادة منهم في تقويض سيطرة عليّ على مصر. 


خامساً : مكة[77]
ومكة هي وكر قريشٍ وأصلها, وكما هو متوقع فلم تبايع علياً. وزاد من نفور مكة التلقائي من عليّ, تأثير عائشة ودعوتها المعادية له. كان موقف أهل مكة , القرشيون, من بيعة علي بن أبي طالب, هو الرفض التام, بالإجماع, منذ البداية:
روى البلاذري في انساب الاشراف " لما بايع الناس علياً, كتبَ إلى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يؤمره على مكة, وأمَرَه بأخذ البيعة له.
فأبى أهل مكة أن يبايعوا علياً.
فأخذ فتى من قريش يقال له عبد الله بن الوليد بن زيد بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس الصحيفة فمضَغها وألقاها, فوطئت في سقاية زمزم"

كما ان مكة في تلك الفترة كانت قد تحولت الى مركز تجمع لأفراد العائلة الأموية , وولاة عثمان الهاربين.
وكان ثقل مكة وأهميتها معنوية فقط. فليس فيها من الإمكانات المادية ما يجعلها ذات قيمة اقتصادية أو عسكرية هامة. ومكة عندما رفضت خلافة عليّ لم تنضوِ تحت قيادة واضحة محددة , بل بقيت مجموعات متعددة بمرجعيات مختلفة. ويمكن القول انها بقيت بلا أمير وخرجت عن السلطة المركزية للخليفة في المدينة المنورة.
 ولن يتمكن عليّ من الحصول على بيعة مكة إلاّ بعد انتصاره في معركة الجمل, فعيّن عليها ابن عمه قثم بن العباس.



سادساً : الشام[78]
بقيت الشام, حيث معاوية بن أبي سفيان, هي العقبة الكأداء في وجه عليّ.
وقد كان لعلي موقفٌ مبدأيّ تجاه معاوية وأقرانه من ولاة بني أمية : العزل فوراً من مناصبهم , فلن يستعملهم  ولو ساعة من نهار!
 روى الطبري من طريق الواقدي ان علياً ردّ على اقتراح المغيرة بن شعبة بتثبيت معاوية وابن عامر بقوله " والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا ولّيت هؤلاء , ولا مثلهم يُولى" وكذلك قال لابن عباس " واما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان فوالله لا أولي منهم احدا ابدا, فإن اقبلوا فذلك خير لهم وان أدبروا بذلت لهم السيف". وفي رواية ابن كثير ان ابن عباس قال لعليّ " اكتبْ معي الى معاوية , فمنّهِ وعِدْه ! فقال علي : والله ان هذا ما لا يكون ابداً "
وهذه الرواية هي أصدق تعبير عن رأي عليّ , رجل المبادئ, وهي الصحيحة.

 فأرسلَ عليّ مبعوثاً يطلب البيعة من معاوية , وبدون شروط. وكان نصّ كتاب عليّ له :
" من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان:
أما بعد. فقد علمتَ إعذاري فيكم, وإعراضي عنكم حتى كان ما لا بدّ منه ولا دفعَ له. والحديث طويل والكلام كثير. وقد أدبرَ ما أدبرَ وأقبلَ ما أقبلَ. فبايع مَن قِبلك وأقبل عليّ في وفدٍ من أصحابكَ"[79]

ولكن معاوية أمسكه لفترة من الزمن, ثم أطلقه عائداً بلا أي جواب, بل اكتفى معاوية بأن قال له "انصرف الى صاحبك , فإن كتابي مع رسولي على اثرك[80]" !

فقرر عليّ تعيين والٍ جديد, وهو سهل بن حنيف الأنصاري, وأرسله الى الشام. ولكن لم يسمح له معاوية حتى بالوصول إلى الشام, فردّه جنوده إلى المدينة حين وصل إلى تبوك. روى ابن الأثير في الكامل " فأما سهل فإنه خرج حتى اذا كان بتبوك لقيته خيلٌ فقالوا : من انت ؟ قال : أمير. قالوا : على أي شيئ؟ قال : على الشام. قالوا : إن كان بعثك عثمان فحيّ هلا بك وإن كان بعثك غيره فارجعْ. قال : أوما سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى. فرجع الى عليّ "

وسرعان ما وصل رسول معاوية الى عليّ ! ولكنه كان يحمل رسالة فارغة ! فعندما فض عليّ الكتاب الذي ارسله معاوية لم يجد فيه سوى البسملة و "من معاوية بن ابي سفيان الى علي بن ابي طالب" ! ويبدو ان معاوية اراد بهذه الحركة المثيرة جذب اهتمام اهل المدينة الذين كان وجهاؤهم حاضرين في حضرة علي. وبالفعل لما التفت عليّ الى مندوب معاوية مستفسراً عن هذه الرسالة أجابه الرجل (وكان يؤدي دوره المرسوم من سيده) بعد ان طلب الامان " اني قد خلفت بالشام خمسين الف شيخ خاضبي لحاهم بدموع اعينهم تحت قميص عثمان, رافعيه على اطراف الرماح, قد عاهدوا الله الا يشيموا سيوفهم حتى يقتلوا قتلته أو تلحق ارواحهم بالله"[81]
وأما رواية ابن الاثير في الكامل فتقول ان رسول معاوية لما وصل المدينة رفع عالياً "الطومار" المختوم من معاوية حتى يعلم اهل المدينة ان معاوية معترض, وان علياً لما وجد الرسالة الخالية سأل المندوبَ
 " ما وراءك؟ 
قال : آمنٌ أنا؟
قال : نعم. ان الرسول لا يقتل.
قال : ورائي اني تركتُ قوماً لا يرضون إلاّ بالقود.
قال : ممن ؟
قال : من خيط رقبتك!  وتركتُ ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوبٌ لهم قد ألبسوه منبرَ دمشق"

اذن كانت هذه طريقة معاوية لاعلان نواياه وايصال رسالته الى المدينة واهلها : انه لن يدخل في طاعة الخليفة الجديد ولن يسمح ان يمر حدث بحجم مقتل عثمان مرور الكرام.[82]

و " قميص عثمان " هذا قد صار مثلاً متداولاً في العربية, للتعبير عن استغلال أمرٍ لمآرب وأطماع غير معلنة. وأصلُ المثلُ هو قيام معاوية بعرض قميص عثمان الملطخ بالدماء على عامة أهل الشام لتحريضهم واستدرار عاطفتهم والحصول على دعمهم.
فقد قامت نائلة بنت الفرافصة , زوجة عثمان, أو ام حبيبة بنت ابي سفيان , أخت معاوية, بإرسال القميص الذي قتل الخليفة وهو يرتديه , مرفقاً بخصلةٍ من لحيته, أو بأصابع نائلة التي قطعت من قبل المهاجمين, الى الشام حيث معاوية, لينشره في المسجد الكبير هناك أو ليرسله الى أصقاع الشام , من أجل حشد التأييد لقضيته في أوساط اهل الشام ومقاتليها.
وهذه رواية ابن عساكر في تاريخ دمشق " فلما قتل عثمان كتبت نائلة ابنة الفرافصة الى معاوية كتاباً تصف فيه كيف دخل على عثمان وكيف قتل, وبعثت اليه بقميصه الذي قتل وهو عليه , فيه دمه.
فقرأ معاوية الكتاب على اهل الشام . وأمر بقميص عثمان فطيف به في أجناد الشام ونعى اليهم عثمان وأخبرهم بما أتي اليه و استحل من حرمته وحرضهم على الطلب بدمه .
فبايعوه على الطلب بدم عثمان"
وفي رواية أخرى لابن عساكر ان ام حبيبة زوجة النبي(ص) بعثت مع النعمان بن بشير الى معاوية " بقميصه مضرجاً بالدم وبخصلة الشعر التي نتفت من لحيته , فعقدت الشعر في زر القميص ,,, فصعد معاوية المنبر وجمع الناس ونشر القميص وذكر ما صنع بعثمان ودعا الى الطلب بدمه .
فقام اهل الشام فقالوا هو ابن عمك وانت وليّه ونحن الطالبون معك بدمه. فبايعو له"
واما ابن الاثير في الكامل فقال ان النعمان بن بشير حمل الى معاوية أصابع نائلة المقطوعة بالاضافة الى القميص المخضب بالدماء " فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الاصابع, فاذا رأى ذلك اهل الشام ازدادوا غيظا وجدا في أمرهم, ثم رفعه. فاذا أحسّ منهم بفتور يقول له عمرو بن العاص : حرك لها حوارها تحنّ. فيعلقها"

ولكن لم تكن لمعاوية الصفة الشرعية للقيام بأية مبادرة علنية فاعلة , سوى الامتناع عن الاستجابة لطلب علي. فحتى تلك اللحظة كان هو مجرد والٍ معيّن على إقليمٍ من بلاد المسلمين . ولم يكن له ماضٍ إسلامي مشرف يؤهله للمنافسة على المنصب الأعلى في دولة الاسلام. وكان هناك قادة آخرون أكثر منه تمثيلاً بكثير في عالم الاسلام.
كان معاوية ينتظر, ويتوقع,  أن تكونَ الحركة الاعتراضية الأولى ضد عليّ صادرةً من غيره, من أوساط الصحابة ذوي الشرعية. وهذا ما كان.

رسائل معاوية[83]

ولكن معاوية لم يكتفِ بالانتظار السلبي , بل ان هناك مؤشرات تشير الى انه بدأ الاستعداد مبكراً للمواجهة الكبرى ضد الخليفة الجديد. وعلى الأقل فقد بدأ في محاولة تحريض الجهاز الأموي الذي كان حاكماً ايام عثمان , وبدأ يبرز شيئاً فشيئاً كقطب الرحى أو مركز تكتل قيادات بني أمية التي كانت ترى الدنيا أظلمت بوصول علي بن ابي طالب للخلافة.
بدأ معاوية يبرز كباعثٍ للأمل في أوساطهم بأن المعركة لم تحسم بعد وأن هناك إرادة وقوة حقيقية للتصدي لعلي موجودة في الشام .
راسلهم معاوية ليقول لهم : انهضوا يا اخوتي واستعدوا لقادم الايام .
وسوف نستعرض هنا مجموعة من الرسائل المتبادلة بين معاوية وبقية القيادات الاموية[84] . وقد أثبتنا نصوصاً طويلة هنا :

كتب معاوية الى مروان بن الحكم :
" اما بعدُ ، فقد وصل اليّ كتابُكَ بشرحِ خبر قتل امير المؤمنين عثمان، وما رَكبوه به ونالوه منه جَهْلاً بالله وجرأةً عليه ، واستخفافاً بحقِّهِ ، ولأماني لوّحَ الشيطان بها في شركِ الباطل ليُدهْدهِم في أَهْويَّاتِ الفِتَن ، ووَهداتِ الضلال ، ولعمري لقد صَدقَ إِبليسُ عليهم ظَنَّهُ ، اقتَنَصَهم بأنشَوطة فَخِّه ، فعَلَى رسْلِك يا عبدالله تَمشي الهُوَيْنَى وتكون اَوّلا ، فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفَهْد الذي لا يصطاد إلا غيلةً ، ولا يتشازر الا عند حيلة ، وكالثعلب لا يُفلِت الا رَوَغاناً ، وأخْفِ نفَسك منهم اخفاء القُنْفُذ رأسَه عند لمسِ الأكُفّ ، وامتهِنْ نَفَسك امتهانَ مَن ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن أمورهم بَحْثَ الدّجاج عن حَبِّ الدُّخَن عند فقاسها ، وأنغل الحجاز فأني مُنغل الشام ، والسلام ."[85]
ورد عليه مروان :
" اما بعدُ ، فقد وَصَلَ اليّ كتابك ، فنعمَ كتابُ زعيم العشيرة ، وحامي الذِّمارِ ,,,,  وانا على صحة نيَّتَي ، وقوة عزيمتي ، لتحريك الرحم لي وغليان الدم مني. غير سابقك بقولٍ ، ولا متقدّمك بفعلٍ ، وانت ابنُ حرب وطلابُ التِّراتِ[86]، وابي الضّيم ، وكتابي إليك وانا كحَرْباء السَّبْسَب في الهجير ترقُب عين الغزالة ، وكالسَّبُع المُفلِت من الشرك يَفْرَق من صوت نفسه[87]، منتظراً لِمَا تَصِحُّ به عزيمتك ، ويَرِدُ به امرك فيكون العمل به والمحتذى عليه"

وكتب الى عبد الله بن عامر بن كريز :
" ,,,,,  فكأني بكم يا بني أميَّة شعارير كالاوراق تقودها الحُداة، أو كَرخَم الخَنْدَمة تَذْرِفُ خوفَ العُقاب[88] ، فثب[89] الآن قبل ان يستشري الفساد ، ونَدبُ السَّوْطِ جديد ، والجُرْحُ لمَّا يَنْدَمِل ، ومن قبل استضراء الأَسَد ، والْتقَاءِ لحيْيهِ على فريستهِ ,,, ونازل الرأي ، وانَصِب الشَّرَك ، وأرمِ عن تمكن ,,,  واجعل اكبر عُدَّتك الحذَرَ ، وَأَحَدَّ سَلاحِك التحريضَ ,,,, وأزْحَفْ زَحْفَ الحَيَّة ، وإسبق قبل أَن تُسْبَقَ ، وقُمْ قبل ان يقامَ لك ، واعلم أنّك غيرُ مَتروك ولا مُهْمَل ، فأني لك ناصح امين ، والسلام."
فأجابه ابن عامر :
" اما بعدُ ، فإنّ امير المؤمنين كان لنا الجَناح الحاضِنةَ تأوي إليها فراخها تحتها ، فلما أقصده السهمُ صرنا كالنعام الشاردِ ، ولقد كنتُ مشرَّد الفكر ، ضال الفهم ، التمِسُ دريّة استجنُّ بها من خَطَأ الحوادث[90] ، حتى وقعَ اليَّ كتابُك ، فأنتبهت من غفلة طار فيها رُقادي ، فأنا كواجد المحجةِ كان الى جانبها حائراً. وكأني اُعاينُ ما وصفت من تصرُّف الاحوال.
 فالذي أخبرك به ان الناس في هذا الامر : تسعةٌ لك ، وواحد عليك ، ووالله ان الموت في طلب العزِّ احسن من الحياة في الذلِّة. وأنت ابنُ حَرْبٍ فَتَى الحروب ، ونصَّار بني عبد شمس ، والهِمَمُ بك منوطةٌ لأنّك مُنهضُها ، فإذا نهضتُ فليس لنا التخلف عنك ، بل ولا لأحدٍ من الناس القُعود حين نهوضك. وانا اليوم على خِلاف ما كانت عليه عزيمتي من طلب العاقبة ، وحُبِّ السلامة قبل قرعِك سُويداء القلب بسَوْط الملام. ولنعْمَ مؤدِّب العشيرة انت ، وإنّا لنرجوك بعد عثمان كهفاً لنا ، نتوقع لوعدك ، نترقب لامرك وما يكون منك لأمتثله واعمل عليه ، إن شاء الله تعالى "
وكتب الى الوليد بن عقبة بن ابي معيط :
" ,,, الا انّ أخاك عثمان[91] أصبحَ منك بعيداً ، فصرتُ بعده مزيداً ، فأطلب لنفسك ظلاً تأوي إليه فتستكنُّ به ، فأني اراك على التراب رقُودا ، وكيف بالرُّقادِ بك ؟ لا رُقادَ لك ! فلو قد استتبَّ هذا الامر لِمُريده اُلْفِيتَ كشريد النعام يفزَع من ظلّ الطائِر ، وعن قليل تشربُ الرَّنق[92]، وتستشعر الخوف. ألا وانّي أراك فسيحَ الصَّدر ، مُسترخي اللَّبَب ، رَحُوَا الحِزام ، قليلَ الاكتراث ، وعن قليل يُجتَث أَصْلُك ، والسلام"
فأجابه الوليد :
" اما بعدُ ، فإنّك ابنُ حرب وسيدُ قريش ، واكملهم عَقْلاً ، واحسنهم فَهْماً ، واصوبهم رأياً ، واعرفهم لحُسن السياسة ، إذ انت معدن الرِّياسة ، تُورِد بمعرفةٍ ، وتُصْدر عن مَنْهَلٍ رويّ ، مُنَاويك كالمنقلب من العيون ، تهوي به عاصفُ الشِّمال في لُجَّةِ البحر.
,,, فملأتُ بطني على حرام إلا مُسكةَ الرَّمق ، حتى اَفْرِي أوْداجَ قَتلةِ عُثمان فرْيَ الأهُبَ بشبا الشفار[93]. واما اللّينُ فهيهاتَ ، إلا خُفيةَ الموت إذ يرتقبُ غفلة الطالب ، فإنا على مُداجاةٍ [94] ولم نُبدِ صَفَحاتنا بعدُ ، وليس دون الدَّم بالدم مَزْحَل. إذ لا يخفى عند ذوي المعرفة والمروءة ان العار منقصة والضعفَ ذلّ.  أيَخْبطُ قتلة عثمان زهوة الحياة الدنيا ، ويسقون برد العين ، ولما يمتطوا الخوف ، ويستحلسوا الحذر؟  ,,,,, لا دُعيتُ لعقبة ! ان كان ذلك ، حتى انصب لهم حرباً ، تضع الحوامل لها اطفالها ,,, وقد عَقلتُ نفسي على الموت عقل البعير ، واحتسبتُ اني قتيل ثاني بعد عثمان أو أقتل قاتله!
فعجل عليَّ ما يكون من رأيك.، فإنا منوطون بِكَ متبعون عقبك .  ولم احسب الحالَ يتراخى بك الى هذه الغاية لما أخافهُ من إحكام القوم أمرهم . والسلام عليك."[95]
وارسل معاوية الى يعلي بن أمية :
",,, كتبتُ اليك صبيحةَ وَرَدَ عليَّ كتابُ مروان بن الحكم ، يخبرني بأستشهاد أمير المؤمنين وشْرحِ الحال فيه . وانّ امير المؤمنين طالَ بهِ العمر حتى نقصت قُواه ، وثقُلت نهضتهُ ، وظهرت الرِّعْشة في اعضائه ، فلما رأى ذلك منه اقوامٌ لم يكونوا عنده موضعاً للامامةِ والامانة ، وتقليد الولاية ، وثبوا به وألَّبوا عليه ، فكان اعظم ما نقموا عليه وعابوه به ، ولايتُك اليمن ، وطول مدّتك عليها ، ثمّ ترامى بهم الامر حالاً بعد حال ، حتى ذبحوه ذَبْحَ النَّطيحةِ مبادراً بها الموتُ ، وهو مع ذلك صائم، معانقٌ المصحفَ ، يتلو كتاب الله تعالى. عظُمت مصيبةُ الاسلام بصهر الرسول ، والامام المقتول على غير جُرْمٍ سفكوا دمه ، وانتهكوا حُرْمته ، وانت تعلم ان بَيعتَهُ في أَعناقِنا ، وطلب ثأرهِ لازمٌ علينا ، فلا خيرَ في دنيا تعدلُ بنا عن الحقِّ ,,, واعلم ان القوم قاصدُوك بادئَ بَدْءٍ ، لاستنزاف ما حوتهُ يداك من المال ، فأعلم ذلك واعمل على حَسَبِه"
فأجابه يعلي :
" اما بعدُ ، فانا وانتم بني اميّة كالحَجر ، الذي لا يُبْنَى بغير مَدَر (٢)، وكالسّيفِ لا يقطع الا بضاربه. وصلَ اليّ كتابك يخبرنا بخبر القوم وحالهم ، فلئن كانوا ذبحوه ذبحَ النطيحة بُودِرَ بها الموتُ ، فوالله لنخرجنّ ذابحه ، ولننحرنه نحر البدنه وافى بها الهَدْيُ الاجل !
ثكلتني من انا ابنها ان نمتُ عن طلب وتر عثمان أو يقال : لم يبق فيه رمق. اني أرى العيش بعد قتل عثمان مرا. إن أدلج القوم فاني مدلج. وان كان قصدهم ما حوته يداي من المال ، فالمال أيسرُ مفقود ان دفعوا الينا قتلة عثمان، وان أبوا ذلك ، أنفقنا المال على قتالِهِم ، وانّ لنا واياهم لمعركةً نتناحر فيها نحر الجزَّار النقائع عن قليل تصلّ لحومها"
وكتب معاوية الى سعيد بن العاص :
" اما بعدُ ، فقد ورد عليّ كتاب مروان بن الحكم من ساعةٍ حين وقعت النازلةُ  ,,, ومروان الرائدُ لا يكذبُ أهله ، فعلام الافكاك يابن العاص ولات حين مناص ؟ ذلك انكم يا بني اميّة عمَّا قليل تسألون أَدْنى العيش من ابعد المسافة ، فَيُنكِرُكم من كان بكم عارفاً ، ويصدُّ عنكم مَن كان لكم واصِلاً ، متفرقين في الشعاب ، تتمنون لماظة االمعاش.
الا وان امير المؤمنين عُتِبَ عليه فيكم ، وقُتِلَ في سببكم ، ففيمَ القعود عن نُصرته ، والطلب بدمهِ ! وانتم بنو ابيه ، وذوو رحمه وأقربوه وطُلاب ثأره ، فأصبحتم مستمسكين بشظف معاشٍ زهيدٍ عما قليل يُنزع منكم عند التخاذُل وضعْفِ القُوى.
فإذا قرأت كتابي هذا فدِبّ دبيبَ البُرء في الجسد النَحيف ، وسَرّ سير النجوم تحت الغمام ، واحشدُ حشد الذرة في الصّيف لأنجحارها في الصّرد ,,,"
وكان جواب سعيد مختلفاً عن بقية زملائه من القيادات الاموية :
" اما بعدُ ، فإنّ الحزمَ في التثبّت ، والخَطأ في العَجلة ، والشُّؤم في البدار ,,,  ذَكرتَ حق أمير المؤمنين علينا وقرابتنا منه ، وانه قُتل فينا : فخَصلتان ذكْرُهما نقصٌ ، والثالثة تكَذُّبُ ! وامرتنا بطلب دمه ، فأيُّ جهة نسلُك فيها ابا عبد الرحمن ؟ رُدِمَت الفجاج ، واُحْكِم الامرُ عليك ، وَوَلِي زِمامَهُ غيرك ، فدعْ مناوأة من لو كانَ افترش فِراشه صدر الامر لم يعْدل به غيره . وقلت : كأنّا عن قليل لا نتعارف ، فهل نحن الا حيٌّ من قريش ، ان لم تنلنا الولاية لم يضق عنا الحقّ ؟ انها خلافة منافية، وبالله أقسِمُ قسماً مبروراً لئن صحت عزيمتك على ما ورد به كتابك لأَلفَيتكَ بين الحالين طليحا. وهبني إخالُك بعد خَوْضَ الدماء تنالُ الظفر ، هل في ذلك عوَض من ركوب المأثم ونقص الدين؟
اما انا فلا علي بني اميّة ولا لهم! اجعلُ الحزم داري والبيت سجني واتوسد الاسلام ، واستشعر العافية. فأعدلْ ابا عبد الرحمن زمام راحلتك الى محجة الحقّ ، واستَوْهب العافية لاهلك ، واستعطف الناس على قومك.
وهيهات من قبولك ما اقول حتى يفجِّر مروانُ ينابيعَ الفتن تأجّجُ في البلاد ، وكأني بكما عند ملاقاة الاقران تعتذران بالقدر ! ولبئس العاقبةُ الندامةُ عمّا قليل يَضِحُ لك الامر والسلام ".

من خلال استعراض هذه النصوص الطويلة يمكن التعليق كما يلي :
أخذ معاوية على عاتقه مهمة رفع الروح المعنوية لبقية زملائه من قادة الدولة ايام عثمان. فهؤلاء كانوا يمرون في حالة من الضياع والقلق على المستقبل بعد النهاية المأساوية لشيخهم ووليّ نعمتهم عثمان. لقد فقدوا مكانتهم في الدولة ولم يعودوا يسيطرون على ولاياتهم التي وصل اليها ولاة جدد من طرف الخليفة الجديد عليّ , باسثناء الشام.
لم تكن لدى معاوية ايه أوهام بشأن ضراوة وصعوبة المعركة المقبلة ضد أمير المؤمنين الجديد عليّ. وكان يهمه أن يضمن تأييد أقربائه من قيادات عهد عثمان. فانضمامهم اليه – مستقبلاً - فيه مصلحة لأنهم ذوو خبرات كبيرة لا يستهان بها في الادارة والقيادة والحروب.
كانت دعوة معاوية لهم غير تفصيلية وبلا خطة عمل واضحة. فهو يكتفي بدعوتهم الى النهوض للثأر لعثمان وعدم السماح للخليفة الجديد بأن يرسخ أقدامه في الارض. فكأن رسائله تلك أقرب الى إعلان النوايا منها الى أفعال محددة. وهو لم يَدْعُهم للقدوم اليه في الشام وانما دعاهم الى ضرورة التحرك , وترك الباب مفتوحاً. ولذلك ليس مفاجئاً أن يكون تحركهم الفعلي مع طلحة والزبير وعائشة وليس مع معاوية. وسنأتي للدور الذي لعبه هؤلاء في التحضير لحرب الجمل – وبالذات مروان وابن عامر ويعلي.
ويلاحظ ان ردود هؤلاء على معاوية كانت ايجابية , بل وحماسية , في اجمالها (ما عدا سعيد بن العاص). ونقرأ في كلام هؤلاء لمعاوية تسليماً منهم بقيادته واستعداداً منهم لاتباعه. فبعد أن كانوا ايام عثمان نظراء له – في أهمية مناصبهم – صاروا اليوم يدركون ان معاوية وحده من يمتلك القوة الكافية لقيادتهم والحفاظ على مصالحهم. كما نلمس في أجوبتهم عاطفة حارة تجاه عثمان وما جرى له. ولا شك أن عاطفتهم تلك كانت صادقة.
واما سعيد بن العاص , الذي ينتمي الى الفرع الأكثر أنفة وشموخاً من بني امية[96], فقد رفض الانصياع الى معاوية في هذه المرحلة, ولم يكن راضياً عن النوايا التصعيدية لمعاوية. بل ان لسعيد بن العاص مواقف لاحقة[97] تجعلنا نميل الى الاعتقاد انه لم يكن ليمانع بتسلم علي بن ابي طالب للخلافة ويفضل ذلك على الحرب الأهلية. وسوف نرى انه لن ينضم الى جماعة طلحة والزبير وعائشة في مسيرهم الى البصرة بل سيعتزلهم ويبقى في مكة.


 

الكذب: عليّ يولي معاوية على الشام![98]

وروى البلاذري في أنساب الاشراف عن صالح بن كيسان "وكتب علي الى معاوية : إن كان عثمان ابن عمك فأنا ابن عمك, وإن كان وصلك فإني أصلك, وقد أمّرتك على ما أنت عليه, فاعمل فيه بالذي يحق عليك"
وهذا كذب اختلق على الامام علي , وقد تراكمت الشواهد على خلافه.
بل ان هناك رواية أكثر سخفاً ذكرها ابن قتيبة في الامامة والسياسة يقول فيها عن علي :
" ثم أرسل بالبيعة الى الافاق والى جميع الامصار. فجاءته البيعة من كل مكان إلاّ الشام فإنه لم يأته منها بيعة.
فأرسل الى المغيرة بن شعبة فقال له : سر الى الشام فقد وليتكها.
قال : تبعثني الى معاوية وقد قتل ابن عمه, ثم آتيه واليا فيظن اني من قتلة ابن عمه؟ ولكن إن شئتَ ابعث اليه بعهده فإنه بالحري إذا بعثت له بعهده أن يسمع ويطيع.
فكتب علي الى معاوية : اما بعد : فقد وليتك ما قبلك من الامر والمال, فبايع من قبلك, ثم أقبل الي في الف رجل من اهل الشام.
فلما أتى معاوية كتاب علي دعا بطومار فكتب فيه : من معاوية الى علي : اما بعد فغنه :
ليس بيني وبين قيس عتاب        غير طعن الكلى وضرب الرقاب"
فحسب هذه الرواية المختلقة فإن علياً يختار المغيرة بن شعبة كوالٍ له على الشام كبديل لمعاوية ! وذلك مستحيل لأن المغيرة هو من نفس نوعية معاوية والتي كان لعليّ رأي مبدأيّ ضدها. وليس ذلك فحسب بل تواصل الرواية لتقول انه يثبت معاوية في منصبه بعدما عتذر المغيرة عن ذلك التكليف!

نصائح المغيرة وابن عباس![99]
توجد روايات كثيرة تتحدث عن نصائح قدمها كل من المغيرة بن شعبة الثقفي وعبد الله بن عباس للامام علي بتثبيت معاوية بن ابي سفيان في منصبه كوالٍ للشام , وذلك على الاقل الى أن تستقر أمور علي في الخلافة وبعد ذلك يمكنه أن يغير ويبدل.
وهناك فرق بين الرجلين : فابن عباس هو ابن عم علي ومن شيعته والمقربين اليه ولذلك ربما يكون بالفعل راغباً بإسداء نصحٍ مخلص لعلي لتجنب تفاقم الامور , خاصة مع ميله الشخصي الى الموادعة. ولذلك انا لا استبعد أن يكون قدم نصيحة كتلك.
واما المغيرة فشخصٌ تلفّ الشبهات بشخصه منذ اليوم الاول لدخوله الاسلام والى آخر يوم في حياته. ولم يكن يوماً قريباً من شخص عليّ ولا نهجه, وقد أمضى سنوات طويلة في خدمة معاوية بعد ذلك. ومع ذلك فأنا لا أستبعد أن يكون قد دخل على عليّ باقتراحاته تلك , ربما كنوع من جس النبض للخليفة الجديد ولمعرفة كيف يفكر. فلعل المغيرة كان يريد ان يحسب الموقف المناسب له بين طرفي النزاع فأراد أن يعرف اين تميل الرياح. وربما اراد أن تكون له حظوة عند معاوية عن طريق إخباره بنوايا علي تجاهه. ولكن على كل حال , فوّت عليه عليّ الفرصة لأن نواياه تجاه معاوية كانت معلنة ولم يتكلف عليّ عناء إخفائها.

وهذه بعض الروايات:
وروى ابو حنيفة الدينوري في الاخبار الطوال[100] :
" ثم ان المغيرة بن شعبة دخل على علي رضي الله عنه فقال : يا امير المؤمنين ان لك حق الصحبة, فأقر معاوية على ما هو عليه من إمرة الشام , وكذلك جميع عمال عثمان, حتى إذا أتتك طاعتهم وبيعتهم استبدلتَ حينئذ أو تركتَ.
فقال علي رضي الله عنه : أنا ناظر في ذلك[101].
وخرج عنه المغيرة ثم عاد اليه من غد فقال : يا امير المؤمنين اني أشرت أمس عليك برأي, فلما تدبرته عرفت خطأه. والرأي أن تعاجل معاوية وسائر عمال عثمان بالعزل لتعرف السامع المطيع من العاصي, فتكافئ كلاً بجزائه.ثم قام فتلقاه ابن عباس داخلاً فقال لعلي رضي الله عنه: فيم أتاك المغيرة؟ فأخبره علي بما كان من مشورته بالأمس, وما أشار عليه بعد.
فقال ابن عباس : أما أمس فإنه نصح لك, وأما اليوم فغشك!
وبلغ المغيرة ذلك فقال : صدق ابن عباس , نصحت له فلما رد نصحي بدلت قولي"

وفي الكامل لابن الاثير رواية تقول لنا ان ابن عباس اقترح على عليّ أن يعتزل الناسَ بل ويغادر المدينة ! باعتبار انهم لن يجدوا له بديلا :
" قال ابن عباس : فقلتُ له : أطعْني والحقْ بمالك بينبُع وأغلق بابك عليك, فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك. فإنك والله لئن نهضتَ مع هؤلاء اليوم ليحمّلنك الناسُ دمَ عثمان غدا.
فأبى عليّ "

وروى ابن قتيبة في الامامة والسياسة :
" وكان ابن عباس غائبا بمكة المشرفة, فأقبل الى المدينة وقد بايع الناس عليا. قال ابن عباس : فوجدتُ عنده المغيرة بن شعبة, فجلستُ حتى خرج ثم دخلت عليه. فسألني وساءلته. ثم قلت له  : ما قال لك الخارج من عندك آنفا؟
قال : قال لي قبل هذه الدخلة أرسل الى عبد الله بن عامر بعهده على البصرة , والى معاوية بعهده على الشام . فإنك تهدّئ عليك البلادَ وتسكن عليك الناس.
ثم أتاني الآن فقال لي : اني كنت أشرت عليك برأي لم اتعقبه. فلم أرَ ذلك رأيا. وإني أرى ان تنبذ اليهما العداوة فقد كفاك الله عثمان, وهما أهون موتة منه.
فقال له ابن عباس : اما المرة الاولى فقد نصحك فيها, واما الثانية فقد غشك فيها
قال : فإني قد وليتك الشام فسِرْ اليها
قال : قلت : ليس هذا برأي. أترى معاوية وهو ابن عم عثمان مخليا بيني وبين عمله؟ ولستُ آمن إن ظفر بي أن يقتلني بعثمان! وأدنى ما هو صانع ان يحبسني ويحكم علي.
ولكن اكتبْ الى معاوية فمنّه وعدهُ, فإن استقام لك الامر فابعثني"

وربما تكون الرواية الاصح هي التي وردت في سير اعلام النبلاء للذهبي عن ابن عباس قال " استعملني عثمان على الحج. ثم قدمتُ وقد بويع لعلي . فقال لي : سِرْ الى الشام , فقد وليتكها.
قلت : ما هذا برأي[102] ! معاوية أموي , وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام, ولستُ آمن أن يضرب عنقي بعثمان, أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني.
قال علي : ولمَ ؟
قلت : لقرابة ما بيني وبينك, وان كل من حمل عليك حمل عليّ. ولكن اكتب اليه , فمنّه وعِدْهُ!
فأبى عليٌ وقال : لا والله! لا كان هذا أبداً "[103]
وفي رواية الكامل لابن الاثير ومروج الذهب للمسعودي ان علياً أجاب المغيرة " لا والله , لا أستعملُ معاوية يومين"
وهذا الجواب هو الأصحّ , وهو يتسق مع تاريخ عليّ ومواقفه وفكره . وأما الاجوبة الاخرى من نوعية "انا ناظرٌ في الأمر" أو غيرها مما يشي بتفكير عليّ الجدّي بإقرار معاوية على الشام فكلها من صنع رواة كذابين. 


تلخيص المواقف من بيعة عليّ

بعد هذا الاستعراض , يمكن تلخيص المواقف من بيعة على النحو التالي :
أولاً موقف المهاجرين القرشيين وأبنائهم :
عارض مَن بقي حياً من كبار الصحابة القرشيين تولي عليّ بن أبي طالب الخلافة[104]. ومن بين أعضاء لجنة الشورى السداسية التي عينها عمر بن الخطاب, كان لا يزال منهم على قيد الحياة ثلاثة – بالإضافة إلى عليّ نفسه. اختار طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام الاستجابة لضغط الثوار فبايعا علياً بالخلافة علناً. ورفضَ ثالثهما , سعد بن أبي وقاص, أن يبايع علياً , واختار موقفاً سلبياً وقرر أن يعتزلَ الأمر, ولم يُكرهه عليّ على بيعته رغم قدرته على ذلك.
كان هؤلاء يرون أنفسهم أنداداً لعليّ , الذي أصبح بنظرهم خليفة للغوغاء والمتمردين والرعاع من الذين لا يكنون الودّ لقبيلة قريش. وكانوا يرون أنه كان ينبغي احترام منهج عمر في حصر حق اختيار الخليفة بهم وحدهم دون غيرهم.
واتخذ عبد الله بن عمر بن الخطاب موقفاً مشابهاً لسعد.
وشذ عن موقف هؤلاء ابنان لاثنين من كبار الصحابة القرشيين : محمد بن أبي بكر , ومحمد بن أبي حذيفة, اللذين كانا من أشد العناصر المؤيدة لعليّ بن أبي طالب حماساً.

ثانياً موقف أبناء طلقاء قريش وقيادة الجهاز الإداري في عهد عثمان بن عفان :
 كان هؤلاء , وبالإجماع , ضد تولي عليّ لمنصب الخليفة. كان هؤلاء يعرفون أن امتيازاتهم ووضعهم ومستقبلهم ستضيع كلها على يد عليّ. وكانوا مصممين على منع حدوث ذلك بأي ثمن. وبدأوا يعدّون العدة لإعلان التمرد ومواجهة الخليفة الجديد, ولكنهم كانوا بحاجة إلى أمرين : قيادة مركزية توحد صفوفهم, وواجهة شرعية تغطي تحركهم. وسرعان ما وجدوا مطلبيهم في شخص معاوية بن أبي سفيان, وأم المؤمنين عائشة , على التوالي.

ثالثاً موقف الأنصار :
كانوا مسرورين جداً بوصول عليّ بن أبي طالب , أخيراً, إلى منصب الخليفة. كانوا يعتبرونه امتداداً لعهد النبي(ص) وحكمه وكان شخصه يناسبهم تماماً لأنه سوف ينهي, أو يقلل كثيراً من سيطرة قريش على مقاليد الأمور وتعاليها عليهم, وسوف يعيد إليهم اعتبارهم ودورهم المحوري في دولة الإسلام , بعدما عانوه من تهميش. وقرر عموم الأنصار ربط مصيرهم بمصير عليّ.
ولكن كانت هناك أقلية من بينهم ارتبطت بمصالح معينة مع عثمان بن عفان وحكمه فعارضت تولي عليّ الخلافة. ومن أشهرهم النعمان بن بشير وزيد بن ثابت ومحمد بن مسلمة وحسان بن ثابت.

رابعاً المؤمنون الضعفاء السبّاقون :
كانوا مع خلافة عليّ بن أبي طالب بدون تردد. وكان ممن بقي على قيد الحياة من هؤلاء عمار بن ياسر وخباب بن الأرت[105].
وشذ ابنٌ لأحد أبرز الصحابة الموالي, وهو, أسامة بن زيد بن حارثة,  فقرر الاعتزال.
***
ويمكن بسهولة ملاحظة التشابه الكبير في مواقف مختلف الفئات بين ما حصل يوم اجتماع السقيفة وبيعة أبي بكر قبل 24 عاماً, وبين ما حصل عقب مقتل عثمان وبيعة عليّ . فالمواقف تكررت تقريباً.

***

خامساً وأما بشأن الأمصار :

فصحيحٌ أن علياً قد حصلَ على اعترافها – باستثناء الشام – بسلطته وخلافته, ولكن كانت سيطرة عليّ على الأقاليم سطحية أو شِبهَ اسميّة. لقد حصل عليّ على قبول عام من أكثرية المسلمين في الاقاليم بحكم مكانته وتاريخه في الاسلام. ولكن لم تكن لعليّ في الأمصار المختلفة قاعدة إدارية يستند إليها في حكمه. لقد ورث دولة عثمان, ورجالَ عثمان , ونظامَ عثمان, وكان عليّ مصمماً على أن يغيّرَ كل ذلك ويبدأ من جديد.








[1] مصادر هذا البحث : الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص65-66), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص8), البداية والنهاية لابن كثير (ج 7 ص 253), أسد الغابة لابن الأثير (ج4 ص32),كتاب  الثقات  لابن حبان (ج2 ص267 ), تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص191).
[2] وفي رواياتٍ أخرى جاءت اضافة "اهل الشورى" الى "اهل بدر" على لسان علي كمصدرٍ للشرعية . ومن ذلك رواية في الإمامة والسياسة لابن قتيبة " فقام الناس فأتوا علياً في داره . فقالوا : نبايعك. فمدّ يدك. لا بد من أمير, فأنت أحق بها. فقال : ليس ذلك إليكم. إنما هو لأهل الشورى وأهل بدر. فمن رضي به أهل الشورى وأهل بدر فهو الخليفة. فنجتمع وننظر في هذا الأمر. فانصرفوا عنه"
 ولكن من المستبعد أن يكون عليّ قد أضاف "أهل الشورى" إلى أهل بدر كمصدر للشرعية. فهو لم يعترف بشورى عمر ولم يتعامل معها إلاّ مرغماً.
[3] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج3 ص455) , انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص16+ ص8), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج4 ص8), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص435), الكامل في التاريخ لابن الاثير (ص402).
[4] الخميصة : كساء أسود مربع له علمان.
[5] هو الصحابي المشهور ابو ايوب الانصاري. حضر بيعة العقبة وشهد بدرا واحد , ونزل الرسول (ص) ضيفاً في بيته عند اول هجرته للمدينة.
[6] وفي رواية ابن اعثم الكوفي لاجتماع الناس في المسجد واختيار عليّ للخلافة ترد الاسماء التالية للأنصار الذين دعوا لمبايعة علي : ابو الهيثم بن التيهان , رفاعة بن رافع, مالك بن العجلان, خزيمة بن ثابت , الحجاج بن غزية وابو ايوب خالد بن زيد.
[7] أقبلُ الرواية مع تحفظي على اللغة المستعملة. فلم يكن عمار يتحدث مع عليّ هكذا, وخاصة "لنبدأن بك " !
[8] وفي رواية لابن اعثم يخاطب الثوار الكوفيون والمصريون أهل المدينة بقولهم " أشيروا علينا , فإنكم أهل السابقة وقد سمّاكم الله أنصاراً , فأمرونا بأمركم ".
[9] في تاريخ الطبري توجد رواية لسيف بن عمر تشير الى أن الثوار أخذوا بعد قتل عثمان يبحثون في المدينة, وبيأس شديد, عن أي رجل من كبار الصحابة ليبايعوه بالخلافة: فيطاردون عليا فيتهرب منهم, ويبحثون عن الزبير فلا يجدوه, ويطلبون طلحة فيبتعد عنهم, ويأتون سعداً ليعرضوا عليه البيعة فلا يقبل, ويلتمسون ابن عمر فيردّهم! وهذه الرواية تظهر أن الثوار لم يكن لديهم تفضيل معين وأنهم لا يميزون بين كبار الصحابة. ولكن ذلك غير صحيح , بل ينبغي رد تلك الرواية لأنها من خيال سيف.
[10] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص7+ ص16), نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج2ص178).
[11] واخرج البلاذري ايضا رواية عن الزهري يقول فيها " لما قتل عثمان برز عليّ للناس فدعاهم الى البيعة فبايعوه, وذلك انه خشي أن يبايع الناس طلحة. فلما دعاهم الى البيعة لم يعدلوا به طلحة ولا غيره"
[12] نهج البلاغة, بشرح محمد عبده.
[13] رغم اني لا اعتقد ان طلحة كان مرشحاً حقيقياً لأن يبايعه "الناس" في تلك الظروف الصعبة.
[14] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص16), كنز العمال للمتقي الهندي (ج5 ص 748), كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي (ج2 ص435).
[15] وجديرٌ بالذكر ان المتقي الهندي هو من اهل الحديث. وقريبٌ من هذه الرواية وردت في كتاب الفتوح لابن اعثم .
[16] مصادر هذا البحث : الطبقات الكبرى لابن سعد (ج3 ص80) , تاريخ دمشق لابن عساكر (ج59 ص125) و انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص33).
[17] سيأتي الكلام عنه في موضعه في الفصول اللاحقة.
[18] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج3 ص474) , البداية والنهاية  لابن كثير (ج7 ص261), الاخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري (ص146).
[19] وهذه الرواية أخرجها أيضا ابن كثير في البداية والنهاية دون الاشارة الى مصدرها. وفيها أن عليا قال للحسن انه " يحن حنين الجارية"!
[20] وقد روى ابو حنيفة الدينوري في الاخبار الطوال ما يشبه رواية سيف هذه دون أن يشير إلى مصدره, ودون أن يكون فيها ( فإن كان الفساد كان على يدي غيرك). فربما أخذها عن سيف.

[21] مصادر هذا البحث : تاريخ اليعقوبي (ج2 ص178), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص8 و ص19و ص49), تاريخ الطبري (ج3 ص451), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج4 ص8), سير أعلام النبلاء للذهبي (ج1 ص35), العقد الفريد لابن عبد ربه (ج3 ص64), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص259), الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص81 و ص88 و ص90), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص465), كتاب الجمل للشيخ المفيد (ص40), نهج البلاغة, بشرح محمد عبده, (ج1 ص40 و ج3 ص334).
[22] ولم يذكر اليعقوبي معارضات ابن عمر ولا سعد ولا اسامة ... الخ اللهم إلا بعض الشخصيات الاموية, وهم بالتحديد : مروان بن الحكم, وسعيد بن العاص والوليد بن عقبة, الذين قالوا له , على لسان الوليد , انهم لن يبايعوه لأنه وترهم وكان يعيب عليهم, فتركهم علي على حالهم , ولكن مروان قال له : بل نبايعك , ونقيم معك فترى ونرى.
[23] وانا استبعد جدا ان يكون علي قد عرض عليهما أن يبايع احدهما
[24] الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص90).
[25] كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص465). وقوله "دفعكم هذا الامر,,, " يعني خلافكم عليّ بشأن الخلافة
[26] نهج البلاغة, بشرح محمد عبده, (ج1 ص40). والوليجة هي ما يضمر في القلب ويكتم.
[27] نهج البلاغة , بشرح محمد عبده ( ج3 ص334).
[28] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص8), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص442), تاريخ الطبري (ج3 ص 451-454), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص253), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج4 ص9), الامامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص72-73), الطبقات الكبرى لابن سعد (ج3 ص31), الأخبار الطوال للدينوري ( ص143 ), المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3 ص115-118 + ص558), كتاب الجمل للشيخ المفيد (ص45), كتاب الثقات لابن حبان (ج2 ص270), نهج البلاغة, بشرح محمد عبده ( ج1 ص35), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج3 ص224).
[29] وروى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة نقلاً عن كتاب الجمل لأبي مخنف نفس هذه الرواية تقريباً , ولكن فيها زيادة على لسان سعد , أنه قال لعليّ : "فوالله لا يأتيك من قبلي أمرٌ تكرهه أبدا" وكذلك زيادة على لسان عليّ أنه قال للأشتر بشأن ابن عمر انه لا يريد منه البيعة " على كُرْه ".
[30] وأخرج ابن كثير في البداية والنهاية نفس هذه الرواية عن الواقدي ولكن فيها اختلاف طفيف في بعض الاسماء : فهو يقول :محمد بن ابي سلمة وسلمة بن سلامة بن رقش !
[31] ولكن هذا الخبر في الامامة والسياسة جاء تحت عنوان " اعتزال عبد الله بن عمر وسعد بن ابي وقاص ومحمد بن مسلمة عن مشاهد علي وحروبه" فهل يعني ذلك ان الامتناع كان عن القتال فقط – بعد البيعة؟

[32] الأخبار الطوال للدينوري. وروى مثل ذلك ابن حبان في كتاب " الثقات" .
[33]  ويبدو أن سعدا قد ورّث موقفه السلبي تجاه آل بيت الرسول(ص) لابنه عمر, الذي أصبح فيما بعد قائدا للجيش الأموي الذي ارتكب مذبحة كربلاء بحق آل بيت النبي(ص).
[34] نهج البلاغة, بشرح محمد عبده .
[35] مصادر هذا البحث : أنساب الأشراف للبلاذري (ج3 و ص9), أسد الغابة لابن الاثير (ج1 ص65), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج4 ص9), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج2 ص504), صحيح البخاري (كتاب الفتن ج9 ص71), فتح الباري لابن حجر (ج13 ص59), المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3 ص116), الطبقات الكبرى لابن سعد (ج3 ص31 و ج4 ص71).
[36] المستدرك على الصحيحين للحاكم .
[37] ورواه ايضاً ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج4 ص71).
[38] مصادر هذا البحث : تاريخ دمشق لابن عساكر(ج29 ص41 ) , شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج6 ص57) , الطبقات الكبرى لابن سعد (ج5 ص449) , كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص443), الامامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص66).
[39] رواها ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق ابي مخنف. وايضاً رواها ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة من طريق الكلبي.
[40] الطبقات الكبرى لابن سعد .
[41] كتاب الفتوح لابن اعثم .
[42] الامامة والسياسة لابن قتيبة .
[43] مصادر هذا البحث : شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ( ج10 ص109), تاريخ اليعقوبي (ج2  ص 179 + ص 188), سير أعلام النبلاء للذهبي, صحيح البخاري (ج6 باب سورة الأحزاب ص22), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص435), الاستيعاب لابن عبد البر (ص 230 + ص138), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص17), أسد الغابة لابن الأثير (ج2 ص179), الطبقات الكبرى لابن سعد ( ج3 ص179), تاريخ خليفة بن خياط (ص148 ),المستدرك على الصحيحين  للحاكم النيسابوري (ج3 ص104 ) و البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص 261 + ص281).
[44] وقد انبرى العلامة ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة وتصدى للرد على الرواة من ذوي الاتجاه الاموي الذين شككوا في أن خزيمة بن ثابت الذي استشهد مع عليّ في صفين هو ذاته " ذو الشهادتين" , فقال " ومن غريب ما وقعتُ عليه من العصبية القبيحة أن أبا حيان التوحيدي قال في كتاب البصائر : ان خزيمة بن ثابت المقتول مع علي عليه السلام بصفين ليس هو خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين, بل آخر من الانصار , صحابيّ اسمه خزيمة بن ثابت!
وهذا خطأ. لأن كتب الحديث والنسب تنطق بأنه لم يكن في الصحابة من الانصار ولا من غير الانصار خزيمة بن ثابت الاّ ذو الشهادتين. وانما الهوى لا دواء له. على ان الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول, ومن كتابه نقل ابو حيان . والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه"
[45] تاريخ اليعقوبي. وخزيمة بن ثابت هو من كبار الصحابة , وشهد أحدا ومؤتة كما جاء في سير أعلام النبلاء للذهبي. وقد قبل رسول الله شهادته عن شهادة رجلين كما روى البخاري في صحيحه.
وقد أصبح من كبار قادة جيش الإمام علي واستشهد معه في معركة صفين.
[46] قول رفاعة والحجاج من أسد الغابة لابن الأثير. ومثل ذلك روى ابن سعد في الطبقات الكبرى .
[47] قال عنه ابن عبد البر " شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله(ص)"
[48] هكذا وردت في الاصل, وهو غلط والصحيح عليٍّ
[49] حذيفة بن اليمان من كبار الصحابة وله مع النبي (ص) مواقف مشهور ة. وهو ليس من الانصار بالدم ولكنه حليفٌ لهم ويُعدّ منهم. وقد توفي قبيل معركة الجمل. وقد قتل اثنان من ابنائه وهما يقاتلان في جيش الامام علي في صفين بعد ان كان ابوهما اوصاهما باتباع علي,, روى ذلك ابن عبد البر في الاستيعاب.
[50] تاريخ اليعقوبي.. وورد في تاريخ خليفة بن خياط أنه كان مع علي 800 رجل ممن شهدوا بيعة الرضوان واستشهد منهم 63 في المعركة. وروى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين أنه كان مع علي في صفين 80 بدرياً و250 من أهل بيعة الرضوان.
والأرجح أن تكون هذه الأرقام مبالغاً فيها, خاصة وأن الفارق الزمني بين معركة بدر ويوم الحديبية وصفين يزيد على 30 عاما, ولكن السياق العام للروايات صحيح.
[51] وفي مقابل اتجاه البعض لتضخيم عدد الصحابة الذين كانوا مع علي في حروبه , ذهب ابن كثير الى نقيض ذلك , وتطرّف ! فقد روى في البداية والنهاية أن عليا حين خرج الى البصرة " تثاقل عنه أكثر أهل المدينة, واستجاب له بعضهم. قال الشعبي : ما نهض معه في هذا الأمر غير ستة نفر من البدريين , ليس لهم سابع! وقال غيره : أربعة" وأضاف في موقع آخر(ج7 ص281) " وقال الامام أحمد : حدثنا أمية بن خلد قال لشعبة أن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن ابي ليلى قال : شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلاً. فقال : كذب أبو شيبة! والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت. وقد قيل إنه شهدها من اهل بدر سهل بن حنيف, وكذا أبو أيوب الانصاري. قال شيخنا العلامة ابن تيمية في كتاب الرد على الرافضة: وروى ابن بطة بإسناده عن بكير بن الأشج أنه قال : أما إن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلاّ إلى قبورهم"
[52] مصادر هذا البحث : تاريخ دمشق لابن عساكر (ج50 ص178 + ص180), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص253 + ص257),الاستيعاب  لابن عبد البر (ص 550),تاريخ الطبري (ج3 ص452), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج6 ص59 و ج4 ص8  ), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص9),صحيح البخاري (كتاب الفتن ج9 ص70), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج2 ص495), المستدرك على الصحيحين للحاكم (ج3 ص117-118), الامامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص73), التاريخ الصغير للبخاري (ج1 ص112),الطبقات الكبرى لابن سعد ( ج3 ص443) ,مسند احمد بن حنبل (ج5 ص69),اسد الغابة لابن الاثير (ج4 ص330)  الأخبار الطوال للدينوري (ص143).
[53] وكعب بن مالك هذا كان من الثلاثة الذين تخلفوا عن الرسول(ص) يوم تبوك , فنزلت فيهم الآية القرآنية. ذكر ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق.
[54] تاريخ دمشق لابن عساكر.
[55] وروى ابن كثير في البداية والنهاية نفس الخبر نقلا عن الطبري ولكن بصيغة" ومن الناس من يزعم انه لم يبايعه طائفة من الانصار, منهم,,"
[56] وروى البخاري في التاريخ الصغير هذه الرواية كما يلي "عن عديسة بنت اهبان بن صيفي قالت حيث قدم علي بن ابي طالب البصرة جاء الى أبي فقال أبي : ان خليلي وابن عمك أمرني إذا كان قتال بين فئتين من المسلمين أن أتخذ سيفاً من خشب. فانصرف. " وأخرج أحمد في مسنده عن عديسة بنت اهبان بن صيفي روايات قريبة مما رواه البخاري في التاريخ الصغير.
[57] وكررها الحاكم في المستدرك على الصحيحين . ولكن سياق الرواية لا يتحدث عن البيعة بحد ذاتها وانما عن مناصرة الامام علي قبيل معركة الجمل. فربما تكون البيعة قد سبقت هذا الموقف.
[58] وذكر ذلك ايضاً الطبري في تاريخه , وكرره ابن كثير في البداية والنهاية نقلا عنه.
[59] ويلاحظ ان الشخصيات الانصاريّة التي ارتبطت بعلاقات وثيقة بالخلفاء الثلاثة قبل علي , ابي بكر وعمر وعثمان, كانت من المعارضين لبيعة عليّ اولاً ولحروبه تالياً. ومنهم محمد بن مسلمة.  فقد روى ابن سعد في طبقاته ان النبي(ص) آخى بينه وبين ابي عبيدة بن الجراح, وهو من كبار المهاجرين الأثيرين لدى عمر بن الخطاب. وكان محمد بن مسلمة من المقربين لعمر وكان يعتمد عليه في اداء مهمات خاصة. قال ابن الاثير في اسد الغابة " استعمله عمر بن الخطاب على صدقات جهينة. وهو كان صاحب العمال ايام عمر. كان عمر اذا شكي اليه عامل ارسل محمدا يكشف الحال. وهو الذي ارسله عمر الى عماله ليأخذ شطر اموالهم لثقته به"
[60] وروى مثل ذلك ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة نقلاً عن كتاب الجمل لأبي مخنف.
[61] لم افهم معنى قول الامام علي ان محمد بن مسلمة الانصاري هو اخو الفارس اليهودي مرحب الذي قتله الامام في خيبر. ولكن سيرة محمد بن مسلمة تفيد انه كان اخاً ليهوديّ آخر بالرضاعة , وهو كعب بن الاشرف من بني قينقاع. فربما حصل خلط لدى الرواة بين اليهوديين مرحب وكعب.
[62] الأخبار الطوال للدينوري . وقريبٌ من ذلك رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين.
[63] مصادر هذا البحث : الإمامة والسياسة لابن قتيبة ( ج1 ص131 ), كتاب المحبر لابن حبيب البغدادي (ص290),  التاريخ الصغير للامام البخاري (ج1 ص103) , شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج2 ص89), تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري (ج3 ص 1087).
[64] الذي كان أبوه أول من شقّ الصف الأنصاري يوم السقيفة , وانحاز للقرشيين, حين وثب فبايع أبا بكر.
[65] الإمامة والسياسة لابن قتيبة .
[66] من كتاب المحبر لابن حبيب البغدادي . وهناك شك بشأن كل من ابي مسعود الانصاري وابي سعيد الخدري. وذكر الإمام البخاري في التاريخ الصغير أن خزيمة بن ثابت وأبا فضالة الأنصاري استشهدا مع عليّ في صفين.
[67] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
[68] تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري .
[69] مصادر هذا البحث : الإصابة لابن حجر العسقلاني (ص372 ج4), كتاب الثقات لابن حبان ( ج2 ص274), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص449), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج29 ص262), تاريخ الطبري (ج3 ص463), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص22).
[70] جاء في الإصابة لابن حجر أنه شهد بدرا وأحد, وكذلك أخوه سهل الذي استخلفه عليّ على المدينة وحضر المشاهد كلها مع الرسول(ص).
[71] رواها ايضاً ابن اعثم في كتاب الفتوح باختلاف يسير. وأضاف ان ابن عامر بعدها غادر ليلاً متجهاً الى المدينة فأصبح الناس فلم يجدوه. وقال ايضا انه في المدينة لقيه طلحة والزبير فلاماه على تركه البصرة , وفيها الرجال والاموال, وهروبه منها. ولامه الوليد بن عقبة كذلك.
[72] مصادر هذا البحث : كتاب " الثقات " لابن حبان (ج2 ص274),كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي (2 ص 439), المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3 ص117), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص29).
[73]  من كتاب " الثقات " لابن حبان. وايضاً روى البلاذري من طريق صالح بن كيسان بشأن ابي موسى " فكلم الأشترُ فيه علياً فأقرّه "
[74] ولكن الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين أخرج رواية تفيدنا بأن أبا موسى امتنع من بيعة الامام علي" فإن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه وجّه الى الكوفة ليأخذ البيعة له محمدا ابنه ومحمد بن ابي بكر , وكان على الكوفة ابو موسى الاشعري وأبو مسعود, فامتنع ابو موسى ان يبايع, فرجعا الى أمير المؤمنين, فبعث الحسن ابنه ومالك الاشتر"
وهذه الرواية تناقض نظرية الحاكم بأن كل الصحابة قد بايعوا عليا بالفعل ولكن بعضهم كره القتال والخروج معه. فهي تذكر صراحة امتناع ابي موسى من البيعة لعلي. ولكن سياق الرواية هو في الفترة التي تلت بيعة عليّ ببضعة أشهر : عندما دعا الناس للخروج معه الى البصرة, وبالتالي لا تناقض بين ان يكون ابو موسى قد بايعه أصلاً ولكنه رفض دعوته للنصرة لاحقاً , قبيل حرب الجمل.
[75] مصادر هذا البحث : كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص439), كتاب الثقات لابن حبان ( ج2 ص274), تاريخ الطبري (ج3 ص463).
[76] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج3 ص463), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج6 ص59).
[77] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص12)
[78] مصادر هذا البحث : الكامل في التاريخ لابن الاثير (ص 402 ,ص404 و ص405), تاريخ الطبري ( ج3 ص460 ), نهج البلاغة, بشرح محمد عبده (ج3 ص398), الاخبار الطوال للدينوري (ص 141 -142), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج59 ص 117+ ص122), البداية والنهاية لابن كثير ( ج7 ص255 وص257).
[79] نهج البلاغة, بشرح محمد عبده. واما الدينوري في الاخبار الطوال فيقول ان نص كتاب علي كان "اما بعد, فقد بلغك الذي كان من مصاب عثمان رضي الله عنه, واجتماع الناس عليّ ومبايعتهم لي. فادخل في السلم أو ائذن بحرب". ولكني استبعد هذا النص لسببين : الاول انه لا يعقل ان يهدد علي بالحرب من اول رسالة يطلب فيها بيعة معاوية. والثاني ان الدينوري يقول ان الكتاب ارسله علي مع الحجاج بن غزية الانصاري, وهذا مستبعد لأن الحجاج بن غزية من المتهمين بالتواطؤ لقتل عثمان , فمن المستبعد ان يكون هو اختيار عليّ كرسول لمعاوية.
[80] الاخبار الطوال للدينوري
[81] الاخبار الطوال للدينوري
[82] ويقول لنا ابن كثير ان علياً قرر عندها القيام بـ " غزو " الشام وبدأ الاستعداد لذلك " وخرج من المدينة , ورتب الجيش " بل وذكر اسماء قادة الالوية والتشكيلات العسكرية , ولكن بدء أحداث حرب الجمل شغلته عن الانطلاق في حملته ! و طبعاً لا يمكن تصديق هذه الرواية لأن المدينة لم يكن بها قوات تذكر او جيوش تجعل علياً يفكر في مثل تلك الخطوة اصلاً.
[83] مصادر هذا البحث : شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج10 ص233-245), جمهرة رسائل العرب (ج1 ص301), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج63 ص249).
[84] هذه الرسائل كلها موجودة في شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد نقلاً عن الزبير بن بكار في "الموفقيات"
[85] جمهرة رسائل العرب نقلاً عن رواية الزبير بن بكار لدى ابن ابي الحديد.  ومعنى " ليدهدهم " : ليدحرجهم. وأنغل الحجاز : أي أفسده. ومعنى كلام معاوية ان على مروان ان يعمل بروية ودهاء لإفساد الأمور على علي بن ابي طالب في الحجاز.
[86] الترات جمع ترة , وهي الثأر.
[87] كلام مروان عن الحرباء وعين الغزالة والسبع ,,, يقصد منه أنه مستنفر ومترقب وجاهز.
[88] كلام معاوية عن الشعارير والحداة وخوف العُقاب ,,, يقصد به ان بني أمية وهم متفرقون سيكونون ضائعين تائهين خائفين.
[89] ثِب : فعل الأمر من وثب, والمقصود به : تحركْ وثر بسرعة.
[90] الدريّة : ما يُستتر به. ويقصد ابن عامر أنه كان خائفاً يسعى ليقي نفسه من ضرر الأحداث التي وقعت.
[91] الوليد بن عقبة أخو عثمان لامه.
[92] الرنق : الماء الكدر والعكر.
[93] ومعنى الكلام ان الوليد يحلف انه لن يطيب له عيش حتى يقطع أعناق قتلة عثمان بالشفرات الحادة.
[94] المداجاة : المداراة.
[95] وفي رواية ابن عساكر (تاريخ دمشق ج63 ص249) ان الوليد كان أرسل شعراً الى معاوية يعاتبه فيه ويلومه على تباطئه في الطلب بدم عثمان , وان معاوية أجابه " ومُسْتعجبٍ مما يرى من أناتنا        ولو زبنته الحربُ لم يترمرمِ "
[96] وحتى ابنه من بعده , عمرو بن سعيد (الأشدق) , ستكون له نفس الأنفة وسيكون مصيره القتل على يد عبد الملك بن مروان.
[97] منها مثلاً : سيرفض لعن علي بن ابي طالب على المنابر بعد ان استتب الامر لبني أمية. ولن يمانع في دفن الحسن بن علي الى جوار جده رسول الله(ص).
[98] مصادر هذا البحث : أنساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص13) الامامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص 67-68 )
[99] مصادر هذا البحث : الاخبار الطوال للدينوري (ص142) , الكامل في التاريخ لابن الاثير (ص403), الامامة والسياسة لابن قتيبة ( ج1 ص 67-68) , سير اعلام النبلاء للذهبي (ج3 ص139), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج59 ص122), مروج الذهب للمسعودي (ج2 ص 277-278).
[100] وقريبٌ من ألفاظها رواه المسعودي في مروج الذهب .
[101] انا استبعد تماماً أن يكون علي قد قال "انا ناظر في ذلك" لأن موقفه المبدأي بشأن عزل معاوية وعمال عثمان مؤكد ومعروف.
[102] ويمكن قبول ان يكون ابن عباس اعتذر عن عرض عليّ بتعيينه والياً على الشام بديلاً لمعاوية, فذلك ينسجم  مع شخصيته الوادعة والبعيدة عن التوجهات الصدامية.
[103] وهذه الرواية بتمامها ذكرها ابن عساكر بإسنادٍ كامل في تاريخ دمشق.
[104] وقد ذكر الطبري في تاريخه (ج3 ص452) اسم قدامة بن مظعون ايضا ضمن مَنْ رفضوا بيعة عليّ. ورغم كونه قرشياً وبدرياً الاّ ان قدامة لا يعتبر من كبار الصحابة – ربما بسبب حدّ شرب الخمر الذي أقامه عليه عمر أثناء خلافته.

[105] شهد خباب صفين وعمره 73 عاماً , وتوفي بعد العودة إلى العراق , فصلى عيه عليّ ودفنه في الكوفة. ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج3 ص167).