الجزء الثالث: الأمصار تتمرد على الخليفة



الفصل الاول : التمرّد في مصر[1]

الظاهر أن التمرّد ضد حكم الخليفة عثمان كان قد بلغ أشدّه في مصر. فليس فقط أن الوفد المصري الذي ذهب إلى المدينة وانتهى به الأمر إلى المشاركة في قتل عثمان كان هو الأكبر بالقياس إلى وفود البصرة والكوفة, ولكن أيضا قام أعداء عثمان بالسيطرة على مصر وخلع والي الخليفة عبد الله بن سعد , وذلك في الفترة الحرجة التي شهدت الاضطرابات التي انتهت بقتل الخليفة.


دور محمد بن ابي حذيفة

من الغريب حقا أنه كان من أبرز المعارضين لعثمان وحكمه والمحرّضين عليه شخصٌ من أقرب الناس نسَبا إلى عثمان ومعاوية! فمحمد بن أبي حذيفة هو شاب من بني عبد شمس, كان أبوه من المسلمين الأولين في مكة. وأبو حذيفة هو ابن عتبة بن ربيعة, وأخو هند آكلة كبد حمزة, كان قد خالف أباه وقومَه , فكان من القلّة القليلة من أبناء بطون قريش العريقة الذين آمنوا بمحمد (ص) وهاجروا إلى الحبشة, فولد ابنه محمد هناك[2]. ولما استشهد ابو حذيفة في معركة اليمامة, تولى عثمان بن عفان رعاية ابنه محمد, بحكم كونه تاجراً غنياً, ومراعاة للقرابة .
 وليس معروفاً على وجه الدقة السبب الذي جعل محمد بن أبي حذيفة يكون من أشد الكارهين لعثمان وحكمه والمؤلبين عليه. فمن المنطقي والمتوقع أن يكون ابن أبي حذيفة مثل بقية أقرانه من بني أمية وعبد شمس الذين استفادوا من فترة حكم الخليفة العجوز فحازوا على أعلى المناصب والمراتب . ولكن ذلك لم يحصل. بل ان كل المصادر التاريخية تجمع على أن محمد بن أبي حذيفة, بالإضافة إلى محمد بن أبي بكر, كانا أبرز النشطاء في مصر المعادين لعثمان والمؤسسة الأموية الحاكمة. وهناك أوجه شبه كثيرة بين المحمدين ابن أبي بكر وابن أبي حذيفة: فهما شابان من نفس الجيل, واستقرا في مصر, وهما ابنان لاثنين من كبار الصحابة السابقين إلى الإسلام وأخيراً هما من صميم قبيلة قريش. ولعل ابن أبي حذيفة تأثر بشخصية وأفكار ابن أبي بكر الذي كان ربيباً لعليّ بن أبي طالب , وأخاً لأبناء جعفر بن أبي طالب من جهة الأم.

فماذا تقول المصادر عن ابن ابي حذيفة ؟
ذكر البلاذري في أنساب الأشراف جملة من اخبار ابن أبي حذيفة , نقلا عن أبي مخنف وغيره. ويمكن تلخيصها على النحو التالي :
-         ان عثمان بن عفان كان كفل محمد بن أبي حذيفة وتولى تربيته بعد استشهاد أبيه يوم اليمامة. وقد قال فيما بعد لما بلغه تمرد محمد بن أبي حذيفة " اللهم اني ربيته رحمة له وصلة لقرابته, حتى لقد كنتُ أنكث المخ فأخصّه به دون نفسي وولدي"
-         شرب محمد بن أبي حذيفة الخمرَ فأقام عليه عثمانُ الحدّ
-         تنسّك محمد بن أبي حذيفة بعدها وأقبل على العبادة, ورغب في أن يغزو البحرَ فاستأذن عثمانَ أن يأتي مصرَ فأذِنَ له. وكان خروجه إليها متزامناً مع خروج عبد الله بن أبي السرح.
-         لما وصل مصرَ " رأى الناسُ عبادته فلزموه وأعظموه ومالوا إليه "
-         كان ابن أبي حذيفة مع ابن أبي السرح في غزوته البحرية عام 34 " فصلى عبد الله بن سعد بن أبي السرح يوما ,فكبّر محمدُ بن أبي حذيفة من خلفهِ تكبيرة أفزعته, فنهاهُ وقال : انك حدثٌ أحمق ولولا ذلك لقاربت بين خطاك".
-         " وكان ابن أبي حذيفة يعيبه ويعيبُ عثمانَ بتوليته إياه, ويقول : استعمل عثمان رجلاً أباحَ رسول الله(ص) دمَهُ يوم الفتح , ونزل فيه : ومَن أظلمُ ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيئ ومَن قال : سأنزل مثل ما انزل الله"
-         كان محمد بن أبي بكر أيضاً من الذين شخصوا مع ابن أبي السرح إلى مصر. فكان يعين ابن أبي حذيفة في الطعن على الوالي. فكتب ابن أبي السرح إلى عثمان شاكياً إياهما " انهما قد أنغلا عليه المغربَ وأفسداه".
-         أجابه عثمان بكتاب آمرا إياه بالتسامح معهما " أما محمد بن أبي بكر فإنه يوهب لأبي بكر ولعائشة أم المؤمنين. وأما ابن أبي حذيفة فإنه ابني وابن أخي وتربيتي, وهو فرخ قريش" فكتب له ابن أبي السرح "إن هذا الفرخ قد استوى ريشُهُ ولم يبقَ إلاّ أن يطير"
-         أرسل عثمان إلى ابن أبي حذيفة كسوة وثلاثين ألف درهم, ولكنه جمع ما وصله من عثمان " فوُضِعَ في المسجد ثم قال : يا معشر المسلمين ألا ترونَ إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه! "
-         " فازداد أهل مصر طعناً على عثمان رضي الله عنه وإعظاماً لابن أبي حذيفة, واجتمعوا إليه فبايعوه على رئاستهم"
-         " فلم يزل ابن أبي حذيفة يحرض أهل مصر ويؤلبهم على عثمان حتى سربهم إلى المدينة, فاجتمعوا إليه مع أهل المصرين, وكانوا أشدهم في أمره, وشخص محمد بن أبي بكر معهم"
ولم يذكر البلاذري مصير محمد بن أبي حذيفة ولا كيف تخلص منه معاوية.

وقال ابن عبد البر في ترجمة محمد بن ابي حذيفة بعد ان ذكر انه ولد في الحبشة في زمن رسول الله(ص)" وكان محمد بن ابي حذيفة أشدّ الناس تأليباً على عثمان.... وكان عثمان قد كفل محمد بن ابي حذيفة بعد موت ابيه ابي حذيفة, ولم يزل في كفالته ونفقته سنين. فلما قاموا على عثمان كان محمد بن ابي حذيفة أحد من أعان عليه, وألب وحرض اهل مصر."
ولم يوضح ابن عبد البر أسباب عداء محمد لعثمان.

وقد أخرج ابن شبة في تاريخ المدينة مجموعة من أخبار ابن ابي حذيفة. ومنها رواية
عن محمد بن سيرين " قدم محمد بن ابي حذيفة على عثمان رضي الله عنه فأجازه بمائة ألف. ثم طعن عليه بعد ذلك, وقال : ما جعل هؤلاء أحق بالمال مني"

وعلى كل حال, فإن سياق الاحداث وتواتر الروايات يشير الى أن مشكلة ابن ابي حذيفة مع ابن ابي السرح في مصر لم تكن قابلة للحل , بل كانت مسألة مبدأ. فعبد الله بن ابي السرح كان بنظر محمد بن ابي حذيفة مرتدا لعيناً ولم يكن جائزاً لعثمان تعيينه في ذاك المنصب من الأساس.
ورواية ابن كثير في البداية والنهاية عن غزوة ذات الصواري تظهر ذلك " قال الواقدي : فحدثني معمر عن الزهري قال : كان في هذه الغزوة محمد بن ابي حذيفة ومحمد بن ابي بكر. فأظهرا عيبَ عثمان وما غيّرَ وما خالف أبا بكر وعمر. ويقولان : دمُهُ حلال لأنه استعمل عبدَالله بن سعد – وكان قد ارتدّ وكفر بالقرآن العظيم وأباح رسول الله دمَهُ – وأخرج رسول الله (ص) أقواماً واستعملهم عثمان . ونزع أصحابَ رسول الله (ص) واستعمل سعيدَ بن العاص وعبدَالله بن عامر.
فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال : لا تركبا معنا.
فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين , ولقوا العدو فكانا أنكلَ المسلمين قتالاً . فقيل لهما في ذلك فقالا: كيف نقاتل مع رجل لا ينبغي لنا أن نحكمه؟!
فأرسل اليهما عبد الله بن سعد فنهاهما أشد النهي وقال : والله لولا لا أدري ما يوافق أميرَ المؤمنين لعاقبتكما وحبستكما"




محمد بن ابي حذيفة مع كعب الأحبار

ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق رواية مثيرة عن ابن سيرين , توضح كيف كان استياء محمد بن ابي حذيفة من الهيئة الحاكمة يمتدّ ليصلَ الى كل المقربين منها والمنظرين لها , ومن هؤلاء كعب الأحبار , اليهودي المسلم الذي كان من خاصة عثمان الذين يستشيرهم ويقربهم. ومن المشروع التخمين أن محمد بن ابي حذيفة كان حاضراً في المدينة حين حصل ذلك الصراع الحادّ بين أبي ذر الغفاري والخليفة عثمان, وربما شاهدَ كيف كان كعب الأحبار يقف الى جانب الخليفة ويُفتي له بأن المسلم بعد دفع زكاة ماله ليس عليه أي حق ملزم تجاه غيره, بخلاف ما ينادي به أبو ذر. فلا شك بأن محمداً كان يزدري كعباً وما يشيعه من " علم " بين المسلمين مستنداً الى توراة اليهود. والرواية تظهر كيف كان محمدٌ يسخر بكعبٍ ورواياته مما استفزه وأثار أعصابه:
 " إن محمد بن ابي حذيفة بن عتبة بن ربيعة , وكعباً , ركبا سفينة في البحر. فقال محمد : يا كعب ! أما تجدُ سفينتنا هذه في التوراة كيف تجري؟
فقال : لا ! ولكن أجدُ فيها رجلاً أشقى الفتية من قريش, ينزو في الفتنة كما ينزو الحمار . لا تكون أنت هو!
فقال ابن سيرين : فزعموا انه كان هو"[3]

وقد أخرج ابن شبة في تاريخ المدينة رواية ابن سيرين والتي فيها حادثة استهزاء محمد بن ابي حذيفة الشديد بكعب الاحبار وهما في السفينة كما يلي " ركب كعب الاحبار ومحمد بن ابي حذيفة في سفينة قبل الشام – زمن عثمان – في غزوة غزاها المسلمون .
فقال محمد لكعب : كيف تجد نعت سفينتنا هذه في التوراة تجري غدا في البحر؟
فقال كعب : يا محمد لا تسخر بالتوراة, فإن التوراة كتاب الله.
قال : ثم قال له ذلك ثلاث مرات.
فقال : لا أجد سفينتنا هذه منعوتة في التوراة , ولكني أجد في بعض كتاب الله أن فتنة قد أطلت , ينزو فيها رجل من قريش له سن شاغية نزو الحمار في القيد . فاتقِ ألاّ تكون ذلك الرجل"
وفي رواية أخرى أن جواب كعب كان " أجد في كتاب الله أن رجلا من قريش اسمه اسمك أشر الثنايا يحجل في الفتنة كما يحجل الحمار في القيد. فاحذر ألاّ تكون أنت" . وفي رواية ثالثة أن كعبا قال له عن الفتنة " يثب فيها غلام من قريش أشفى الثنيتين , فيؤخذ فيضرب عنقه. فانظر ألاّ تكون ذاك. فكان هو! "
كما أخرج رواية السفينة عن الزهري أيضا, ولكن فيها اختلافه مع ابن السرح " غزا ابن ابي سرح ذات الصواري سنة 34 , ومعه محمد بن ابي بكر ومحمد بن ابي حذيفة , فكانا يعيبان عثمان. فحملهما ابن ابي سرح في سفينة مع القبط, ثم كلم فيهما فحولهما. فلما رجع كتب الى عثمان بما كان منهما . فكتب اليه : أن أشخص إليّ ابن ابي بكر. وقال عثمان : العجب لابن ابي حذيفة ! كفلته وربيته , ثم هو يؤلب الناس عليّ . اللهم انه لم يشكر بلائي, فأجرني منه"
وفي رواية أخرى ان عثمان قال " ألا تعجبون لابن ابي حذيفة؟! ضممتُ الرجلَ لرحمه , فكنتُ أجسّ بطنه من الليل, أنظر أجائعٌ هو أم شبعان, ثم هو يسعى في خلعي وسفك دمي. اللهم فأجزه جزاء مَن كفر النعمة وفجر"
وربما يكون كلام ابن ابي حذيفة لكعب الاحبار, ومشكلته مع ابي ابي السرح , في ذات الغزوة : ذات الصواري. فلا تناقض بالضرورة بين روايتي الزهري وابن سيرين.

ممارسات ابن ابي السرح في مصر

الدلائل تشير إلى أنه بعد تعيينه واليا على مصر, اتجه ابن ابي السرح الى تطبيق سياسة قاسية, ومرتكزة الى جمع الضرائب الباهظة من أهل البلد. والظاهر أن ذلك قد حظى برضى وإعجاب الخليفة. فيمكن القول ان ابن ابي السرح قد صبّ جهده وطاقته في انتزاع الأموال , بكل الوسائل, من أهل البلد,  دون ان يراعي ظروفهم وأحوالهم كما ينبغي.
 ويبدو أن ابن أبي السرح كان همّه أن يثبتَ لسيّده ووليّ نعمته, عثمان, أنه اتخذَ قراراً صائباً حين ولاّه, بدليل تدفّق الأموال التي يجبيها الوالي ويرسل جزءً كبيراً منها إلى العاصمة.
وبالفعل, فقد بدأ عثمان يرى أن الأموال التي ترد من الاقليم المصري, على يد واليه الجديد, تصل إلى أضعاف تلك التي كان يرسلها عمرو بن العاص. والروايات تذكر أن ذلك أثار إعجاب الخليفة وأرضاه, إلى حد أنه قرر أن يبلّغ ابن العاص بالتغيرات التي تحصل من بعده, وكيف أن واليه الجديد أكثر نفعاً منه. روى ابن عساكر في تاريخ دمشق أن عثمان قال له:
" يا عمرو : أرى تلك اللقاح قد دَرّت من بعدك!
فقال عمرو : إنما دَرّت لهلاك فِصالها, وإنها قد هزلت
وفي رواية أخرى أن عمراً أجابه : إنكم أعجفتم أولادها"
وفي رواية اليعقوبي انه بعد ان عُيّن عبد الله بن ابي السرح واليا على مصر :
" اجتبى عبد الله مصرَ اثني عشر ألف ألف دينار .
فقال عثمان لعمرو : درّت اللقاح!
قال : ذاك إن يتم يضر بالفصلان"
وهذه الروايات يمكن قبولها بالتأكيد. وليس هذا الجواب البليغ بمستغربٍ من شخصِ كعمرو, وهو لا يخلو من الصواب. فرغم أنه من الممكن أن يكون عمرو بن العاص أثناء ولايته ينتهب جزءً من أموال الخراج والغنائم لنفسه, إلاّ أنه أصاب كبد الحقيقة حين أخبر عثمانَ أن سياسة المبالغة في الضرائب والجباية التي يطبّقها ابن أبي السرح تكاد تؤدّي إلى هلاك أهل البلد من كثرة كدحهم لدفع ما يفرضه الوالي.

ورغم أن الضرائب والخراج كانت تفرض أساساً على القبط, أهل البلد الأصليين وليس على العرب الفاتحين, وبالتالي فهؤلاء كانوا المتضرر الأول من سياسة الوالي, إلا أن ابن ابي السرح قد تمادى في سوء سياسته وسلوكه حتى طال ذلك مجتمع العرب المستوطنين بمصر.
ويبدو أنه كانت تجاوزات ابن أبي السرح فاحشةً وهائلة إلى درجة أن شيخ المؤرخين الطبري تخلى عن التزامه بتوثيق ما وصله من أخبار , فأعلن أنه " كره ذكرَها " حفاظاً على سمعة الخليفة عثمان كما يبدو. فالطبري قال في تاريخه" وأما الواقدي فإنه ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أموراً كثيرة, منها ما قد تقدم ذكره, ومنها ما أعرضتُ عن ذكره كراهةً مني ذكره لبشاعته".

وذكر ابن حبان في كتاب الثقات ضمن أحداث سنة 35 للهجرة " خرج جماعة من أهل مصر الى عثمان يشكون ابن ابي سرح ويتكلمون منه . فكتب اليه عثمانُ كتاباً وهدده فيه. فأبى ابن ابي السرح أن يقبل من عثمان , وضرب بعضَ مَن أتاه من قبل عثمان متظلماً وقتل رجلاً من المتظلمة"
وفيما يلي نصُّ جاء في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري نقلا عن الزهري عن سعيد بن المسيب[4]:
 "جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح, فكتب إليه عثمانُ رضي الله عنه كتاباً يتهدده فيه, فأبى أن يقبل ما نهاه عنه عثمان رضي الله عنه وضرب بعضَ مَن أتاه من قبل عثمان من أهل مصر يتظلم منه فقتله .
فخرج من أهل مصر سبعمائة إلى المدينة,  فنزلوا المسجدَ, وشكوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صنع ابن ابي سرح بهم.
 فقام طلحة بن عبيد الله فكلم عثمان رضي الله عنه بكلام شديد . وأرسلت إليه عائشة فقالت : قد تقدم إليك أصحاب محمد, وسألوك عزلَ هذا الرجل فأبيتَ إلاّ واحدة فهذا قد قتل منهم رجلا فاقضِهم من عاملك. ودخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه – وكان متكلم القوم – فقال : إنما سألوك رجلاً مكان رجل, وقد ادعوا عنه دماً فاعزله عنهم واقضِ بينهم , وإن وَجَب عليه حق فأنصفهم منه. ..."

وفي رواية للطبري في تاريخه عن الواقدي انه لما دخل المتمردون المصريون على عثمان في داره أمام الصحابة تقدم رئيسهم عبد الرحمن بن عديس البلوي " فذكرَ ما صنع ابنُ سعد بمصر :
وذكر تحاملاً منه على المسلمين
وأهل الذمة
وذكر استئثاراً منه في غنائم المسلمين, فإذا قيل له في ذلك قال : هذا كتاب أمير المؤمنين إليّ.
ثم ذكروا أشياء مما أحدث بالمدينة وما خالف به صاحبيه
قال : فرحلنا من مصر ونحن لا نريد إلاّ دمك أو تنزع"


ورد في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري رواية عن عروة بن الزبير :
 " كتب أهل مصر إلى عثمان : من الملأ المسلمين إلى الخليفة المبتلى. أما بعد .  فالحمد لله الذي أنعم علينا وعليك. واتخذ علينا فيما آتاك الحجة.
 وإنا نذكرك الله في مواقع السحاب فإن الله تعالى قال في كتابه ( أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق) : أن تحل ما شئتَ منه بقولك وتحرم ما شئتَ منه بقولك.
 ونذكرك الله في الحدود : أن تعطلها في القريب وتقيمها في البعيد, فإن سنة الله واحدة.
ونذكرك الله في أقوام أخذ الله ميثاقهم على طاعة ليكونوا شهداء على خلقه. نصحوا لك فاغتششت نصيحتهم, وأخرجتهم من ديارهم وأموالهم. وقال الله في كتابه (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون انفسكمم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون)
فنذكرك الله وننهاك عن المعصية, فإنك تدعي علينا الطاعة وكتاب الله ينطق : لا طاعة لمن عصى الله. فإن تعطِ الله الطاعة نؤازرك ونوقرك وإن تأبَ فقد علمنا أنك تريد هلكتنا وهلكتك. فمن يمنعنا من الله إن عصيناه  وأطعناك ,  وأنت العبد الميت المحاسب والله الخالق البارئ المصور الذي لا يموت"

وقد روى ابن شبة عن الزهري ان الخليفة بعث لأهل مصر بكتاب عام, لا يحتوى إلاّ على التأكيد على طاعة أولي الأمر والتشديد على الوفاء بالبيعة والتحذير من الفرقة والفتنة.
فاذن استمر عثمان في دعم واليه ابن ابي السرح.



*****
مما تقدم يمكن تلخيص أسباب شكوى أهل مصر والجمع بين الروايات على النحو التالي:
(1) السياسة المالية وتوزيع الأموال والظلم الواقع على اهل البلد سواء العرب منهم أو أهل الذمة.
 (2)الانتقائية في تطبيق الحدود الشرعية
 (3)العقوبات الظالمة المطبقة بحق الكثيرين من الناس الصالحين, وخاصة النفي.
(4) التهاون في الواجبات الدينية , وخاصة الصلاة .







تفنيد رواية لسيف بن عمر

ولا بد لسيف بن عمر أن يدلي بدلوه محاولا كعادته الدفاع عن الخليفة وواليه. فهناك روايةٌ غريبة يرويها الطبري في تاريخه, نقلاً عن سيف, تقول أن عثمان بن عفان أرسلَ عمارَ بن ياسر إلى مصر لكي يتحقق مما يجري هناك, وما يرويه الناس عن سوء الحكم وفساد الإدارة فيها. وتذكر الرواية أن عمارا تأخّر في العودة إلى المدينة كثيراً إلى أن وصل كتابٌ من الوالي عبد الله بن سعد بن أبي السرح, يُخبر فيه أن عماراً استماله قومٌ من مصر منهم عبد الله بن السوداء, وخالد بن ملجم, وسودان بن حمران وكنانة بن بشر!

ويمكن طرح العديد من علامات التعجب هنا :
- فكيف يمكن تصوّر أن عثمان بن عفان يختار عمار بن ياسر بالذات لمهمة كهذه؟! فعمار بن ياسر كان معروفاً عنه طعنه الدائم في سياسة عثمان وحكمه. وقد مرّ كيف كان عمار من أشد المعارضين للخليفة من البداية, والمعادين للسيطرة الأموية على  مقاليد الحكم في الدولة وكيف تعرض إلى عقاب قاسٍ جداً من الخليفة عثمان وصل إلى حد الضرب المبرّح .
فهل لم يجد عثمان شخصاً آخر , غير عمار, ليرسله في المهمة المزعومة للتحقق من انتهاكات وتجاوزات واليه هو؟! وهل يعقل أن يختار عثمان شخصاَ معادياً له إلى درجةٍ كبيرة, ليشهدَه على نظافة حكمِه وحُسن سياسة واليه, المشكوك في إسلامه, ابن أبي السرح؟
- وتضع هذه الرواية عبدَ الله بن سعد بن أبي السرح, المرتدّ القديم والحاكم الذي اشتهر فساده وظلمه, في موقع الحريص على مصلحة المسلمين, والناصح الأمين لخليفة الإسلام, الساعي إلى مواجهة المؤآمرة اليهودية الشريرة التي يقودها ابن سبأ؟! وفي المقابل تضع الرواية عمار بن ياسر , الصحابي العريق الذي طالما تعذّب على رمضاء مكة في سبيل الإسلام ورسوله, في موقع المنساق وراء اليهودي الخبيث, والداخل في دهاليز الخيانة والتآمر مع الأشرار على الخليفة البريء وواليه المسكين؟!
- ويبدو واضحاً مدى التصنّع الظاهر في حشر اسم ابن سبأ بين مجموعة أسماءٍ لأشخاص حقيقيين, كانت لهم مساهمات بقتل عثمان لاحقاً.

  
تحامُل الرواة على ابن ابي حذيفة

هكذا ورد تفسير عداء المحمدين لعثمان حسب روايات سيف بن عمر في تاريخ الطبري:
قال ان محمد بن ابي حذيفة كان يتيما في حجر عثمان " فسأل عثمانَ العملَ حين ولي. فقال : يا بني , لو كنتَ رضى ثم سألتني العمل لاستعملتك. ولكن لستَ هناك" فعند ذلك استأذنه محمد في الخروج من المدينة فأذن له وجهزه. فذهب الى مصر وهناك انقلب على عثمان لأنه منعَهُ الولاية.
وأما محمد بن ابي بكر فقال عنه ان "الغضب والطمع" دفعاه الى عداء عثمان وفسر ذلك " كان من الاسلام بالمكان الذي هو به وغرّه أقوامٌ فطمع. وكانت له دالة فلزمه حق. فأخذه عثمان من ظهره ولم يدهن. فاجتمع هذا الى هذا فصار مذمماً بعد أن كان محمداً "
ويلاحظ هنا مدى الكره الذي يكنه سيف لابن ابي بكر الى حد لجوئه الى استعمال نفس اللقب القديم المشين الذي كانت تطلقه قريش على رسول الله(ص) : مذمم!


واما ابن حجر العسقلاني في الاصابة فلم يذكر أسباباً لعداء ابن ابي حذيفة لعثمان ولا تفاصيل حول خلافاته مع ابن ابي السرح بمصر.
ولكنه تحدّث عن قيام ابن ابي حذيفة بتزوير كتب ورسائل على لسان امهات المؤمنين في المدينة موجهة الى أهل مصر تشكو من الخليفة ! فقد روى ان ابا عمر الكندي أخرج من طريق الليث عن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي" ان ابن ابي حذيفة كان يكتب الكتب على ألسنة أزواج النبي(ص) في الطعن على عثمان. كان يأخذ الرواحل فيحصرها , ثم يأخذ الرجال الذين يريد ان يبعث بذلك معهم فيجعلهم على ظهور بيت في الحر, فيستقبلون بوجوههم الشمس, ليلوحهم تلويح المسافر, ثم يأمرهم ان يخرجوا الى طريق المدينة , ثم يرسلوا رسلاً يخبروا بقدومهم . فيأمر بتلقيهم. فإذا أتوا الناس قالوا لهم : ليس عندنا خبر, الخبر في الكتب ! فيتلقاهم ابن ابي حذيفة ومعه الناس فيقول لهم الرسل : عليكم بالمسجد , فيقرأ عليهم الكتب من أمهات المؤمنين : إنا نشكو اليكم بأهل الاسلام كذا وكذا من الطعن على عثمان ! فيضج اهل المسجد بالبكاء والدعاء"
وهكذا تصور هذه الرواية ابن ابي حذيفة ككذاب محترف. فهو ليس فقط يخترع أخباراً ملفقة وينسبها زوراً الى أزواج النبي(ص) , بل إنه يعدّ مسرحاً كاملاً من أجل أن تنطلي أباطيله على أهل مصر: فهو يحضر دواباً فيجيعها لكي تهزل فيبدو عليها إعياء السفر الطويل, وهو يرتب مع رجال لكي يلفحوا وجوههم بالشمس فيظهروا بهيئة المسافر, ويتفق معهم على القدوم من طريق المدينة , وأن يرسلوا من يخبر بقرب قدومهم لأجل تشويق الناس, وأخيراً يقرأ كتبهم المزورة على رؤوس الأشهاد في المسجد !!




خلعُ ابن أبي السرح

 هناك نوع من الغموض في الروايات التاريخية التي تتحدث عن كيفية سيطرة محمد بن أبي حذيفة وأصحابه على مصر , ومتى حدث ذلك بالتحديد.
فقد روى البلاذري في أنساب الأشراف " فلما حوصر عثمان وثب محمد بن أبي حذيفة على عبد الله بن سعد, فطرده عن مصر, وصلى بالناس وتولى أمر مصر"

وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق أخبار صراعات محمد بن ابي حذيفة في مصر, فقال عنه ,نقلاً عن طبقات ابن سعد" وهو الذي وثب بعثمان بن عفان وأعان عليه وحرض أهل مصر حتى ساروا اليه"
وروى عن ابي سعيد بن يونس ان محمد بن ابي حذيفة " كان أول من انتزى بمصر. انتزى على عقبة بن مالك, وكان خليفة عبد الله بن سعد بن ابي سرح على مصر حين خرج وافداً الى عثمان. فأخرج عقبة عن الفسطاط , فخلع عثمان بن عفان وتأمر على مصر.... وكان يسمى ميشوم قريش "
ومن هذه الرواية يظهر أن محمداً نجح في استغلال غياب ابن ابي سرح عن مصر , فتغلب على نائبه. كما روى عن شاهد عيان المزيد من التفاصيل حول الصراع بين محمد وعقبة " كنتُ مع عقبة بن عامر جالساً قريباً من المنبر يوم الجمعة, فخرج محمد بن ابي حذيفة فاستوى على المنبر فخطب الناسَ , ثم قرأ عليهم سورة من القرآن – وكان من أقرأ الناس – فقال عقبة بن عامر : صدق الله ورسوله : إني سمعتُ رسول الله(ص) ليقرأن رجالٌ لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية !
زاد ابن عثمان : فسمعها ابن ابي حذيفة فقال : والله لئن كنتَ صادقاً – وانك ما علمتُ لكذوب – إنك منهم"
وهذه الرواية توضح مدى اتقان محمد للقرآن وتأثيره على الناس بما يفوق نائب ابن ابي سرح.

ويروي ابن حجر في الاصابة عن ابي عمر الكندي أن عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد خرج من مصر متوجهاً إلى عثمان " لمّا قامَ الناسُ عليه, فطلب أمراء الأمصار, وذلك في رجب سنة 35 , واستناب عقبة بن عامر ... فوثب محمد بن أبي حذيفة على عقبة بن عامر فأخرجه من مصر, وذلك في شوال من عام 35, ودعا إلى خلع عثمان وأسعر البلاد وحرّض الناس على عثمان "
كما روى عن عبد العزيز بن عبد الملك السليحي عن ابيه بعضَ التفاصيل حول الصراع بين محمد وعقبة "كنتُ مع عقبة بن عامر قريباً من المنبر, فخرج ابن ابي حذيفة فخطب الناسَ , ثم قرأ عليهم سورة – وكان قارئاً – فقال عقبة : صدق رسول الله(ص) : ليقرأن القرآن ناسٌ لا يجاوز تراقيهم .
 فسمعه ابن ابي حذيفة فقال : إن كنتَ صادقاً إنك متهم"
وهذه تشبه رواية ابن عساكر السابقة التي توضح مدى اتقان محمد للقرآن وتأثيره على الناس
وتابع ابن حجر من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن ابي حبيب" بايعَ أهلُ مصر محمدَ بن أبي حذيفة بالإمارة إلاّ عصابة منهم معاوية بن حديج وبسر بن أرطأة , فقدم عبد الله بن سعد حتى إذا بلغ القلزم وجد هناك خيلاً لابن أبي حذيفة فمنعوه أن يدخل, فانصرف إلى عسقلان".

وذكر ابن الأثير في أسد الغابة أن الذي استخلفه ابن ابي السرح هو هشام بن عمرو إلى أن أزاله عنها ابن أبي حذيفة.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة ابن ابي السرح " وغزا الصواري في البحر من أرض الروم سنة 34 , ثم قدم على عثمان. واستخلف على مصر السائب بن هشام بن عمرو العامري, فانتزى عليه محمد بن ابي حذيفة بن عتبة بن ربيعة, فخلع السائبَ وتأمّرَ على مصر. ورجع عبد الله بن سعد من وفادته  فمنعه ابن ابي حذيفة من دخول الفسطاط  ..."
وقد أخرج  ابن شبة في تاريخ المدينة موقف ابن ابي حذيفة مع عقبة بن عامر (دون الاشارة الى انه كان الذي استخلفه ابن ابي السرح على مصر). فروى عن حرملة بن عبد العزيز عن ابيه " كان محمد بن ابي حذيفة يخطب , وكان أقرأ الناس للقرآن. فقال عقبة بن عامر : صدق الله ورسوله! سمعتُ رسول الله (ص) يقول : يقرأ القرآن قوم لا يجاوز تراقيهم , يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية . قال : لئن كنت سمعت هذا من رسول الله (ص) تزعم انك ... لكذوب, انك ما علمتُ لمتهم"
كما روى عن سلمة بن مخرمة " لما انتزى ابن ابي حذيفة بمصر, فخلعَ عثمانَ , دعا الناس الى أعطياتهم, فابيتُ أن آخذ منه . قال : ثم ركبتُ الى المدينة فصرتُ الى عثمان فقلتُ : يا أمير المؤمنين ان ابن ابي حذيفة إمام حلا له كما علمتَ . وانه انتزى علينا بمصر فدعانا الى أعطياتنا فأبيتُ أن آخذ منه . فقال : عجزتَ إنما هو حقك. عجزتَ إنما هو حقك"



والأرجح هو أن ثورة محمد بن أبي حذيفة ومَن معه, وخلعهم لابن أبي السرح قد حصلت في أثناء فترة الشهور القلائل التي كان فيها عثمان مُحاصَراً إلى أن قتل. ربما كانت الأخبار الواردة من المدينة في تلك الأثناء مضطربة ومشوشة بحيث أثارت اضطراب ابن أبي السرح وأفقدته توازنه. من المحتمل أن ابن أبي السرح قد وصلته أخبار قتل عثمان وبيعة عليّ ففزع وعرف أنه ليس فقط سيفقد منصبه , وإنما قد يصبح مطلوبا للعقاب من قبل الخليفة الجديد على ما اقترفه من تجاوزات أثناء ولايته الطويلة. لا شك أن ابن أبي السرح كان يعرف علياً حق المعرفة, ويعرف صرامته في الحق, وربما قدر أن عليا سيكون كله آذاناً صاغية لكل مَن له شكوى أو مظلمة ضده.


مصير ابن ابي حذيفة

قال الطبري في تاريخه:
"اختلف أهل السير في وقت مقتله فقال الواقدي قتل في سنة 36. قال وكان سبب قتله أن معاوية وعمرا سارا إليه وهو بمصر قد ضبطها فنزلا بعين شمس فعالجا الدخول فلم يقدرا عليه فخدعا محمد بن أبي حذيفة على أن يخرج في ألف رجل إلى العريش فخرج وخلف الحكم بن الصلت على مصر فلما خرج محمد بن أبي حذيفة إلى العريش تحصن وجاء عمرو فنصب المجانيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فأخذوا فقتلوا قال وذاك قبل أن يبعث على إلى مصر قيس بن سعد .
وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه ذكر أن محمد بن أبي حذيفة إنما أخذ بعد أن قتل محمد بن أبي بكر ودخل عمرو بن العاص مصر وغلب عليها وزعم أن عمرا لما دخل هو وأصحابه مصر أصابوا محمد بن أبي حذيفة فبعثوا به إلى معاوية وهو بفلسطين فحبسه في سجن له فمكث فيه غير كثير ثم إنه هرب من السجن وكان ابن خال معاوية فأرى معاوية الناس أنه قد كره انفلاته فقال لأهل الشأم من يطلبه قال وقد كان معاوية يحب فيما يرون أن ينجو فقال رجل من خثعم يقال له عبد الله بن عمرو بن ظلام وكان رجلا شجاعا وكان عثمانيا أنا أطلبه فخرج في حاله حتى لحقه بأرض البلقاء بحوران وقد دخل في غار هناك فجاءت حمر تدخله وقد أصابها المطر فلما رأت الحمر الرجل في الغار فزعت فنفرت فقال حصادون كانوا قريبا من الغار والله إن لنفر هذه الحمر من الغار لشأنا فذهبوا لينظروا فإذا هم به فخرجوا ويوافقهم عبد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي فسألهم عنه ووصفه لهم فقالوا له ها هوذا في الغار قال فجاء حتى استخرجه وكره أن يرجعه إلى معاوية فيخلى سبيله فضرب عنقه"[5]
وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أن محمد بن ابي حذيفة "قتل بفلسطين سنة 36 , وكان ممن أخرجه معاوية في الرهن من مصر"
وروى ابن حجر في الاصابة أنه بعدما قتل عثمان:
"فلما علم بذلك من امتنع من مبايعة بن أبي حذيفة اجتمعوا وتبايعوا على الطلب بدمه .فسار بهم معاوية بن حديج إلى الصعيد. فأرسل إليهم بن أبي حذيفة جيشا آخر فالتقوا فقتل قائد الجيش.
ثم كان من مسير معاوية بن أبي سفيان إلى مصر لما أراد المسير إلى صفين فرأى ألا يترك أهل مصر مع ابن أبي حذيفة خلفه فسار إليهم في عسكر كثيف. فخرج إليهم ابن أبي حذيفة في أهل مصر فمنعوه من دخول الفسطاط . فأرسل إليهم إنا لا نريد قتال أحد وإنما نطلب قتلة عثمان.
فدار الكلام بينهم في الموادعة . واستخلف بن أبي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف وخرج مع جماعة منهم عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر وأبو شمر بن أبرهة بن الصباح فلما بلغوا به غدر بهم عسكر معاوية وسجنوهم إلى أن قتلوا بعد ذلك.
وذكر أبو أحمد الحاكم أن محمدا بن أبي حذيفة لما ضبط مصر وأراد معاوية الخروج إلى صفين بدأ بمصر أولا فقاتله محمد بن أبي حذيفة بالعريش إلى أن تصالحا وطلب منه معاوية ناسا يكونون تحت يده رهنا ليأمن جانبهم إذا خرج إلى صفين فأخرج محمد رهنا عدتهم ثلاثون نفسا فأحيط بهم وهو فيهم فسجنوا
وقال أبو أحمد الحاكم خدع معاوية محمد بن أبي حذيفة حتى خرج إلى العريش في ثلاثين نفسا فحاصره ونصب عليه المنجنيق حتى نزل على صلح فحبس ثم قتل
وأخرج بن عائذ من طريق بن لهيعة عن يزيد بن حبيب قال فرقهم معاوية بصفين فسجن بن أبي حذيفة ومن معه في سجن دمشق وسجن بن عديس والباقين في سجن بعلبك....
واختلف في وفاته فقال بن قتيبة قتله رشدين مولى معاوية وقال بن الكلبي قتله مالك بن هبيرة السكوني"

فمحمد بن ابي حذيفة ذهب ضحية غدر معاوية حسب أغلب الروايات.

علاقة ابن ابي حذيفة بالامام علي

كان محمد بن ابي حذيفة شيعيا, ولا جدال في ذلك. والمصادر الشيعية تذكره بكل خير وتقول بأن الامام عليا قد أثبته على ولاية مصر لما تولى. فمثلا قال عنه الحر العاملي في وسائل الشيعة " مشكور. قاله العلامة. وقال الشيخ : كان عامل علي عليه السلام على مصر. وروى الكشي مدحه". وورد في رجال الطوسي أنه كان عامل الامام علي على مصر
ورغم أن المشهور لدى المؤرحين هو ان الذي عينه الامام علي على ولاية مصر لما تولى كان قيس بن سعد بن عبادة الانصاري, إلا أنه توجد روايات تقول بأنه كان قد أقر ابن أبي حذيفة فترة قليلة قبل ذلك. فمثلا قال ابن كثير في البداية والنهاية ان محمد بن ابي حذيفة " كان قد تغلب على مصر , وأخرج منها عبد الله بن سعد بن ابي سرح, نائب عثمان بعد عمرو بن العاص. فأقرّه عليها عليّ مدة يسيرة ثم عزله بقيس بن سعد"
وقال ابن حجر العسقلاني في الاصابة "... وذكر خليفة بن خياط في تاريخه أن عليا لما ولي الخلافة أقر محمد بن أبي حذيفة على إمرة مصر ثم ولاها محمد بن أبي بكر." وهنا يبدو ابن حجر قد أخطأ بذكر محمد بن ابي بكر مباشرة بعد ابن ابي حذيفة, فهو قد نسي قيس بن سعد.
وأخذا بعين الاعتبار أنه في الفترة المضطربة التي تولى فيها الامام علي الخلافة كان ابن ابي حذيفة متغلبا على مصر بالفعل, لا يمكن الجزم بأنه قد عيّن بالفعل من قبل الامام علي. فلا يوجد ذكر لحادثة توليته ثم عزله عند معظم المؤرخين. كما لا يوجد سبب محدد يدفع الامام عليا لتعيينه لتلك الفترة القصيرة جدا ثم استبداله. ولكن ربما هو قام بدور القائم بتصريف الاعمال في مصر الى حين وصول الوالي الرسمي للامام علي وهو قيس بن سعد.
وبخلاف محمد ابن أبي بكر الذي تربى في بيت عليّ بن أبي طالب وكان أخاً لأبناء جعفر بن أبي طالب من جهة الأم, لا توجد أدلة كثيرة على علاقة مباشرة وتواصل بين الامام علي ومحمد بن ابي حذيفة. بل على العكس من ذلك : فابن ابي حذيفة تربى في بيت عثمان بن عفان.
ولكن ينبغي القول بأن ابن ابي حذيفة لم يكن أول حالة لشخصية "أموية" النسب تتشيع لعلي بن ابي طالب وتتخلى عن انتمائها العائلي في سبيل ذلك. فقبله كان خالد بن سعيد بن العاص.
وفي حالة محمد بن ابي حذيفة انا أرجح أن صداقته لمحمد بن ابي بكر , وقربه منه, جعله يتأثر بافكاره فيقلب انتماءه وولاءه من قريبه وربيبه عثمان الى علي.

وقد وجدتُ نصا يتحدث عن رسالة من محمد بن ابي حذيفة الى الامام علي. فقد روى الطبري في تاريخه عن الواقدي:
" كان محمد بن ابي بكر ومحمد بن ابي حذيفة بمصر يحرّضان على عثمان. فقدِم محمد بن ابي بكر وأقام محمد بن ابي حذيفة بمصر .
فلما خرج المصريون خرج عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة وأظهروا انهم يريدون العمرة . وخرجوا في رجب.
وبعث عبد الله بن سعد رسولاً سارَ إحدى عشرة ليلة يخبر عثمان أن ابن عديس وأصحابه قد وجهوا نحوه, وأن محمد بن ابي حذيفة شيعهم الى عجرود ثم رجع.
وأظهر محمد ان قال : خرج القومُ عُمّاراً. وقال في السر: خرج القومُ الى إمامهم فإن نزعَ وإلاّ قتلوه.
وسار القوم المنازل لم يعدوها حتى نزلوا ذا خشب.
وقال عثمان قبل قدومهم حين جاءه رسول عبد الله بن سعد: هؤلاء قوم من اهل مصر يريدون بزعمهم العمرة , والله ما أراهم يريدونها ولكن الناس قد دخل بهم وأسرعوا الى الفتنة وطال عليهم عمري . أما والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة والاحن والاثرة الظاهرة والاحكام المغيرة.
قال : فلما نزل القوم ذا خشب جاء الخبر ان القوم يريدون قتل عثمان إن لم ينزع. وأتى رسولهم الى علي ليلاً , والى طلحة والى عمار بن ياسر. وكتب محمد بن ابي حذيفة معهم الى عليّ كتاباً , فجاؤوا بالكتاب الى عليّ فلم يظهر على ما فيه . فلما رأى عثمان ما رأى جاء علياً فدخل عليه بيته فقال : يا ابن عم : إنه ليس لي مترك وان قرابتي قريبة ولي حق عظيم عليك وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي وأنا أعلم ان لك عند الناس قدرا وانهم يسمعون منك فأنا أحب أن تركب اليهم فتردهم عني..."  
ورغم أن هدف هذه الرواية الظاهر هو إثبات مسؤولية ابن ابي حذيفة وابن ابي بكر عن إرسال المتمردين على عثمان من مصر الى المدينة , إلاّ أن فيها ما يشير الى تواصل مباشر بين ابن ابي حذيفة والامام علي, رغم أنها لم تظهر محتوى الكتاب.


مصير ابن ابي السرح

هناك عدم وضوح فيما يختص بعبد الله بن سعد بن أبي السرح ومصيره عقب مقتل عثمان.

روى البلاذري في انساب الأشراف أنه بعد ان سيطر ابن ابي حذيفة على مصر أثناء حصار عثمان قام بطرد ابن ابي السرح من مصر
"فصار عبد الله بن سعد إلى فلسطين ثم لحق بمعاوية , ثم إنه صار بعد ذلك إلى افريقية فقتل بها. ويقال : مات بفلسطين وكان قد أقام بها. وكان موته في آخر خلافة علي"
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة ابن ابي السرح انه بعد ان منع ابن ابي حذيفة ابنَ ابي السرح من العودة الى مصر".. فمضى الى عسقلان , فأقام بها حتى قتل عثمان رضي الله عنه . وقيل : بل أقام بالرملة حتى مات فارّاً من الفتنة"
وقال ابن خلدون في تاريخه:
"وخرج عبد الله من مصر مددا لعثمان فخالفه محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى مصر وانتزى بها ورجع عبد الله من طريقه فمنعه الدخول فسار إلى عسقلان وأقام بها حتى قتل عثمان ثم سار إلى الرملة وكانت من مهماته فأقام بها هربا من الفتنة حتى مات ولم يبايع عليا ولا معاوية"

روى ابن حجر في الاصابة" بايعَ أهلُ مصر محمدَ بن أبي حذيفة بالإمارة إلاّ عصابة منهم معاوية بن حديج وبسر بن أرطأة , فقدم عبد الله بن سعد حتى إذا بلغ القلزم وجد هناك خيلاً لابن أبي حذيفة فمنعوه أن يدخل, فانصرف إلى عسقلان".
وحسب هذه الرواية فإن ابن أبي السرح يكون قد قرر الذهاب إلى معاوية بعد خلعه من مصر. وهذه الرواية ممكنة لأنه لم ترد أية روايات تفيد بوجود مقاومة لدخول والي عليّ المعيّن, قيس بن سعد , إلى مصر بعد فترة قصيرة. إذ لو كان ابن ابي السرح مسيطراً على مصر لما سمح لقيس بن سعد بدخولها بيُسر.
وليس لابن ابي السرح ذكرٌ مؤكد في أحداث الصراع الدامي الذي دار بين معاوية وعليّ. رغم أنه يوجد له ذكر لدى الدينوري في الاخبار الطوال ضمن الاشخاص الذين استشارهم معاوية حول التخلية بين جيش العراق وماء الفرات لما وصلوا صفين.
ولكن الأرجح انه مات بفلسطين في بداية تلك الأحداث, خاصة انه ولا شك كان طاعناً في السن , في السبعينات من عمره حتماً. فهو كان قد ارتدّ في بداية بعثة الرسول(ص), أي انه كان رجلاً ناضجاً قبل حوالي 55 عاما من سنة 35 للهجرة . وبذلك يكون ولا شك في أواخر عمره عند مقتل عثمان.
ويقول ابن حجر في الاصابة أن ابن أبي السرح مات في عسقلان ( وقيل الرملة ) سنة 36 للهجرة. رغم أنه ذكر رواية أخرى تفيد أنه عاش إلى سنة 57 , وحتى 59 , للهجرة. وذكر ابن الأثير في أسد الغابة انه مات بعسقلان سنة 36 أو 37 رغم أن هناك من روى أنه عاش إلى آخر أيام معاوية.


الفصل الثاني : التمرد في العراق[6]


كما في كل مكان وزمان, لا يمكن أن يُعزى التمرد على السلطة والخليفة الى سبب واحد بعينه أو الى حادثة محددة. فالثورة تكون نتاج عوامل كثيرة تتراكم حتى تصل الى نقطة الانفجار. وهذا ما حصل في العراق.
فبالاضافة الى ما ذكرناه بشأن نوعية الولاة الذين عينهم عثمان , والمآخذ الكثيرة على خلفياتهم وسلوكهم الشخصي,  تدل كل المؤشرات على أن السياسة الاقتصادية لعثمان وولاته كانت محل نقمة وسبباً لغضب عامة المسلمين. خاصة وأنه كان هناك توجه واضح للاستئثار بالأراضي والمزارع العراقية من قبل الطبقة الأموية الحاكمة وأتباعها كما تقدم. ومن المؤكد أنه لم يكن هناك رضى من الناس عما يرونه من نهب للخيرات تمارسها بطانة الولاة الأمويين.

ومن الطبيعي أن تكون تلك التطورات مثار سخطٍ وغضبٍ لدى قطاع عريض من العرب المقيمين في الكوفة خاصة, منذ فترة طويلة, من أيام الفتح الأول. فأبناء القبائل العربية هناك كانوا يعتبرون أنفسهم , هم دون غيرهم, مَن قاموا بخوض القتال ضد جيوش الفرس حتى حققوا النصر والفتح, بعد أن قدموا التضحيات الجسام في سبيل ذلك. كانوا يرون أنهم بسيوفهم وحوافر خيلهم, ودماء إخوانهم وآبائهم, هزموا جيوش فارس في القادسية ونهاوند. وهم الآن يرون القرشيين يسيرون باتجاهٍ خطير جداً, ومضرّ بمصالهم, وهو الهيمنة على ثروات العراق الاسئثار بها , دونهم. فالأموال تجبى من أراضي العراق وترسل إلى كبار الأثرياء القرشيين في المدينة المنورة.
وربما كان عدد من سكان العراق العرب لا يمانعون أن يستفيد من الثروات الناتجة عن الفتوحات أشخاص ذوو ماض إسلامي مجيد, ممن صحبوا رسول الله(ص) وخاضوا الجهاد معه. ولكن لا شك أن قيام أبناء قبيلة قريش , والبطن الأموي خاصة, ممن ليست لهم سابقة ولا فضل في الإسلام, أو ممن امضوا جلّ حياتهم في عداء رسول الله(ص) , بانتزاع الملكيات الضخمة في العراق دون وجه حق ولا أهلية, كان يسبب للمقاتلين المستقرين في العراق ألما وأسى عظيما. فهم يرون " حقهم " يضيع أمام أعينهم , وكان لا بد لذلك ان يؤدي إلى حركة رفض وتمرد, خاصة وأن الخليفة لا يفعل شيئا ليوقف تلك الموجة, بل كان هو مسببها والمروّج لها.


الكوفة تضطرب


تقييم سعيد بن العاص لأحوال الكوفة

بعد فترةٍ قصيرةٍ من وصوله إلى الكوفة, بعد تعيينه والياً, كتب سعيد بن العاص تقريراً إلى عثمان حول تقييمه لأوضاع أهلها وأحوالها
وفيما يلي رواية سيف بن عمر بشأن قدوم سعيد والياً كما ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق وفيها يظهر تقييمه لأوضاع الكوفة:
" فصعد سعيد المنبر , فحمد الله وأثنى عليه
فقال : والله لقد بُعثتُ إليكم وإني لكاره. ولكن لم أجد بداً إذا أمِرتُ أن أتمر
الا ان الفتنة قد أطلعت خطمها وعيبيها . ووالله لأضربنّ وجهها حتى أقمعها أو تعييني الله. وإني لرائد نفسي اليوم.
ونزل, فسأل عن أهل الكوفة فأقيم على حال أهلها
فكتب الى عثمان بالذي انتهى اليه : ان أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغُلِب أهل الشرف فيهم والبيوتات والسابقة والقدمة. والغالب على تلك البلاد روادف ردفت وأعراب لحقت
فلو وأحق طاعتنا حتى ما ننظر الى ذي شرف فلا بلاء من نازلتها ولا نابتتها."
وإذا تجاوزنا شكليات نصوص سيف بن عمر التي هي دائماً موجهة للدفاع عن عثمان وقراراته (كلامه عن الوالي المجتهد الذي يريد أن يقمع الفتنة … ) يمكننا بوضوح أن نتعرف الى رؤية الوالي الأمويّ الجديد لحال الكوفة: علا فيها شأن الأوباش , الذين عبّر عنهم بِ " روادف ردفت وأعراب لحقت", وهي بالتالي بحاجة إلى سياسةٍ تعيد الأمور إلى نصابها! فلا بد له من وضع حدّ لأولئك "العامة" الذين صاروا " يتطاولون" على الأسياد.

نتابع رواية سيف:
"فكتب اليه عثمان : أما بعد , ففضّل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد . وليكن مَن نزلها بسببهم تبعاً لهم , إلاّ أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء. واحفظ لكل منزلته , وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق. فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل "
وهذا الكلام ليس ببعيد عن عثمان, وخاصة فكرة الحفاظ على المقامات .
يتابع سيف "فأرسل سعيد الى وجوه الناس من أهل الأيام والقادسية فقال : أنتم وجوه من ورائكم , والوجه ينبئ عن الجسد فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة . وأدخل معه من يحتمل ذلك من اللواحق والروادف.
وخلص بالقراء والمتشمتين في سمره "
ويستفاد من هذه الفقرة أن سعيداً بدأ يرسي قواعد سياسة جديدة في الكوفة قوامها إعادة الاعتبار الى الزعماء والأشراف والوجهاء وتقريبهم الى السلطة, وذلك على حساب الفئات الهامشية من القادمين الجدد وأهل الذمة وغيرهم ممن قربهم اليه الوليد بن عقبة .
ولكن ينبغي الاشارة الى أن الاختلاف في السياسة بين الواليين الأمويين الوليد وسعيد ناتج عن المسلك الشخصي لكليهما أكثر من كونه تعبيراً عن فكر أو توجه سياسي. فالوليد كان فاسقاً ومتهتكاً ولذلك قرّب اليه فئات من الموالي والخلعاء بعيداً عن صرامة الأشراف والوجهاء. فليس الأمر أن الوليد كان صاحب سياسة متعاطفة مع الطبقات الأدنى أو أكثر عدالة كما قد يتوهم البعض. فلو وجد الوليد ضالته في الأشراف والقراء , ولو سايره هؤلاء في نزواته وسمره , لما تردد في جعلهم خلصائه وخاصته.
ويتابع سيف "فكأنما كانت الكوفة بيتاً شملته نار فانقطع الى اولئك الضرب ضربهم وفشت القالة والاذاعة.
وكتب سعيد الى عثمان بذلك. فنادى منادي عثمان : الصلاة جامعة. فاجتمعوا فأخبرهم بالذي كتب اليه سعيد وبالذي كتب به اليه فيهم , وبالذي جاءهم به من القالة والاذاعة .
قالوا : أصبتَ فلا تعفهم من ذلك ولا تطعهم فيما ليسوا له بأهل , بأنه إذا نهض في الامور من ليس لها بأهل لم يحتملها وأفسدها
فقال عثمان : يا أهل المدينة استعدوا واستمسكوا فقد دنت اليكم الفتن
ونزل فأوى الى منزله وتمثل مثله ومثل هذا الضرب الذين أسرعوا في الخلاف
أبني عبيد قد أتى أشياعكم          عنكم مقالتكم وشعر الشاعر
فإذا أتتكم هذه فتلبسوا              ان الرماح بصيرة بالحاسر"

وأما ابن سعد في الطبقات الكبرى فقد اختصر الكلام عن مشاكل سعيد لدى تعيينه في الكوفة, فقال :
…“ثم صعد المنبر فخطب أهل الكوفة وتكلم بكلام قصر بهم فيه ونسبهم إلى الشقاق والخلاف. فقال إنما هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش !
فشكوه إلى عثمان , فقال : كلما رأى أحدكم من أميره جفوة أرادنا أن نعزله
وأضاف ابن سعد عن سياسة الوالي الجديد " ثم انصرف سعيد بن العاص إلى الكوفة فأضَرّ بأهلها إضراراً شديدا"
ورغم أن رواية ابن سعد هذه لا تفصّل أسباب الخلاف بين الوالي واهل الكوفة , إلاّ انها تفيد في إظهار الدعم الذي تلقاه سعيد من الخليفة الذي رفض الاستجابة لمطالب الكوفيين. ويظهر من جواب عثمان " كلما رأى أحدكم من أميره جفوة أرادنا أن نعزله" نوع من الملل الممزوج بالغضب : فعثمان يجد نفسه مطالباً بعزل سعيد بعد فترة وجيزة من عزله الوليد بن عقبة! وهو لا يستسيغ ذلك.

انما هذا السواد بستانٌ لقريش

يمكن القول ان العبارة  الشهيرة لسعيد بن العاص " إنما هذا السواد بستان قريش" هي تلخيص دقيق لمجمل السياسة العثمانية في العراق. وعلى الرغم من أن هذه الكلمة قد صدرت كزلة لسان من الوالي, الاّ انها أثارت استياءً شديداً لدى الكوفيين, وكان لها وقع بالغ السلبية في أوساطهم. ولا شك أنها لامست وتراً حساساً لديهم خاصة وهم يرون واقعاً التطبيق العملي لتلك السياسة "القرشية".


 وقد أخرج الطبري في تاريخه روايتين حول المشكلة التي حدثت في الكوفة وأدت الى نفي مجموعة من شخصياتها,ضمن أحداث سنة 33 للهجرة. الاولى هي لسيف بن عمر والثانية للواقدي .
وسوف يأتي الحديث عن رواية سيف .

واما رواية الواقدي فهي اصح . تقول " قدم سعيد بن العاص الكوفة , فجعل يختار وجوه الناس, يدخلون عليه ويسمرون عنده. وإنه سمر عنده ليلة وجوه اهل الكوفة منهم : مالك بن كعب الأرحبي, والاسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيان, وفيهم مالك الاشتر في رجال.
فقال سعيد : انما هذا السواد بستان لقريش!
فقال الاشتر : أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟! والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيباً إلاّ أن يكون كأحدنا.
وتكلم معه القوم.
فقال عبد الرحمن الأسدي – وكان على شرطة سعيد – أتردّون على الأمير مقالته؟  وأغلظ لهم.
فقال الاشتر : من ههنا , لا يفوتنكم الرجل. فوثبوا عليه فوطؤوه وطأً شديداً حتى غشي عليه. ثم جُرّ برجله فألقي, فنضح بماء فأفاق.
فقال له سعيد: أبِك حياة؟
فقال : قتلني من انتخبت زعمت للاسلام.
فقال : والله لا يسمر منهم عندي أحدٌ أبداً.
فجعلوهم يجلسون في مجالسهم وبيوتهم , يشتمون عثمانَ وسعيداً. واجتمع الناس اليهم حتى كثر من يختلف اليهم.
فكتب سعيد الى عثمان يخبره بذلك. يقول ان رهطاً من أهل الكوفة سماهم له عشرة يؤلبون ويجتمعون على عيبك وعيبي والطعن في ديننا. وقد خشيتُ إن ثبت أمرهم أن يكثروا.
فكتب عثمان الى سعيد أن سيّرهم الى معاوية. ومعاوية يومئذ على الشام. فسيّرهم وهم تسعة نفر الى معاوية : فيهم مالك الاشتر وثابت بن قيس بن منقع وكميل بن زياد النخعي وصعصعة بن صوحان"

وفيما يلي رواية ابي مخنف حسب ابن شبة النميري في تاريخ المدينة:
 " كتب سعيد بن العاص الى عثمان رضي الله عنه : ان قِبلي قوماً يدعون القراء, وهم سفهاء, وثبوا على صاحب شرطتي , فضربوه ظالمين له , وشتموني, واستخفوا بحقي. منهم : عمرو بن زرارة , وكميل بن زياد, ومالك بن الحارث, وحرقوص بن زهير, وشريح بن ابي أوفى, ويزيد بن مكنف, وزيد وصعصعة ابنا صوحان[7], وجندب بن زهير.
فكتب عثمان رضي الله عنه الى الذين سماهم : أن يأتوا الشامَ , ويغزوا مغازيها.
وكتب الى سعيد : اني قد  كفيتكَ مؤونتهم , فأقرأهم كتابي هذا فإنهم لا يخالفون إن شاء الله. وعليك بتقوى الله وحسن السيرة.
فأقرأهم سعيدُ الكتابَ. فشخصوا الى دمشق..."
وكما هو ظاهر تخلو رواية ابي مخنف من ذكر السبب الذي جعل "القراء"يهاجمون صاحب شرطة سعيد.

ونجد عند البلاذري في أنساب الأشراف , من طريق أبي مخنف, رواية أفضل وأوفي مما سبق:
" لما عزل عثمان بن عفان رضي الله عنه الوليدَ بن عقبة عن الكوفة ولاّها سعيدَ بن العاص وأمره بمداراة أهلها. فكان يجالسُ قرّاءها ووجوه اهلها ويسامرهم, فيجتمع عنده منهم :
مالك بن الحارث الأشتر النخعي
وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان
وحرقوص بن زهير السعدي
وجندب بن زهير الأزدي
وشريح بن أوفى بن يزيد بن زاهر العبسي
وكعب بن عبدة النهدي – وكان يقال لعبدة بن سعد ذو الحبكة, وكان كعب ناسكاً وهو الذي قتله بسر بن أرطاة بتثليث –
وعدي بن حاتم الجواد بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي , ويكنى أبا طريف
وكدام بن حضرمي بن عامر, أحد بني مالك بن مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة
ومالك بن حبيب بن خراش ,  من بني ثعلبة بن يربوع
وقيس بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم
وزياد بن خصفة بن ثقف, من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة
ويزيد بن قيس الأرحبي
وغيرهم"
وقد حرصتُ على إثبات الأسماء هنا. وسوف أخصص فصلاً للحديث بشأنها.
يتابع ابو مخنف " فإنهم لعنده وقد صلوا العصر إذ تذاكروا السوادَ والجبلَ , ففضلوا السوادَ وقالوا : هو ما ينبت الجبل, وله هذا النخل
وكان حسان بن محدوج بن بشر بن حوط بن سعنة الذهلي الذي ابتدأ الكلامَ في ذلك .
فقال عبد الرحمن بن خنيس الأسدي , صاحب شرطه : لوددتُ أنه للأمير , وأن لكم أفضل منه.
فقال له الأشتر : تمنّ للأمير أفضلَ منه , ولا تمنّ له اموالنا!
فقال عبد الرحمن : ما يضرّك من تمنيّ حتى تزوي ما بين عينيك؟ فوالله لو شاء كان له!
 فقال الأشتر : والله لو رام ذلك ما قدر عليه.
فغضب سعيد وقال : انما السوادُ بستانٌ لقريش.
فقال الأشتر : أتجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بستاناً لك ولقومك؟ والله لو رامه أحدٌ لقرع قرعاً يتصأصأ منه!
ووثب بابن خنيس فأخذته الأيدي.
فكتب سعيد بن العاص بذلك الى عثمان وقال : إني لا أملك من الكوفة مع الأشتر وأصحابه الذين يدعون القراء – وهم السفهاء- شيئاً!
فكتب اليه أن سيرّهم الى الشام , وكتب الى الأشتر : إني لأراك تضمر شيئاً لو أظهرته لحلّ دمك! وما أظنك منتهياً حتى تصيبك قارعة لا بُقيا بعدها. فإذا اتاك كتابي هذا فسِر الى الشام لإفسادك من قبلك وأنك لا تألوهم خبالاً .
فسيرّ سعيدٌ الأشترَ ومن كان وثب مع الأشتر وهم :
زيد وصعصعة ابنا صوحان
وعائذ بن حملة الطهوي, من بني تميم
وكميل بن زياد النخعي
وجندب بن زهير الأزدي
والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني, من بني حوف بن سبع بن صعب, إخوة السبيع بن سبع بن صعب
ويزيد بن المكفف النخعي
وثابت بن قيس بن المنقع بن الحارث النخعي
وأصعر بن قيس بن الحارث بن وقاص الحارثي, من بني المعقل."
وبخلاف رواية ابن شبة والطبري تذكر رواية البلاذري هذه السبب الذي جعل سعيد بن العاص يتفوّه بذلك الكلام المتعجرف المتعالي عن هيمنة قريش وبستانها. وتسلسل الكلام في الرواية منطقي ومقبول.

ولكن أتم الروايات وأحسنها نجدها لدى ابن اعثم الكوفي في كتاب الفتوح . فقد روى بإسناده الجمعي[8] :" فبينا سعيد بن العاص ذات يوم في مسجد الكوفة وقت صلاة العصر وعنده وجوه أهل الكوفة إذ تكلم حسان بن محدوج الذهلي فقال : والله إن سهلنا لخير من جبلنا .
 فقال عدي بن حاتم : أجل ، السهل أكثر برا وخصبا وخيرا .
 فقال الأشتر : وغير هذا أيضا ، السهل أنهاره مطردة ونخله باسقات ، وما من فاكهة ينبتها الجبل إلا والسهل ينبتها ، والجبل خور وعر يحفي الحافر ، وصخره يعمي البصر ويحبس عن السفر ، وبلدتنا هذه لا ترى فيها ثلجا ولا قرا شديدا .
 قال : فقال عبد الرحمن بن خنيس الأسدي صاحب شرطة سعيد بن العاص : هو لعمري كما تذكرون ، ولوددتُ أنه كله للأمير ولكم أفضل منه !
فقال له الأشتر :يا هذا ! يجب عليك أن تتمنى للأمير أفضل منه ولا تتمنى له أموالنا ، فما أقدرك أن تتقرب إليه بغير هذا .
فقال عبد الرحمن بن خنيس : وما يضرك من ذلك يا أشتر ؟ فوالله ! إن شاء الأمير لكان هذا كله له !
فقال له الأشتر : كذبت والله يا بن خنيس ! والله إن لو رام ذلك لما قدر عليه ، ولو رمته أنت لفزعت دونه فزعا يذل ويخشع .
 قال : فغضب سعيد بن العاص من ذلك ، ثم قال : لا تغضب يا أشتر ! فإنما السوادُ كله لقريش فما نشاء منه أخذنا وما نشاء تركنا ! ولو أن رجلا قدم فيه رجلا لم يرجع إليه ، أو قدم فيه يدا لقطعتها .
 فقال له الأشتر : أنت تقول هذا أم غيرك ؟
فقال سعيد بن العاص : لا بل أنا أقوله .
 فقال الأشتر : أتريد أن تجعل مراكز رماحنا وما أفاء الله علينا بأسيافنا بستانا لك وقومك ؟! والله ! ما يصيبك من العراق إلا كل ما يصيب رجلا من المسلمين .
قال : ثم التفت الأشتر إلى عبد الرحمن بن خنيس فقال : وأنت يا عدو الله ممن يزين له رأيه في ظلمنا والتعدي علينا لكون ولاءك الشرطة . قال : ثم مد الأشتر يده فأخذ حمائل سيف ابن خنيس فجذبه إليه وقال : دونكم يا أهل الكوفة ! هذا الفاسق فاقتلوه حتى لا يكون للمجرمين ظهير.
قال : فأخذته الأيدي حتى وقع لجنبه ثم جروا برجله ، فوثب سعيد بن العاص مسرعا حتى دخل إلى منزله. وقام الأشتر فخرج من المسجد وخرجوا معه أصحابه وهم يقولون : وفقك الله فيما صنعت وقلت ! فوالله لئن رخصنا لهؤلاء قليلا لزعموا أن دورنا وموارثنا التي ورثناها عن آبائنا في بلادنا لهم من دوننا .
قال : فكتب سعيد بن العاص من ساعته بذلك إلى عثمان كتابا في أوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من سعيد بن العاص ، أما بعد ! فإني أخبر أمير المؤمنين أني ما أملك من الكوفة شيئا مع الأشتر النخعي ، ومعه قومٌ يزعمون أنهم القراء وهم السفهاء ، فهم يردون علي أمري ويعيبون علي صالح أعمالي . وأن الأشتر كان بينه وبين صاحب شرطي كلام ومراجعة في شيء لا أصل له ، فأغرى به الأشترُ سفهاءَ أصحابه وأشرار أهل المصر حتى وثبوا عليه وأنا جالس ، فضربوه حتى وقع لجنبه وهو لما به ، فكتب إلي أمير المؤمنين برأيه أعمل به إن شاء الله .
كتب إليه عثمان كتابا في أوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ! فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنك لا تملك من الكوفة شيئا من الأشتر ، ولعمري إنك تملك منها العريض الطويل ، وقد كتبتُ إلى الأشتر كتابا وضمنته كتابك فادفعه إليه وانظر أصحابه هؤلاء الذين ذكرتهم فألحقهم به - والسلام - .
قال : ثم كتب عثمان إلى الأشتر : أما بعد ! فقد بلغني يا أشتر أنك تلقح وتريد أن تنبح ! وأيم الله إني  لأظن أنك تستر أمرا لو أنك أظهرتَهُ لحلّ به دمُك ، وما أراك منتهيا عن الفتنة أو يصيبك الله بقارعة ليس معها بُقيا . فانظر إذا أتاك كتابي هذا فقرأته ورأيتَ أن لي عليك طاعة فسِر إلى الشام فتكون بها مقيما حتى يأتيك أمري . واعلم أني إنما أسيّرك إليها لا لشيء إلا لإفسادك على الناس وذلك بأنك لا تألوهم خبالا وضلالا .
قال : فلما ورد كتاب عثمان على الأشتر وقرأه عزم على الخروج عن الكوفة ، وأرسل إليه سعيد بن العاص أن أخرج وأخرج من كان معك على رأيك . فأرسل إليه الأشتر: أنه ليس بالكوفة أحد إلا وهو يرى رأيي فيما أظن ، لأنهم لا يحبون أن تجعل بلادهم بستانا لك ولقومك ، وأنا خارج فيمن اتبعني فانظر فيما يكون من بعد هذا .
قال : ثم خرج الأشتر من الكوفة ومعه أصحابه وهم صعصعة بن صوحان العبدي وأخوه وعائذ بن حملة الظهري ، وجندب بن زهير الأزدي والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، وأصفر بن قيس الحارثي ويزيد بن المكفف ، وثابت بن قيس بن منقع وكميل بن زياد ومن أشبههم من إخوانهم "

كانت هذه أقدم المصادر التي تتحدث عن مشكلات سعيد بن العاص في الكوفة (الشعبي  والواقدي وأبو مخنف). وهي رغم اختلافها في التفاصيل تظهر بوضوح أن استبدال الوليد بن عقبة بسعيد بن العاص كوالٍ للكوفة لم يجدِ نفعاً, ولم يهدّئ الأوضاع. فالمشكلة الحقيقية هي في جوهر السياسة القرشية لولاة بني أمية وما اثارته من شعور بالضيم لدى ابناء القبائل العربية. والأسماء التي تذكر كمحركين للتمرد تشهد بذلك. فلا يوجد بينهم من ينتمي لقريش أو للقبائل القريبة منها ( كثقيف مثلاً) و المحسوبة عليها. بل هم ينتمون الى عرب الأطراف كالأزد وتميم وعبد القيس بالاضافة الى يمانيين.



نقد رواية سيف بن عمر

تبدو رواية سيف لدى الطبري مصممة لتدافع عن الوالي سعيد بن العاص وللوم المعارضين في الكوفة. ولكنها رغم ذلك تفيد أنه بمرور الوقت أصبح الجو متوتراً في الكوفة إلى درجة أن مجرد كلام تفوّه به أحد الفتيان من أتباع الوالي سعيد بن العاص كان سببا في مشكلة كبرى كادت تثير قتالاً أهليا!
فحسب الرواية يكون سبب المشكلة أن عبد الرحمن بن خنيس[9] , وهو حَدَث, قد قال لسعيد بن العاص , وهو في مجلس عام:
 " والله لوددتُ أن هذا المِلطاط لك, يعني ما كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة".
 وتمضي الرواية لتقول ان هذه العبارة التي قالها الغلام أثارت هيجاناً عاصفاً من قبل عدد كبير من الكوفيين الذين قالوا " يتمنى له من سوادنا ! " ثم انهالوا عليه ضرباً هو وأبوه , حتى كادوا يقتلوهما. ويذكر سيف أسماء الغاضبين وهم : الاشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابئ. ولما حاول سعيد بن العاص تهدئة الأمور مؤكدا للناس أنها مجرد كلمات تفوه بها غلامٌ جاهل, رفضوا ذلك وقالوا له "أنت والله أمرته بها!" وتقول الرواية ان الفتى وأباه بقيا على قيد الحياة مما مكّن سعيد من تجنب الاقتتال القبلي الذي كان سينشب بين أهل الغلام من بني أسد والذين ضربوه.
وتضيف الرواية ان المهاجمين بعد ذلك " قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة" مما أدّى الى غضب في صفوف أهل الكوفة " فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم الى عثمان في إخراجهم" فأجابهم الخليفة " إذا اجتمع ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية" وتضيف " فأخرجوهم . فذلوا وانقادوا , حتى أتوه وهم بضعة عشر. فكتبوا بذلك الى عثمان . وكتب عثمان الى معاوية : ان أهل الكوفة قد أخرجوا اليك نفراً خلقوا للفتنة, فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشدا فاقبل منهم وإن أعيوك فارددهم عليهم
وهكذا فإن سيف بن عمر يحاول ان يظهر الأمور وكأن ما حدث مجرد مشكلة داخلية بحتة بين عائلات من اهل الكوفة, ولا علاقة لها بالوالي سعيد بن العاص ولا بسياسته ولا بالخليفة عثمان من قريب ولا بعيد. ويبدو الوالي فيها كرجل مصلح يحاول التوفيق بين المتنازعين , لا أكثر. ويغيّبُ سيف تماماً القول المشهور عن سعيد بن العاص " انما هذا السواد بستان قريش " والذي كان في الحقيقة السبب المباشر للمشاكل , وليس كلمات ذلك الغلام. والرواية كما لا يخفى تجعل مسؤولية النفي تقع على عاتق أهل الكوفة أنفسهم الذين طالبوا الخليفة بذلك, فاستجاب. ومن اللافت عجز سيف عن ذكر اسم أي شخص من اولئك الذين يصفهم " أشراف اهل الكوفة وصلحاؤهم", باستثناء ربما طليحة الأسدي الذي يرد ذكره في الرواية على رأس الناس المطالبين بالانتقام للغلام وأبيه. ولكن هل طليحة الأسدي من أشراف أهل الكوفة وصلحائهم؟ لا بد من تذكر ان هذا الرجل ليس فقط كان من المرتدين عن الاسلام بعد وفاة النبي(ص) ولكنه أيضاً كان من الذين ادّعوا النبوة ! هذا عدا عن الاشكال المتمثل في ان طليحة بن خويلد كان قد توفي عام 21 للهجرة كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية, فلا يمكن ان يكون حضر ذلك الموقف في الكوفة سنة 33 .


المنفيون الى الشام : الجدال مع معاوية

وهناك اختلاف في تفاصيل الكلام المتبادل الذي جرى في الشام بين معاوية والمنفيين العراقيين بين روايتي سيف والواقدي (لدى الطبري), رغم اتفاقهما على الاطار العام للحوار.
قال سيف[10] :
 انه لما قرّعهم معاوية وامتدح قبيلة قريش متعالياً عليهم قائلا لهم " بلغني أنكم نقمتم قريشاً, وإن قريشاً لو لم تكنْ عدتم أذلة كما كنتم...." , ردّ عليه أحدهم " أما ما ذكرتَ من قريش, فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا"
فأجابه معاوية "... إن قريشاً لم تعِز في جاهلية ولا إسلام إلاّ بالله عز وجل. لم تكن بأكثر العرب ولا بأشدهم, ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً وأمحضهم أنسابا وأعظمهم أخطاراً وأكملهم مروءة. ولم يمتنعوا في الجاهلية – والناس يأكل بعضهم بعضا – إلاّ بالله الذي لا يستذل من أعز ولا يوضع من رفع, فبوّأهم حَرَماً آمنا يتخطف الناس من حولهم.
هل تعرفون عربا او عَجَماً, أو سوداً أو حمراً, إلاّ قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة , إلاّ ما كان من قريش. فإنه لم يُردهم أحدٌ من الناس بكيدٍ إلاّ جعل الله خدّه الأسفل, حتى أراد الله تعالى أن يتنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا, وسوء مرد الاخرة. فارتضى لذلك خير خلقه, ثم ارتضى له أصحابا, فكان خيارهم قريشاً. ثم بنى هذا المُلك عليهم, وجعل هذه الخليفة فيهم, ولا يصلح ذلك إلاّ عليهم فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم بالله , أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟ "
ثم وجه معاوية كلامه الى صعصعة بن صوحان بالذات فشتمه وقومه بعبارات قاسية " فإن قريتك شر قرى عربية : أنتنها نبتاً وأعمقها وادياً وأعرفها بالشر وألأمها جيراناً ! لم يسكنها شريف قط ولا وضيع الاّ سبّ بها وكانت عليه هجنة. ثم كانوا أقبح العرب ألقاباً , وألأمه أصهاراً . نزاع الأمم. وأنتم جيران الخط وفعلة فارس..."
وهنا يشير معاوية الى قبيلة عبد القيس التي كانت تقطن المناطق الشرقية للجزيرة العربية , وهي بالتالي مجاورة لايران.
ثم أكمل سيف على لسان معاوية " ان رسول الله (ص) كان معصوماً فولاني وأدخلني في أمره. ثم استخلف ابو بكر رضي الله تعالى عنه فولاني. ثم استخلف عمر فولاني. ثم استخلف عثمان فولاني. فلم آل لأحد منهم , ولم يولني إلاّ وهو راض عني. وإنما طلب رسول الله (ص) للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء, ولم يطلب لها أهل الاجتهاد والجهل بها والضعف عنها..."
وهنا يشتط سيف بن عمر ويتطرف في دفاعه عن معاوية ! فمتى ولاه رسول الله ؟ ومتى أدخله في أمره؟! بل ومتى ولاه ابو بكر؟ إنما ولى أخاه يزيداً. ثم يقول سيف ان معاوية بعد ان حذرهم وهددهم أطلقهم وأعطاهم حرية الذهاب الى أين شاؤوا, بعد أن كتب الى عثمان ان هؤلاء" أقوام ليست لهم عقول ولا أديان! أثقلهم الاسلام وأضجرهم العدل! لا يريدون الله بشيء ولا يتكلمون بحجة . إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة, والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم..." 

ثم يقول ان هؤلاء اختاروا ان يذهبوا الى منطقة الجزيرة , لأنهم خشوا إن رجعوا الى الكوفة أن يُشمت بهم. وهنا استدعاهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد الذي كان حاكم حمص القوي.  فاستقبلهم بقوله " يا آلة الشيطان! لا مرحبا بكم ولا أهلا!....يا معشر مَن لا أعرفُ أعربٌ هم أم عَجَم! لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون لمعاوية. أنا ابن خالد بن الوليد! انا ابن من قد عجمته العاجمات , أنا ابن فاقئ الردة.. والله لئن بلغني يا صعصعة بن ذل! أن أحد ممن معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى..." ومارس عليهم إذلالا جسديا وإرهاباً معنوياً " ... فأقامهم أشهراً, كلما ركب أمشاهم, فإذا مر به قال: يا ابن الخطيئة! أعلمتَ أن مَن لم يصلحه الخير أصلحه الشر..." حتى أجبرهم أخيراً على إعلان التوبة أمامه. فأرسل الاشترَ الى عثمان فأعلن التوبة والندم أمامه " فقال عثمان للأشتر : احلل حيث شئتَ. فقال : مع عبد الرحمن بن خالد , وذكر من فضله"

وهكذا فإنه حتى التنكيل القاسي بالمعارضين وإذلالهم على يد ابن خالد يجعله سيف بن عمر أمراً أختاره هؤلاء طواعية وبإرادتهم! وأن الأشتر بعد كل ذلك يمتدح ابن خالد ويرغب في العيش في كنفه!!

وأما الواقدي فقد ذكر في روايته مجموعة من العبارات المتبادلة بين معاوية والمتمردين , مما لم يرق لسيف فلم يروه. ومن ذلك ان معاوية افتخر امامهم بأبيه " وقد عرفت قريش ان أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها... وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناسَ لم يلد إلاّ حازماً. قال صعصعة : كذبتَ ...."

ومن ذلك أيضاً طعن المعارضين بأهلية معاوية نفسه لمنصبه الذي يتولاه " لستَ بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله.... فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك! قال : من هو ؟ قال : من كان أبوه أحسن قدماً من أبيك وهو بنفسه أحسن قدماً منك في الاسلام..."
وأنا أشك في ان يكون العراقيون – في تلك الظروف - قد طالبوا معاوية باعتزال عمله.

 ثم يضيف الواقدي انه في نهاية هذا التبادل الحاد للعبارات بينهم وبين معاوية " وثبوا عليه فأخذوا برأسه ولحيته". وهذا مما يمكن الشك به , لأن معاوية كان دائماً محاطاً بالحرس, إلاّ أن يكونوا قد غافلوه.
ثم يقول ان معاوية كتب الى عثمان " ... فإنك بعثتَ إليّ أقواماً يتكلمون بألسنة الشياطين ... فقد أفسدوا كثيراً من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة. ولستُ آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم... فكتب اليه عثمان يأمره أن يردهم الى سعيد بن العاص بالكوفة . فردهم اليه. فلم يكونوا إلاّ أطلق ألسنة منهم حين رجعوا. وكتب سعيد الى عثمان يضج منه . فكتب عثمان الى سعيد أن سيّرهُمْ الى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد"

واما رواية أبي مخنف فنجدها لدى ابن شبة والبلاذري . وهي في إجمالها تخلو من تفاصيل ذلك الجدال المطوّل بين المنفيين ومعاوية والذي نجده لدى سيف بن عمر , وبدرجة أقل لدى الواقدي.
وفي رواية ابي مخنف لدى ابن شبة النميري في تاريخ المدينة:
 "... فشخصوا الى دمشق, فأكرمهم معاوية. وقال لهم : انكم قدمتم بلداً لا يعرف أهله إلاّ الطاعة. فلا تجادلوهم فتدخلوا الشك قلوبهم.
فقال عمرو بن زرارة , والاشتر : ان الله قد أخذ على العلماء موثقاً أن يبينوا علمهم للناس. فإن سألنا سائلٌ عن شيئ نعلمه لم نكتمه.
فقال معاوية : قد خفتُ أن تكونوا مرصدين للفتنة ! فاتقوا الله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا فيه.
فحبسهما معاوية رضي الله عنه . فقال له زيد بن صوحان : ما هذا؟ ان الذين أشخصونا اليك من بلادنا لم يعجزوا عن حبسنا لو أرادوا ذلك . فإن كنا ظالمين فنستغفر الله ونتوب اليه, وإن كنا مظلومين فنسأل الله العافية.
فقال معاوية رضي الله عنه : اني لأحسبك امرأ صالحاً , فإن شئتَ أذنتُ لك أن تأتي مصرك, وكتبتُ الى أمير المؤمنين أعلمه إذني لك.
فقال : أخشى أن تأذن لي وتكتب الى سعيد .
فلما أراد الشخوص كلمه في الاشتر وعمرو بن زرارة  فأخرجهما. فأقاموا لا يرون أمراً يكرهونه.
وبلغ معاوية ان قوماً يأتونهم , فأشخصهم الى حمص. فكانوا بها حتى اعتزم أهل الكوفة على إخراج سعيد , فكتبوا اليهم فقدموا"
ولدى البلاذري في أنساب الأشراف يشير أبو مخنف أن تسييرهم الى حمص, حيث عبد الرحمن بن خالد بن الوليد, قم تم بناء على أمر عثمان لما اشتكى له معاوية من ان المنفيين قد يفسدون اهل الشام. ولا تذكر الرواية أنهم بقوا في حمص الى حين عزم أهل الكوفة على اخراج سعيد.

ولا بد من ذكر الرواية المفصلة لذلك الحوار التي أوردها ابن اعثم في كتاب الفتوح بإسناده الجمعي:
"... حتى صاروا إلى كنيسة يقال لها كنيسة مريم ، فأرسل إليهم معاوية فدعاهم ، فجاؤوا حتى دخلوا ثم سلموا وجلسوا فقال لهم معاوية : يا هؤلاء ! اتقوا الله ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات). قال : ثم سكت معاوية .
 قال له كميل بن زياد : يا معاوية ! ( فهدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) فنحن أولئك الذين هداهم الله .
فقال له معاوية : كلا يا كميل ! إنما أولئك الذين أطاعوا الله ورسوله وولاة الامر فلم يدفنوا محاسنهم ولا أشاعوا مساوئهم .
 فقال كميل : يا معاوية ! لولا أن عثمان بن عفان وفق منك بمثل هذا الكلام وهذه الخديعة لما اتخذك لنا سجنا . فقال له الأشتر : يا كميل ! ابتدأنا بالمنطق وأنت أحدثنا سنا ، قال : فسكت كميل وتكلم الأشتر فقال : أما بعد ! فإن الله تبارك وتعالى أكرم هذه الأمة برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجمع به كلمتها وأظهرها على الناس ، فلبث بذلك ما شاء الله أن يلبث ، ثم قبضه الله عز وجل إلى رضوانه ومحل جنانه - صلى الله عليه وسلم كثيرا ، ثم ولى من بعده قوم صالحون عملوا بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجزاهم بأحسن ما أسلفوا من الصالحات ، ثم حدثت بعد ذلك أحداث فرأى المؤمنون من أهل طاعة الله أن ينكروا الظلم وأن يقولوا بالحق فإن أعاننا ولاتنا أعفاهم الله من هذه الاعمال التي لا يحبها أهل الطاعة ، فنحن معهم ولا نخالف عليهم ، وإن أبوا ذلك فإن الله تبارك وتعالى قد قال في كتابه وقوله الحق : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) فلسنا يا معاوية ! بكاتمي برهان الله عز وجل ولا بتاركي أمر الله لمن جهله حتى يعلم مثل الذي علمنا ، وإلا فقد غششنا أئمتنا وكنا كمن نبذ الكتاب وراء ظهره .
 فقال له معاوية : يا أشتر ! إني أراك معلنا بخلافنا مرتضيا بالعداوة لنا ، والله لأشدن وثاقك ولأطيلن حبسك . فقال له عمرو بن زرارة[11] : يا معاوية ! لئن حبسته لتعلمن أن له عشيرة كثيرة عددها لا يضام ، شدها شديد على من خالفها ونبزها .
 فقال معاوية : وأنت يا عمرو تحب أن يضرب عنقك ولا تترك حيا ، اذهبوا بهم إلى السجن .
قال : فذهبوا بهم إلى السجن. فقال زيد بن المكفكف[12] فقال : يا معاوية ! إن القوم بعثوا بنا إليك لم يكن بهم عجز في حبسنا في بلادنا لو أرادوا ذلك ، فلا تؤذينا وأحسن مجاورتنا ما جاورناك ، فما أقل ما نجاورك حتى نفارقك إن شاء الله تعالى .
قال : ثم وثب صعصعة بن صوحان فقال : يا معاوية ! إن مالك بن الحارث الأشتر وعمرو بن زرارة رجلان لهما فضل في دينهم وحالة حسنة في عشيرتهم وقد حبستهم ، فأمُرْ بإخراجهم فذلك أجمل في الرأي .
 فقال معاوية : علي بهم ، فأتي بهم من الحبس ، فقال معاوية : كيف ترون عفوي عنكم يا أهل العراق بعد جهلكم واستحقاقكم الحبس ؟ رحم الله أبا سفيان لقد كان حليماً ، ولو ولد الناسَ كلهم لكانوا حلماء !
فقال صعصعة بن صوحان : والله يا معاوية ! لقد ولدهم من هو خير من أبي سفيان ، فسفهاؤهم وجهالهم أكثر من حلمائهم !
 فقال معاوية : قاتلك الله يا صعصعة ! قد أعطيت لسانا حديدا ، اخرجوا واتقوا الله وأحسنوا الثناء على أئمتكم فإنهم جنة لكم .
 فقال صعصعة : يا معاوية ! إننا لا نرى لمخلوق طاعة في معصية الخالق .
 فقال معاوية : اخرج عني ، أخرجك الله إلى النار ! فلعمري أنك حدث .
 فخرج القوم من عند معاوية وصاروا إلى منازلهم ، فلم يزالوا مقيمين وقد وكل بهم قوم يحفظونهم ألاّ يبرحوا"

سياسة النفي

تحدث ابن كثير في البداية والنهاية بأسلوب مخفف , مصمم للدفاع عن الخليفة, عن سياسة النفي التي طبقها عثمان . وأنا أورد نص كلام ابن كثير كله , لأنه لا يتهم بالتحامل عثمان, من أجل إثبات حصول النفي , بغض النظر عن تبريرات ابن كثير وآرائه. فقال عن أحداث سنة 33 للهجرة :
" وفيها سيّر أمير المؤمنين جماعة من قراء أهل الكوفة الى الشام . وكان سبب ذلك انهم تكلموا بكلام قبيح في مجلس سعيد بن عامر[13]  فكتب الى عثمان في أمرهم. فكتب اليه عثمان أن يجليهم عن بلده الى الشام . وكتب عثمان الى معاوية أمير الشام أنه قد أخرج اليك قراء من اهل الكوفة فأنزلهم وأكرمهم وتألفهم.
فلما قدموا أنزلهم معاوية وأكرمهم واجتمع بهم ووعظهم ونصحهم فيما يعتمدونه من اتباع الجماعة وترك الانفراد والابتعاد.
فأجاب متكلمهم والمترجم عنهم بكلام فيه بشاعة وشناعة, فاحتملهم معاوية لحلمه. وأخذ في مدح قريش – وكانوا قد نالوا منهم – وأخذ في المدح لرسول الله (ص) والثناء عليه , والصلاة والتسليم. وافتخر معاوية بوالده وشرفه في قومه. وقال فيما قال : وأظن أبا سفيان لو ولد الناسَ كلهم لم يلِد إلاّ حازماً!
فقال له صعصعة بن صوحان : كذبتَ ! قد ولد الناس كلهم لمن هو خير من ابي سفيان, مَن خلقه الله بيده , ونفخ فيه من روحه , وأمر الملائكة فسجدوا له , فكان فيهم البر والفاجر والاحمق والكيس.
ثم بذل لهم النصح مرة أخرى , فإذا هم يتمادون في غيهم, ويستمرون على جهالتهم وحماقتهم. فعند ذلك أخرجهم من بلده ونفاهم عن الشام, لئلا يشوشوا عقول الطغام! وذلك أنه كان يشتمل مطاوي كلامهم على القدح في قريش كونهم فرطوا وضيعوا ما يجب عليهم من القيام فيه, من نصرة الدين وقمع المفسدين. وإنما يريدون بهذا التنقيص والعيب ورجم الغيب. وكانوا يشتمون عثمانَ وسعيدَ بن العاص. وكانوا عشرة, وقيل تسعة وهو الاشبه, منهم كميل بن زياد, والاشتر النخعي – واسمه مالك بن يزيد-  وعلقمة بن قيس النخعيان, وثابت بن قيس النخعي, وجندب بن زهير العامري, وجندب بن كعب الأزدي, وعروة بن الجعد, وعمرو بن الحمق الخزاعي.
فلما خرجوا من دمشق أووا الى الجزيرة, فاجتمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد – وكان نائباً على الجزيرة ثم ولي حمص بعد ذلك – فهددهم وتوعدهم . فاعتذروا اليه وأنابوا الى الإقلاع عما كانوا عليه , فدعا لهم وسيّرَ مالكاً الاشتر النخعي الى عثمان بن عفان ليعتذر اليه عن أصحابه بين يديه.
 فقبل ذلك منهم وكف عنهم وخيرهم ان يقيموا حيث أحبوا. فاختاروا أن يكونوا في معاملة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فقدموا عليه حمص, فأمرهم بالمقام في الساحل, وأجرى عليهم الرزق.
ويقال : بل لما مقتهم معاوية كتب فيهم الى عثمان, فجاءه كتاب عثمان أن يردهم الى سعيد بن العاص بالكوفة. فردهم اليه. فلما رجعوا كانوا ازلق ألسنة , وأكثر شراً. فضجّ منهم سعيد بن العاص الى عثمان, فأمره أن يسيرهم الى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص, وأن يلزموا الدروب.
وفي هذه السنة سير عثمان بعض أهل البصرة منها الى الشام, والى مصر, بأسباب مسوغة لما فعله رضي الله عنه.
فكان هؤلاء ممن يؤلب عليه ويمالئ الأعداء في الحط والكلام فيه. وهم الظالمون في ذلك, وهو البار الراشد رضي الله عنه. "

ويبدو ان النفي كان من اساليب العقاب المفضلة عند الخليفة عثمان! ولم يكن مقصوراً على حالات بعينها. وأحياناً كان النفي يحصل لأسباب غير سياسية. وقد روى الطبري في تاريخه عن سيف بن عمر حادثة نفي حمران بن ابان من المدينة الى البصرة لأنه تزوج امرأة في عدتها. وكذلك حادثة نفي عامر بن عبد قيس من البصرة الى الشام بسبب ما أشيع عنه من رفضه أكل اللحم والزواج وحضور صلاة الجمعة.

كما تقدم الحديث عن حادثة نفي ابي ذر الغفاري الى الربذة, وحادثة نفي عبد الرحمن بن حنبل الى خيبر.


أهل الكوفة يخاطبون الخليفة مباشرة

وقد أثار أسلوب سعيد بن العاص , وقراراته, ومجمل نهج عثمان , وخاصة سياسة النفي بحق المعارضين, استياء وغضب عدد كبير من أهل الكوفة مما دفعهم الى المغامرة بإرسال كتاب احتجاج للخليفة , رغم خوفهم من ردة فعله, طالبوه فيه بالاصلاح . وليس هناك ما يحول دون تصديق الخبر. فحتى تلك اللحظة لم يكن نظام الحكم قد تحول الى ملكيّ بعد. وكان الناس لا يزالون يعتبرون أن من حقهم التواصل المباشر مع الخليفة وتقديم النصح له بشأن مصلحة المسلمين, وكان لذلك سوابق في عهد عمر. ويمكن اعتبار ذلك محاولة لوقف السياسات الخاطئة للخليفة بطريقة شرعية , عن طريق مخاطبته مباشرة وتجاوز ولاته الذين كانوا هم من أسباب الشكوى.
روى ابن شبة النميري في تاريخ المدينة عن يونس بن ابي اسحق الهمذاني " كتب ناسٌ من وجوه أهل الكوفة ونساكهم, منهم : معقل بن قيس الرياحي, ومالك بن حبيب, وعبد الله بن الطفيل العامري , وزياد بن حفص التميمي, ويزيد بن قيس الارحبي, وحجر بن عدي الكندي, وعمرو بن الحمق الخزاعي, وسليمان بن صرد, وزيد بن حصن الطائي, وكعب بن عبدة النهدي, الى عثمان – ولم يسمّ أحدٌ نفسَه في الكتاب إلاّ كعب – أن سعيد بن العاص كثر عندك على قوم من أهل الفضل والدين, فحملك من أمرهم على ما لا يحل. وإنا نذكرك الله في أمة محمد : فإنك قد بسطتَ يدك فيها وحملتَ بني أبيك على رقابها . وقد خفنا أن يكون فساد هذه الأمة على يديك. فإن لك ناصراً ظالماً , وناقماً عليك مظلوماً ! فمتى نقم عليك النقم , ونصرك الظالم تباين الفريقان واختلفت الكلمة. فاتقِ الله فإنك أميرنا ما أطعتَ الله واستقمتَ.
وبعثوا بالكتاب مع ابي ربيعة العنزي. فقال له عثمان رضي الله عنه : مَن كتب هذا الكتاب؟
قال : صلحاء أهل المصر.
قال: سمّهم لي.
قال: ما أسمّي لك إلاّ مَن سمّى نفسه.
فكتب عثمان رضي الله عنه الى سعيد : انظر ابن ذي الحبكة فاضربه عشرين سوطاً وحوّل ديوانه الى الري. فضربه سعيد عشرين سوطاً وسيّره الى جبل دنباوند....."[14]
وأسماء الأشراف الذين كانوا وراء الكتاب الى عثمان , حسب هذا النص, تختلف عن تلك المجموعة التي تصادمت مع سعيد بن العاص ونُفيت الى الشام. وهذا يعطي النص مصداقية, ويدل على مدى اتساع دائرة المعارضة للوالي الأموي. فالرواة لا يجدون أدنى صعوبة في ذكر الكثير من الأسماء.

وقد أورد ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح الخبر الذي ذكره ابن شبة بتفصيل أكثر . وفيه ان وجهاء أهل الكوفة قد ارسلوا كتابين للخليفة : واحد بصيغة الجمع دون ذكر أسماء المرسلين " من الملأ المسلمين من أهل الكوفة" والثاني من كعب بن عبيدة النهدي الذي أصر على التوقيع باسمه الصريح. وقد حمل الكتابين رجل من قبيلة عنزة بعد نقاش جرى بينهم يشير الى خوفهم من سطوة الخليفة " والله ما يبلغ هذا الكتاب إلا رجل لا يبالي أضُربَ أم حُبسَ أم قتلَ أم نفيَ أم حُرِمَ ، فأيكم عزم على أن يصيبه خصلة من هذه الخصال فليأخذه. فقال القومُ ما ههنا أحدٌ يحب أن يبتلي بخصلة من هذه الخصال. فقال العنزي : هاتوا كتابكم. فوالله إني لا عافية [ لي ] ، وإن ابتليت فما أنا يائس أن يرزقني ربي صبرا وأجرا ، قال : فدفعوا إليه كتابهم"
وانا هنا اورد نص كتاب كعب بن عبيدة النهدي لأنه يلخص بتركيز أسباب النقمة على عثمان " بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من كعب بن عبيدة ، أما بعد ! فإني نذير لك من الفتنة ، متخوف عليك فراق هذه الأمة ، وذلك أنك :
قد نفيتَ خيارهم
 ووليتَ أشرارهم
 وقسمتَ فيأهم في عدوهم
 واستأثرتَ بفضلهم
 ومزقتَ كتابهم
 وحميتَ قطرَ السماء ونبتَ الأرض ،
 وحملتَ بني أبيك على رقاب الناس حتى قد أوغرت صدورهم واخترت عداوتهم ،
 ولعمري لئن فعلت ذلك فإنك تعلم أنك إذا فعلت ذلك وتكرمت فإنما تفعله من فيئنا وبلادنا ، والله حسيبك يحكم بيننا وبينك ، وإن أنت أبيتَ وعنيت قتلنا وأذانا ولم تفعل فإننا نستعين الله ونستجيره من ظلمك لنا بكرة وعشيا – والسلام"
ويشير ابن أعثم الى مصير كعب بن عبيدة  بعد أن ثار عليه غضب الخليفة فأمر بإحضاره من الكوفة , فأدخلوه عليه " فلما سلم عليه جعل عثمان ينظر إليه ثم قال : ( تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ) ! أنت تعلمني الحق وقد قرأتُ القرآن وأنت في صلب أبٍ مشرك ؟!
 قال كعب : على رسلك يا بن عفان ، فإن كتاب الله لو كان للأول دون الاخر لم يبق للآخر شيء ، ولكن القرآن للأول والآخر.
 فقال عثمان : والله ما أراك تدري أين ربك !
 قال : بلى يا عثمان ! هو لي ولك بالمرصاد .
 فقال مروان : يا أمير المؤمنين ! حلمك على مثل هذا وأصحابه أطمع فيك الناس .
 فقال كعب : يا عثمان ! إن هذا وأصحابه أغمروك وأغرونا بك .
قال عثمان : جرّدوه ! فجرّدوه , و ضربَهُ عشرين سوطا ، ثم أمرَ به فرُدّ إلى الكوفة" [15]

ويجب ملاحظة رد الفعل من جانب عثمان: فخلافاً لما عرف عنه من هوادة ولين, هو هنا يتصف بالنزق والعصبية. وهذا يشير الى حالة التوتر التي سيطرت عليه في مرحلة الاضطراب تلك في العراق, الى الحد الذي جعله لا يحتمل سماع المزيد من الشكاوى خاصة اذا جاءته عن طريق شخص يعتبره "نكرة"!

وتتفق رواية أبي مخنف لدى البلاذري مع ما رواه ابن شبة وابن أعثم في أن الرجل من قبيلة عنزة قد حمل كتابي الشكوى الى عثمان : أحدهما من وجوه أهل الكوفة الذين لم يرغبوا بتسمية أنفسهم للخليفة, والآخر من كعب بن عبدة النهدي. وسأورد هنا الجزء الأخير من الرواية لأنه يظهر مدى اتزان ورصانة شخص الشاب كعب بن عبدة في مقابل توتر عثمان وحدّته:  
فتقول الرواية أن عثمان بعدما قرأ الرسالة أمر سعيداً بإشخاص كعب الى المدينة , ففعل ذلك وأرسله مع أعرابيّ "فلما قدم به على عثمان قال عثمان : لأن تسمع بالمُعَيدي خير من أن تراه!
وكان شاباً حديث السن نحيفاً.
ثم أقبل عليه فقال : أأنتَ تعلمني الحق وقد قرأتُ كتاب الله وأنت في صلب رجل مشرك؟!
فقال له كعب : إن إمارة المؤمنين انما كانت لك بما اوجبته الشورى حين عاهدتَ الله على نفسك لتسيرنّ بسيرة نبيّه لا تقصّر عنها. وإن يشاورونا فيك ثانية نقلناها عنك! يا عثمان : إن كتاب الله لمن بلغه وقرأه, وقد شركناك في قراءته ومتى لم يعمل القارئ بما فيه كان حجة عليه.
فقال عثمان : والله ما أظنك تدري أين ربّك!
قال : هو بالمرصاد.
فقال مروان : حلمك أغرى مثل هذا بك وجرّأه عليك.
فامر عثمان بكعب فجرّد وضُرب عشرين سوطاً وسيّره الى دباوند, ويقال الى جبل الدخان ..."
إن ما قاله الشاب كعب منطقي ومُفحِم: فهو يرفضُ أن يعيّره الخليفة بصغر سنّه ويقول له : كتاب الله بيننا وبينك. وهذا الجواب الصادم كان السبب وراء فورة دم عثمان ومعاقبته للكوفي النحيف (التي ندم عليها فيما بعد كما تضيف الرواية).

الكوفة تنتفض : خلعُ سعيد بن العاص[16]

للأسف يعتمد الطبري في ذكره لأحداث الجرعة[17] على روايات سيف بن عمر , وهي ضعيفة جدا وتتكلم عن اتباع ابن السوداء ومعارضة القعقاع لهم في الكوفة وحديث عن الفتنة وتنقلات عجيبة للأشتر وغير ذلك مما يجعلها غير جديرة بالبحث الجدي.

ولذلك سنعتمد على ما رواه غير الطبري.
 فابن سعد قدم روايته في الطبقات الكبرى بشأن تفاصيل التمرد في الكوفة والذي أدى إلى خلع الوالي سعيد بن العاص في أواخر عهد عثمان, سنة 34 للهجرة.  
فقال :
" ورَحَلَ من الكوفة إلى عثمان مالك الأشتر ويزيد بن مكفف وثابت بن قيس وكميل بن زياد النخعي وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان والحارث بن عبد الله الأعور وجندب بن زهير وأبو زينب الأزديان وأصغر بن قيس الحارثي, يسألونه عزلَ سعيد بن العاص عنهم"
وهنا لدينا اشكالية: فهذه الأسماء التي يذكرها ابن سعد (مجموعة الأشتر) هي ذاتها التي سبق لعثمان عقابهم ونفيهم وإذلالهم قبل حوالي سنة, وعلى يد معاوية وعبد الرحمن بن خالد, بسبب صراعهم الأول مع سعيد بن العاص. فلا يعقل أنهم الآن قد عادوا ثانية الى عثمان وبهذه السرعة ولنفس الغاية! بل ان بعضهم ( جندب وأبو زينب) كانوا ممن انخرطوا في الصراع القديم مع الوليد بن عقبة.
فالأصح عندي انه لم يذهب أي وفد جديد من الكوفة الى عثمان سنة 34.
يتابع ابن سعد "ورحل سعيدٌ وافداً على عثمان فوافقهم عنده
فأبى عثمان أن يعزله وأمره أن يرجع إلى عمله"
والصحيح أن عثمان قد رد سعيداً الى عمله بعد انتهاء مؤتمر القمة بين عثمان وولاة الأمصار , وان ذلك كان سبب سفر سعيد الى المدينة (وليس ليواجه الشكاة عند عثمان).
نتابع الرواية "فخرج الأشتر من ليلته في نفر من أصحابه, فسارَ عشرَ ليال إلى الكوفة, فاستولى عليها وصعد المنبر فقال:
هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم أن هذا السواد بستان لأغيلمة من قريش! والسواد مساقط رؤوسكم ومراكز رماحكم, وفيؤكم وفيء آبائكم.
فمَن كان يرى لله عليه حقاً فلينهض إلى الجرعة. فخرج الناس فعسكروا في الجرعة, وهي بين الكوفة والحيرة"
الدور التحريضي الكبير والقيادي لمالك الاشتر أمر مؤكد. ويبدو أن الأخبار قد وصلته ومجموعته بأن الخليفة جدد ثقته بالوالي سعيد فقدروا بأنه قادم بمزيد من التشدد تجاههم فكان لا بد لهم أن يتصرفوا قبل أن ينالهم تنكيلٌ جديد.
تتابع الرواية "وأقبل سعيد بن العاص حتى نزل العذيب.
فدعا الأشتر يزيد بن قيس الأرحبي وعبد الله بن كنانة العبدي, وكانا محربين, فعقد لكل واحد منهما خمسمائة فارس .
وقال لهما : سيرا إلى سعيد بن العاص , فأزعجاه وألحقاه بصاحبه, فإن أبى فاضربا عنقه وإتياني برأسه"
ينبغي تجاهل كلمات "ضرب العنق" و " الاتيان بالرأس"! ولكن الفكرة هي منع الوالي بالقوة من دخول الكوفة.
نتابع "فأتياه فقالا له : ارحل إلى صاحبك.
فقال : إبلي انضاء أعلفها أياماً, ونقدِم المصرَ فنشتري حوائجنا ونتزود, ثم أرتحِل.
فقالا : لا والله! ولا ساعة! لترتحلنّ أو لنضربنّ عنقك.
فلما رأى الجد منهما ارتحل لاحقاً بعثمان.
وأتيا الأشتر فأخبراه . وانصرف الأشتر من معسكره إلى الكوفة, فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
والله يا أهل الكوفة ما غضبتُ إلاّ لله ولكم. وقد ألحقنا هذا الرجل بصاحبه. وقد وليتُ أبا موسى الأشعري صلاتكم وثغركم, وحذيفة بن اليمان على فيئكم"
لا ينبغي التوقف كثيراً عند قيام الاشتر "بتعيين" ابي موسى وحذيفة – كما هو ظاهر النص. فالواقع أن الاشتر لم يزد على إعلان الرغبة العامة بين اهل الكوفة في العودة الى سياسة ما قبل عثمان, في التخلص من أقرباء عثمان جملة وتفصيلاً . وأبو موسى هو من رموز عهد عمر.
يتابع ابن سعد " ثم نزل وقال : يا أبا موسى اصعد
فقال ابو موسى : ما كنتُ لأفعل. ولكن هلمّوا فبايعوا لأمير المؤمنين عثمان , وجددوا له البيعة في أعناقكم. فأجابه الناس إلى ذلك, فقبل ولايتهم. وجدّد البيعة لعثمان في رقابهم"
وهذا التصرف متوقع تماماً من رجل كابي موسى. فهو يريد الاصلاح وليس الانشقاق. ولذلك كان حريصا على إعلان الطاعة للخليفة عثمان وقام بتجديد البيعة العامة له , واستجاب الناس لذلك. وهذا يدل على أن التمرد الذي حصل في الكوفة لم يكن انشقاقاً عن جَسَد الأمة, ولا رفضاً لمؤسسة الخلافة. كان ما جرى هو تصويبٌ لأوضاع تدهورت وساءت, ولسياسةٍ انحرفت وفشلت, بعد أن طفح الكيل بعموم الكوفيين بسبب رفض الخليفة , أو عجزه , عن اتخاذ أي إجراء تجاه واليه المرفوض.
تتابع الرواية "وكتب إلى عثمان بما صنع, فأعجب ذلك عثمان وسرّه .
فقال عتبة بن الوغل شاعر اهل الكوفة:
تصدق علينا يا ابن عفان واحتسب          وأمّر علينا الأشعريّ لياليا
فقال عثمان : نعم, وشهوراً وسنين إن بقيتُ"
وهذا ليس صحيحاً. فعثمان لم يسر بما حصل. وحتى لو قبل بأبي موسى , فهو قبل بأمر واقع فرضته عليه الأحداث.
وتختتم رواية ابن سعد " وكان الذي صنع أهل الكوفة بسعيد بن العاص أول وهْن دخل على عثمان حين اجترئ عليه.
ولم يزل أبو موسى والياً لعثمان على الكوفة حتى قتل عثمان
ولم يزل سعيد بن العاص حين رجع عن الكوفة بالمدينة حتى وثب الناس بعثمان فحصروه فلم يزل سعيد في الدار معه يلزمه فيمن يلزمه لم يفارقه ويقاتل دونه"[18]
 ابن سعد مصيبٌ تماماً في وصفه لما جرى بأنه " أول وهن دخل على عثمان", لأن قيام الكوفة بفرض إرادتها على الخليفة قد يصير مثلاً يُحتذى في أماكن أخرى. ولا يغير من حقيقة الأمر تظاهُر عثمان بقبول والي الكوفة الجديد وبيعته.
وأظن أن عثمان قد بدأ يفكر في طريقة لإعادة فرض واليه المخلوع, من أجل استعادة هيبته في الكوفة. ومن المرجح أن يكون الخليفة قد بدأ مداولات مع مستشاريه حول ما ينبغي عمله لمعاقبة هؤلاء الذين أصروا على تحديهم له, وبالأخص مالك الأشتر ومجموعته . فلا بد من أسلوبٍ آخر معهم.
ولكن التطورات المتسارعة لم تمهل عثمان ليفعل أي شيئ. إذ سرعان ما تعرض إلى ما هو أخطر بكثير : تمرّد ضخمٌ اجتاح عاصمته وصار يهدده في منصبه وحياته.

وبالعودة الى الروايات , فالبلاذري في أنساب الأشراف قدم رواية طويلة وغنية بالتفاصيل , بإسناد جمعي (قالوا) ,سأتناولها بتمامها لأنها تبدو لي الأفضل. فيقول انه عندما استدعى عثمان عماله لاجتماع القمة :
"وكان علباء بن الهيثم السدوسي قد شخص مع سعيد بن العاص ليقرظه ويثني عليه لأنه سأله ذلك . وأحب علباء أيضاً أن يلقى علياً ويعلم حال عثمان وما يكون منه. فلما رأى أن عثمان قد عزم على رد عماله تعجّل الى الكوفة على ناقة له, فلما قدمها قال : يا اهل الكوفة هذا اميركم الذي يزعم أن السواد بستان له قد أقبل "
وهكذا يكون الرجل الكوفي , علباء, قد انقلب على اميره سعيد , وبدلاً من أن يمتدحه لدى الخليفة وييسر له أموره يعود مسرعاً الى الكوفة حاملاً لها الأخبار السيئة ومحرضاً أهلها على الوالي.
تتابع الرواية " واغتنم أهل الكوفة غيبة معاوية عن الشام, فكتبوا الى إخوانهم الذين بحمص مع هانئ بن خطاب الأرحبيّ يدعونهم الى القدوم ويشجعونهم عليه ويعلمونهم انه لا طاعة لعثمان مع إقامته على ما ينكر منه"
وهذا يدل على امرين : ان الأشتر ومجموعته الذين تم نفيهم الى الشام قد بقوا هناك حتى تلك اللحظة (سنة كاملة) ولم يعودوا الى الكوفة قبل ذلك كما تذكر بعض الروايات. والثاني أن دوائر المعارضة في الكوفة واسعة جداً ولا تقتصر على الأشتر ومجموعته .
تتابع الرواية " فسار اليهم هانئ بن خطاب مغذا للسير راكبا للفلاة, فلما قرأوا كتاب أصحابهم أقبل الأشتر والقوم المسيّرون حتى قدموا الكوفة , فأعطاه القراء والوجوه جميعاً مواثيقهم وعهودهم ألاّ يدعوا سعيد بن العاص يدخل الكوفة واليا أبداً "


ثم يذكر البلاذري الأسماء " وكان الذين كتبوا مع هانئ بن خطاب :
مالك بن كعب بن عبد الله الهمداني ثم الأرحبي
ويزيد بن قيس بن ثمامة الأرحبي
وشريح بن أوفى العبسي
وعبد الله بن شجرة السلمي
وجمرة بن سنان الأسدي
وحرقوص بن زهير السعدي
وزياد بن خصفة التيمي
وعبد الله بن قفل البكري ثم التيمي
وزياد بن نضر الحارثي
وعمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني
وعلقمة بن قيس النخعي
في رجال أشباههم"
تتابع الرواية " وقام مالك بن الحارث الأشتر يوما فقال : ان عثمان قد غيّر وبدّل . وحضّ الناسَ على منع سعيد من دخول الكوفة . فقال له قبيصة بن جابر بن وهب الأسدي , من ولد عميرة بن جدار : يا أشتر , دام شترك , وعفا اثرك, أطلت الغيبة وجئت بالخيبة ! أتأمرنا بالفرقة والفتنة ونكث البيعة وخلع الخليفة؟
فقال الأشتر : يا قبيصة بن جابر وما انت وهذا؟ فوالله ما أسلم قومك الاّ كرهاً ولا هاجروا الاّ فقراً . ثم وثب الناس على قبيصة فضربوه وجرحوه فوق حاجبه. وجعل الأشتر يقول : لا حرّ بوادي عوف, من لا يذدْ عن حوضه يهدّم"
وهذا النص يُحسب للبلاذري ولمصادره. فهو لم يخفِ وجود نوع من المعارضة الداخلية في الكوفة للأشتر ومجموعته, كما هي حال قبيصة هذا, على الرغم من الصورة الشائعة عن الكوفة كمعقل للمعارضين للولاة الأمويين.
يتابع البلاذري " ثم صلى بالناس الجمعة وقال لزياد بن النضر: صلّ بالناس سائر صلواتهم والزم القصر.
وأمر كميل بن زياد فأخرج ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري من القصر, وكان سعيد بن العاص خلفه على الكوفة حين شخص الى عثمان.
وعسكر الأشتر بين الكوفة والحيرة وبعث عائذ بن حمَلة في خمسمائة الى أسفل كسكر مسلحة بينه وبين البصرة.
وبعث جمرة بن جنان الأسدي في خمسمائة الى عين التمر ليكون مسلحة بينه وبين الشام.
وبعث هانئ بن ابي حية بن علقمة الهمذاني ثم الوداعي الى حُلوان في الف فارس ليحفظ الطريق في الجبل, فلقي الأكراد بناحية الدينور وقد أفسدوا فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة
وبعث الأشتر أيضاً يزيد بن حجيّة التيمي الى المدائن وأرض جوخى
وولى عروة بن زيد الخيل الطائي ما دون المدائن
وتقدم الى عماله ألاّ يجبوا درهما وأن يسكنوا الناس وأن يضبطوا النواحي"
وهذه الصورة التي يقدمها البلاذري لمالك الأشتر  غير حقيقية. فلا يمكن تصديق ان الأشتر يستطيع تنظيم قوات على شكل جيوش وفيالق ويوزعها جغرافياً بما يجعل للكوفة حدود وتحصينات دفاعية " مسالح" من كل الجهات بما فيها البصرة والشام! فالأشتر القادم من النفي والعزلة لا يمكن ان يصدر الأوامر الى "عماله" كما تشير الرواية! هناك مبالغة شديدة في هذه الصورة.
تتابع الرواية "وبعث مالك بن كعب الأرحبي في خمسمائة فارس ومعه عبد الله بن كباثة أحد بني عائذ الله بن سعد العشيرة بن مالك بن ادد بن زيد الى العذيب ليلقى سعيد بن العاص ويردّه.
فلقي مالك بن كعب الأرحبي سعيداً فردّه وقال : لا والله لا تشرب من ماء الفرات قطرة! فرجع الى المدينة.
فقال له عثمان : ما وراءك؟ قال : الشر!
فقال عثمان : هذا كله عمل هؤلاء , يقصد علياً والزبير وطلحة"
ويلاحظ هنا سهولة استسلام سعيد بن العاص. فهو لم يحاول الإصرار على دخول الكوفة, بل اكتفى بالرجوع الى عثمان. وهذا مدهش , لأن سعيداً كان في منصبه منذ 4 سنوات على الأقل فلماذا لم يحاول أن يستنفر رجاله داخل الكوفة؟ واين جهازه الأمني؟ التفسير الوحيد هو أن سعيداً قد فقد السيطرة كلياً وكان مدركاً لحقيقية وضعه المنهار في الكوفة.
ومن المستبعد أن يكون عثمان قد اتهم كبار الصحابة بالوقوف وراء مشاكل الكوفة.  
يتابع البلاذري " وانهبَ الأشترُ دار الوليد بن عقبة وكان فيها مال سعيد ومتاعه حتى قلعت ابوابها"
وربما المقصود دار الامارة , لأن العلاقة بين الوليد وسعيد لم تكن حسنة ولا يمكن ان يكون مال سعيد في دار الوليد.
" ودخل الأشتر الكوفة فقال لأبي موسى : تولّ الصلاة بأهل الكوفة,  وليتولّ حذيفة السوادَ والخراج. "
الصحيح أن الأشتر "اقترح" على ابي موسى تولي مسؤولية الامارة ولم "يأمره".
نتابع " وكتب عثمان الى الأشتر وأصحابه مع عبد الرحمن بن ابي بكر والمسور بن مخرمة يدعوهم الى الطاعة ويعلمهم أنهم أول من سنّ الفرقة ويأمرهم بتقوى الله ومراجعة الحق والكتاب اليه بالذي يحبون.
فكتب اليه الأشتر : من مالك بن الحارث الى الخليفة المبتلى الخاطئ الحائد عن سنة نبيّه , النابذ لحكم القرآن وراء ظهره. اما بعد : فقد قرأنا كتابك , فانهَ نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين نسمح لك بطاعتنا . وزعمتَ أننا قد ظلمنا أنفسنا , وذلك ظنك الذي أرداكَ فأراكَ الجور عدلاً والباطلَ حقاً! واما محبتنا فأن تنزعَ وتتوبَ وتستغفر الله من تجنيك على خيارنا وتسييرك صلحاءنا وإخراجك إيانا من ديارنا وتوليتك الأحداثَ علينا , وان تولي مصرَنا عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة فقد رضيناهما . واحبس عنا وليدك وسعيدك ومن يدعوك اليه الهوى من أهل بيتك ان شاء الله. والسلام"
ولا بد طرح العبارات القاسية المنسوبة الى الأشتر جانباً وخاصة " الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن" ليس لأن الأشتر لا يؤمن بها ولكن لأن مستوى مخاطبة الخليفة لم يكن قد انحدر الى تلك الدرجة بعد. ولكن يجب ملاحظة الشكوى المرة من تعيينات آل عثمان والتي عبر عنها الأشتر بقوله "وليدك وسعيدك"!
يتابع البلاذري " وخرج بكتابهم يزيد بن قيس الأرحبي ومسروق بن الأجدع الهمداني وعبد الله بن ابي سبرة الجعفي, واسم ابي سبرة يزيد, وعلقمة بن قيس أبو شبل النخعي وخارجة بن الصلت البرجمي من بني تميم في آخرين. فلما قرأ عثمان الكتاب قال : اللهم اني تائب! وكتب الى أبي موسى وحذيفة : انتما لأهل الكوفة رضىً, ولنا ثقة, فتوليا أمرهم وقوما به بالحق, غفر الله لنا ولكما . فتولى أبو موسى وحذيفة الأمر , وسكّن أبو موسى الناس"

وقد أخرج خليفة بن خياط في تاريخه حادثة خلع سعيد ضمن أحداث عام 34 وباختصاره المعهود فذكر " فيها أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص , وولوا ابا موسى الأشعري, وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يولي أبا موسى فولاّه. وفيها يوم الجدعة, وكان عثمان ردّ سعيد بن العاص إلى الكوفة فخرج اهل الكوفة فمنعوه"

وأما المسعودي  في مروج الذهب فتبدو روايته لأحداث خلع سعيد بن العاص وقد حوت جملة من الأخبار المتنوعة ووضعها في سياق واحد. فهي تبتدئ بخبر سواد قريش المشهور :
" فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه أمور منكرة , فاستبد بالأموال , وقال في بعض الايام أو كتب به عثمان : انما هذا السواد قطين لقريش! فقال له الاشتر , وهو مالك بن الحارث النخعي: أتجعل ما أفاه الله علينا بظلال سيوفنا ومراكز رماحنا بستانا لك ولقومك؟ "
ولكن الرواية هنا – بخلاف رواية الوقدي- لا تتحدث عن صاحب شرطة سعيد الذي تم الاعتداء عليه من قبل الاشتر ومجموعته الغاضبة, ولا تذكر مراسلات سعيد وشكاواه للخليفة مما أدى الى قرار نفي هؤلاء الى الشام, بل تتابع الحديث عن الاشتر:
" ثم خرج الى عثمان في سبعين راكباً من أهل الكوفة فذكروا سوء سيرة سعيد (بن العاص), وسألوا عزله عنهم"
ثم تنتقل الرواية لذكر قدوم عمال عثمان عليه ونقاشه معهم مما أسفر عن قراره بتثبيت سعيد بن العاص على عمله مع توصية بتكثيف الحملات العسكرية لاشغال أهل الكوفة, وأن كل ذلك تم والاشتر ومجموعته لا يزالون في المدينة ينتظرون قرار الخليفة. ثم تنفرد الرواية بالاشارة الى أن طلحة والزبير قاما بتحريض الاشتر على التمرد وخلع سعيد بن العاص! فقاما باقراضه مائة الف درهم حتى يتمكن من شراء احتياجات ولوازم العودة السريعة الى الكوفة قبل أن يصلها سعيد بن العاص[19]. ثم تقول :
" وخرج الى الكوفة فسبق سعيدا وصعد المنبر وسيفه في عنقه ما وضعه بعد  ثم قال : أما بعد : فان عاملكم الذي أنكرتم تعدّيه وسوء سيرته قد ردّ عليكم , وأمر بتجهيزكم في البعوث , فبايعوني على أن لا يدخلها . فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة. وخرج[20] راكباً متخفياً يريد المدينة أو مكة , فلقي سعيداً بواقصة فأخبره بالخبر فانصرف الى المدينة . وكتب الاشتر الى عثمان : انا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد عليك عملك ( ولكن لسوء سيرته فينا وشدة عذابه, فابعث الى عملك) من أحببتَ . فكتب اليهم : انظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه[21]. فنظروا فاذا هو أبو موسى الاشعري. فولوه"

وختاماً نقول انه لا شك أن نجاح المتمردين في السيطرة على الكوفة, وخلع واليها الأموي, يشير إلى مدى التدهور الذي وصلت إليه الأمور فيها. فلا يمكن تصوّر أن مجموعة محدودة النفوذ, أو بدون قاعدة اجتماعية صلبة, تنجح في خلع والٍ راسخٍ في منصبه منذ سنواتٍ طويلة, ومدعومٍ مباشرة من الخليفة. والنصوص تبرز الشخصية القيادية لمالك الأشتر والدور المهم الذي لعبه في تطورات الأحداث : فهو الذي يأخذ المبادرة في منع والي عثمان من العودة للكوفة وهو الذي يختار والياً بديلاً.
ودور مالك الأشتر سوف يستمر في التعاظم في قادم الأيام : فهو سيكون من قيادات الثوار التي حاصرت عثمان قبيل مقتله, وهو سيكون من أهم قيادات الخليفة علي بن أبي طالب السياسية والعسكرية والمقربين له.
وسوف نتطرق بالتفصيل الى شخصية مالك الأشتر.


دراسة في الأسماء : الثائرون في الكوفة[22]

سوف نستقصي اسماء الشخصيات التي وردت في المصادر وكان لها دور في القلاقل في الكوفة خلال ولاية سعيد بن العاص.
الذين قاموا بضرب صاحب شرطة سعيد بن العاص :
ذكر الواقدي (لدى الطبري) أسماء كل من:
"مالك بن كعب الأرحبي, والاسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيان, وفيهم مالك الاشتر في رجال"

واما أبو مخنف فروايته لدى البلاذري تذكر ألأسماء التالية :
"مالك بن الحارث الأشتر النخعي
وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان
وحرقوص بن زهير السعدي
وجندب بن زهير الأزدي
وشريح بن أوفى بن يزيد بن زاهر العبسي
وكعب بن عبدة النهدي – وكان يقال لعبدة بن سعد ذو الحبكة
وعدي بن حاتم الجواد بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي , ويكنى أبا طريف
وكدام بن حضرمي بن عامر, أحد بني مالك بن مالك بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة
ومالك بن حبيب بن خراش ,  من بني ثعلبة بن يربوع
وقيس بن عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم
وزياد بن خصفة بن ثقف, من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة
ويزيد بن قيس الأرحبي
وغيرهم"
واما روايته لدى ابن شبة فالاسماء فيها مختلفة . فهي تغفل ذكر سبعة ممن ذكرهم الطبري (كعب بن عبدة, عدي بن حاتم, كدام بن حضرمي, مالك بن حبيب, قيس بن عطارد, زياد بن خصفة ويزيد بن قيس) بينما تضيف أسماء آخرين : عمرو بن زرارة , وكميل بن زياد, ويزيد بن مكنف.

واما ابن أعثم في إسناده الجمعي فيتحدث بإسهاب عن دور مالك الأشتر "وأصحابه" في المشكلة التي حصلت بمحضر سعيد. ويرد ذكر عدي بن حاتم الطائي كأحد الموجودين في ذلك الموقف.

ولا بأس في ذكر الأسماء التي أخرجها سيف بن عمر ( لدى الطبري) , وهم "الاشتر وابن ذي الحبكة وجندب وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابئ"

المنفيون الى الشام :
في رواية أبي مخنف لدى البلاذري نقرأ : " فسيرّ سعيدٌ الأشترَ ومن كان وثب مع الأشتر وهم :
زيد وصعصعة ابنا صوحان
وعائذ بن حملة الطهوي, من بني تميم
وكميل بن زياد النخعي
وجندب بن زهير الأزدي
والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني, من بني حوف بن سبع بن صعب, إخوة السبيع بن سبع بن صعب
ويزيد بن المكفف النخعي
وثابت بن قيس بن المنقع بن الحارث النخعي
وأصعر بن قيس بن الحارث بن وقاص الحارثي, من بني المعقل."
وذكر الواقدي في روايته التي اخرجها الطبري أن المنفيين كانوا "تسعة نفر... فيهم مالك الاشتر وثابت بن قيس بن منقع وكميل بن زياد النخعي وصعصعة بن صوحان"
وفي رواية ابن اعثم , بإسناده الجمعي, يرد ذكر الأسماء التالية:
"ثم خرج الأشتر من الكوفة ومعه أصحابه وهم صعصعة بن صوحان العبدي وأخوه وعائذ بن حملة الظهري ، وجندب بن زهير الأزدي والحارث بن عبد الله الأعور الهمداني ، وأصفر بن قيس الحارثي ويزيد بن المكفف ، وثابت بن قيس بن منقع وكميل بن زياد ومن أشبههم من إخوانهم"
وأما العلامة ابن كثير فقد قال عن المنفيين "وكانوا عشرة, وقيل تسعة وهو الاشبه, منهم كميل بن زياد, والاشتر النخعي – واسمه مالك بن يزيد-  وعلقمة بن قيس النخعيان, وثابت بن قيس النخعي, وجندب بن زهير العامري, وجندب بن كعب الأزدي, وعروة بن الجعد, وعمرو بن الحمق الخزاعي."

رسالة الاحتجاج الغاضبة الى عثمان :
تذكر رواية يونس بن ابي اسحق الهمذاني لدى ابن شبة " كتب ناسٌ من وجوه أهل الكوفة ونساكهم, منهم : معقل بن قيس الرياحي, ومالك بن حبيب, وعبد الله بن الطفيل العامري , وزياد بن حفص التميمي, ويزيد بن قيس الارحبي, وحجر بن عدي الكندي, وعمرو بن الحمق الخزاعي, وسليمان بن صرد, وزيد بن حصن الطائي, وكعب بن عبدة النهدي"
ويذكر أبو مخنف كما ينقل البلاذري الأسماء التالية :
" معقل بن قيس الرياحي
عبد الله بن الطفيل العامري
مالك بن حبيب التميمي
يزيد بن قيس الأرحبي
حُجر بن عدي الكندي
عمرو بن الحمق الخزاعي
سليمان بن صرد الخزاعي
المسيب بن نجبة الفزاري
زيد بن حصن الطائي
كعب بن عبدة النهدي
زياد بن النضر بن بشر بن مالك بن الديان الحارثي
مسلمة بن عبدٍ القاريّ (من القارة من بني الهون بن خزيمة بن مدركة)"
ويذكر ابن أعثم بإسناده الجمعي أسماء كل من :
يزيد بن قيس الأرحبي
مالك بن حبيب اليربوعي
حُجر بن عدي الكندي
عمرو بن الحمق الخزاعي
زياد بن حفيظة التميمي
وعبد الله بن الطفيل البكائي
زياد بن النضر الحارثي
كرام بن الحضرمي المالكي
معقل بن قيس الرياحي
زيد بن حصن السنبسي
سليمان بن صرد الخزاعي
المسيب بن نجبة الفزاري
ورجال كبير من قرى أهل الكوفة ورؤسائهم"
بالاضافة طبعاً الى كتاب كعب بن عبيدة النهدي

أحداث خلع سعيد بن العاص:
ترد الأسماء التالية لدى ابن سعد في طبقاته " مالك الأشتر ويزيد بن مكفف وثابت بن قيس وكميل بن زياد النخعي وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان والحارث بن عبد الله الأعور وجندب بن زهير وأبو زينب الأزديان وأصغر بن قيس الحارثي" وأيضاً "يزيد بن قيس الأرحبي وعبد الله بن كنانة العبدي" بالاضافة الى الشاعر عتبة بن الوغل.
والبلاذري , بإسناده الجمعي (قالوا), يذكر أسماء وجهاء أهل الكوفة الذين كتبوا يستدعون إخوانهم المنفيين من الشام:
مالك بن كعب بن عبد الله الهمداني ثم الأرحبي
ويزيد بن قيس بن ثمامة الأرحبي
وشريح بن أوفى العبسي
وعبد الله بن شجرة السلمي
وجمرة بن سنان الأسدي
وحرقوص بن زهير السعدي
وزياد بن خصفة التيمي
وعبد الله بن قفل البكري ثم التيمي
وزياد بن نضر الحارثي
وعمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني
وعلقمة بن قيس النخعي
وأضاف ان هناك آخرين "في رجال أشباههم" . وكان حامل الرسالة هانئ بن خطاب الأرحبي.
ثم بدأ يتحدث عن النشاطات العسكرية لمالك الأشتر واستعداداته لرد الوالي. ويذكر في هذا السياق الأسماء التالية:
زياد بن النضر, كميل بن زياد, جمرة بن جنان الأسدي, عائذ بن حملة, هانئ بن أبي حية بن علقمة الهمذاني, يزيد بن حجية التيمي, عروة بن زيد الخيل الطائي , مالك بن كعب الأرحبي, وعبد الله بن كباثة (أحد بني عائذ الله بن سعد العشيرة)
كما يذكر أسماء مسروق بن الأجدع الهمداني وعبد الله بن ابي سبرة الجعفي, وخارجة بن الصلت البرجمي (من بني تميم) من ضمن مساعدي مالك الأشتر.


يمكن إحصاء أسماء 45 شخصاً ممن ورد لهم ذكر في أحداث التمرد في الكوفة بمراحله المختلفة ابتداء من قدوم سعيد بن العاص والياً وانتهاء بخلعه عنها. وتتكرر أسماء البعض بشكل لافت بينما يرد ذكر غيرهم عرضاً. ويتفق الإخباريون والمؤرخون على كامل الأسماء والألقاب لكثير من هؤلاء ويختلفون بشأن عدد منهم, وهذا أمر مفهوم ولا يضير .
ولا بد من دراسة الانتماء القبلي لهؤلاء الناشطين الذين تحدوا سلطة الخليفة وواليه, لأن ذلك قد يكون مدخلاً لفهم تطور الأحداث.
ومن هؤلاء الأشخاص ال 45 الذين يرد ذكرهم :
يوجد 24 ينتمون الى قبائل يمانية
و19 يتحدرون من قبائل عدنانية
واثنان من خزاعة, وهي قبيلة يمانية من حيث الأصل ولكنها سكنت الحجاز.
يمكن الخروج بالاستنتاجات التالية :
1-   اتساع قاعدة المعارضة لسياسة الخليفة عثمان وحكمه. ومما يثير الدهشة قدرة الإخباريين والمؤرخين على ذكر 45 شخصاً , بأسمائهم ونسبهم, في سياق تلك الأحداث. وهذا عدد كبير. فغالباً ما يعالج المؤرخون احداثاً كبيرة دون أن يوردوا مثل هذا العدد من الأسماء, بل لا تصلهم سوى أسماء القادة والزعماء والشخصيات المؤثرة. ولذا يمكن القول بقدر كبير من الثقة بأن المعارضة في الكوفة كانت واسعة ولها طابع شعبي. 
2-    التنوع القبلي الواضح لمعارضي السلطة يعني ببساطة عدم صحة الاعتقاد بأن اتجاهاً قبلياً بعينه كان مسؤولاً عن الأحداث. وهذا يدحض الفكرة الموجودة لدى بعض الباحثين بأن المتمردين ينتمون أساساً الى القبائل اليمانية بينما تؤيد القبائل العدنانية ( المضرية) بمجملها سلطة قريش. وهذه الفكرة الخاطئة ربما تكون أتت من تطور الأحداث فيما بعد, خلال حكم معاوية وبني أمية الذي اعتمد على رجال القبائل العربية الشمالية. ولكن في هذه الفترة المبكرة, خلال حكم عثمان, لم يكن هذا الفرز قد حصل بدليل وجود 19 اسماً من أصل 45 ممن انخرطوا في معارضة فعّالة للحكم القرشي وهم ينتمون الى قبائل عربية نزارية.
3-   وحتى ضمن ذلك التقسيم العريض ( يمانية / عدنانية) يُلاحظ تنوّع كبير أيضاً. فال 19 اسماً المشار اليهم منهم 5 من قبائل ربيعة ( 3 من عبد القيس واثنان من بكر ين وائل) و 14 من قبائل مضر (7 من تميم و 4 من قيس عيلان و3 من خزيمة بن مدركة). وكذلك الحال مع الشخصيات اليمانية : فمن بين ال 24 اسماً يوجد 10 من قبائل مذحج, 8 من قبائل همدان, 3 من طيئ , اثنان من الأزد وواحد من كندة.
4-   ويلاحظ أيضاً الغياب التام لأي اسم ينتمي لقبيلة قريش وحليفتها الرئيسية ثقيف. وهذا يؤكد فكرة محاولة تمرّد القبائل العربية على هيمنة قريش.
5-   رغم التنوع الواضح والعدد الكبير لأبناء القبائل العربية المعارضين لحكم عثمان وواليه, إلاّ أنه لا بد من ملاحظة غياب الشخصيات ذات الوزن القبلي الأبرز. فلا نجد ذكراً لشيوخ القبائل الكبار . فزعماء القبائل من العيار الثقيل لم يكونوا منخرطين بشكل واضح في حركة المعارضة. فيمكن القول أن المعارضين لم يكونوا في مجملهم من قادة القبائل, وربما كان الكثيرون منهم من العناصر الثانوية في عشائرهم. وحتى الاسماء ذات الشهرة منهم لم تكن على الأرجح تتمتع بثقل قبلي كبير وإنما اكتسبت شهرتها فيما بعد بحكم نشاطها في تلك الأحداث. وذلك حال مالك الأشتر وكميل بن زياد (وهما من عشيرة النخع – فرع من مذحج) وصعصة بن صوحان وأخيه زيد ( وهما من قبيلة عبد القيس – فرع من ربيعة) وحجر بن عدي (من كندة).  وربما يكون الوحيد الذي له ثقل قبلي هو سليمان بن صرد , ولكن بروزه كأحد زعماء خزاعة كان في الواقع بعد أكثر من ربع قرن من تلك الفترة, أي في الأحداث التي تلت مقتل الامام الحسين في ستينات القرن الهجري الأول. 
6-   وأما كبار زعماء القبائل في الكوفة , وبالذات الأشعث بن قيس[23] الذي كان زعيم قبيلة كندة بلا منازع ويمتد تأثيره في ذات الوقت الى بقية القبائل اليمانية فالمؤكد أنه لم يكن معارضاً للسلطة. وكذلك حال جرير بن عبد الله البجلي. ولا غرابة في ذلك لأن عثمان كان يراعي أمثال هؤلاء ولا يغفل عن منحهم مناصب وامتيازات تضمن له ولاءهم. وعلى الرغم من تحفظي على مجمل روايات سيف بن عمر إلاّ أني أجدني أقبل أساس فكرته التي احتوتها روايته[24]  التي يذكر فيها أن سعيد بن العاص كان قد بعث الزعماء القبليين في الكوفة حكاماً لمناطق تابعة لولاية الكوفة: الاشعث بن قيس على آذربيجان, وسعيد بن قيس على الري , والسائب بن الأقرع على اصبهان , وجرير بن عبد الله على قرقيسياء وغيرهم, ويختتم سيف روايته " وخلت الكوفة من الرؤساء إلاّ منزوع او مفتون!".

 نسب القبائل العربية اليمانية

 نسب القبائل العربية النزارية

مالك الاشتر [25]

فيما يلي ترجمته كاملة كما رواها الذهبي في سير اعلام النبلاء :
" ملك العرب, مالك بن الحارث النخعي, أحد الأشراف والأبطال المذكورين.
حدث عن عمر, وعن خالد بن الوليد. وفقئت عينه يوم اليرموك. وكان شهما مطاعا زعرا. ألّب على عثمان وقاتله. وكان ذا فصاحة وبلاغة.
شهد صفين مع علي, وتميز يومئذ, وكاد أن يهزم معاوية, فحمل عليه أصحاب علي لما رأوا مصاحف جند الشام على الأسنة يدعون الى كتاب الله.  وما أمكنه مخالفة علي , فكف.
قال عبد الله بن سلمة المرادي: نظر عمر الى الأشتر, فصعد فيه النظر وصوبه ثم قال : ان للمسلمين من هذا يوما عصيبا.
ولما رجع علي من موقعة صفين , جهز الاشتر واليا على ديار مصر, فمات في الطريق مسموماً. فقيل : ان عبداً لعثمان عارضه, فسمّ له عسلاً.
وقد كان علي يتبرم به لأنه كان صعب المراس, فلما بلغه نعيه قال : إنا لله! مالك وما مالك؟ وهل موجود مثل ذلك؟ لو كان حديداً لكان قيداً , ولو كان حجراً لكان صلداً , على مثله فلتبك البواكي.
وقال بعضهم : قال علي : للمنخرين والفم.
وسر بهلاكه عمرو بن العاص وقال : ان لله جنودا من عسل.
وقيل : ان ابن الزبير بارز الاشتر, وطالت المحاولة بينهما حتى ان ابن الزبير قال : اقتلوني ومالكاً . واقتلوا مالكاً معي

وقد ساهم الاشتر في الفتوحات وكان له دور بارز في فتوح دمشق والشام تحت إمرة خالد بن الوليد. وقد تحدث ابن عساكر في تاريخ دمشق عن قتال بطولي خاضه الاشتر مع فرسان الروم في اليرموك وخروجه منتصراً من تلك المنازلات الخطرة.

ولأمير المؤمنين علي بن ابي طالب شهادة عظيمة بحقه. فقد كتب لأهل مصر حين أرسله والياً عليهم:
روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة من طريق المدائني أن عليا كتب لأهل مصر لما أرسل الأشتر عليهم والياً " أما بعد.. فقد وجهتُ إليكم عبدا من عباد الله لا ينام في الخوف, ولا ينكل من الأعداء حذار الدوائر. أشدّ على الكافرين من حريق النار, وهو مالك بن الحارث الأشتر, أخو مذحج. فاسمعوا له وأطيعوا, فإنه سيف من سيوف الله, لا نابي الضريبة ولا كليل الحد. فإن أمركم أن تقيموا فأقيموا , وإن أمركم أن تنفروا فانفروا, وإن أمركم أن تحجموا فاحجموا, فإنه لا يقدم ولا يحجم إلاّ بأمري. وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته وشدة شكيمته على عدوه.. "[26]
ورواها أيضاً ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق الشعبي:
"بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الملأ الذين غضبوا لله من بعدما عصي الله في الأرض وضرب الجور بأرواقه على البر والفاجر, فلا حق قال يتريع إليه ولا منكر يتناهى عنه. سلامٌ عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو أما بعد : فإني قد بعثتُ إليكم عبدا من عباد الله لا نائي الضريبة ولا كليل الحد ولا ينام على الخوف ولا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر. أشدّ على الفجّار من حريق النار , وهو مالك بن الحارث أخو مذحج. وإنه سيفٌ من سيوف الله فإن استنفركم فانفروا إن أمركم بالإقامة فأقيموا, فإنه لا يقدم ولا يحجم إلا بأمري وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم وشدة شكيمته على عدوكم ..."[27]

وكتب عنه ابن ابي الحديد في شرح النهج"فأما ثناء أمير المؤمنين عليه السلام عليه في هذا الفصل فقد بلغ مع اختصاره ما لا يبلغ بالكلام الطويل ، ولعمري لقد كان الأشتر أهلا لذلك ، كان شديد البأس ، جوادا رئيسا حليما فصيحا شاعرا ، وكان يجمع بين اللين والعنف ، فيسطو في موضع السطوة ، ويرفق في موضع الرفق "

وللأشتر مكانة رفيعة لدى الشيعة. وهكذا ورد وصفه في كتاب أعيان الشيعة للسيد محسن الامين:
"كان من زعماء العراق الأشداء ، فارسا صنديدا لا يشق له غبار ، شديد البأس رئيس أركان الجيش لعساكر أبي الحسن (ع) في معاركه . وهو من لهاميم مذحج الابطال المغاوير وسيد قروم النخع وشجعانها المساعير . ومن رواسي الجبل في الحلم ومن السحاب الثقل في الكرم والسخاء . وكان الأشتر بالكوفة اسود من الأحنف بالبصرة . اما في السياسة فكان من الأكياس الحازمين ، يجمع بين اللين والعنف فيسطو في موضع سطو ويرفق في موضع الرفق . وقد شهد له بذلك أمير المؤمنين (ع) فقال عنه : انه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته ، ولا بطؤه عما الاسراع اليه أحزم ولا اسراعه إلى ما البطء عنه أمثل . وهو خطيب منبر وقائد عسكر وشاعر ناثر . وقد استطاع ان يخمد بذلاقة لسانه من الفتن العمياء ما أعيا السيف اطفاؤه في كثير من المواقف والمشاهد التي نصر فيها الحق وحارب الباطل .
كان أمير المؤمنين (ع) حين رجع عن صفين رد الأشتر إلى عمله بالجزيرة ، فلما اضطربت مصر على محمد بن أبي بكر استدعى أمير المؤمنين (ع) الأشتر اليه وهو يومئذ بنصيبين وارسل إليه هذا الكتاب : أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين واقمع به نخوة الأليم وأسد به الثغر المخوف . إلى أن يقول : فأقدم علي للنظر فيما ينبغي واستخلف على عملك اهل الثقة والنصيحة من أصحابك والسلام . فاقبل الأشتر إلى علي فلما دخل عليه حدثه حديث مصر وخبره خبر أهلها ، وقال له : ليس لها غيرك فاخرج إليها رحمك الله فاني لا أوصيك اكتفاء برأيك واستعن بالله على ما أهمك واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ واعزم على الشدة حين لا يغنى عنك الا شدة . ....
 ولما بلغ عليا موت الأشتر ، قال : انا لله وانا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين ، اللهم إني احتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر ، ثم قال : رحم الله مالكا فقد كان وفيا بعهده وقضى نحبه ولقي ربه . مع انا قد وطنا أنفسنا ان تصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله ، فإنها من أعظم المصائب . وحدث أشياخ النخع قالوا : دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه ، ثم قال : لله در مالك وما مالك ؟ ! والله لو كان من جبل لكان فندا ولو كان من حجر لكان صلدا ، اما والله ليهون موتك عالما وليفرحن عالما ، على مثل مالك فلتبكٍ البواكي ، وهل موجود كمالك ؟!
قال علقمة بن قيس النخعي : فما زال يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا ، وعرف ذلك في وجهه أياما . ومن أقوال أمير المؤمنين فيه : كان لي كما كنت لرسول الله .
وسئل بعضهم عن الأشتر فقال : ما أقول في رجل هزمت حياته اهل الشام وهزم موته اهل العراق ."

وبحكم قربه من الامام علي, ولكونه من أهم الشخصيات التي اعتمد عليها علي في فترة حكمه وإدارته, فقد كان نصيبه كبيرا من الافتراءات والتهم التي كان وراءها بنو امية ومن شايعهم. ويمكن ملاحظة عدد وافر من الروايات الملفقة المتعلقة به. ومن ذلك الرواية الواردة اعلاه لدى الذهبي والتي تقول ان عمر بن الخطاب نظر اليه وتنبأ بأن "للمسلمين من هذا يوماً عصيبا", فبعد أن أوردها ابن عساكر في تاريخ دمشق أردف بأن يحيى بن معين قد جزم بعدم صحة سندها.
ومن ذلك أيضاً ما يرويه ابن عساكر عن الشعبي من أن علياً كان غاضباً عليه الى حد أنه قال حين بلغه خبر وفاته "لليدين وللفم"! فكيف يكون عليٌ قالياً له ثم يرسله في تلك المهمة الشديدة الصعوبة والأهمية (انقاذ مصر من السقوط)؟


الفصل الثالث : حالُ البصرة[28]

كانت البصرة قد شهدت في عهد عثمان نموا كبيرا, نتج أساسا عن تزايد حركة الفتوحات في ايران, والتي لعبت البصرة فيها دورا كبيرا, فاق دور جارتها الأهم : الكوفة.
وفي ظل ولاية أبي موسى الأشعري تمكن مقاتلة البصرة من فتح اقليم الاحواز, وفتح قم, وقاشان وأصبهان والمساهمة مع مقاتلة جبهة البحرين في فتح أجزاء من اقليم فارس. وأسفر ذلك عن غنائم كثيرة ساعدت على اجتذاب أعداد جديدة من المقاتلين العرب, وأدى ذلك إلى زيادة عدد سكان البصرة.
وفي ولاية عبد الله بن عامر ازدادت أهمية البصرة الإدارية, واتسعت مهامها العسكرية في المنطقة الواقعة شرق خليج فارس, مما أدى إلى زيادة هجرة قبائل عبد القيس والأزد إليها, وبالتالي تضخمت اعداد السكان فيها, وتمكن مقاتلوها من فتح اقليم فارس وكرمان وسجستان وخراسان. وازدادت موارد البصرة كثيرا وأخذت المدينة تنمو بسرعة, فاستوطن فيها تجار وأصحاب مهن من العرب والأعاجم.


 سياسة ابن عامر في البصرة

فكما هو متوقع من شاب قرشي مترف , قريب القرابة من الخليفة, لم يكن يرى بأساً في الاستمتاع بالثروات التي كانت تنهال من غنائم الفتوحات, ومن ذلك ما ذكره ابن الاثير في ترجمته في اسد الغابة " وهو أول مَن لبس الخز بالبصرة. لبسَ جُبة دكناء فقال الناس : لبس الأميرُ جلد دُب, فلبسَ جُبة حمراء"
وربما كان يبالغ في نفقاته وعطاياه من بيت المال الى حد التبذير. وربما لذلك وصفه ابن الاثير " وكان أحد الأجواد الممدوحين". ولا بد من التساؤل عن صفة الجود هذه لدى ابن عامر: فإن كان المرء يجود بحرّ ماله, الذي تعب من أجل كسبه بالكدح الحلال, فذاك هو الجود. وأما إن كان يتصرف بالمال العام , ويستغل ولايته في التحكم بأموال الدولة, فذاك ليس جوداً ولا كرماً. وقد أشار ابن عامر في معرض اقتراحه على الزبير وطلحة بالمسير الى البصرة الى أن من أسباب ذلك ان له بها " صنائع", كما سيأتي في موضعه.
وقد روى الطبري في تاريخه عن ابي مخنف ان يزيد بن قيس الارحبي , وهو من قيادات جيش علي في صفين, ذكر بعضاً من مساوئ ابن عامر في معرض خطبة ألقاها لحث العراقيين على القتال " ... وعبد الله بن عامر , السّفيه الضال, يُجيز أحَدَهم في مجلسِهِ بمثل ديته ودية أبيه وجدّه, يقول : هذا لي ولا إثم عليّ! كأنما أعطى تراثه عن أبيه وأمّه! وانما هو مال الله عز وجل, أفاءه علينا بأسيافنا وأرماحنا.."
وقد ذكر ابن حبيب البغدادي حادثة طريفة يظهر منها مدى الاستهتار بولاية أمر الناس الذي كان يظهره بعض افراد عائلة عثمان احياناً:
" استأذن عامرُ بن كريز عثمانَ في زيارة ابنه عبد الله في البصرة, فأذن له. فشخص إليه.
 فلما صعد عبد الله المنبر وكان خطيباً, أخذ عامر يذكر نفسه وجعل يقول لمن يليه : أترونَ أميرَكم هذا؟ مِن هذا خرَج , وأشارَ إلى متاعِهِ!
فلم يدعه عبد الله يقيم, وأحسنَ جهازه وسَرّحَه إلى المدينة خوفَ الفضيحة"
ولا شك بأن الكثيرين من الرعية كانوا يراقبون ذلك النوع من التصرفات بتركيز شديد.

ورغم تلك المثالب التي خالطت سلوكه الشخصي, إلاّ أن ابن عامر لم يكن خاملاً ولا كسولاً. وقد سبق وذكرنا أنه تابع بكل همة وحماس تنفيذ السياسة الاستراتيجية للدولة , وهي الفتوحات والمزيد منها. قال ابن الاثير في ترجمته في اسد الغابة  " افتتح خراسان كلها , وأطراف فارس وسجستان وكرمان وزابلستان , وهي أعمال غزنة. أرسل الجيوشَ ففتح هذه الفتوح كلها. وفي ولايته قتل كسرى يزدجرد"  كما يبدو أنه كانت له قرارات إدارية وتنظيمية مهمة في البصرة . يضيف ابن الاثير " وهو الذي اتخذ السوق بالبصرة . اشترى دوراً فهدمها وجعلها سوقاً "

وقد كانت بوادر التذمّر والرفض لسياسة عثمان وواليه, عبد الله بن عامر, موجودة في البصرة, فقد تذاكرَ مجموعة من أهل البصرة أعمالَ عثمان, وقرروا إرسال أحدهم اليه ليكلمه في مآخذ الناس عليه. فلما وصل المدينة دار بينه وبين الخليفة حوار قاس!


روى الطبري في تاريخه عن جعفر بن عبد الله المحمدي :
" اجتمع ناسٌ من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان وما صنع. فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه ويخبره بأحداثه. فأرسلوا اليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري, وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس.
فأتاه فدخل عليه فقال له: إن ناساً من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك , فوجدوك قد ركِبتَ أمورا عظاماً. فاتّقِ الله عز وجل وتب إليه.
قال عثمان : انظر إلى هذا ! فإن الناس يزعمون انه قارئ , ثم يجيء فيكلمني في المحقرات. فوالله ما يدري أين الله!
قال عامر : أنا لا أدري أين الله؟!
قال : نعم ! والله ما تدري أين الله.
قال عامر : بلى والله إني لأدري أن الله لك بالمرصاد"[29]
والظاهر ان عثمان قام بنفي عامر هذا الى الشام. ولكن أسباب الخلاف بين عامر هذا وبين الخليفة عثمان والتي تتحدث عن مطالبته الخليفة بتقوى الله ومعارضته لسياساته يبدو انها لم ترق لسيف بن عمر! فذكر سيف ان عامراً (كما مر سابقا) تم نفيه من البصرة الى الشام لأنه كان يرفض أكل اللحم والزواج وحضور صلاة الجمعة!

وقد ذكر ابن الأثير في أسد الغابة باختصار , في معرض ترجمته لعبد الله بن عامر " وهو الذي سيّر عامرَ بن عبد القيس العبدي من البصرة الى الشام"
وأما رواية البلاذري في أنساب الأشراف فتقول ان قدوم عامر هذا كان بسبب وشاية تعرض لها وأن عثمان قد عفا عنه لما رآه من صلاحه . فقال نقلاً عن أبي مخنف " كان عامر بن عبد قيس التميمي ينكر على عثمان امره وسيرته. فكتب حمران بن ابان مولى عثمان, الى عثمان بخبره. فكتب عثمان الى عبد الله بن عامر بن كريز في حمله فحمله.
فلما قدم عليه فرآه, وقد أعظم الناسُ إشخاصَهُ وإزعاجه عن بلده لعبادته وزهده, ألطفه وأكرمه ورده الى البصرة"

وهناك إشارات تدل على أن سياسة عثمان وولاته في التركيز على الفتوحات الجديدة والمتواصلة, خاصة في إيران, أدت إلى نوع من الإنهاك لمقاتلي القبائل العربية. فعلى الرغم من أن الفتوحات كانت تؤدي إلى غنائم ضخمة جدا , وهو ما كان يحفّز أبناء قبائل العرب على الانخراط في "الجهاد" الذي غدا مصدر الدخل الرئيسي للدولة الإسلامية كلها منذ أيام عمر , إلاّ أن ذلك كان له ثمنه المتمثل في ضرورة المحافظة على تواجد عسكري عربي في المناطق المفتتحة, أو "الثغور". وكان ذلك يعني وجود حاميات مقاتلة عربية في أعماق إيران. ومن المحتمل أن يكون المقاتلون العرب واجهوا صعوبات في التأقلم مع طبيعة المناطق الايرانية المختلفة عن جزيرة العرب تماما. وربما كان المقاتلون غير مرتاحين لوجودهم ضمن بيئة محلية معادية لهم. وكان على والي البصرة أن ينظم مسألة الحاميات العربية داخل بلاد فارس, أعدادها ومواقعها, وخطوط الامداد والاتصال, وأيضا التبديل الدوري للأفراد في تلك الثغور. وبالاجمال, كان المقاتلون الموكلون بمهمة السيطرة على مناطق داخل ايران, يستبدلون مرة واحدة كل 4 سنوات. وهذه فترة طويلة جدا بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يتوقون للعودة إلى أهلهم وقبائلهم في البصرة. وهذه ستكون إحدى مصادر الشكوى التي سيعبّر عنها بالقول " تجمّر البعوث" . ويبدو أن عبد الله بن عامر كان ينتهج سياسة متعمدة في المبالغة في النشاط العسكري وإطالة مدة إقامة العسكر في المناطق المفتتحة.

ولكن من المؤكد أن معارضة الخليفة عثمان في البصرة كانت أقل حدة بكثير من تلك الموجودة في شقيقتها الكوفة. وسوف يظهر ذلك بجلاء في قادم الأيام حيث ستنقسم البصرة بين مؤيد للإمام علي ومؤيد لخصومه المطالبين بدم عثمان قبيل معركة الجمل , بخلاف الكوفة التي منحت علياً تأييداً تاماً.


الفصل الرابع : عثمان يشعر بالخطر

اجتماع القمة بين عثمان وعمّاله [30]

لما كثرت الشكايات والاضطرابات في عدة ولايات , وتحت العديد من العناوين, صار لا بد أن يتحرك الخليفة قبل فوات الأوان. كان عليه أن يتخذ القرارات ويحدد السياسات ليواجه الموقف المتأزم.  ولذلك قرر عثمان عقد اجتماع على أعلى مستوى مع قياداته وأركان حكمه . والاجتماع كان مهماً جداً لأنه كان الفرصة الاخيرة للخليفة لمنع الانهيار الشامل. كان متوقعاً من عثمان في ذلك الاجتماع أن يقوم بمحاسبة ولاته على تقصيرهم وأخطائهم. كان الوقت وقتَ تغيير خاصة وأن هؤلاء كانوا في مناصبهم منذ سنوات عديدة وقد تسببوا في تدهور الامور وأساؤوا الى سمعة الخليفة ومكانته. ولكن عثمان أظهر فشلاً جديداً! لقد أسفر الاجتماع المنتظر عن إعادة الثقة بنفس هؤلاء الولاة! لم يحاسب مقصراً ولم يعزل أحداً ولم يبدل شيئاً . قرر الخليفة الاستمرار على نفس النهج , وبكل بساطة!

ذكر ابن شبة النميري في تاريخ المدينة " حدثنا هارون بن عمر قال ، حدثنا أيوب بن سويد قال ، حدثنا مطرف بن أبي بكر الهذلي ، عن أبيه ، عن الزهري قال ، كان أمراء الأجناد يقدمون على عثمان في كل عام ، فقدِم عليه ابن أبي سرح من مصر , ومعاوية من الشام, وعبد الله بن عامر من البصرة, وسعيد بن العاص من الكوفة.
 فقال لهم عثمان : يا بني أمية! أنتم بطانتي دون ظاهري. وقد أكثرَ الناسُ شكايتي حتى تناولني بها البعيد, وآذاني بها القريب. فأشيروا عليّ.
 فأشار عبد الله بن عامر – وكان امرءً سخياً – فقال : يا أمير المؤمنين. إن الناس إنما يرضيهم ما أسخطهم. وهي هذه الأموال, فأعطِهم منها  , تستل بذلك سخائم صدورهم وضغائن قلوبهم وضبابها.
ثم تكلم ابن أبي سرح فقال : يا أمير المؤمنين. إن لك عليهم حقاً ولهم عليك حقاً. فأعطِهم حقهم عليك وخذهم بحقك عليهم. واتبع سنة الذين قبلك يجتمعوا عليك بالرضى.
ثم تكلم سعيد بن العاص فقال : يا أمير المؤمين . إن الناس قد أمروا وجموا حتى كبرت كبراهم. فابعثهم جيوشا وجمّرهم في المغازي, حتى تكون دبرة دابة أحدهم أهم إليه من التفكر في أمر الأمة.
ثم تكلم معاوية فقال : يا أمير المؤمنين : إنك قد بلغتَ من صلتنا ما يبلغه كريم قوم من صلة قوم. حملتنا على رقاب الناس وجعلتنا أوتاد الأرض.فليكفِكَ كل رجل مِنا مصرَهُ. وسأكفيكَ الشامَ. فلن تؤتى من الشام أبدا.
 فأخذ عثمان بقول معاوية ورد عماله إلى أمصارهم"
إلاّ أن معاوية كان يستشعر الخطر الداهم على حياة الخليفة وكان يدرك أنه ليس بالامكان الاستمرار في تجاهل ما كان يحصل على ارض الواقع من تطورات خطيرة. أدرك معاوية أن الزمان قد تجاوز الخليفة العجوز.
يتابع ابن شبة الرواية ويتحدث عن اقتراحات عرضها معاوية على الخليفة
"فقال له معاوية رضي الله عنه : اخرج معي إلى الشام فهم شيعتك وأنصارك .
فقال : ما كنت لا فارق مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده ومنازل أزواجه .
 قال : فإذ أبيت فإذن لي أجهز إليك جيشا من الشام تطأ بهم من رابك .
 قال : لا أكون أول من أذل المهاجرين . قال : فلا تخرج ولا تأذن لي أوجه إليك جيشا ؟ ! أنت مقتول . ثم خرج إلى المسجد وفيه نفر من المهاجرين فقال : أوصيكم بشيخي هذا خيرا ، والله لئن أحدثتم فيه حدثنا لا أعطيكم إلا السيف . فقال بعضهم : ألا تسمعون لما يقول هذا ؟ فرد عليهم آخرون : لا تلوموه أن يتكلم في ابن عمه "

وفي رواية اخرى لدى ابن شبة , عن الليث بن سعد, كانت اقتراحات معاوية على الصيغة التالية :
"فقام فدخل على عثمان رضي الله عنه ، فقال : معاوية ؟
قال : نعم
 قال : ما جاء بك ؟
 قال : الذي بلغني من أمرك وأمر أصحابك ، ثم أخبره بما كلم به عليا وأصحابه ، وما أجابه به علي[31] ، ثم قال له : إني قد جئت معي بظهر فاركب الآن فأقدم على أهل الشام ، فإنك أحب الناس إليهم حتى ترى رأيك .
 فقال : ما أريد أن أفر .
قال : فأذن للناس في القتال .
قال : لا أريد أفتح سنة السور
قال : فبقيت أخرى ، إن رأيت أن تردني إلى عملي فافعل .
قال : نعم ، ولاك من هو خير مني : عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فاخرج إلى عملك .
 فركب ثم قال لمن حضره : يا أهل المدينة دونكم جزوركم - يريد عثمان - وستعلمون كيف العاقبة"

وهذه الاقتراحات يمكن الشك فيها , بل واستبعادها. فمعاوية ولا شك يدرك مدى ارتباط الخليفة العجوز بمدينة رسول الله(ص) واستحالة انتقاله منها . واما طلبه الاذن في القتال أو قوله " دونكم جزوركم" فمما لا يمكن قبوله . إلاّ أن ذلك لا ينفي إمكانية أن يكون معاوية اقترح على عثمان ارسال قوة حراسة لحمايته ولردّ أي اعتداء عليه. فمعاوية رجل دولة محنك ولا يقبل عقله فكرة ان يكون قائد الدولة كسائر الناس بلا حرس .

وقد أخرج الطبري في تاريخه روايتين متشابهتين عن جعفر المحمدي بشأن اجتماع القمة , ضمن أحداث سنة34:
" فأرسل عثمان الى معاوية بن ابي سفيان والى عبد الله بن سعد بن ابي سرح والى سعيد بن العاص والى عمرو بن العاص بن وائل السهمي والى عبد الله بن عامر , فجمعهم ليشاورهم في أمره وما طلب اليه وما بلغه عنهم .
فلما اجتمعوا عنده قال لهم : ان لكل امرء وزراء ونصحاء , وانكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي. وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا الي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون الى ما يحبون. فاجتهدوا رأيكم وأشيروا عليّ.
فقال له عبد الله بن عامر : رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك , وأن تجمّرهم في المغازي حتى يذلوا لك, فلا يكون همة أحدهم إلاّ نفسه وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه.
ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له : ما رأيك؟
قال : يا أمير المؤمنين إن كنتَ تريد رأينا فاحسم عنك الداء واقطع عنك الذي تخاف , واعمل برأيي تُصِب.
قال : وما هو؟
قال : ان لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر.
فقال عثمان : ان هذا الرأي لولا ما فيه .
ثم أقبل على معاوية فقال : ما رأيك؟
قال : أرى لك يا أمير المؤمنين أن تردّ عمّالك على الكفاية لما قبلهم. وأنا ضامنٌ لك قِبلي.
ثم أقبل على عبد الله بن سعد فقال : ما رأيك؟
قال : أرى يا أمير المؤمنين ان الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.
ثم أقبل على عمرو بن العاص فقال له: ما رأيك؟
 قال : أرى أنك ركبتَ الناسَ بما يكرهون. فاعتزم أن تعتدل فإن أبيتَ فاعتزم أن تعتزل. فإن أبيتَ فاعتزم عزماً وامضِ قدماً
فقال عثمان : مالكَ قملَ فروُكَ؟ أهذا الجد منك؟
فأسكت عنه دهراً حتى إذا تفرق القوم قال عمرو : لا والله يا أمير المؤمنين , لأنتَ أعزّ عليّ من ذلك. ولكن قد علمتُ أن سيبلغ الناسَ قول كل رجل منا فأردتُ أن يبلغهم قولي فيثقوا بي, فأقود اليك خيراً أو أدفع عنك شراً" [32]

وفي الرواية الثانية عن جعفر المحمدي ذكر نتيجة مباحثات عثمان مع قياداته العليا , وهي : قرارٌ منه بمزيد من التشدد تجاه رعيته :
" فردّ عثمان عماله على أعمالهم . وأمرَهم بالتضييق على مَن قِبلهم. وأمَرهم بتجمير الناس في البعوث. وعزَمَ على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا إليه"

وفيما يلي رواية ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح ضمن سياق إسناده الجمعي نقلاً عن شيوخ الاخباريين:
"قال أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي حدثني أبو الحسين علي بن محمد القرشي قال حدثني عثمان بن سليم عن مجاهد عن الشعبي وأبي محصن عن أبي وائل ، وعلي بن مجاهد عن أبي إسحاق ، قال وحدثني نعيم بن مزاحم قال : حدثني أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي قال : وحدثني إسحاق بن يوسف الفزاري قال : حدثني أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب قال : حدثني لوط به يحيى بن سعيد الأزدي عن الحارث بن الحصين بن عبد الرحمن بن عبيدة والنضر بن صالح بن حسين بن زهير قال : وحدثني عمران بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن يزيد عن صالح بن إبراهيم وزيد بن عبد الرحمن الواقفي وعلي بن حنظلة بن أسعد الشامي وغير هؤلاء ذكروا هذا الحديث سرا وعلانية .
 وقد جمعت ما سمعتُ من رواياتهم على اختلاف لغاتهم فألفته حديثا واحدا على نسق واحد"
"ذكر قدوم عمال عثمان عليه لما كثرت شكاية الناس منهم .
 قال : فأرسل عثمان إلى جميع عماله فأشخصهم إليه من جميع البلاد ، ثم أقبل عليهم فقال : يا هؤلاء ! إنه قد كثرت شكايات الناس منكم ، فأما القريب فقد بادهني وأما البعيد فما نالوا جهدا ، فماذا عندكم من الرأي ؟
قال : فتكلم عبد الله بن عامر بن كريز وقال : يا أمير المؤمنين ! إنه ليس يرضي الناس عنك إلا ما أسخطهم عليك ، فإن الناس إنما نقموا عليك لأجل هذا المال ، فأعطهم إياه حتى يرضوا به عنك ولا يشكوك أحد بعد ذلك . قال : ثم تكلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال : يا أمير المؤمنين ! إن لك على الناس حقا في كتاب الله ولهم عليك مثل ذلك ، فادفع إليهم حقوقهم واستوف منهم حقك ، فإنه قد ولي أمر هذه الأمة من قبلك رجلين خيرين فاضلين أبا بكر وعمر فسارا بسيرة ، فسر بسيرتهما واستسن بسنتهما واعمل بعملهما ، يرضى الناس عنك ولا يشكوك أحد .
قال : ثم تكلم سعيد بن العاص فقال : لا والله يا أمير المؤمنين ! ما دعا الناس أن نقموا عليك إلا الحمام والفراغ من الحروب ، وذلك أن العرب اليوم جلست في المحافل وتحدثت بالأحاديث ، فاشغل العرب بالغزو وقاتل بهم العدو حتى لا يرجع أحدهم ، إذا رجع إلى منزله قد أهمته نفسه لا يتفرغ لعيب الامراء .
قال : ثم تكلم معاوية فقال : يا أمير المؤمنين ! إنك قد جمعتنا وذكرت أنه قد كثرت الشكايات منا وأنت قد ملكتنا رقاب الناس وجعلتنا أوتادا في الأرض ، فخذ كل واحد منا بما يليه من عمله حتى نكفيك ما قبله ولا يكون ههنا شكاية أحد ولا ينقم أحد عليك .
 قال : فعلم عثمان أن الرأي ما قال معاوية ، فعزم على أن يرد عماله إلى بلادهم وأعمالهم ، ثم أوصاهم وعهد إليهم وحذرهم الشكايات ، فرجع معاوية إلى الشام ، وعبد الله بن عامر إلى البصرة ، وسعيد بن العاص إلى الكوفة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى مصر ، فلم يزدادوا على الناس إلا غلظة وجنفا وجورا في الاحكام وعدولا عن السنة ."



ومن المؤكد أن البطانة الأموية للخليفة, مروان بن الحكم بالذات, كان لها الدور الأبرز في إقناع عثمان بأن الاستجابة لمطالبات عامة الرعية أنما هو ضعفٌ لا يليق بالخليفة بل إنه سيؤدي إلى المزيد من المطالب, وأن الأنسب هو مزيدٌ من الشدّة والحزم والمزيد من التفويض والصلاحيات لولاته ذاتهم, بعد تجديد الثقة بهم.


وقد ورد في الكامل لابن الاثير خبر اجتماع عثمان بولاته مرتين : واحدة ضمن أحداث عام 34 والثانية في عام 35 . ولكن من المستبعد أن يكون حصل اجتماع قمة في عام 35 لأنه كان العام الذي حوصر فيه الخليفة وقتل وهو وحيد.




سيف بن عمر ينفي وجود أسباب حقيقية للشكوى من عثمان وولاته!

كما أخرج الطبري في تاريخه رواية سيف بن عمر بشأن اجتماع القمة, وهو المتخصص في الدفاع عن عثمان, وقد جعل الاجتماع ضمن أحداث سنة 35.
واستبق سيف روايته بخبر عن إرسال عثمان مجموعة من الصحابة الى الأمصار (الكوفة والبصرة ومصر والشام) لكي يتحققوا من اوضاعها وما يصله من شكايات ضد ولاتها. فرجعوا كلهم بأخبار تمتدح ولاة الأمصار " ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم .... ان أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم" باستثناء عمار بن ياسر.

وأتبع سيفٌ خبر عودة الصحابة بأحسن الأخبار عن أوضاع الأمصار برواية تفيض مدحاً للخليفة الذي كتب لأهل الأمصار قائلاً لهم " أما بعد, فإني آخذٌ العمال بموافاتي في كل موسم . وقد سلطتُ الأمة منذ وليتُ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يرفع على شيئ ولا على أحد من عمالي إلاّ أعطيته. وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلاّ متروكٌ لهم. وقد رفع الى أهل المدينة أن أقواماً يشتمون وآخرون يضربون . فيا من ضرب سراً وشتم سراً من ادّعى شيئاً من ذلك فليوافِ الموسمَ فليأخذ بحقه حيث كان, مني أو من عمالي, أو تصدّقوا فإن الله يجزي المتصدقين .
فلما قرئ في الأمصار أبكى الناسَ ودعوا لعثمان وقالوا ان الأمة لتمخض بشر"
وبعد هذه المقدمة يروي سيف خبر اجتماع القمة بصياغة مدروسة بكل عناية للدفاع عن الخليفة وكل ولاته : فعثمان يسألهم " ويحكم ! ما هذه الشكاية؟ وما هذه الاذاعة؟ اني والله لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم , ولا يعصب هذا إلاّ بي" فيجيبوه " ألم تبعث؟ ألم نرجع اليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيئ؟ لا والله ما صدقوا ولا برّوا ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً, وما كنتَ لتأخذ به احداً فيقيمك على شيئ. وما هي إلاّ إذاعة لا يحل الأخذ بها ولا الانتهاء اليها" ثم أكد سيف, على لسان سعيد بن العاص أن الأمر لا يعدو كونه مؤامرة دبرت في الظلام " هذا أمرٌ مصنوع, يصنع في السر , فيلقي به غير ذي المعرفة فبخبر به فيتحدث به في مجالسهم" ويستمر سيف الى أن ينهي روايته بخطبة جميلة لعثمان " ... وقد علم الله أني لم آلُ الناسَ خيراً ولا نفسي, ووالله ان رحى الفتنة لدائرة , فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها. كفكفوا الناسَ , وهَبوا لهم حقوقهم , واغتفروا لهم , وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها"

وهكذا يريد سيف أن نصدّق أن الأمر كله كذب في كذب: فلا ظلم في الأمصار بل ولاة عادلون رائعون . والمشكلة كلها إشاعات خبيثة يطلقها بعض راغبي الفتن. ولما تأكذ الخليفة من ذلك ثبّتَ ولاته ذاتهم في مناصبهم, لأنهم وبكل بساطة : مُفترى عليهم.







 معاوية يُحذر كبار الصحابة [33]

وتوجد الكثير من الروايات التي تتحدث عن قيام معاوية بالحديث مباشرة الى أهل الشورى وكبار الصحابة محذرا إياهم بشكل صريح من مغبة التخلي عن الخليفة العجوز. وليس هناك ما يمنع من قبول مجمل تلك الروايات لأنها تنسجم مع خط معاوية وأسلوبه. ويمكن اعتبار تاريخ المدينة لابن شبة النميري من أكثر المصادر استعراضا لتحذيرات معاوية  . والظاهر أن تحذيرات معاوية تلك حصلت بعيد اجتماع القمة بين عثمان وعماله في موسم الحج سنة 34 للهجرة.
وفي اولى الروايات لابن شبة قال
"حدثنا محمد بن سعيد الدمشقي قال ، حدثنا عبد الكريم ابن يزيد ، عن موسى بن محمد بن طلحة ، عن أبيه قال : إني لمع أبي في المنزل حين أتاه رسول عثمان يدعوه ، فقام يلبس ثوبه ، ثم أتاه رسول ثان ، ثم أتاه رسول ثالث ، فانطلق وانطلقت معه فإذا عثمان جالس وعنده المهاجرون وعيون الأنصار وفي قدمة قدمها مع معاوية " ثم يذكر كلاما لعثمان يدافع فيه عن سياساته الى أن يصل الى كلام معاوية.
"فقال معاوية رضي الله عنه : إنكم معشر المهاجرين قد علمتم أنه ليس منكم إلا قد كان في عشيرته من هو أشرف منه ، بعث الله رسوله فأسرعتم إلى الله ، وأبطأوا عنه ، فسدتم عشائركم حتى إنه ليقال بنو فلان ، رهط فلان ، وإن هذا الامر ثابت لكم ما استقمتم ، فإني قد أراكم وما تصنعون ، وإني والله لئن لم تتركوا شيخنا هذا يموت على فراشه ليدخلن فيكم من ليس منكم.
 فقال علي رضي الله عنه : وما أنت وهذا يا ابن اللخناء ؟
فقال معاوية رضي الله عنه : مهلا أبا حسن ، فوالله ما هي بأخس نسائكم ، ولقد أسلمتْ وأتتْ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته وصافحته ، وما رأيته صافح امرأة قط غيرها
 قال : فنهض علي رضي الله عنه مغضبا ، فقال له عثمان رضي الله عنه : اجلس . قال : لا أجلس . قال : عزمت عليك . فأبى ، فأخذ عثمان رضي الله بطرف ردائه ، فتركه من يده وخرج" .
وهذا نص مثير للغاية : فمعاوية يقول اذا انحرفتم ايها الصحابة فسوف تخسرون كل شيء! لقد وصلتم الى مكانتكم الرفيعة بفضل سبقكم الى رسول الله (ص) وعليكم ان تحافظوا على العهد وإلاّ "سيدخل فيكم من ليس منكم" ويقصد نفسه طبعا.
و ثاني روايات ابن شبة تقول "حدثنا أحمد بن معاوية قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة قال : أرسل عثمان إلى طلحة رضي الله عنهما يدعوه ، فخرجت معه حتى دخل على عثمان رضي الله عنه - قال وعنده علي وسعد والزبير ومعاوية –
فحمد الله معاوية وأثنى عليه وقال : أنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرة الأرض ، وولاة أمر هذه الأمة ، لا يطمع في ذلك أحد غيركم ، اخترتم صاحبكم من غير غلبة ولا طمع ، وقد كبرت سنه وولى عمره، ولو انتظرتم به الهرم - وكان قريبا - مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله من أن يبلغ به ذلك ، ولقد فشت قالة خفتها عليكم ، فما عتبتم فيه من شئ فهذه يدي به لكم، ولا تطمعوا الناس في أمركم ، فوالله لئن طمعوا في ذلك لا رأيتم منها أبدا إلا إدبارا .
فقال علي رضي الله عنه : مالك ولذاك لا أم لك .
 فقال : دعْ أمي فهي ليست بشرّ أمهاتكم ، قد أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجبني فيما أقول لك .
فقال عثمان رضي الله عنه : صدق ابن أخي .... "[34]
وهنا يظهر معاوية كمن "يضمن " الخليفة عثمان أمام كبار منتقديه من الصحابة " فهذه يدي به لكم"! وهذا الكلام من معاوية يعكس مدى إحساسه بقوته هو وإدراكه بانه قد غدا العمود الفقري لنظام حكم عثمان.

وفي رواية ثالثة قال ان معاوية قد أقبل من الشام خصيصا لتحذير الصحابة  "حدثنا هارون بن عمر المخزومي قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث بن سعد :
 أن معاوية رضي الله عنه لما سمع الذي كان من معاتبة - أو كلمة تشبهها - أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان أقبل من الشام بغير إذن ، فدخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عليا وطلحة والزبير رضي الله عنهم في ناحية المسجد يتحاورون ، فسلم عليهم ثم قال : أبإذن منكم ؟
قالوا : نعم يا معاوية .
فقعد فقالوا : ما جاء بك ؟
 قال : الذي دخل بينكم ، فإن الناس قد رأوا أن هذا الامر ميراث لكم أيها النفر ، ليس لأحد فيه حق معكم ، حتى إنهم ليقولون فلان بعد فلان ، وفلان بعد فلان كأنه ميراث ، وإن تصلح ذات بينكم لا يطمع أحد في منازعتكم ، وإن تختلفوا يدخل عليكم غيركم . قالوا : ومن ذاك ؟
قال : أنا أولهم ! فوقع به علي فضعف من أمره ...."

ورواية رابعة تقول ان معاوية قد وجه خطابه وتحذيره الى عموم اهل المدينة ومكة في موسم الحج " حدثنا علي بن محمد ، عن عيسى بن يزيد ، عن صالح ابن كيسان قال : حج عثمان ومعاوية - رضي الله عنهما - معه ، فأمره عثمان رضي الله عنه ،
فتكلم فقال : يا أيها الناس ، إنكم قد اجتمعتم في أعظم حرمة لله ، والله لا أقول في مقامي هذا إلا حقا هيبة لله وحرمته ، وخيفة من الله وعقوبته ، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين قد أنعم الله عليهم في أنفسهم ، وأنعم على المسلمين بهم ، فهم ولاة هذا الامر ما بقي منهم إنسان ، وهذان البلدان - المدينة ومكة - خير البلدان ، فالتابعون ينظرون إلى السابقين ، والبلدان ينظرون إلى هذين البلدين ، وإني قد رأيتكم بطرتم نعمكم ، ونشبتم في الطعن على إمرتكم ، وإني والله ان صفقت إحدى يدي على الأخرى لم يقم السابقون للتابعين ، ولا البلدان على البلدان وما هم في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، فلا ينزعن أمركم من أيديكم ، ولا يخرجن من بين أظهركم ، فإياكم إياكم ، فرب أمر يستأنى فيه وإن كره خيفة لما في عاقبته"
وفي رواية اخرى عن الهيثم بن عدي ان معاوية خاطب أهل المدينة" فقال معاوية : يا أهل المدينة إن قولكم اليوم سنة على من سواكم ، وحكم على من خالفكم ، وقد خلى الناس بينكم وبين أمركم في هذا الرجل ، فإن تركتموه حتى يمضي قام الامر فأقمتم به ، وكان لكم وإليكم ، وإن أمضيتموه وأقمتم أتهمكم الناس على حكمكم وحكموا عليكم ، وإن الفتنة تنبت على ثلاث : على التخون ثم السكون ثم الخلع وهي العظمى ، وفيها يصير الصغير كبيرا والشريف وضيعا ، ويقول فيها من لم يكن يسمع منه فيسمع له ، ولا يقال معه"

ويلاحظ في عموم الروايات مدى انزعاج الامام علي وغضبه من كلام معاوية, ورفضه الشديد الدخول في مناقشات معه تتعلق بمستقبل الخلافة وشؤونها. والروايات تجمع أن الامام عليا كان يواجه معاوية بكلام حاد جارح.
وهناك رواية لدى ابن شبة تفيد بأن معاوية لجأ الى استفزاز الامام علي "حدثنا محمد بن حاتم قال ، حدثنا نعيم بن محمد قال ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت قال :
 قال معاوية لعلي رضي الله عنهما : لو تنحيتَ ؟ فإن هذا الرجل إن أصيب اتهموك!
فقال علي رضي الله عنه : يا قاص كذا وكذا ، مالك وما هناك؟ .
فقال معاوية رضي الله عنه : لا تشتم أمي فإنها ليست بدون أمهاتكم"

وتوجد رواية أخرى تذكر مواجهة بين الامام علي ومعاوية امام القيادات الأموية كلها "حدثنا أحمد بن معاوية قال ، حدثنا الهيثم بن عدي ، عن ابن عياش قال ، قال عبد الله بن عباس : قدم سعيد بن العاص من الكوفة حاجا فمرض بمكة ، فدخل عليه (علي رضي الله عنه) يعوده وعنده معاوية ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الله بن خالد بن أسيد ، فأوسعوا له عند رأسه ، فسأله ، فلما فرغ قال له معاوية : أبا حسن ، إني قائل لك قولا فإن كرهته فاصبر على ما تكره منه فإن من ورائه ما تحب ، إنه والله ما صاحبنا غيرك ، ولو سكتّ عنا ما نطق من قال معك ، وما يغصب أمرنا إلا بك ، وإن الذين معك اليوم لعليك غدا ، ولئن لا يشنأك لنكونن أحب إليهم منك ، وباطلنا أحب إليهم من حقك ، إنك والله ما أنت بقوي على ما تريد ، ولا نحن بضعفاء عما نطالب .
فقال علي : يا معاوية أفتراني أقعد أقول وتقول ! ! ثم خرج .
قال ابن عباس ، فلقيته فعرفت الغضب في وجهه ، فدخلت على سعيد بن العاص فسألته ، ثم قلت لهم : كأنكم أنفرتم شيخكم ! فقال معاوية : أردنا تسكينه فنفر . فقلت : ولم ؟ فوالله إنه لوقور غيور يسيق بغير مضغ ،  فإياكم يا بني أمية . لا تمثلوا به فيمثل بكم ."

كما اهتم ابن قتيبة في الامامة والسياسة بخطاب معاوية التحذيري .
فروى اولا " قدِم معاوية بن أبي سفيان على إثر ذلك من الشام, فأتى مجلساً فيه علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعمار بن ياسر.
 فقال لهم : يا معشر الصحابة ! أوصيكم بشيخي هذا خيراً. فوالله لئن قتل بين أظهركم لأملأنها عليكم خيلاً ورجالا!
 ثم أقبل على عمار بن ياسر فقال : يا عمار ! إن بالشام مئة ألف فارس, كلٌ يأخذ العطاء, مع مثلهم من أبنائهم وعبدانهم , لا يعرفون علياً ولا قرابته, ولا عماراً ولا سابقته, ولا الزبير ولا صحابته, ولا طلحة ولا هجرته, ولا يهابون ابن عوف ولا ماله, ولا يتقون سعداً ولا دعوته!
 فإيّاك يا عمار أن تقعد غداً في فتنةٍ تتجلّى , فيقال هذا قاتلُ عثمان وهذا قاتلُ علي"[35]

وقد أورد ابن قتيبة الرواية على نحو آخر . وفيه أن عثمان قد دعا كبار الصحابة بعدما عاتبوه وطلب منهم أن يسمعوا إلى معاوية " فإن ابن عمي معاوية هذا قد كان غائباً عنكم وعما نلتم مني, وما عاتبتكم عليه وعاتبتموني. وقد سألني أن يكلمكم وأن يكلمه مَن أراد.
فقال سعد بن أبي وقاص : وما عسى أن يُقال لمعاوية أو يقول, إلاّ ما قلتَ أو قيل لك؟
فقال علي : ذلكم تكلم يا معاوية."
 فذكر معاوية كلاما طويلاً عن الرسول وأبي بكر وعمر وعثمان إلى أن وصل إلى بيت القصيد وهو التهديد وتذكير الصحابة بأن الزمان قد تغيّر " مهلاً مهلاً معشر المهاجرين! فإن وراءكم مَن إن دفعتموه اليوم اندفعَ عنكم, ومَن إن فعلتم الذي أنتم فاعلوه دفَعَكم بأشدّ من ركنكم وأعدّ من جمعكم, ثم استنّ عليكم بسنّتكم ورأى أن دم الباقي ليس بممتنع بعد دم الماضي...
 فقال علي بن أبي طالب : كأنك تريد نفسك يا ابن اللخناء ! لستَ كذلك"
 ثم استمر معاوية فذكر كلاماً حول مكة والمدينة وكيف أن الأمصار تشخص ببصرها إليهما إلى أن قال "وليُسلبنّ أمركم ولُينقلنّ المُلكُ من بين أظهركم . وما أنتم في الناس إلاّ كالشامة السوداء في الثور الابيض . فإني رأيتكم نشبتم في الطعن على خليفتكم وبطرتم معيشتكم وسفّهتم أحلامكم"

واضحٌ من موقف وكلام عليّ بن أبي طالب, وكذلك سعد بن أبي وقاص, أن كبار الصحابة حتى تلك اللحظة لم يكونوا يعتبرون أن من حق معاوية حتى أن يثير مواضيع الخلافة والحكم للنقاش. ولم يعتبروه مؤهلا أصلاً للكلام بهذه الأمور بوجود عثمان ووجودهم.


وقد أخرج الطبري في تاريخه خطبة معاوية هذه بروايتين : الاولى تم ذكرها

والثانية هي رواية سيف بن عمر وفيها ان معاوية قبيل عودته الى الشام خاطب نفراً من المهاجرين فيهم طلحة والزبير وعلي فقال " انكم قد علمتم ان هذا الأمر كان إذا الناس يتغالبون الى رجال , فلم يكن منكم أحد إلاّ وفي فصيلته من يرأسه ويستبد عليه ويقطع الأمر دونه ولا يشهده ولا يؤامره
حتى بعث الله جل وعز نبيه (ص) وأكرمَ به مَن اتّبعه , فكانوا يرأسون مَن جاء مِن بعده , وأمرهم شورى بينهم , يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد . فإن أخذوا بذلك وقاموا عليه كان الأمر أمرهم , والناس تبعٌ لهم , وإن أصغوا الى الدنيا وطلبوها بالتغالب سلبوا ذلك , وردّه الله الى مَن كان يرأسهم , وإلاّ فليحذروا الغير , فإن الله على البدل قادر وله المشيئة في ملكه وأمره .
إني قد خلفتُ فيكم شيخاً فاستوصوا به خيراً وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك .
ثم ودعهم ومضى.
فقال علي : ما كنتُ أرى أن في هذا خيراً . فقال الزبير : لا والله ما كان قط أعظم في صدرك وصدورنا منه الغداة"[36]
وتكمن اهمية خطاب معاوية التحذيري في كونه يوضح بجلاء أن معاوية كان يتوقع تلك النهاية المأساوية لعثمان ويستعد لها. وهو يفسر فلسفة معاوية : إن أصبح الأمرُ أمرَ غلبة فأنا لها!
فلم يكن بإمكان معاوية, الذكي واللمّاح, والذي أصبح رجلَ النظام القوي في عهد عثمان, ألاّ يلاحظ خطورة التطورات التي كانت تجري في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان. كان معاوية يستشعر جدّية الاضطرابات التي أخذت تعصف بعدّة أقاليم من دولة الخلافة ومدى التهديد الذي تمثله مشاعر الاستياء والغضب الشعبي من سياسة الخليفة والتي تجتاح عرض البلاد وطولها. وفوق ذلك, كان معاوية يشعر أن عثمان قد خلق حاجزاً معيناً بينه وبين طبقة كبار الصحابة بسبب اعتماده الكلي على عائلته هو بالذات , وأن الخليفة بالتالي لم يعد يتمتع بالتأييد المناسب من هؤلاء. وربما قدّر معاوية أن الصحابة من جماعة الشورى يتوقعون أن يأتيهم الدور في خلافة العجوز عثمان , إن وافاه الأجل أو حصل له مكروه. فقرر معاوية أن يضع النقاط على الحروف ويُطلق إشارة تحذير لمن يهمه الأمر.

إن معاوية, الواقعي والعارف بتحولات مراكز القوى, أراد أن يذكّر الصحابة من ذوي الشرعية الإسلامية, أن الزمان تغير, وأن عليهم أن يعوا ذلك ويراعوا المستجدات على الأرض. وفي خطاب معاوية ذاك تصريحٌ بأنه سيحترم الشرعية فقط إن هي استمرّت على هواه, وأنه لن يسمح بالمسّ بامتيازات بني أمية التي تأصّلت في عهد عثمان على يد مجموعةٍ أصبحت " كالشامة السوداء في الثور الأبيض" !














[1] مصادر هذا البحث : ترجمة علي بن أبي طالب من أنساب الأشراف للبلاذري (ص387-389), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص178 و  ج8  ص109  ), ترجمة عبد الله ابن ابي السرح وترجمة محمد بن ابي حذيفة في الاستيعاب لابن عبد البر (ص 435 وص 644)  ,  تاريخ دمشق لابن عساكر (ج52 ص269-273) و ( ج29 ص37 ), المعجم الكبير للحافظ الطبراني ( ج2 ص82-88 ), تاريخ الطبري (ج2 ص429 و ج3 ص391 وص 393 و ص379 و ص407 و ج 4 - ص 80 -  81 ), كتاب الثقات لابن حبان (ج2 ص256 و ص259), تاريخ المدينة المنورة لابن شبة (ج3 ص1117-1121 و ج4 ص1160), الاصابة لابن حجر العسقلاني ( ج6 ص9- 11 و ج4 ص95  ), المستدرك على الصحيحين للحاكم ( ج4 ص61), الاخبار الطوال للدينوري (ص168), الإمامة والسياسة (ج1 ص56), أسد الغابة لابن الاثير (ج3 ص174 ), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص164), الحر العاملي في وسائل الشيعة (ج30 ص455 ) , و رجال الطوسي (ص82) و تاريخ ابن خلدون ( ج 4 - ص 294), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ( ج6 ص10-11 و  ص101  )
[2] هناك اجماع على ذلك , مثلا: الاصابة لابن حجر العسقلاني وكذلك المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري
[3] وتفس هذه الرواية بالحرف وردت في المعجم الكبير للحافظ الطبراني بسند كامل " حدثنا سليمان بن الحسن العطار ثنا أبو كامل الجحدري ثنا إسماعيل بن إبراهيم ثنا بن عون عن محمد بن سيرين".

[4] ونفس هذا النص بالحرف تقريبا رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة باسناده الجمعي ( ذكروا ). وكذلك روى ابن حبان في كتاب " الثقات "        
[5] وقد روى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة نفس الرواية الثانية للطبري , التي تتحدث عن لجوء ابن ابي حذيفة الى الغار وضرب عنقه على يد ابن ظلام, نقلاً عن المدائني. وحسب هذه الرواية يكون محمد بن ابي حذيفة قد بقي لما بعد محمد بن ابي بكر.
[6] مصادر هذا البحث : تاريخ دمشق لابن عساكر (ج21 ص12), الطبقات الكبرى لابن سعد ( ج5 ص32), تاريخ الطبري ( ج3 ص361-368 و ص369), تاريخ المدينة  لابن شبة (ج3 ص1141 و ص1142), أنساب الأشراف للبلاذري ( ج6 ص151-152 و ص153-154و ص155), كتاب الفتوح لابن أعثم (ج2 ص384-385 و ص387-388 و ص391), تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (ج7 ص440), البداية والنهاية  لابن كثير (ج7 ص134 و ص185)
[7] وقد وصف الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج7 ص440) أحد أهم المعارضين , وهو زيد بن صوحان, بأوصاف تنبئ عن شخصية تقية ورعة. فبعد ان ذكر انه فقد يده في الجهاد قال " كان زيد بن صوحان يقوم الليل ويصوم النهار" وقال ان عبادته الشديدة تلك دفعت الصحابي الكبير سلمان الفارسي الى التدخل لكي يقنعه بأن يرفق بنفسه ويؤدي حق زوجته عليه!

[8] تفاصيل الاسناد الجمعي لدى ابن أعثم سبق ذكرها في هذا الكتاب.
[9] تجمع روايات الإخباريين الآخرين على أن عبد الرحمن بن خنيس كان صاحب شرطة سعيد بن العاص, وليس حَدَثاً كما يذكر سيف.
[10] وبسبب الكلام المفصّل والحوار الطويل بين معاوية ومنفيي الكوفة, شك الباحث المعاصر هشام جعيط في كتابه الفتنة في صحة رواية سيف بن عمر على اعتبار ان نوعية ذلك الكلام الصادر عن معاوية لا تنسجم مع تلك المرحلة بل انها أقرب الى عقيدة معاوية والأمويين فيما بعد, أيام حكمهم.
[11] لم يذكر ابن أعثم اسمه ضمن قائمة المنفيين الى الشام في بداية روايته.
[12] يرد اسمه أحيانا "يزيد" بن المكفف
[13] هذا وهم . والمقصود سعيد بن العاص
[14] ويمكن مقارنة هذه الرسالة بتلك التي ارسلها اهل مصر لعثمان (رواية عروة بن الزبير) وملاحظة التشابه في المضمون الى حد كبير.
[15] وقد أشار ابن أعثم الى ان عثمان لاحقا شعر بتأنيب الضمير تجاه ما صنعه بكعب بن عبيدة فامر سعيد بن العاص برده, واعتذر منه وعرض عليه أن يقتاد منه, فرفض.
[16] مصادر هذا البحث : الطبقات الكبرى لابن سعد (ج5 ص33), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج21 ص116) , تاريخ خليفة بن خياط  ( ص124),  مروج الذهب للمسعودي (ج2 ص265-266), تاريخ الطبري ( ج3 ص371), أنساب الأشراف للبلاذري (ج6 ص157-159),
[17] الجرعة مكان مشرف قرب القادسية يمر به القادمون الى الكوفة. وقد اشتهرت به أحداث خلع سعيد لأن المتمردين انتظروه هناك ليردوه الى المدينة.
[18] وقد نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق هذا النص بالحرف عن ابن سعد.
[19] وهذا لا يمكن تصديقه. بل هو يدخل في اطار الروايات التي تحاول ان تحمل كبار الصحابة مسؤولية التحريض على قتل عثمان. وسيأتي الحديث لاحقاً عن الروايات المصممة لبيان تهافت موقف طلحة والزبير وعائشة في حرب الجمل عن طريق القول انهم كانوا وراء التحريض على الثورة على عثمان بينما هم الآن يطلبون بدمه .
[20] لم أعرف على من يعود ضمير الغائب هنا. فلا يمكن أن يكون المقصود بالراكب المتخفي هو الاشتر.
[21] توحي الرواية أن تولية أبي موسى خلفاً لسعيد كانت بمبادرة من عثمان. ولكن الأرجح أن عثمان قد استجاب لمطلب المتمردين من أهل الكوفة.
[22] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج3 ص361-365 وص371), أنساب الأشراف للبلاذري (ج6 ص152-153) , تاريخ المدينة لابن شبة (ج3 ص1141-1142) , كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص386-390) , البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص185), الطبقات الكبرى لابن سعد  ( ج5 ص33) و كتاب اللباب في تحرير النساب لابن الأثير.
[23] سيلعب دوراً مهماً خلال عهد الامام علي, وسوف يأتي الحديث عنه بالتفصيل.
[24] تاريخ الطبري ( ج3 ص371)
[25] مصادر هذا البحث : سير اعلام النبلاء للذهبي ( ج4 ص34), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج56 ص380 وص390 وص378 و ص389), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج6 ص78 و ص75 و ج15 ص101), رجال النجاشي (ص203), أعيان الشيعة للسيد محسن الامين (ج9 ص39).
[26] وروى ابن ابي الحديد هذه الرواية أيضا عن الشعبي وبألفاظ قريبة من هذه , بل وفيها إضافة "وأبعد الناس من دنس أوعار"
[27] وقد أخرجت المصادر الشيعية هذا النص بنفس هذه العبارات تقريباً. ومنها رجال النجاشي الذي أورد مخاطبة الامام علي لأهل مصر عن طريق الشعبي عن صعصعة بن صوحان.
[28] مصادر هذا البحث : اسد الغابة لابن الاثير (ج3 ص191),تاريخ الطبري  (ج4 ص12) و  (ج3 ص373), كتاب المنمق في اخبار قريش لمحمد بن حبيب البغدادي (ص390), أنساب الأشراف للبلاذري (ج6 ص172) و كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (ج2 ص393)
[29] ويلاحظ هنا تشابه العبارات وسياق الحديث مع النص الذي اوردناه من كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (ج2 ص393), والذي يتحدث عن كعب بن عبيدة النهدي من اهل الكوفة والذي تجرّأ وأرسل لعثمان كتاباً استعرض فيه مخالفاته ودعاه الى الكف عنها.

[30] مصادر هذا البحث : تاريخ المدينة لابن شبة ( ج3 ص1096), تاريخ الطبري (ج3 ص373-374 و ص379-381), الكامل لابن الاثير ( ص 389 ص391), تاريخ ابن خلدون ( ج2 ص143) وكتاب الفتوح لابن أعثم (ج2 ص388-389)
[31] وسيأتي الحديث عن كلام معاوية لعلي وكبار الصحابة
[32] وقد روى ابن خلدون في تاريخه نفس هذه الرواية تقريبا , مع اختصار قليل ودون ذكر كلام عمرو بن العاص, وذلك من ضمن أحداث العام 34.
[33] مصادر هذا البحث : تاريخ المدينة لابن شبة النميري (ج 3 - ص 1091 – 1098), تاريخ الطبري (ج3 ص382), الامامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص46-48), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج39 ص308 ).
[34] وجدير بالذكر ان هذه الرواية , بالحرف تقريبا , أوردها الطبري في تاريخه (ج3 ص382) وذكر السند كما يلي  "حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله عن اسحاق بن يحيى عن موسى بن طلحة قال ..."

[35] وربما ورد اسم عبد الرحمن بن عوف بين كبار الصحابة على سبيل الخطأ من الراوي, لأنه كان متوفياً في ذلك الوقت.
[36] وهذه الرواية أخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق عن سيف بن عمر بسنده وقد قال الطبري وابن عساكر في ذكر السند " وشاركهم من هذا المكان أبو حارثة وأبو عثمان عن رجاء بن حياة وغيره"