الجزء الثاني : معارضة عثمان في اوساط الصحابة



الفصل الاول : علاقة علي بعثمان[1]

مقدمة
كانت علاقة الامام علي في معظم الأوقات متوترة مع الخليفة عثمان. وكل الروايات تشير الى غضب علي الشديد مما كان يعتبره فسادا في سياسة عثمان وحكمه. وكان عليٌ يصرّ على مجابهة عثمان مباشرةً. وكان عثمان لا يستسيغ ذلك ولا يطيقه إلاّ على مضض.
وقد سلط ابن شبة الكثير من الضوء على العلاقات المتوترة بين عليّ والخليفة عثمان, وكيف أن عثمان كان يقول بأن الطاعنين عليه " يتخذون علياً عضداً" ويعتبرونه " كهفاً " لهم, وكيف أن الأوساط المحيطة بعثمان كانت ذات موقفٍ شديد العداء لعليّ, فيصفونه بِ " أبي تراب"[2] ويتهمونه بأنه " رأس الطعن " على الخليفة.
وروى ابن قتيبة في الامامة والسياسة أن عثمان قال لعلي مرة وهو يعوده لمرض ألمّ به " والله يا ابا الحسن ما أدري ؟ أشتهي موتك أم أشتهي حياتك؟ فوالله لئن مت لا أحب أن أبقى بعدك لغيرك, لأني لا أجد منك خلفا. ولئن بقيت لا أعدم طاغيا يتخذك سلما وعضدا, ويعدك كهفا وملجأ, لا يمنعني منه إلاّ مكانه منك, ومكانك منه. فأنا منك كالابن العاق من أبيه: إن مات فجعه, وإن عاش عقه! فإما سلمٌ فنسالم, وإما حربٌ فنحارب. فلا تجعلني بين السماء والأرض. فإنك والله إن قتلتني لا تجد مني خلفا, ولئن قتلتك لا أجد منك خلفا. ولن يلي أمر هذه الأمة بادئ فتنة"
وهذا النص يظهر حيرة عثمان الحقيقية تجاه علي . فهو لا يدري ماذا يفعل تجاهه, فاكتفى بتحذيره من الفتنة.


أسباب الخلاف

أولاً : معارضة علي لتسليم قيادة دولة الاسلام لبني أمية

فالظاهر أن السبب الرئيسي وراء غضب علي الشديد كان التعيينات التي قام بها عثمان لأقاربه في قيادة الدولة , وسياساتهم التي طبقوها.

وفي نهج البلاغة لخّصَ عليٌ ببلاغته الفريدة موقفه من عثمان ورهطه من بني أمية . فقال عن عثمان في خطبته الشقشقية المشهورة " ... الى أن قام ثالث القوم نافِجاً حَضنيه, بين نَثيلِهِ ومُعتَلَفِهِ. وقام معه بنو أبيه يَخضِمون مالَ الله خَضمة الإبل نبتة الربيع . الى أن انتكث عليه فتلُهُ, وأجهز عليه عملُهُ, وكَبَت به بِطنتُهُ..."[3]

ومن المفيد التأمل بالنص التالي الذي أورده الطبري في تاريخه من رواية للواقدي . وفيه تظهر حيرة علي وإحباطه الشديد من عثمان وسياسته التي لا يرى لها سبباً مقنعاً. وكان موضوع ولاة عثمان, وبالأخص معاوية وابن عامر, من الأمور التي يلح عليّ بن أبي طالب على عثمان بشأنها ويطالبه بعزل هؤلاء. وفيما يلي الحوار :
قال علي لعثمان " والله ما أدري ما أقول لك! وما أعرف شيئاً تجهله, ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم , ما سبقناك الى شيئ فنخبرك عنه , ولا خلونا بشيء فنبلغكه , وما خصصنا بأمر دونك . وقد رأيتَ وسمعتَ وصحبتَ رسول الله (ص) ونلتَ صهره . وما ابن ابي قحافة بأولى بعمل الحق منك, ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك . وإنك أقرب الى رسول الله (ص) رحماً, وقد نلتَ من صهر رسول الله(ص) ما لم ينالا, ولا سبقاك الى شيء .
فالله الله في نفسك , فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهل. وإن الطريق لواضح بين, وإن أعلام الدين لقائمة .
تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة متروكة . فوالله إن كلا لبين , وإن السنن لقائمة لها أعلام , وإن البدع لقائمة لها أعلام . وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به فأمات سنة معلومة واحيا بدعة متروكة . وإني سمعتُ رسول الله (ص) يقول : يؤتى يوم القيامة بالامام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم
وإني أحذرك الله وأحذرك سطوته ونقماته فإن عذابه شديد أليم, وأحذرك أن تكون إمام هذه الامة المقتول , فإنه يقال : يقتل في هذه الامة إمام فيفتح عليها القتل والقتال الى يوم القيامة وتلبس أمورها عليها ويتركهم شيعا فلا يبصرون الحق لعلو الباطل يموجون فيها موجا ويمرجون فيها مرجا
فقال عثمان : قد والله علمتُ ليقولن الذي قلت! أما والله لو كنتَ مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عبتُ عليك ولا جئتُ منكرا أن وصلت رحما وسددت خلة وآويت ضائعاً ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي.
أنشدك الله يا علي : هل تعلم ان المغيرة بن شعبة ليس هناك ؟
قال : نعم.
قال : فتعلم أن عمر ولاه؟
قال : نعم.
قال : فلم تلومني أن وليتُ ابن عامر في رحمه وقرابته؟
 قال عليّ : سأخبرك! أن عمر بن الخطاب كان كل مَن ولّى فإنما يطأ على صماخه. إن بلغه عنه حرفٌ جَلبَه ثم بلغ به أقصى الغاية. وأنت لا تفعل. ضعفتَ ورفقتَ على أقربائك
قال عثمان : هم أقرباؤك أيضاً!
فقال علي: : لعمري أن رحمهم مني لقريبة. ولكن الفضل في غيرهم.
قال عثمان : هل تعلم أن عمر ولّى معاوية خلافته كلها؟ فقد وليته.
فقال علي: أنشدك الله! هل تعلم أن معاوية كان أخوفَ من عمر , من يرفأ ,غلام عمر, منه؟
قال : نعم.
قال عليّ : فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها. فيقول للناس : هذا أمر عثمان. فيبلغك ولا تغير على معاوية[4]"
  
ومن المهم ملاحظة إصرار عثمان على موضوع صلة الرحم في تبرير تلك التعيينات, بالاضافة الى القول بأن عمر بن الخطاب كان قد استعمل أشخاصاً ليسوا ذوي أهلية إسلامية , بل أصحاب كفاءات إدارية واستشهد على ذلك بالمغيرة بن شعبة , الذي يتفق كلاهما على أنه ساقط من الناحية الدينية ( بتعبير عثمان : ليس هناك) وأشار الى أن عمر ولّى معاوية ذاته. مما اضطر علياً لتوضيح الفارق بين عمر وعثمان في التعامل مع الولاة.

ثانياً : اعتراض علي على سياسة عثمان تجاه مجموعة من الصحابة غير القرشيين وبطشه بهم

وكان ما أظهره عثمان من بطش وقسوة تجاه الصحابة من ذوي الأصول المتواضعة, الموالي وذوي الأصول غير القرشية الذين أوقع بهم عثمان عقاباً معنوياً ومالياً بل وجسدياً عنيفاً لأنهم واجهوه وأعلنوا رفضهم لمنهاجه, مما يفاقم من المشاكل بين علي وعثمان, لأن علياً كان يدافع عنهم بحرارة, وخاصة أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود.

أخرج ابن ابي الحديد  رواية عن الواقدي وفيها أن عثمان لما احضر أبا ذر الغفاري من الشام وتبادل معه كلاماً حادّاً , التفتَ الى الحضور وقال " أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب , اما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله , فإنه فرّق جماعة المسلمين , أو أنفيه من أرض الاسلام.
فتكلم علي عليه السلام – وكان حاضراً – فقال : أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون ( فإن يكُ كاذباً فعليه كذبه وإن يكُ صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم . ان الله لا يهدي من هو مسرف كذاب).
فأجابه عثمان بجواب غليظ , وأجابه علي عليه السلام بمثله.
ولم نذكر الجوابين تذمماً منهما"
ولا يخفى ان تشبيه علي لأبي ذر بمؤمن آل فرعون فيه ذم شديد للسلطة الحاكمة ورئيسها عثمان, الذي فهم المغزى وردّ على عليّ بجواب مقذع استبشعه ابن ابي الحديد.

روى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ضمن كلامه عن حادثة نفي ابي ذر الغفاري من المدينة المنورة ان علياً وآل بيته قد خرجوا لوداع ابي ذر رغم نهي عثمان عن ذلك. ولما تصدى مروان بن الحكم لتنفيذ أمر الخليفة وحاول أن ينهى علياً عن وداع ابي ذر, غضب علي وضرب وجه راحلة مروان بالسوط وطرده. وأثار ذلك غضب عثمان " ورجع القوم الى المدينة فجاء علي عليه السلام الى عثمان .
فقال له : ما حملك على ردّ رسولي وتصغير أمري؟
فقال علي عليه السلام : أما رسولك , فأراد أن يردّ وجهي فرددته , وأما أمرك فلم أصغره.
قال : أما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر؟!
قال : أوكلما أمرتَ بأمر معصيةٍ أطعناك فيه؟!
قال عثمان : أقِد مروان من نفسك.
قال : مم ذا؟
قال : من شتمه وجذب راحلته.
قال : أما راحلته فراحلتي بها, وأما شتمه إياي فوالله لا يشتمني شتمة إلاّ شتمتك مثلها. لا أكذب عليك.
فغضب عثمان وقال : لم لا يشتمك؟ كأنك خيرٌ منه؟
قال علي : إي والله , ومنك! ثم قام فخرج.
فأرسل عثمان الى وجوه المهاجرين والانصار والى بني أمية , يشكو اليهم علياً عليه السلام. فقال القوم : أنت الوالي عليه, وإصلاحُه أجمل. قال : وددتُ ذلك.
فأتوا علياً عليه السلام فقالوا : لو اعتذرتَ الى مروان وأتيته؟
فقال : كلا ! أما مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه. ولكن إن أحب عثمانُ أتيته.
فرجعوا الى عثمان فأخبروه. فأرسل عثمان اليه. فأتاه ومعه بنو هاشم .
فتكلم علي عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما ما وجدتَ عليّ فيه من كلام أبي ذر ووداعه, فوالله ما أردتُ مساءتك ولا الخلاف عليك. ولكن أردتُ به قضاء حقه. وأما مروان فإنه اعترض يريد ردي عن قضاء حق الله عز وجل , فرددته رد مثلي مثله . وأما ما كان مني إليك , فإنك أغضبتني , فأخرج الغضب مني ما لم أرده.
فتكلم عثمان , فحمد الله واثنى عليه ثم قال : أما ما كان منك إليّ فقد وهبته لك. واما ما كان منك الى مروان فقد عفا الله عنك . واما ما حلفتَ عليه فأنت البر الصادق. فأدنِ يدك. فأخذ يده فضمها الى صدره"

وروى المسعودي في مروج الذهب تفاصيل أكثر عن الغضب المتبادل بين الخليفة وعلي بسبب تشييعه لأبي ذر " فشكا مروان الى عثمان ما فعل به علي بن ابي طالب فقال عثمان : يا معشر المسلمين من يعذرني من علي؟ ردّ رسولي عما وجهته له , وفعل كذا. والله لنعطينه حقه.
فلما رجع علي استقبله الناس فقالوا له : ان امير المؤمنين عليك غاضب لتشييعك أبي ذر.
فقال : علي : غَضَب الخيل على اللُجُم!
فلما كان بالعشي جاء الى عثمان, فقال له : ما حملك على ما صنعتَ بمروان ؟ ولمَ اجتراتَ عليّ ورددتَ رسولي وأمري؟
قال : اما مروان, فإنه استقبلني يردني فرددته عن ردّي. واما أمرك فلم أردّه.
قال عثمان : ألم يبلغك اني قد نهيتُ الناسَ عن ابي ذر وعن تشييعه؟
فقال علي : أوكلّ ما أمرتنا به من شيئ نرى طاعة الله والحق في خلافه اتبعنا فيه امرك؟ بالله لا نفعل!
فقال عثمان : أقِد مروان.
قال : ومم أقيده؟
قال : ضربتَ بين أذني راحلته ( وشتمته , فهو شاتمك وضاربٌ بين أذني راحلتك).
قال علي : أما راحلتي فهي تلك, فإن أراد أن يضربها كما ضربتُ راحلته فليفعل. واما أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلاّ حقا.
قال عثمان: ولم لا يشتمك إذا شتمته؟ فوالله ما أنت عندي بأفضل منه!
فغضب علي بن أبي طالب وقال : ألي تقول هذا؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا والله أفضل منك , وأبي أفضل من أبيك, وأمي أفضل من امك! وهذه نبلي قد نثلتها , وهلم فانثل بنبلك!
فغضب عثمان واحمرّ وجهه , فقام ودخل داره. وانصرف علي. فاجتمع اليه اهل بيته , ورجال من المهاجرين والانصار.
فلما كان من الغد واجتمع الناس الى عثمان شكا اليهم علياً وقال : انه يعيبني ويظاهر من يعيبني , يريد بذلك أبا ذر وعمار بن ياسر وغيرهما. فدخل الناس بينهما ( حتى اصطلحا ) وقال له علي : والله ما أردتُ بتشييع أبي ذر إلا الله تعالى"

وكذلك حصل خلافٌ بين الرجلين بشأن عبد الله بن مسعود . فعندما أوقع عثمان عقاباً جسدياً على ابن مسعود بسبب مشكلته[5] مع الوليد بن عقبة تصدى له علي ولامه على ذلك. روى البلاذري في أنساب الأشراف أنه لما استدعى عثمان ابن مسعود من الكوفة تبادل معه كلاماً قاسياً " ... ثم أمر به عثمان فأخرج من المسجد اخراجاً عنيفاً. وضرب به عبد الله بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي الارضَ , ويقال بل احتمله يحموم غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الارضَ فدُقّ ضِلعُه.
فقال علي: يا عثمان أتفعلُ هذا بصاحب رسول الله(ص) بقول الوليد بن عقبة؟!
فقال : ما بقول الوليد فعلتُ هذا, ولكن وجّهتُ زبيد بن الصلت الكندي الى الكوفة فقال له ابن مسعود : ان دم عثمان حلال!
فقال علي: أحلتَ من زبيد على غير ثقة..... وقام علي بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله..."


وجهة نظر عثمان في سبب معارضة عليّ له , وردّ علي

روى ابن شبة في تاريخ المدينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ان عثمان زار العباسَ بن عبد المطلب شاكيا وقال له " أما بعد, فإني جئتك استعذرك من ابن أخيك علي: سبّني وشهر أمري,  وقطع رحمي, وطعن في ديني. وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب! إن كان لكم حق تزعمون انكم غلبتم عليه, فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم, وأنا أقرب إليكم رحما منه, وما لمتُ منكم احدا إلاّ عليا, ولقد دعيتُ أن أبسط عليه فتركته لله والرحم, وأنا أخاف ألاّ يتركني فلا أتركه"

وقد خصص ابن ابي الحديد فصلا في شرح نهج البلاغة للحديث عما شجر بين علي وعثمان ايام خلافته, ذكر فيه روايات عديدة عن الزبير بن بكار في الموفقيات, وأبي العباس المبرد في الكامل, والجوهري في السقيفة, والواقدي في الشورى, وعن الجاحظ , وعن ابي سعد الابي.
وهذه الروايات تتكامل لتظهر مدى التوتر الذي كان يميز علاقتهما, والغضب المتبادل والمطاعن التي كان كل منهما يذكرها عن الآخر. ويظهر فيها عثمان وهو يشكو مُرّ الشكوى من علي الذي يعتبره رأس الطاعنين عليه وحاسدا قد اجترأ عليه رغم قرابته. وكان عثمان يقول انه ليس ذنبه ان قريشا لا تحب عليا!  وتوضح الروايات ان عثمان لجأ في احيان كثيرة الى طلب وساطة خاله[6] العباس , واحيانا عبد الله بن العباس, من اجل ان يكف علي عنه.وتذكر الروايات دفاع ابن عباس عن علي وقوله لعثمان ان عليا ليس مصدر الطعن عليه بل هو يقول مثل ما يقوله الناس بشأن سياسة الخليفة. وفي هذه الروايات يظهر ايضا عمار بن ياسر كرجل علي, اللصيق به, والمحرّض على عثمان الذي كان بدوره يمقته ويتوعده. وفي مقابل عمار بن ياسر, يلعب مروان بن الحكم دورا مناظراً في جانب عثمان , فيحرضه هو وبنو امية على علي وعمار.
وانا هنا أختار رواية للواقدي لأنها توضح فكرة عثمان بأن عليا لم يخالف ابا بكر وعمر بينما يخالفه هو رغم انه امتداد لرأيهما, وتظهر ان موقف علي كان ناتجا عما يراه سياسة ظالمة للمسلمين عامة وليس له خاصة , ولذا هو لا يسعه السكوت:
" عن ابن عباس رحمه الله قال : شهدتُ عتاب عثمان لعلي عليه السلام يوما,
فقال له في بعض ما قاله: نشدتك الله ان تفتح للفرقة بابا! فلعهدي بك وانت تطيع عتيقا وابن الخطاب طاعتك لرسول الله(ص) . ولستُ بدون واحد منهما, وانا أمسّ بك رحما, وأقرب اليك صهراً. فإن كنتَ تزعم ان هذا الأمر جعله رسول الله(ص) لك, فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت.
فإن كانا لم يركبا من الأمر جددا, فكيف أذعنتَ لهما بالبيعة وبخعت بالطاعة؟ وإن كانا أحسنا فيما وليا, ولم أقصر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي, فكن لي كما كنتَ لهما.
فقال علي عليه السلام: أما الفرقة فمعاذ الله ان أفتح لها بابا, وأسهل اليها سبيلا. ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه, وأهديك الى رشدك.
واما عتيق وابن الخطاب, فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله(ص) لي, فأنت أعلم بذلك والمسلمون. وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين.
فأما ألا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع, فقد أصاب السهم الثغرة.
وأما أن يكون حقي دونهم , فقد تركته لهم, طبتُ به نفسا, ونفضتُ يدي عنه استصلاحا.
وأما التسوية بينك وبينهما, فلستَ كأحدهما: انهما وليا هذا الأمر, فظلفا أنفسهما وأهلهما عنه, وعُمتَ فيه وقومُك عومَ السابح في اللجة!
فارجع الى الله أبا عمرو, وانظر هل بقي من عمرك إلا كظمء الحمار؟ فحتى متى والى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟! والله لو ظلم عاملٌ من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركا بينه وبينك.
قال ابن عباس : فقال عثمان: لك العتبى! وأفعل وأعزل من عمالي كل من تكرهه ويكرهه المسلمون.
ثم افترقا. فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك وقال : يجترأ عليك الناس, فلا تعزل أحدا منهم"

مشاجرات ووساطات

ويبدو أنه كثيراً ما كانت تتطور الأمور بين علي وعثمان الى مشاجرات حادة, خاصة بعد وفاة العباس,  مما يستدعي تدخل وسطاء آخرين بينهما .
ورد في نهج البلاغة " ومن كلام له عليه السلام وقد وقعت بينه وبين عثمان مشاجرة, فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان: أنا أكفيكه!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام للمغيرة : يا ابن اللعين الأبتر , أنت تكفيني! فوالله ما أعز الله من أنت ناصره, ولا قام من أنت منهضه. أخرج عنا أبعد الله نواك, ثم ابلغ جهدك. فلا أبقى الله عليك إن أبقيت!"
وشرح ابن ابي الحديد هذا الكلام على النحو التالي:
المغيرة بن الاخنس بن شريق الثقفي: كان أبوه من كبار المنافقين , الذين أسلموا كرها يوم الفتح , فأخذ أبوه مائة من الابل من النبي(ص) مع غيره من المؤلفة قلوبهم. والمغيرة حاقد على الامام علي الذي قتل بنفسه أخاه أبا الحكم بن الاخنس يوم أحُد كافرا
وقد قال له علي : يا ابن الابتر " لأن مَن كان عقبُهُ ضالا خبيثا فهو كمن لا عقب له, بل من لا عقب له خير منه"
قال ابن ابي الحديد " واعلم ان هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان , ولكن عوانة روى عن اسماعيل بن ابي خالد, عن الشعبي : ان عثمان لما كثرت شكايته من علي عليه السلام , أقبل لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله(ص) أحدٌ إلاّ شكا اليه عليا.
فقال له زيد بن ثابت الانصاري – وكان من شيعته وخاصته : أفلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك. قال : بلى . فأتاه زيد ومعه المغيرة بن الاخنس بن شريق الثقفي – وعداده في بني زهرة , وامه عمة عثمان بن عفان – في جماعة, فدخلوا عليه
فحمد زيدٌ الله وأثنى عليه, ثم قال : أما بعد , فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الاسلام, وجعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به, فأنت للخير كل الخير أهل, وأمير المؤمنين عثمان ابن عمك, ووالي هذه الامة, فله عليك حقان : حق الولاية وحق القرابة. وقد شكا إلينا أن علياً يعرض لي, ويرد أمري علي. وقد مشينا إليك نصيحة لك, وكراهية ان يقع بينك وبين ابن عمك أمر نكرهه لكما.
قال : فحمد علي عليه السلام الله, وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم قال : أما بعد, فوالله ما أحب الاعتراض, ولا الرد عليه, إلاّ أن يأبى حقا لله لا يسعني أن أقول فيه إلاّ بالحق. ووالله لأكفنّ عنه ما وسعني الكف.
فقال المغيرة بن الأخنس , وكان رجلا وقاحا, وكان من شيعة عثمان وخلصائه: انك والله لتكفن عنه أو لتكفن, فإنه أقدرُ عليك منك عليه! وإنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين اعزازا لتكون له الحجة عندهم عليك.
فقال له علي عليه السلام : يا ابن اللعين الابتر, والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع, أنت تكفني! فوالله ما أعز الله من أنت ناصره. أخرج أبعد الله نواك, ثم اجهد جهدك. فلا أبقى الله عليك ولا على أصحابك إن أبقيتم!
فقال له زيد : إنا والله ما جئناك لنكون عليك شهودا, ولا ليكون ممشانا إليك حجة, ولكن مشينا فيما بينكما التماس الأجر ان يصلح الله ذات بينكما, ويجمع كلمتكما. ثم دعا له ولعثمان. وقام فقاموا معه.
وهذا الخبر يدل على ان اللفظة ( أنت تكفني ), وليست كما ذكره الرضى رحمه الله ( أنت تكفيني ), لكن الرضى طبق هذه اللفظة على ما قبلها, وهو قوله( أنا اكفيكه). ولا شبهة أنها رواية أخرى[7]"

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر رواية  عن صهيب مولى العباس بن عبد المطلب قال " أرسلني العباس الى عثمان أدعوه. فأتيته فإذا هو يغدي الناس فدعوته.
فأتاه فقال : أفلح الوجه أبا الفضل!
فقال العباس : ووجهك يا امير المؤمنين.
فقال عثمان : ما زدتُ إذ اتاني رسولك وأنا أغدي الناس فغديتهم ثم أقبلتُ.
قال له العباس : أذكرك الله في علي ! فإنه ابن عمك وأخوك في دينك وصاحبك مع رسول الله(ص) وصهرك. فإنه قد بلغني أنك تريد أن تقوم بعلي وأصحابه , فأعفني من ذلك يا امير المؤمنين .
فقال عثمان : ان أول ما جئتك به أن قد شفعتك أن عليا لو شاء ما كان أحدٌ دونه, ولكنه أبى إلاّ رأيه!
قال ثم بعث العباس الى علي فقال له ( أحسبه قال) : أذكرك الله في ابن عمك وابن عمتك وأخيك في دينك وصاحبك مع رسول الله (ص) وولي بيعتك.
قال علي : والله لو أمرني أن أخرج من داري لخرجتُ ! فأما أداهن أن لا يقام بكتاب الله فلم أكن لأفعل"
ولم يكن العباس ليتدخل عارضا وساطته لولا شعوره بمدى تدهور العلاقة بين علي وعثمان. ويلاحظ هنا قول عثمان انه لو شاء عليٌ لكان أقرب الناس اليه, ولكنه أبى إلاّ رأيه! ورأيه هذا لا شك انه منحازٌ ضد الخليفة وسياسته وبطانته مما جعل العباس يشعر انه " يريد ان يقوم بعلي واصحابه". كما يلاحظ فشل وساطة العباس بسبب رفض علي للمجاملات وإصراره على المبدأ : فهو لن يداهن في كتاب الله. فعلي يريد تغييراً جدياً في سياسة الخليفة, ولن يقبل ما دون ذلك.

ردود فعل عثمان على مواقف عليّ

 ولكن عثمان , مع امتعاضه وغضبه, لم يكن ليستطيع أن يوقع عقاباً مباشراً بعليّ, عدا عن تهميشه وتجاهله. وقد روى ابن عساكر أن الناس كانوا يأتون علياً  ليشكوا إليه ولاة عثمان, فكتب عليّ صحيفة وأرسلها إلى عثمان فردّها ولم يستجب.

ففي تاريخ دمشق لابن عساكر روايتان حول خلافات علي وعثمان :
واحدة عن محمد بن علي بن ابي طالب ( ابن الحنفية) يقول فيها ان ان أباه أرسله بكتاب يتضمن شكاوى الناس من جباة عثمان وسعاته , فرده ولم يستجب " كان الناس أتوا علياً يشكون اليه سعاة عثمان.
فأرسلني أبي فقال : يا بني : خذ هذا الكتاب , فإن فيه عشر النبي (ص) والصدقة. فاذهب به الى عثمان.
قال فأتيته فأخبرته به.
فقال : انطلق فلا حاجة لنا به!
فأتيتُ أبي فأخبرته فقال : لا عليك. ضعه حيث أخذته"
وقد تدخل أحد الرواة لتأويل موقف عثمان , الرافض لقبول كتاب علي ومطالباته لعثمان بالالتزام بسياسة النبي(ص) : " قال سفيان : ونرى ان عثمان انما رده ان عنده من ذلك علما, فاستغنى عنه
وهنا يلاحظ كيف كان الكثيرون يلجأون لعلي بالذات لبث شكاواهم . ولا شك ان ذلك لثقتهم به وبانحيازه الحازم للحق , وربما أيضا لخوفهم من الخليفة ومن بطانته .

وكان عثمان في بعض الأحيان يتجاوب مع طلبات علي ومساعيه, خاصة إذا لم يكن الأمر ذا خطر. ومثال ذلك ما رواه ابن أعثم في كتاب الفتوح حول تدخل علي للحيلولة دون ضرب الرسول الذي حمل كتاب شكوى وتظلم من أهل الكوفة الى عثمان , وهو من قبيلة عنزة "فأمر عثمان بالعنزي ، فجردوه من ثيابه ليضرب .
 فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لماذا يضرب هذا الرجل ؟ إنما هو رسول جاء بكتاب وأبلغك رسالة حملها ، فلم يجب عليه في هذا ضرب .
 فقال عثمان رضي الله عنه : أفترى أن أحبسه ؟
 قال : لا ، ولا يجب عليه الحبس .
 قال : فخلى عثمان عن العنزي ، وانصرف إلى الكوفة, وأصحابه لا يشكون أنه قد حبس أو ضرب أو قتل ، قال : فلم يشعروا به إلا وقد طلع عليهم ، فما بقي في الكوفة رجل مذكور إلا أتاه ممن كان على رأيه ، ثم سألوه عن حاله فأخبرهم بما قال وما قيل له ، ثم أخبرهم بصنع علي رضي الله عنه ، فعجب أهل الكوفة من ذلك ودعوا لعلي بخير وشكروه على ما فعله"

 وكان العباس بن عبد المطلب, عم عليّ وأكبر بني هاشم سناً , هو الأكثر قياماً بدور الوسيط بين الخليفة وعلي. فكان العباس يتدخل مرات من تلقاء نفسه حين يرى التوتر وقد بلغ ذروته, ومرات بطلب من عثمان نفسه الذي كان يتردد في موقفه من علي فلا يدري دائماً ماذا يفعل  . وكانت ردود فعل الخليفة على وساطات العباس تتراوح ما بين الاستجابة الجزئية لبعض مطالب علي, وبين الإعراض والتجاهل. وفي بعض المواقف التي استجاب فيها عثمان لمطالب, كانت استجابته شكلية دائما, ولم تمسّ جوهر سياسته وتوجهاته.


ألم يكن علي قادراً على التفاهم مع صحابيّ قديم كعثمان؟!
هكذا كانت الأمور بين علي والخليفة :  توتر دائمٌ وخلافٌ متواصل[8] ترتفع حدته وتنخفض حسب الظرف والموقف. ولا يوجد ما يشير الى انسجام أو تآلف بينهما أو تعاون في قيادة الأمة , كما هو متوقع من شخصيتين من كبار الصحابة في زمان بدأ يقل فيه وجود صحابة حقيقيين ممن عاصروا النبي(ص) واحتكوا به. والروايات أيضا تشير بوضوح الى وجود رغبة واستعداد حقيقي لدى عثمان للتفاهم مع علي واسترضائه وكسب وده, وأن الصدّ والرفض كان يأتي من طرف علي الذي كان يصر على مواجهة الخليفة ومعارضته والتصدي له.
وهذا السلوكُ, الفاعلُ والقوي, من عليّ تجاه عثمان يختلف عن سلوكه تجاه الخليفتين أبي بكر وعمر. فلم يُروَ أنه كان يجابههما بانتقادات حادة فيما يتعلق بالشؤون العامة.
فلمَ كان ذلك؟ وهل حصل ذلك , كما تصور عثمان نفسه, لأن علياً كان يتملكه الشعور بأن منصب الخليفة من حقه هو وأن عثمان مغتصبٌ له؟ والجواب هو بالنفي. فعليٌ كما أثبت بالسلوك والفعل كان لديه الاستعداد الكامل للتنازل عن حقوقه هو بالذات, والتغاضي عن مشاعره الشخصية, وتحمل الاحساس بالغبن والضيم, في سبيل الاسلام والمسلمين. فما دامت حقوق الناس مصونة, وما دام ولي الأمر القائم يبذل جهده لتحقيق العدل بين المسلمين, وما دامت قيادة الدولة تسعى لرفع شأن الاسلام في الأرض, فلن يثير عليٌ أي خلافٍ ولن يُحدث أية فرقة.
وتلك كانت المشكلة مع عثمان. فعليٌ يرى انحرافاً تاماً عن مبادئ الاسلام يحصل أمام ناظريه, ولم يكن يسعه السكوت. فما كان مطلوبا من عثمان يتجاوز جميل القول وعبارات المجاملة بكثير. كان علي يريد تغييراً ملموساً في سياسة الخليفة. وهذا ما لم يكن عثمان ليفعله. فعثمان كان لديه كامل الاستعداد لاكرام علي وتقريبه منه ورفع مكانته في الدولة بشرط أن يدعه يحكم كما يشاء.
وبين هذين الموقفين لم يكن ممكناً الالتقاء. 

وليس هناك سبب وجيه يدعو الى الشك في مصداقية المصادر التي اعتمدناها في هذا البحث. فهي قديمة ومتنوعة ولا تنحصر في إخباريّ معيّن. وهي متكاملة ومتسقة مع سياق الأحداث التاريخية.
وسوف نتطرق الى المزيد عن علاقة علي بعثمان عند الحديث عن ظروف الثورة على الخليفة ومقتله.

وسوف نفرد فصلاً نتكلم فيه عن موقف الامام علي من مقتل الخليفة عثمان ودوره في تلك الأحداث العصيبة.

الفصل الخامس : عثمان يقسو على معارضيه من الصحابة غير القرشيين

عددٌ من كبار أصحاب الرسول يتصدون لعثمان 
تصدّى عددٌ من كبار صحابة الرسول(ص), ذوي الماضي الإسلامي العريق والبارز, لعثمان بن عفان. كانت شخصيات معروفة وذات مكانة عالية في الإسلام , ممن تمتلك مؤهلات شرعية مرموقة ترى أمام أعينها مدى الانحراف عن السياسة النبوية الذي كان الخليفة يمارسه. وبدأت الضغوطات على عثمان على شكل نصائح, وملاحظات وطلبات من أجل التوقف عن تطبيق سياسة الانفراد والهيمنة الأموية على الدولة. فكيف يمكن لهؤلاء أن يتقبلوا , مثلاً , وضع مروان بن الحكم الجديد؟! فقد تحول مروان الى ما يقرب من رئيس وزراء فعليّ للدولة الاسلامية. لقد استغنى عثمان عن الاستعانة بكبار الصحابة من سكان المدينة, واكتفى بمروان بن الحكم الذي جعله مستشاره وكاتم سرّه ووزيره.  ولم يعد عثمان يستشير إلاّ خاصته من بني أمية ولا يستمع إلاّ لهم. فليس غريباً أن يثير ذلك غضب علي بن ابي طالب[9] وغيره من قدماء الصحابة الذين عايشوا الفترة النبوية منذ بداياتها, فحاولوا ثني عثمان عن استعمال بطانته هذه , وخاصة مروان, دون جدوى.
وقد وضحنا أن علي بن ابي طالب كان هو المعارض الأبرز والصوت الأعلى في معارضة عثمان . وإذا كان عليٌ , بحكم وضعه المرتفع والمميز في المنظومة الاسلامية , قد نجا من العقوبة المباشرة والصارمة للخليفة, إلاّ أن غيره من الصحابة ذوي الأصل الأدنى , من الموالي أو الحلفاء أو القبائل البعيدة, الذين لا يتحدرون من قريش وعليائها, قد انصبّ عليهم جام غضب عثمان , وكأنه كان يريد التعويض عن عجزه عن ايقاع العقوبة بغيرهم!

وسوف نتطرق فيما يلي من صفحات الى تفاصيل الصراع الذي خاضه ثلاثة من أشهر هؤلاء الصحابة ضد عثمان : أبو ذر الغفاري , عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.


أولاً : أبو ذر الغفاري : صراعُهُ مع عثمان ومعاوية ونفيُه ووفاته[10]

على الرغم من ان الصحابي أبا ذر الغفاري قد توفي عام 30 للهجرة, وبالتالي لم يعِش ليشهد أحداث الثورة على عثمان ومقتله سنة 35 للهجرة, إلاّ انه يمكن القول ان أبا ذر كان له دور وتأثير في تلك الاحداث الكبيرة.   

خلفية أبي ذر

وأبو ذرّ كان من الشخصيات المميزة فعلاً في ميزان الشرعية الإسلامية. فقد كان له فضلٌ لا يتوفر لغيره, وهو فضل السعي الذاتي للحقيقة والإيمان. فهو كان بدوياً من قبيلة غفار, البعيدة عن مكة, ولكنه كان يمتلك نفساً تسعى للحقيقة وتتوق للوصول إلى سبيل الهداية. كانت نفس أبي ذر تأبى وتستنكر ما شاع بين الناس في الجاهلية من شِركٍ وضلال. ولذلك فعندما سمع من بعض الحجاج أن هناك رجلاً يقول إنه نبيّ في مكة, أثاره ذلك إلى حد أنه أرسل أخاه إلى مكة ليأتيه بخبره. ولما عادَ لم يشفِ غليل روحه الظامئة إلى الحق, فشدّ الرحال إلى مكة ووصلها في أحلك الظروف سواداً على رسول الله(ص) , حين كان يعاني الأمرّين من جبّاري قريش. فأخذ يبحث عن النبي(ص), وهو غريبٌ في مكة, إلى أن التقى صدفةً بعليّ بن أبي طالب الذي أخذه حتى أتى النبي(ص) فسمع منه وآمنَ به فوراً. وقصة اسلامه هذه مشهورة ومعروفة وقد رواها أصحاب السير والحديث ومنهم البخاري في صحيحه ( باب قصة زمزم)

 فأبو ذر يعتبر من الطبقة الاولى من صحابة النبي(ص). وقد وردت بحقه مجموعة من الاحاديث النبوية , ومن أشهرها ذلك الذي يمتدح أهم خصاله, وهي الصدق والاخلاص . فقد ورد في سنن ابن ماجه :
" عن عبد الله بن عمرو قال : سمعتُ رسول الله(ص) يقول : ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر"

معارضة أبي ذر لعثمان

وباستعراض مجمل أخبار معارضة ابي ذر للخليفة عثمان , يمكن تمييز ثلاثة محاور , أو جذور, لتلك المعارضة :
1-   المحور الاقتصادي , ويتجلى ذلك في رفض مظاهر الاثراء الفاحش واكتناز الأموال من قبل الطبقة القرشية الحاكمة ومَن سار على نهجها , والدعوة الى إنصاف الفقراء والمحرومين والمهمّشين.
وقد روى الامام البخاري حديثاً يظهر كيف كانت علاقة ابي ذر بالاثرياء من قريش أيام عثمان. فقال انه كان يمرّ على " الملأ من قريش" وهو بهيئةٍ خشنة, فيهددهم بالعذاب في النار يوم القيامة لأنهم من كانزي الأموال ويقول عنهم " إنهم لا يعقلون شيئاً",  فكانوا يكرهون كلامه. وفيما يلي النص من صحيح البخاري (باب ما أدى زكاته فليس بكنز):
عن الاحنف بن قيس قال " جلستُ الى ملأ من قريش فجاء رجلٌ خشن الشعر والثياب والهيئة, حتى قام عليهم فسلم ثم قال : بشّر الكانزين برضفٍ يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه, ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل .
ثم ولّى فجلس الى سارية , وتبعته وجلستُ اليه , وأنا لا أدري من هو.
فقلتُ له : لا أرى القومَ إلاّ قد كرهوا الذي قلتَ .
قال : انهم لا يعقلون شيئاً ! قال لي خليلي
قلتُ : من خليلك؟
قال النبي(ص) : يا أبا ذر , أتُبصِرُ أحُداً؟  قال : فنظرتُ الى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله(ص) يرسلني في حاجة له , قلتُ نعم.
قال : ما أحبّ أن لي مثل أحُدٍ ذهباً أنفقه كله , إلاّ ثلاثة دنانير .
وإن هؤلاء لا يعقلون! يجمعون الدنيا! لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله[11]"

ولا شك أن السلوك الشخصي لعثمان, وثراءه الفاحش, وما عُرف عنه من استمتاعه بمباهج ونِعم الحياة[12], كان مما يثير أعصاب أبي ذر ويزيد من عزيمته. فبنظر أبي ذر كان عثمان رمزاً لقريش وثرائها وكانزيها.

فمثلاً أخرج ابن ابي الحديد رواية عن الواقدي بشأن الجدال العنيف الذي دار بين الخليفة عثمان وابي ذر الغفاري لما أحضره من الشام
وفي معرض الكلام المتبادل سأله عثمان " أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة , وان الله فقير ونحن أغنياء!
فقال ابو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مالَ الله على عباده ..."

وأخرج ابن شبة في تاريخ المدينة رواية تظهر كيف ان أبا ذر كان يعتقد ان الله تعالى حرّم اكتناز الاموال من حيث المبدأ , حتى لو تم إخراج الزكاة الشرعية. ورأيه هذا عبّرَ عنه حتى بحق الصحابي الكبير عبد الرحمن بن عوف , فكيف الامر بما يتعلق بغيره ممن ليس لهم صحبة ولا يتصدقون كما كان يفعل ابن عوف ؟
فعن عبد الله بن الصامت قال عن ابي ذر وعثمان" ودخل عليه وهو يقسم مال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بين ورثته , وعنده كعب .
فأقبل عثمان رضي الله عنه فقال : يا أبا اسحق, ما تقول في رجل جمع هذا المال فكان يتصدق منه , ويحمل في السبيل, ويصل الرحم؟
فقال : اني لأرجو له خيراً.
فغضب ابو ذر , ورفع عليه العصى وقال : وما يدريك يا ابن اليهودية؟ ليودّنّ صاحب هذا المال يوم القيامة أن لو كان عقارب تلسع السويداء من قلبه"[13] 

وقد روى أحمد بن حنبل في مسنده قصة الصدام بين أبي ذر وكعب الأحبار بحضرة عثمان عن مالك بن عبد الله الزيادي عن أبي ذر " أنه جاء يستأذن على عثمان بن عفان رضي الله عنه فأذن له وبيده عصاه. فقال عثمان رضي الله عنه : يا كعب إن عبد الرحمن توفي وترك مالاً , فما ترى فيه؟
فقال : إن كان يصلُ فيه حق الله فلا بأس عليه.
فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعباً وقال : سمعتُ رسول الله (ص) يقول: ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهباً أنفقه ويتقبل مني, أذر خلفي منه ست أواق. أنشدك الله يا عثمان أسمعته؟ ثلاث مرات .
قال نعم"


وروى ابن شبة في تاريخ المدينة رواية ثانية تظهر كيف كان ابو ذر غاضباً من عثمان وسياساته المالية . فعن مالك بن انس بن الحدثان " جاء ابو ذر وأنا جالس مع عثمان رضي الله عنه.
فسلم عليه عثمان رضي الله عنه. وقال : كيف انت يا ابا ذر؟
فقال : كيف أنت؟ وولى وجهه!
فاستفتحَ ( الهكم التكاثر) , رفع بها صوته حتى ان للمسجد لرجة , أو للجة (شك ابو عاصم).
قال : فانتهت به القراءة الى سارية فركع ركعتين فجوّد فيهما. وركبه الناس – وأنا في الناس – فقالوا: يا ابا ذر حدثنا عن رسول الله (ص)  .
قال : سمعتُ النبي(ص) يقول : في الإبل صدقتها والبقر صدقتها , والغنم صدقتها, وفي البر صدقته . ومَن جَمَعَ دنانيرَ ودراهمَ أو تبر ذهبٍ أو تبر فضةٍ لا ينفقه في سبيل الله ولا يعدّه لغريم فهو كنز يكوى به يوم القيامة.
قال : فقلتُ : يا ابا ذر اتق الله وانظر ما تقول , فإن هذه الاموال قد كنزت في الناس.
قال : يا ابن أخي من أنت ؟
فانتسبتُ له. فقال : قد عرفتُ نسبك الأكبر , يا ابن أخي أتقرأ القرآن؟
قلت : نعم.
قال : أليسَ يقول الله (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله )؟
قلتُ : بلى.
قال : فافقه اذن يا ابن أخي"

2-  محور الاخلاق والقيم, وما كان يراه من انحرافٍ عن عهد رسول الله(ص) وتعاليمه.
فكان الكثير مما يجري في عهد عثمان مثار استهجان أبي ذر وغضبه. وقد روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين ان أبا ذر كان يروي عن رسول الله(ص) " إذا اقتربَ الزمانُ كثرَ لِبسُ الطيالسة, وكثرت التجارة , وكثرَ المالُ, وعظم ربّ المال بماله, وكثرت الفاحشة, وكانت إمارة الصبيان, وكثر النساء, وجارَ السلطان, وطفّف في المكيال والميزان, ويُربي الرجلُ جروَ الكلب خيرٌ له من أن يُربي ولداً له, ولا يُوقر كبير ولا يُرحم صغير, ويكثرُ أولادُ الزنا حتى إن الرجل ليغشى المرأة على قارعة الطريق فيقول امثلهم في ذلك الزمان لو اعتزلتما عن الطريق, ويلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب امثلهم في ذلك الزمان المداهن"

وهذا يعني أن أبا ذر كان يرى أن الاخلاق قد فسدت والضمائر قد خربت من بعد رسول الله(ص). وكان يعارض ذلك ويحمل المسؤولية للحاكم.

وقد ورد في البيان والتبيين للجاحظ كيف كان أبو ذر مصراً على الاستمرار على منهاج الرسول (ص) في الزهد والتواضع " قال أبو ذر : فارقتُ رسولَ الله(ص) وقوتي من الجمعة إلى الجمعة مُدّ , ولا والله لا أزدادُ عليه حتى ألقاه".

فكان أبو ذر يمتلك تصميماً شديداً على تبليغ ونشر وصايا النبي(ص) مهما كان الثمن باهظاً. ومن ذلك ما رواه الدارمي في سننه ان أبا ذر قال : " أمرنا رسول الله(ص) أن لا يغلبونا على ثلاث : أن نأمر بالمعروف, وننهى عن المنكر, ونعلّم الناس السُنن"  وهذا ما كان يفعله أبو ذر ومستعد أن يضحّى في سبيله.
ومن ذلك ايضاً ما رواه  الذهبي في سير أعلام النبلاء أن أبا ذر قال " بايعني رسول الله(ص) خمساً, وواثقني سبعاً, وأشهد الله عليّ سبعاً : ألاّ أخاف في الله لومة لائم".
وروى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة عن الواقدي ان عثمان لما استقدم ابا ذر من عند معاوية " قال له : أنت الذي فعلتَ وفعلتَ ؟!
فقال ابو ذر : نصحتك فاستغششتني , ونصحتُ صاحبك فاستغشني!
قال عثمان : كذبتَ , ولكنك تريد الفتنة وتحبها. قد أنغلتَ الشامَ علينا.
فقال له ابو ذر : اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام .
فقال عثمان : مالك وذلك , لا أمّ لك!
قال ابو ذر : والله ما وجدتَ لي عذراً إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

3-  محور التشيّع لعلي بن ابي طالب ولآل بيت النبي(ص). 
فالأرجح أن ما تميز به أبو ذر من ولاء شديد لشخص علي بن أبي طالب وآل بيته كان لا يروق لعثمان وبطانته من حيث المبدأ. فالخليفة ومستشاروه كانوا يعتبرون ما يذيعه أبو ذر من حديث النبي(ص) بشأن آل البيت عملا عدائياً موجها ضدهم.
فقد ورد في علل الدارقطني عن ابي ذر ان رسول الله (ص) قال " أيها الناس : إني تركت فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي, ولن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض, ومثلها مثل سفينة نوح مَن ركب فيها نجا"

وهناك مؤشرات ان التشيّع لعلي بن ابي طالب لم يكن بدعة لاحقة في الإسلام نشأت في زمن عثمان, بل كان تياراً أصيلاً ترجع جذوره إلى أيام الرسول(ص) وامتدّت لما بعد وفاته. وقد كان عددٌ من أهمّ صحابة الرسول(ص) , ممن ليسوا من أصول قرشية, متمسّكين بضرورة ولاية علي بن أبي طالب بعد رسول الله(ص). وكان أبو ذر من تلك المجموعة التي اشتهر منها أيضاً عمار بن ياسر وسلمان الفارسي والمقداد بن عمرو. وهؤلاء الاربعة يحظون بتقدير كبير جداً من أتباع المذهب الشيعي قديماً وحديثاً.
وقد ورد في تاريخ اليعقوبي نص ما قاله أبو ذر الغفاري في المسجد النبوي في بداية عهد عثمان بن عفان :
" وبلغ عثمانَ أن أبا ذر يقعد في مسجد رسول الله , ويجتمع اليه الناسُ, فيحدث بما فيه الطعن عليه. وانه وقفَ بباب المسجد فقال : أيها الناس مَن عرفني فقد عرفني , ومَن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري , أنا جندب بن جنادة الربذي:
 إن الله اصطفى آدمَ ونوحاً وآلَ ابراهيم وآلَ عمران على العالمين, ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. محمدٌ الصفوة من نوح, فالأول من ابراهيم , والسلالة من إسماعيل , والعترة الهادية من محمد. إنه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة وكالكعبة المستورة أو كالقبلة المنصوبة أو كالشمس الضاحية أو كالقمر الساري أو كالنجوم الهادية أو كالشجرة الزيتونة أضاء زيتها وبورك زبدها. ومحمدٌ وارث علم آدم وما فضل به النبيون. وعلي بن أبي طالب وصيّ محمد ووارث علمه.
أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها! أما لو قدّمتم من قدّم الله وأخرتم من أخّر الله وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم , ولما عالَ وليّ الله, ولا طاش سهمٌ من فرائض الله ولا اختلف اثنان في حكم الله إلاّ وجدتم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيّه .
 فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبالَ أمركم . وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون"

ويتبع هذا : القدحُ في بني أمية والتشكيك في شرعيتهم الاسلامية
فمثلاً  أخرج ابن ابي الحديد رواية أخرى عن الواقدي بشأن الجدال الذي دار بين الخليفة عثمان وابي ذر الغفاري قبل ان يصدر قراره بنفيه.
وفي معرض ذلك الحوار العاصف قال ابو ذر " أشهد اني سمعتُ رسول الله (ص) يقول (إذا بلغ بنو ابي العاص ثلاثين رجلاً, جعلوا مال الله دولاً, وعباده خولاً, ودينه دخلا).
فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟
قالوا : لا.
قال عثمان :  ويلك يا ابا ذر! أتكذب على رسول الله؟
فقال ابو ذر لمن حضر:  أما تدرون اني صدقتُ؟
قالوا : لا والله ما ندري.
فقال عثمان : ادعوا لي عليا.
فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني ابي العاص. فأعاده.
فقال عثمان لعلي عليه السلام: أسمعتَ هذا من رسول الله(ص)؟
قال : لا, وقد صدق ابو ذر!
فقال : وكيف عرفتَ صدقه؟
قال : لأني سمعتُ رسول الله (ص) يقول ( ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من ابي ذر).
فقال من حضر : أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله
قال ابو ذر : أحدثكم اني سمعتُ هذا من رسول الله (ص) فتتهمونني؟! ما كنتُ أظن اني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد(ص)."[14]

وبقي أبو ذر مخلصاً في ولائه لعلي بن أبي طالب وداعياً إلى ولايته حتى آخر لحظة في حياته. فقد روى ابن أبي الحديد  في شرح نهج البلاغة عن أبي رافع :
" أتيتُ أبا ذر بالربذة أودعه , فلما أردتُ الانصرافَ قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة. فاتقوا لله. وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب, فاتبعوه. فإني سمعتُ رسول الله(ص) يقول له: أنت أول مَن آمن بي وأول مَن يصافحني يوم القيامة. وأنت الصديق الأكبر, وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل. وأنت يعسوب المؤمنين, والمال يعسوب الكافرين. وأنت أخي ووزيري, وخيرُ مَن أترك بعدي, تقضي ديني وتنجز موعدي"


والنتيجة كانت معارضة لا هوادة فيها أظهرها أبو ذر للخليفة عثمان , معارضة تصاعدت وتفاقمت واتصفت بالجذرية. والرواية التالية لدى الذهبي في سير أعلام النبلاء تظهر مدى كُره ابي ذر للنظام الحاكم , وكل من يعمل في خدمته من الرعية. والرواية تقول انه عندما كان ابو ذر مريضا يوشك على الموت وهو منفيٌ بالربذة, مرّ به قوم من المسلمين فاستوقفتهم زوجته لكي يكفنوا زوجها إن قضى نحبه, فخاطبهم ابو ذر " أنشدكم الله: أن لا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً !
فكل القوم كان نال من ذلك شيئا , إلاّ فتى من الانصار قال : أنا صاحبك. ثوبان في عيبتي من غزل أمي, وأحد ثوبي هذين الذين علي.
قال : أنت صاحبي , فكفني"


تسلسل أحداث صراع أبي ذر مع عثمان

ذكر ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة:
" واعلم ان الذي عليه أكثر أرباب السيرة وعلماء الأخبار والنقل :
 ان عثمان نفى أبا ذر أولاً الى الشام ,
 ثم استقدمه الى المدينة لما اشتكى منه معاوية,
ثم نفاه من المدينة الى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام"
ولا مانع أبداً من قبول هذا التسلسل للأحداث. وأما لماذا نفاه عثمان أولاً الى الشام, فالجواب ان تلك الممارسة كانت مأثورة في زمان عثمان , الذي كان يلجأ أحياناً الى نفي الناقمين عليه والمعارضين له الى الشام, حيث ابن عمه وثقته ورجل الدولة القوي معاوية, فيقوم بتأديبهم وإخضاعهم بطريقته . وسيأتي الحديث عن ذلك.

النفي الى الشام

يتابع ابن ابي الحديد روايته السابقة:
"أصل هذه الواقعة : ان عثمان لما أعطى مروان بن الحكم وغيره بيوت الأموال, واختص زيد بن ثابت بشيئ منها , جعل أبو ذر يقول بين الناس وفي الطرقات والشوارع : بشّر الكافرين بعذاب أليم , ويرفع بذلك صوته ويتلو قوله تعالى ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم).
فرفع ذلك الى عثمان مراراً وهو ساكت.
ثم انه أرسل إليه مولى من مواليه : أن انتهِ عما بلغني عنك!
فقال أبو ذر : أوينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى؟! وعيب من ترك أمر الله تعالى . فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إليّ وخير لي من ان أسخط الله برضا عثمان.
فأغضب عثمانَ ذلك وأحفظه , فتصابر وتماسك , الى أن قال عثمان يوماً , والناسُ حوله: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئاً قرضاً , فإذا أيسرَ قضى؟
فقال كعب الأحبار :  لا بأس بذلك.
فقال أبو ذر: يا ابن اليهوديين , أتعلمنا ديننا؟!
فقال عثمان : قد كثر أذاك لي, وتولعك بأصحابي. الحق بالشام. فأخرجه اليها."

وقال اليعقوبي في تاريخه بشأن حادثة النفي الاولى :
" وبلغ عثمانَ أيضاً أن أبا ذر يقع فيه , ويذكر ما غيّرَ وبدّلَ من سنن رسول الله , وسنن ابي بكر وعمر . فسيّرهُ الى الشام, الى معاوية"
وكذلك روى الذهبي في سير أعلام النبلاء تفاصيل عن نفي عثمان لأبي ذر إلى الشام بعد ذلك الحوار الذي لجأ خلاله عثمان إلى الاستشهاد بمستشاره كعب الأحبار ليؤكد أنه ليس على المسلم أكثر من دفع الزكاة, بينما أصر أبو ذر على أنه لا يجوز للمسلم أن يكتنز المال وأنه قال لكعب الأحبار بحضرة الخليفة : يا ابن اليهودية. وأن عثمان كان يهين أبا ذر عن طريق تركه فترة طويلة ينتظر على بابه لدى استدعائه.

وروى ابن شبة في تاريخ المدينة حادثة النفي الى الشام, وفي روايته ما يظهر بأن بطانة الخليفة وحاشيته كانت تساهم في تحريف كلام ابي ذر , ونقله الى عثمان بعد تهويله وحرفه عن مقصده. فعن ابن عباس ان عثمان قال لأبي ذر لما دخل عليه " أنت الذي تزعم انك خير من ابي بكر وعمر؟
قال ابو ذر رضي الله عنه: ما قلتُ هذا.
قال عثمان : اني أقيم عليك البينة.
قال : ما أدري ما بينتك ؟ قد عرفتُ ما قلتُ.
قال : فكيف قلتَ؟
قال : قلتُ ان رسول الله(ص) قال ( ان أحبكم إليّ وأقربكم مني الذي يأخذ بالعهد الذي تركته عليه حتى يلحقني). وكلكم قد أصاب من الدنيا غيري. فأنا على العهد , وعلى الله البلاغ.
قال له عثمان رضي الله عنه : الحق بمعاوية. فأخرجه الى الشام


بين أبي ذر ومعاوية

لا يمكن تصور رجلين في الكون كله , في ذلك الزمان, أكثر اختلافاً وتنافراً وتناقضاً من معاوية بن ابي سفيان وابي ذر الغفاري! فمعاوية الثري أباً عن جد, الارستقراطي في قريش, رجل الدولة المحنك والسياسي الداهية لن يطيق رجل مبادئ وأخلاق, بدويّ من قبيلة لا تسامي قريشاً, زاهدٍ في الدنيا , صارمٍ لا يداهن, كأبي ذر. فكان الصدام بينهما حتمياً.

ورد في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري انه لما وصل أبو ذر إلى الشام " أخذ بقلوب الناس , فأبكى عيونهم وأوغر صدورهم. وكان فيما يقول : لا يبقين في بيت أحدٍ منكم دينارٌ ولا درهم ولا تِبرٌ ولا فضة, إلاّ شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لغريم"

ومن الطبيعي أن يستشعر معاوية بالخطر الداهم من وجود رجل مثل هذا الصحابي الجليل ,  وبهذه الأفكار , عنده في الشام. وبحكم طريقة تفكيره المعهودة , حاول معاوية أن يستكشف إمكانية رشوة أبي ذر , أو إيقاعه بإغراء مالي لكي يفضحه بين الناس ويؤآخذه عليه. يتابع ابن شبة :
 " فبعث إليه معاوية رضي الله عنه جنح الليل بألف دينار. أراد أن يخالف فعله قوله وسريرته علانيته.
 فلما جاءه الرسول قسم الألف فلم يصبح عنده منها دينار ولا درهم.
فلما أصبح معاوية رضي الله عنه دعا الرسولَ فقال له : انطلق إلى أبي ذر فقل له : أنقذ لي جسدي من عذاب معاوية, أنقذ الله جسدك من النار, فإنه أرسلني إلى غيرك فأخطاتُ بك.
فقال له أبو ذر : اقرأ على معاوية السلام وقل له : يقول لك أبو ذر ما أصبح عندنا من دنانيرك دينارٌ واحد. فإن آخذتنا بها فأنظرنا ثلاث ليال نجمعها لك.
فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله وسريرته تصدق علانيته كتب إلى عثمان رضي الله عنه : إن كان لك بالشام حاجة فأرسل إلى أبي ذر, فإنه قد أوغر صدور الناس عليك.
فكتب إليه عثمان رضي الله عنه : أن الحق بي"
وفي رواية ثانية أن معاوية كتب لعثمان " إن كان لك في الشام حاجة فأخرج أبا ذر منه, فإنه قد نفل الناس[15] عندي"

وفي متابعة لرواية ابن ابي الحديد السابقة:
"فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها, فبعث اليه يوماً معاوية ثلاثمئة دينار.
فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها, وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها. وردها عليه.
ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق. فقال أبو ذر : يا معاوية , إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة, وإن كانت من مالك فهي الاسراف.
وكان أبو ذر يقول  بالشام : والله لقد حدثت اعمال ما أعرفها. والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه(ص) . والله اني لأرى حقاً يطفأ, وباطلاً يحيا, وصادقاً مكذباً , وأثرة بغير تقى, وصالحاً مستأثراً عليه.
قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية : ان أبا ذر لمفسدٌ عليكم الشام , فتدارك أهله ان كان لك فيه حاجة"

كما ذكر ابن ابي الحديد رواية أخرى تلقي مزيداً من الضوء على الاشتباك الذي حصل بين ابي ذر ومعاوية في الشام. فمن كتاب (السفيانية) للجاحظ عن جلام الغفاري أنه جاء معاوية يوماً " سمعتُ صارخاً على باب داره يقول : أتتكم القطار بحمل النار! اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له . اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له.
فازبأرّ معاوية وتغير لونه, وقال : يا جلام , أتعرف الصارخ؟
فقلتُ : اللهم لا.
قال : من عذيري من جندب بن جنادة؟ يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعتَ!
ثم قال : أدخلوه عليّ. فجيئ بأبي ذر بين قوم يقودونه, حتى وقف بين يديه.
فقال له معاوية : يا عدو الله , وعدو رسوله! تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع. أما اني لو كنتُ قاتلَ رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك, ولكني أستأذن فيك.
قال جلام : وكنتُ أحب أن أرى أبا ذر , لأنه رجل من قومي. فالتفتُ اليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال, خفيف العارضين, في ظهره جنأ.
فأقبل على معاوية وقال : ما أنا بعدو لله ولا لرسوله, بل أنت وأبوك عدوان لله ولرسوله , أظهرتما الاسلام وأبطنتما الكفر . ولقد لعنك رسول الله (ص), ودعا عليك مرات ألاّ تشبع. سمعتُ رسول الله (ص ) يقول (إذا ولي الامة الاعين الواسع البلعوم , الذي يأكل ولا يشبع, فلتأخذ الامة حذرها منه).
فقال معاوية : ما أنا ذاك.
قال ابو ذر: بل أنت ذلك الرجل . أخبرني بذلك رسول الله (ص) , وسمعته يقول وقد مررتَ به ( اللهم العنه ولا تشبعه إلاّ بالتراب). وسمعته (ص) يقول ( إستُ معاوية في النار).
فضحك معاوية وأمر بحبسه وكتب الى عثمان فيه..."
ورغم ان تبادل العبارات الحادة جداً , كما هو وارد في هذه الرواية, بين ابي ذر ومعاوية أمرٌ طبيعيٌ ومتوقع, إلاّ انه تبدو واضحة تدخلات وإضافات الرواة , وخاصة افتعالهم على لسان ابي ذر ( إست معاوية في النار).   

ويضيف اليعقوبي في تاريخه :
"...وكان يجلس في المسجد فيقول كما كان يقول, ويجتمع اليه الناس حتى كثر من يجتمع اليه ويسمع منه. وكان يقف على باب دمشق , اذا صلى صلاة الصبح فيقول : جاءت القطار تحمل النار , لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له, ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له.
وكتب معاوية الى عثمان : انك قد أفسدتَ الشام على نفسك بأبي ذر! فكتب اليه : أن احمله على قتب بغير وطاء! فقدم به الى المدينة , وقد ذهب لحم فخذيه ..."[16]

وكان معاوية لما عجز عن التوصل إلى أي تفاهم مع أبي ذر , وإلى أن يأتيه فيه أمر عثمان, قد أصدر أوامره بعزل أبي ذر عن المجتمع عن طريق تهديد كل من يتصل به  أو يستمع إليه.
 روى ابن سعد في الطبقات الكبرى عن الأحنف بن قيس أنه زار الشام فرأى في المسجد رجلاً يصلي عند سواريه فيؤخر عنه الناس. فلما سأله, طلب منه  أبو ذر أن يبتعد عنه لأنه لا يريد أن يصيبه شر بسببه " قال : قُم عني ! لا أعدك بشر. فقلتُ له : كيف تعدني بشر؟ قال : إن هذا, يعني معاوية, نادى مناديه ألاّ يجالسني أحد"  

النفي الى الربذة[17]

وأخيراً قرر الخليفة أن يتخلّص من مشكلة أبي ذر , جذرياً. لم يعد عثمان يطيق وجود أبي ذر في عاصمته, ولا في أي مكانٍ مأهولٍ من دولته, فكان قرار النفي القاسي, إلى مكانٍ موحشٍ مقفر, حيث لن يجدَ أبو ذرٍ مَن يستمع إليه من المسلمين لكي " يفسده " بكلامه المتواصل عن الظلم والفساد. ففي الربذة , لمن سيتحدث أبو ذرٍ حول وصايا النبي(ص) بالعدل بين الناس, والزهد والورع؟ ولأن أبا ذر لم تكن له قاعدة قبلية تحميه, لم يتورّع الخليفة عن اتخاذ أقسى العقوبة بحقه, ربما ليجعله عبرةً لمن يعتبر!
كان قرار عثمان هو بالفعل حكم بالموت , ببطء , على أبي ذر. وبالفعل لم يلبث أبو ذر في الربذة طويلاً, فمات هناك وحيداً.

وفي متابعة لرواية ابن ابي الحديد من كتاب (السفيانية) للجاحظ عن جلام الغفاري:
"فكتب عثمان الى معاوية أن احمل جندباً إليّ على أغلظ مركب وأوعره. فوجه به مع من سار به الليل والنهار, وحمله على شارف ليس عليها إلاّ قتب, حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد .
فلما قدم بعث اليه عثمان : الحق بأي أرض شئتَ .
قال : بمكة؟
قال : لا
قال : بيت المقدس؟
قال : لا
قال : بأحد المصرين؟
قال : لا . ولكني مُسيّرك الى ربذة .    
فسيّرهُ اليها فلم يزل بها حتى مات"


روى اليعقوبي في تاريخه انه لما حُمِلَ أبو ذر من الشام الى المدينة , وبعد جدال عنيف مع  عثمان :
"... فلم يقم بالمدينة إلاّ أياماً حتى أرسل اليه عثمان : والله لتخرجن عنها !
قال : أتخرجني من حرم رسول الله؟
 قال : نعم! وأنفك راغم.
 قال : فإلى مكة؟
 قال : لا .
 قال : فإلى البصرة ؟
 قال : لا.
قال : فإلى الكوفة؟
قال : لا ولكن الى الربذة التي خرجتَ منها حتى تموت بها ! يا مروان أخرجه. ولا تدع أحداً يكلمه حتى يخرج"
  
وفي رواية أخرى لابن ابي الحديد عن الواقدي
" ثم ان عثمان حظر على الناس ان يقاعدوا ابا ذر , أو يكلموه. فمكث كذلك أياماً , ثم أتي به فوقف بين يديه.
فقال ابو ذر : ويحك يا عثمان! اما رأيتَ رسول الله (ص) , ورأيتَ أبا بكر وعمر؟! هل هديك كهديكم؟ أما انك لتبطش بي بطش جبار .
فقال عثمان : اخرج عنا من بلادنا .
فقال ابو ذر : ما أبغض إليّ جوارك. فإلى أين أخرج؟
قال : حيث شئتَ .
قال : أخرج الى الشام أرض الجهاد؟
قال : انما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها, أفأردّك اليها؟!
قال : أفأخرج الى العراق؟
قال : انك إن تخرج اليها تقدم على قوم أولي شبه وطعن على الأئمة والولاة
قال : أفأخرج الى مصر؟
قال : لا
قال : فإلى أين أخرج؟
قال : الى البادية.
قال ابو ذر: أصير بعد الهجرة اعرابياً؟
قال : نعم
قال ابو ذر : فأخرج الى بادية نجد؟
قال عثمان : بل الى الشرق الأبعد, أقصى فأقصى. امضِ على وجهك هذا فلا تعدونّ الربذة.
فخرج اليها"

مناقشة روايات ابن سعد

واما ابن سعد في الطبقات الكبرى فقد أورد عدة روايات حول نفي أبي ذر للربذة :
واحدة عن ابن سيرين , يبدو فيها أنه بذل مجهوداً لتخفيف وطأة ما جرى. وقد لجأ إلى إقحام رسول الله(ص) في الأمر حين ذكر أنه (ص) كان قال لأبي ذر " إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها – ونحا بيده نحو الشام – ولا أرى أمراءك يدعونك". وهو يريد أن يوحي أن ما جرى كان تنفيذاً لأمر الرسول(ص) ونبوءته! فقد خرج أبو ذر إلى الشام كما أمره الرسول(ص) , وأيضاً حال " أمراؤه" بينه وبين المقام هناك كما تنبّأ الرسول(ص)! وأمراؤه في هذه الحالة هو معاوية بالطبع. ويقول ابن سيرين إن معاوية كتب لعثمان أن أبا ذر " أفسد الناسَ بالشام" فطلب منه الخليفة أن يرسله له فلما وصله قال له " كُن عندي تغدو عليك وتروح اللقاح. قال : لا حاجة لي في دنياكم. ثم قال : ائذن لي حتى أخرج إلى الربذة . فأذِن له"
ورواية عن حصين عن زيد بن وهب أنه لقي أبا ذر وهو بالربذة فسأله عن سبب وجوده هناك فقال له انه اختلف مع معاوية بشأن تفسير الآية " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ..." لأن معاوية قال انها نزلت في أهل الكتاب بينما قال أبو ذر ان المسلمين مشمولون بها, فشكاه لعثمان الذي استجلبه إلى المدينة وقال له " إن شئتَ تنحّيتَ فكنتَ قريباً " وهذا سبب وجوده في الربذة.
وثالثة عن عبد الله بن سيدان السلمي " تناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما" وأن أبا ذر خرج من هذه ( المناجاة ) مبتسماً " فقال له الناس : مالك ولأمير المؤمنين؟ قال : سامعٌ مطيعٌ . ولو أمرني أن آتي صنعاء او عدن ثم استطعتُ أن أفعل لفعلتُ. وأمره عثمان ان يخرج إلى الربذة "

ويلاحظ ان ابن سعد قد اخرج عددا كبيرا من الروايات التي تتحدّث عن وصية رسول الله (ص) المشددة والمؤكّدة لأبي ذر أن يسمع ويطيع لكل من يُولى عليه , وان لا يشق عصا الطاعة وان لا يتمرد على الأمراء الفاسدين ... الخ وأنه بالتالي فإن أبا ذر كان شديدَ الطاعة لعثمان إلى درجة انه كان يقول ان عثماناً لو صلبه على أطول خشبة لسمع له وأطاع! وأنه أجاب نفراً من اهل العراق ممن مروا به وهو بالربذة فقالوا له " فعلَ بكَ هذا الرجل وفعلَ, فهل انت ناصبٌ لنا راية فلنكمل برجال ما شئتَ؟ " فنهاهم عن ذلك وقال لهم " ... لا تذلّوا السلطان , فإنه من أذلّ السلطان فلا توبة له" !
فلو كان أبو ذر حقا بهذه الدرجة من الطاعة والولاء لعثمان , والحرص على السلاطين والأمراء , فلمَ طعن على معاوية ؟ ولم تحدّى الخليفة ؟ ولمَ واجهَ قريشاً ؟ ولم تحمّل النفي من بلد لآخر؟ ولمَ ولم؟ أما كان ممكناً  له أن يجلس وادعاً مستقراً في بيته , يصلّي ويصوم ويعبد ربّه, تاركاً الدنيا وما فيها لأهلها ؟ وهل يمكن لأبي ذر أن يخالف تلك التوصيات المشددة من النبي(ص) له بأن لا يواجه الأمراء "الذين يستأثرون بالفيء" ؟
بل إن هناك ما يشير إلى أن موقف أبي ذر المعارض للسلاطين والولاة كان يتسع ليصل كل مَن تولّى عملاً لهم وتعاون معهم, حتى لو لم تظهر منه ممارسات فاسدة أو منحرفة. فكان أبو ذر يرى هؤلاء الحكام رجساً ودنساً ولا يجد عذراً لمن يسير في ركابهم . روى ابن سعد أن أبا موسى الأشعري لما قدِمَ كان يُقبلُ على أبي ذر ويلزمه ويقول له " مرحباً بأخي" فكان أبو ذر يبتعد عنه ويدفعه قائلاً له " لستُ بأخيك! إنما كنتُ أخاك قبل أن تستعمل".[18] هذا مع العلم أن أبا موسى لم يكن من ولاة عثمان المطعون عليهم, بل إنه لم يعمل لعثمان سوى فترة قصيرة في أول عهده قبل أن يعزله ويولي قريبه ابن عامر. فأبو موسى كان عاملاً لعمر في الأساس , ويمكن القول أنه كان ناجحاً في إدارته . ومع ذلك يلومه أبو ذر . 


 إن سيرة أبي ذر العملية , وما جرى له, يقطع بالجزم بأن حقيقة ما رواه أبو ذر عن النبي (ص) كان :
 أوصاني خليلي بسبع :
أمرني بحب المساكين والدنوّ منهم
وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي
وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً
وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت
وأمرني ان أقول الحق وإن كان مراً
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم
وامرني ان أكثر من (لا حول ولا قوة إلاّ بالله) فإنهن من كنز تحت العرش "
وذلك خلاف روايات الطاعة التي استعرضناها


الوداع الاخير

وأصدر عثمان أوامره بأن لا يخرج أحدٌ لوداع أبي ذر عند مسيره إلى منفاه الموحش. ولكنّ علياً بن أبي طالب تحدّى قرار عثمان وخرج لوداع أبي ذر, هو وولداه الحسن والحسين, ومعهم عمار بن ياسر. وقد روى الشريف الرضى في نهج البلاغة (شرح محمد عبده, ج2 ص178) الكلام الذي قاله له عليّ عندما ودّعه لمّا نفاه عثمان إلى الربذة :
" يا أبا ذرّ , انّك غضبتَ لله, فارجُ مَن غضبتَ له. انّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك. فاترُك في أيديهم ما خافوك عليه , واهرب منهم بما خفتهم عليه. فما أحوجهم الى ما مَنعتهم, وما أغناك عما منعوك. وستعلمُ مَن الرابح غداً , والأكثر حسّداً . ولو أن السموات والأرضين  كانتا على عبدٍ رتقاً  ثم اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً. ولا يؤنسنّك الاّ الحقّ ولا يوحشنّك إلاّ الباطل. فلو قبلتَ دنياهم لأحبّوك, ولو قرضتَ منها لأمنوك "

وروى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري خبر إخراج ابي ذر من المدينة عن عكرمة عن ابن عباس :
" لما أخرج ابو ذر الى الربذة, أمر عثمان فنودي في الناس ان لا يكلم أحدٌ أبا ذر ولا يشيعه. وأمر مروانَ بن الحكم ان يخرج به. فخرج به.
وتحاماه الناسُ إلاّ علي بن ابي طالب عليه السلام , وعقيلاً أخاه, وحسناً وحسيناً عليهما السلام, وعماراً , فإنهم خرجوا معه يشيعونه.
فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر , فقال له مروان : ايها يا حسن! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنتَ لا تعلم فاعلم ذلك.
فحمل علي عليه السلام على مروان فضرب ابلسوط بين أذني راحلته وقال : تنحّ لحاك الله الى النار!
فرجع مروان مغضباً الى عثمان فأخبره الخبر , فتلظى علي علي عليه السلام.
ووقف ابو ذر فودعه القوم , ومعه ذكوان مولى أم هانئ بنت ابي طالب . قال ذكوان : فحفظتُ كلام القوم – وكان حافظاً
فقال علي عليه السلام : يا ابا ذر , انك غضبتَ لله! ان القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك. فامتحنوك بالقلى ونفوك الى الفلا. والله لو كانت السماوات والأرض على عبد رتقاً ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجاً. يا ابا ذر لا يؤنسنك إلاّ الحق, ولا يوحشنك إلاّ الباطل .
ثم قال لأصحابه : ودعوا عمكم. وقال لعقيل : ودع أخاك.
فتكلم عقيل , فقال : ما عسى ان نقول يا ابا ذر ؟ وأنت تعلم انا نحبك وأنت تحبنا. فاتقِ الله فإن التقوى نجاة. واصبر فإن الصبر كرم. واعلم ان استثقالك الصبر من الجزع , واستبطاءك العافية من اليأس. فدع اليأسَ والجزع.
ثم تكلم الحسن فقال : يا عمّاه! لولا انه لا ينبغي للمودع أن يسكت , وللمشيّع أن ينصرف, لقصر الكلام وإن طال الأسف. وقد أتى القوم اليك ما ترى, فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها, وشدة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها. واصبر حتى تلقى نبيك (ص) وهو عنك راض.
ثم تكلم الحسين فقال : يا عمّاه! ان الله تعالى قادر ان يغيّر ما قد ترى. والله كل يوم هو في شأن. وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك. فما أغناك عما منعوك , وأحوجهم الى ما منعتهم! فاسأل الله الصبر والنصر, واستعذبه من الجشع والجزع, فإن الصبر من الدين والكرم, وان الجشع لا يقدم رزقاً, وجزع لا يؤخر أجلاً.
ثم تكلم عمار رحمه الله مغضباً فقال : لا آنسَ الله من أوحشك, ولا آمن من أخافك ! أما والله لو أردتَ دنياهم لأمنوك , ولو رضيتَ أعمالهم لأحبوك. وما منع الناسَ أن يقولوا بقولك إلاّ الرضا بالدنيا , والجزع من الموت . مالوا الى ما سلطان جماعتهم عليه, والملك لمن غلب . فوهبوا لهم دينهم , ومنحهم القوم دنياهم , فخسروا الدنيا والآخرة, ألا ذلك هو الخسران المبين.
فبكى أبو ذر رحمه الله , وكان شيخاً كبيراً , وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة! إذا رأيتكم ذكرتُ بكم رسول الله (ص) . ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم. اني ثقلتُ على عثمان بالحجاز , كما ثقلتُ على معاوية بالشام , وكره أن اجاور أخاه وابن خاله بالمصرين فأفسدُ الناسَ عليهما, فسيّرني الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلاّ الله . والله ما أريد إلاّ الله صاحباً , وما أخشى مع الله وحشة .
ورجع القوم الى المدينة[19]"

وروى اليعقوبي في تاريخه ان عثمان لما أمر أبا ذر بالخروج الى الربذة قال :
" ... يا مروان أخرجه. ولا تدع أحداً يكلمه حتى يخرج.
فأخرجه على جمل ومعه امرأته وابنته. فخرج علي والحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر ينظرون. فلما رأى أبو ذر علياً قام اليه فقبل يده ثم بكى وقال : اني اذا رأيتك ورأيتُ ولدك ذكرتُ قول رسول الله فلم أصبر حتى أبكي. فذهب علي يكلمه , فقال له مروان : ان أمير المؤمنين قد نهى أن يكلمه أحد. فرفع علي السوط فضرب وجه ناقة مروان وقال : تنحّ , نحاك الله الى النار! ثم شيّعه , فكلمه بكلام يطول شرحه. وتكلم كل رجل من القوم وانصرفوا.
وانصرف مروان الى عثمان , فجرى بينه وبين علي في هذا بعض الوحشة وتلاحيا كلاماً"

في الربذة :الوفاة

استثارت قصة أبي ذر ونهايته المأساوية ووفاته وحيداً في الصحراء مشاعر الكثيرين من المسلمين الذين راوا فيها ظلماً تعرّض له ذلك الرجل الكبير بسبب إصراره على تحدّي الحاكمين ومواجهتهم بدعوةٍ للحق لا تلين ولا تساوم. لقد تحوّل أبو ذر الى رمز للبطولة في نظر الكثيرين , والرموز دائماً ما تحتوي قصصهم على إضافات من قبل الرواة لإضفاء حبكةٍ تناسب المقام الذي يراد للشخصية الرمز أن تبلغه.
وهذا ما حصل بشأن وفاة أبي ذر. فالرجل توفي في الربذة بلا شك معزولاً وحيداً , ربما بمعية زوجته أو ابنته. ولكن لا بد من الاضافات...

روى البلاذري في أنساب الأشراف عن الواقدي أن زوجة أبي ذر قالت إنه حدثها بأن النبي(ص) قد تنبأ بتفاصيل وفاة أبي ذر "قال لي رسول الله (ص) : إنك تموت بأرض غربة. وأخبرني أنه يلي دفني رهطٌ صالحون" وتقول الرواية هذه " ان أبا ذر رضي الله تعالى عنه مات, فقالت امرأته : بينا أنا جالسة عنده , وقد توفي, إذ أقبل ركب فسلموا فقالوا : ما فعل أبو ذر؟ قلتُ : هو ذا ميتاً قد عجزتُ عن غسله ودفنه. فأناخوا فحفروا له وغسلوه . وأخرج جرير بن عبد الله حنوطاً وكفناً فحنطه وكفنه. ثم دفنوه وحملوها الى المدينة"
وهناك عدة روايات تجعل عدداً من الذين سيكونون فيما بعد اعداءً للخليفة عثمان هم أنفسهم الذين تصادف مرورهم بالربذة لدى وفاة أبي ذر. وأهم هؤلاء مالك الأشتر.  
ومنها ما رواه اليعقوبي في تاريخه:
"... فلم يزل ابو ذر بالربذة حتى توفي. ولما حضرته الوفاة قالت له ابنته : اني وحدي في هذا الموضع , وأخاف ان تغلبني عليك السباع! فقال : كلا , انه سيحضرني نفر مؤمنون , فانظري أترين أحداً ؟ فقالت : ما أرى أحداً . قال :  ما حضر الوقت . ثم قال : انظري هل ترين أحداً ؟ قالت : نعم أرى ركباً مقبلين. فقال : الله أكبر صدق الله ورسوله! حوّلي وجهي الى القبلة , فإذا حضر القوم فأقرئيهم مني السلام , فإذا فرغوا من امري فاذبحي لهم هذه الشاة وقولي لهم : أقسمتُ عليكم إن برحتم حتى تأكلوا . ثم قضي عليه , فأتى القوم , فقالت لهم الجارية : هذا ابو ذر صاحب رسول الله قد توفي. فنزلوا , وكانوا سبعة نفر, فيهم حذيفة بن اليمان , والاشتر , فبكوا بكاء شديداً. وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. ثم قالت لهم : انه يقسم عليكم ألاّ تبرحوا حتى تأكلوا . فذبحوا الشاة وأكلوا , ثم حملوا ابنته حتى صاروا بها الى المدينة ."

ومنها ما رواه البلاذري عن أبي مخنف " لما حضرت أبا ذر الوفاة بالربذة أقبل ركبٌ من أهل الكوفة فيهم جرير بن عبد الله البجلي, ومالك بن الحارث الأشتر النخعي, والأسود بن يزيد بن قيس بن يزيد النخعي, وعلقمة بن قيس بن يزيد عم الأسود, في عدة آخرين . فسألوا عنه ليسلموا عليه فوجدوه وقد توفي . فقال جرير : هذه غنيمة ساقها الله الينا . فحنطه جرير وكفنه ودفنه وصلى عليه – ويقال بل صلى عليه الاشتر – وحملوا امرأته حتى أتوا بها المدينة"
واما الواقدي – لدى البلاذري – فجعل عدواً آخر لعثمان هو الذي صلى عليه ! عبد الله بن مسعود.

وقد أخرج ابن حبان في صحيحه رواية تقول بأنه عندما كان ابو ذر مريضا يوشك على الموت وهو منفيٌ بالربذة, مرّ به قوم من المسلمين فاستوقفتهم زوجته لكي يكفنوا زوجها إن قضى نحبَهُ, فخاطبهم ابو ذر قائلاً " إني أشهدكم أن لا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً !
فليس أحد من القوم إلاّ قارف بعض ذلك , إلاّ فتى من الانصار فقال : يا عم, أنا أكفنك, لم أصِب مما ذكرتَ شيئاً. أكفنك في ردائي هذا وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي حاكتها لي.
فكفنه الانصاري في النفر الذين شهدوه. منهم حجر بن الادبر ومالك بن الاشتر في نفر كلهم يمان"
وهنا يضيف ابن حبان اسم عدوّ آخر للحكم الأموي : حجر بن عدي الكندي (وهو الذي أعدمه معاوية فيما بعد).

وفي الروايات التي مرت كلها لا يمكن تصديق تلك الصدفة العجيبة التي تجعل أشخاصاً من أمثال الاشتر أو حجر بن عدي هم بالذات الذين يتصادف مرورهم بالربذة أثناء أو بعيد وفاة أبي ذر. هنا يظهر تدخل الرواة.


كيف لخص الامام البخاري موضوع ابي ذر ؟

روى البخاري في صحيحه عن زيد بن وهب قال" مررتُ بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه.
فقلتُ له : ما انزلك منزلك هذا؟
قال : كنتُ بالشام, فاختلفتُ أنا ومعاوية في ( الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ). قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب. فقلتُ نزلت فينا وفيهم. فكان بيني وبينه في ذاك.
وكتب الى عثمان رضي الله عنه يشكوني .
فكتب إليّ عثمان أن اقدم المدينة.
فقدمتها. فكثر عليّ الناسُ حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك.
فذكرتُ ذاك لعثمان. فقال لي : إن شئتَ تنحّيتَ فكنتَ قريباً.
فذاك الذي أنزلني هذا المنزل.
ولو أمّروا عليّ حبشياً لسمعتُ وأطعتُ "
والرواية هذه مخففة جداً , وتخفي أكثر مما تكشف. وهي تحاول أن تقول ان خلافاً فقهياً بين "صحابيين" بشأن تفسير آية قرآنية كان أساس المشكلة كلها. ولا تتحدث هذه الرواية عن خلافٍ بين عثمان وابي ذر ولا عما جرى بينهما. وتستخدم هذه الرواية الصيغة الملطفة والغامضة لحادثة النفي "إن شئتَ تنحيتَ", وهذه الصيغة حمالة اوجه. وتختتم الرواية بالقول الشائع المنسوب الى أبي ذر عن السمع والطاعة.
ولكن الامام البخاري نفسه في موضع آخر من صحيحه أخرج ما يتعلق بمشاكل أبي ذر مع عثمان.
روى البخاري في صحيحه (باب العلم قبل القول والعمل)." قال أبو ذر: لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى قفاه – ثم ظننتُ أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي(ص) قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها". (والصمصامة هي السيف الصارم)
ولما كانت هذه الرواية مبتسرة وتخلو من مقدمة الحديث التي يظهر فيها السبب الذي دفع أبا ذر إلى القول أنه سيبلّغ حديث النبي(ص) حتى لو تعرض للقتل بسبب ذلك, فقد تولّى شارحُ صحيح البخاري توضيح ذلك. فقد ذكر ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح صحيح البخاري أن أبا ذر كان جالساً عند الجمرة الوسطى وقد اجتمع إليه الناس يستفتونه فأتاه رجلٌ فوقف عليه ثم قال : ألم تُنهَ عن الفتيا؟!
فرفع أبو ذر رأسه إليه وقال : أرقيبٌ أنتَ عليّ ؟! لو وضعتم الصمصامة......
وذكر ابن حجر " إن الذي خاطبه رجلٌ من قريش وإن الذي نهاه عن الفتيا عثمانُ رضي الله عنه"
وهذا يعني أن عثمان قد حاول لجم أبي ذر وإسكاته , ولكن لما فشل في ذلك , واستمرّ أبو ذر في إشاعة أحاديث الرسول(ص) والفتيا لمن يريده من المسلمين, لجأ عثمان الى الحل الأخير وهو النفي القاسي.

وأيضا ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج2 ص354) أن الرجل قال لأبي ذر " ألم ينهكَ أمير المؤمنين عن الفتيا ؟"
  
أكاذيب : دفاعاً عن عثمان ومعاوية

قال ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة بشأن ابي ذر" واعلم ان أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخباراً كثيرة معناها أنه أخرج الى الربذة باختياره"
وكمثال على ذلك روى عن قاضي القضاة في "المغني" عن شيخه أبي علي " ان معاوية كتب يشكوه وهو بالشام . فكتب اليه عثمان : أن صِر الى المدينة.
فلما صار اليها قال له : ما أخرجك الى الشام؟
قال : اني سمعتُ رسول الله(ص) يقول : إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج منها. فلذلك خرجتُ.
فقال : أي البلاد أحبّ اليك بعد الشام ؟
قال : الربذة.
قال : فسِر اليها"

وبعد أن أخرج بعض روايات أخرى بهذا الاتجاه , أعلن العلامة ابن ابي الحديد رأيه القيم :
" ونحن نقول : وهذه الأخبار , وإن كانت قد رويت, لكنها ليست في الاشتهار والكثرة كتلك الأخبار.
والوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان وحسن الظن بفعله : انه خاف الفتنة واختلاف كلمة المسلمين, فغلب على ظنه أن إخراج أبي ذر الى الربذة أحسَمُ للشغب, وأقطعُ لأطماع من يشرئب الى شق العصا . فأخرجه مراعاة للمصلحة . ومثل ذلك يجوز للإمام .
هكذا يقول أصحابنا المعتزلة, وهو الأليق بمكارم الأخلاق. فقد قال الشاعر :
إذا ما أتت من صاحب لك زلة         فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
وانما يتأوّلُ أصحابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان. فأما من لم يحتمل حالُه التأويل, وإن كانت له صحبة سالفاً كمعاوية وأضرابه, فإنهم لا يتأولون لهم إذا كانت أفعالهم وأحوالهم لا وجه لتأويلها, ولا تقبل العلاج والاصلاح
أي ان ابن ابي الحديد يقول انه لا داعي للكذب والتلفيق واختراع الروايات للدفاع عن عثمان فيما قرره بشأن ابي ذر الغفاري. فالصحيح هو الاقرار بما ارتكبه عثمان بحق ابي ذر, ولكن لا بد من محاولة التماس عذر وتأويل لما فعله الخليفة على أساس حقه في تقدير المصلحة العامة للمسلمين , باعتبار ان عثمان صحابي قديم من المهاجرين مما يجيز حسن الظن به, بخلاف معاوية ومجموعته الذين لا تسمح شناعة أفعالهم بالتماس أعذار لهم.

كما ان ابن شبة النميري في تاريخ المدينة قد أخرج عدة روايات بشأن الخروج الطوعي لأبي ذر الى الربذة. وهذه الروايات أقل ما يقال فيها بأنها هزيلة وركيكة ومبتسرة , ويظهر فيها أبو ذر وكأنه مضرب المثل في الطاعة والولاء لعثمان , الى حد القول انه لو طلب منه أن يحبو على الارض  لحبا ! وبعض الرواة يذكر ان ابا ذر كان يقول لعثمان انه ليس من الخوارج ! وأخرى تنسب للرسول (ص) أقوالاً بشأن إخراج ابي ذر. وبعضها تتحدث عن حرص عثمان على راحة ابي ذر في منفاه الطوعي .... وما شابه ذلك من أخبار.
بل انه روى كيف ان محمد بن سيرين كان يغضب بشدة إذا سمع أحداً يقول ان عثمان أخرج أبا ذر الى الربذة , ويصرّ على انه خرج من تلقاء نفسه!

وكذلك ابن كثير في البداية والنهاية تجاهل كل ملابسات وفاة أبي ذر وخلفياتها واختزلها بالقول "خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة, ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات".

كيف تناولَ الطبري هذا الموضوع؟

قد أعرضَ عن كل الروايات التي تكشف عن حقيقة ما جرى , واختارَ فقط ما رواه سيف بن عمر, لأنه الكاتب الوحيد الذي حفظ للسلطان ماء وجهه, واستنقذه من عواقب تلك الأحداث كما صرح بذلك الطبري نفسه في مستهل حديثه عن هذه القصة, فقال:
" في هذه السنة, 30 للهجرة, كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية, وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة. وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها أمورٌ كثيرة كرهتُ ذكرَ أكثرها.
فأما العاذرون معاوية فإنهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلى السرى يذكر أن شعيباً حدثه سيف ...."
ويسرد الطبري هذه القصة مردداً بين فقراتها (قال سيف) (قال سيف) حتى أتى على آخرها . ثم قال : " وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة كرهتُ ذكرَها".
إذن يقرر الطبري , صاحب الموسوعة التاريخية الكبرى, أن ينقلَ فقط رواية سيف, ولا شيء غيرها! إذن هو يقرر أن يروي ما قاله "العاذرون معاوية" فقط, وأما الآخرون فالطبري كره ذكر أخبارهم!

والآن ما هي رواية سيف بن عمر التي يتمسّك بها الطبري فلا يروي سواها؟
" لمّا ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر . فقال : يا أبا ذر, ألا تعجب إلى معاوية , يقول المالُ مالُ الله؟! ألا إن كل شيء لله, فكأنه يريد أن يحتجبه دون المسلمين ويمحو اسمَ المسلمين!
 فأتاه أبو ذر فقال : ما يدعوك إلى أن تسمّي مالَ المسلمين مالَ الله؟!
قال : يرحمك الله يا أبا ذر. ألسنا عباد الله, والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره؟
قال : فلا تقله.
قال : فإني لا أقول أنه ليس لله, ولكن سأقول مال المسلمين.
وأتى ابن السوداء أبا الدرداء . فقال له: مَن أنتَ ؟ أظنك والله يهودياً.
فأتى عبادةَ بن الصامت , فتعلقَ به, فأتى به معاوية. فقال : هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر!
وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول : يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء. بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.  فما زالَ حتى ولعَ الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء, وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس."

ثم يذكر تسيير معاوية أبا ذر إلى المدينة على أحسن هيئة, فيكرمه الخليفة, رضي الله عنه, أحسنَ إكرام ويتلطف به, غير أن أبا ذر يصرّ على أن يهجر المدينة ليرتدّ أعرابياً! فيذهب باختياره إلى المنفى في الربذة, بناءً على وصية النبي(ص) له بأن يخرج من المدينة إذا بلغ البناء فيها منطقة سلع! وأن عثمان أكرمه وأعطاه إبلاً ومملوكين لرعايته.

وواضحٌ من هذه القصة أنها فصّلت لكي تدافع عن الحكام : عثمان ومعاوية.
ولكن وللأسف فإن ترويج هكذا رواية من قبل الطبري فيه إساءة عظيمة لواحدٍ من أرفع الصحابة السباقين إلى الإسلام مكانة, وهو أبو ذر! ففي سبيل الدفاع عن الحكام رضي الطبري أن يجعل أبا ذر في موقف التابع الغبيّ لإرادة اليهودي الماكر ( وهو ابن سبأ, الذي يلقبه بابن السوداء), ثم جعل منه رجلاً متمرداً على الخليفة بإيعاز من ذلك اليهودي, ثم جعل منه مرتداً أعرابياً بعد الهجرة!
إن الطبري باختياره هذا يصرح بالقول والفعل أنه قد وقف إلى جانب الأمير الغالب , ملتمساً له العذر على كل حال, وإن لم يجد هذا العذر إلاّ عند الوضّاع سيف بن عمر. وهذا هو السبب الوحيد الذي يفسر إعراضه المعلن عن سائر أحاديث "العاذرين أبا ذر" – وهو الطرف المغلوب- واكتفائه برواية "العاذرين معاوية" – وهو الأمير الغالب.[20]

ولم يوضح سيف بن عمر في روايته هذه ماذا فعل معاوية بابن السوداء بعد أن أحضره له عبادة بن الصامت؟ ولكن أخذاً بعين الاعتبار ما يرويه سيف عن نشاط ابن السوداء اللاحق في بلادٍ أخرى, فلا بد من الاستنتاج أن معاوية قد أطلقه, بكل بساطة!

وعدا عن كل هذا التهافت في رواية سيف بن عمر , فإن هناك اشكالاً من حيث الشكل ايضا. فسيف بن عمر نفسه يذكر ان ابن سبأ , الذي يسميه ابن السوداء, كان موجوداً في البصرة بعد عام 32 للهجرة! فقد روى الطبري عنه في تاريخه انه " لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين" نزل عبد الله بن سبأ ضيفاً على أتباعه في البصرة , وعلى رأسهم حكيم بن جبلة العبدي " واجتمع اليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح فقبلوا منه واستعظموه .
وأرسل اليه ابن عامر فسأله : ما أنت ؟
فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الاسلام , ورغب في جوارك
فقال : ما يبلغني ذلك. اخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها فاستقر بمصر...
وبما أن ابن عامر تولى منصبه عام 29 للهجرة , فلا شك أن هذا الاجتماع المذكور بينه وبين ابن سبأ كان في سنة 33 أو 32 على أقل تقدير.
بينما نجد سيفا نفسه يقول في رواية أخرى له " كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء, أمه سوداء. فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم. فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند احد من اهل الشام فأخرجوه حتى اتى مصر ..."
وهذا يعني أن ابن سبأ قد توجه الى الشام بعد البصرة والكوفة. فمتى اجتمع بأبي ذر الغفاري بالشام ؟ فأبو ذرتوفي في عام 30 للهجرة[21] , وبالتالي كيف يمكن ان يكون موجوداً في دمشق , ليجتمع مع ابن سبأ بعد ثلاثة أعوام من وفاته؟!





ثانياً : مشكلة عبد الله بن مسعود[22]

خلفية ابن مسعود

وعبد الله بن مسعود هو أيضاً من الشخصيات الإسلامية البارزة , بامتياز. فقد كان من السباقين الأولين للإيمان بمحمد(ص) في الفترة المكية من دعوته. وابن مسعود كان من الضعفاء والفقراء في مكة, فهو ذو أصلٍ متواضع, من قبيلة هُذيل.
 وبلغ من شدة حماسِهِ للدين الذي آمَنَ به أنه كان أولَ مَن أصرّ على الجَهر بقراءة القرآن على مسامع جبابرة قريش في مكة, فناله أذىً شديد جرّاء ذلك كما ورد في السيرة النبوية لابن هشام .
وقد شارك في معركة بدر, وكان له شرف الاجهاز على أبي جهل ذاته حين وجده بين الحياة والموت بعد أن هاجمه الفتيان الانصاريان. ويروى أن أبا جهل , وهو في لحظاته الأخيرة, قد وصفه ب " رويعي الغنم" مما يدل على الاحتقار الذي كان ابن مسعود يلقاه من كبراء قريش. 

وفي الفترة المدنية كان ابن مسعود شديد القرب من رسول الله (ص) , كما ذكر البخاري في صحيحه( باب مناقب عبد الله بن مسعود), حيث قال أنه من كثرة دخوله وخروجه هو وأمه من وإلى بيت النبي(ص) ظنّه أبو موسى الأشعري من أهل البيت: " قدمتُ أنا وأخي من اليمن, فمكثنا حينا ما نرى إلاّ أنّ عبد الله بن مسعود رجلٌ من أهل بيت النبي(ص)! لما نرى من دخوله ودخول أمه على النبي(ص)"

وقد صار ابن مسعود من أبرز المتعمقين بالقرآن , قراءته  وتلاوته وأسباب نزوله وعلومه.
جاء في سنن الترمذي " عن عبد الله بن عمرو : قال رسول الله(ص) : خذوا القرآن من أربعة : من ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة".

الخلاف بين ابن مسعود والخليفة 
ومن استعراض الروايات المختلفة التي تتحدث عن خلاف ابن مسعود وعثمان, يمكن القول انه كان هناك سببان للمشكلة :

السبب الأول : هو ممارسات الوليد بن عقبة بن ابي معيط في الكوفة, وعدم سكوت ابن مسعود عنه

والظاهر أن الخلاف بين ابن مسعود والخليفة بدأ مع قدوم واليه, الفاسق المستهتر بشؤون الدين, الوليد بن عقبة , إلى الكوفة. ولا شك ان الوليد بن عقبة, بكل ما في نفسه من كِبرٍ وخيلاء, لم يكن لينسى ان ابن مسعود كان في ماضي الايام راعياً لغنم أبيه . فقد ذكر ابن الاثير في أسد الغابة وابن سعد في الطبقات الكبرى في قصة هجرة النبي(ص) الى المدينة عن ابن مسعود "كنتُ غلاماً يافعاً في غنم لعقبة بن ابي معيط أرعاها ..." .
وقد كان ابن مسعود على بيت مال المسلمين في الكوفة ( وكان عمر قد ولاّه ذلك ) حين بعث عثمانُ الوليدَ بن عقبة والياً عليها. ومن المرجح أن الوليد لم يكن ليقبل أن يحاسبه ابن مسعود على تصرفاته وقراراته, لأنه أعلى منه منصباً عدا عن علاقته الخاصة بالخليفة.
 وكان ابن مسعود يعتبرأموال المسلمين أمانة في عنقه, ولا يحتمل أي عبث بها. فهو على هذا الصعيد من مدرسة عمر بن الخطاب .

فكان الصدام بين الرجلين أمراً حتمياً : إن كان بحكم وظيفة ابن مسعود كأمين على بيت المال, أو كان بحكم وضعيته كصحابي عريق له مسؤولية معنوية عن أخلاق وتعاليم الاسلام الصافي الذي جاء به محمد (ص) .

وقد حصل الصدام بالفعل في الاتجاهين :

وقد تطرقنا الى ما فعله الوليد من شرب للخمر وتهتك في الصلاة وعبث مع السحرة وغيرها من سلوكيات كانت طبعاً تثير حفيظة ابن مسعود وتدفعه الى المواجهة . فقد روى الامام أحمد في مسنده " ان الوليد بن عقبة أخر الصلاة مرة . فقام عبد الله بن مسعود فثوب بالصلاة فصلى بالناس .
فأرسل اليه الوليد : ما حملك على ما صنعتَ ؟ أجاءك من أمير المؤمنين أمر فيما فعلتَ أم ابتدعتَ ؟
قال : لم يأتني أمر من أمير المؤمنين ولم أبتدع. ولكن أبى الله عز وجل علينا ورسوله أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك[23]"

 وقد أخذ الوليدُ مالاً من بيت المال دون وجه معلوم , ودون إذن ابن مسعود.
روى ابن عبد ربه في العقد الفريد عن عبد الله بن سنان قال " خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد , وكان على بيت مال الكوفة , وأمير الكوفة الوليد بن عقبة بن ابي معيط, فقال : يا أهل الكوفة , فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب من أمير المؤمنين , ولم يكتب لي بها براءة.
قال : فكتب الوليد بن عقبة الى عثمان في ذلك. فنزعه عن بيت المال"
واما البلاذري في أنساب الأشراف فروى عن أبي مخنف أن الوليد قد أخذ قرضاً من بيت المال, أي بعلم ابن مسعود, ولكنه لم يردّه " لما قدم الوليد الكوفة ألفى ابنَ مسعود على بيت المال فاستقرضه مالاً , وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثم تردّ ما تأخذ, فأقرضه عبد الله ما سأله. ثم انه اقتضاه إياه . فكتب الوليد في ذلك الى عثمان . فكتب عثمان الى عبد الله بن مسعود : انما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما اخذ من المال .
فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظن أني خازن للمسلمين , فأما اذا كنت خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك. وأقام بالكوفة بعد القائه مفاتيح بيت المال[24]"

وهكذا تخلص الوليد من ابن مسعود :
جاء في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري " إن الوليد بن عقبة كتب إلى عثمان رضي الله عنه يبغضه على ابن مسعود وإن عثمان رضي الله عنه سيره من الكوفة إلى المدينة وحرَمَه عطاءه ثلاث سنين"


السبب الثاني , وهو الأشهر: قرار عثمان بحرق كل المصاحف, بما فيها مصحف ابن مسعود, واعتماد نسخة زيد بن ثابت فقط.

وكان مما فاقم من كره ابن مسعود لعثمان وسياساته, ما سبق وقرره عثمان من إحراق مصحفه بالعراق, واعتماد المصحف الذي أوكل مهمة نسخه لزيد بن ثابت , الذي اعتبره ابن مسعود غير مؤهل البتة لهكذا مهمة .
وبعد وفاة الرسول(ص) , أصبح ابن مسعود عَلَماً يلجأ إليه عامة المسلمين, من أهل العراق خاصةً, ليتعلموا القرآن. وكان ابن مسعود قد كتب المصحف , بنفسه ويده, كما سمعه من رسول الله(ص). وكان فخوراً جداً بمصحفه الذي كان يعتني به كثيراً ويعلمه للناس في العراق مع شروحاته لأسباب نزول الآيات وسيرة النبي(ص).
روى اليعقوبي في تاريخه " وجمع عثمان القرآن وألفه, وصير الطوال مع الطوال, والقصار مع القصار من السور, وكتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت, ثم سلقها بالماء الحار والخل, وقيل أحرقها, فلم يبقَ مصحف إلاّ فعل به ذلك..."[25]

فكان غضب ابن مسعود شديداً بسبب حرق مصحفه هو , واعتماد مصحفٍ يكتبه زيد بن ثابت كنسخة نهائية لعموم المسلمين" قيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ما لك لا تقرأ على قراءة فلان؟ فقال : لقد قرأتُ على رسول الله  صلى الله عليه وسلم سبعين سورة فقال لي: لقد أحسنت, وإن الذي يسألوني أن أقرأ على قراءته في صلب رجل كافر" [26]
وفي ترجمة ابن مسعود لدى ابن عساكر (تاريخ دمشق) ليس هناك كلام صريح عن غضب ابن مسعود لحرق مصحفه واعتراضه على عثمان. ولكن هناك إشارات غير مباشرة لذلك . فبعض الروايات تتحدث عن قوله بشأن زيد بن ثابت , دون الإشارة الى عثمان . فقد أخرج روايات الأعمش عن ابي وائل  وعلقمة بن قيس وشقيق وفيها ان ابن مسعود قال " لقد أخذت من في رسول الله (ص) بضعا وسبعين سورة وإن زيد بن ثابت له ذؤابة يلعب مع الغلمان" أو "كيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله(ص) بضعا وسبعين سورة وان زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان " أو رواية ابي عوانة عن اسماعيل بن سالم عن ابي سعد الأزدي" أقرأني رسول الله (ص) سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت "

فعبد الله بن مسعود لم يصدّق أن عثمان يختار زيد بن ثابت بالذات لهكذا مهمة حساسة! فرسول الله(ص) كان أكبر من زيد بأربعين سنة على الأقل[27], وبالتالي لم يكن زيد , بنظر ابن مسعود , قد خالط رسول الله(ص) بما يكفي لكي يختاره عثمان من بين بقية الصحابة الأكبر, والأعلم بالقرآن منه. فقد جاء في سيرة ابن هشام أن  زيداً كان حَدثا صغيراً يوم أحد , حتى أن رسول الله(ص) لم يُجزه لكي يكون في الجيش. وبالتالي فإن زيداً كان عمره حوالي 34 عاما فقط في بداية عهد عثمان , على افتراض أن عمره يوم أحد كان 13 عاماً.

العقوبة

ذكر ابن الاثير في أسد الغابة أن عثمان أرسل الى ابن مسعود يأمره بالقدوم الى المدينة فقال له اهل الكوفة " أقِم ونحن نمنعك أن يصل اليك شيئ تكرهه[28]" . ثم اورد خبراً آخر عن عيادة الخليفة لابن مسعود أثناء مرضه وعرضه عليه عطاءه, وأن ابن مسعود رفض لأن النبي(ص) قال له ان من قرأ سورة الواقعة لن يصيبه الفقر. وعلق ابن الاثير على هذا الموقف " وإنما قال له عثمان ألا آمر لك بعطائك لأنه كان قد حبَسه عنه سنتين[29]..."

وقد أخرج الذهبي (في سير اعلام النبلاء) أن الخليفة أرسل يأمر ابن مسعود بالقدوم من الكوفة فخاف عليه الناسُ " لما بعث عثمان الى ابن مسعود يأمره بالمجيء الى المدينة, اجتمع اليه الناسُ فقالوا : أقم فلا تخرج , ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه. فقال : ان له عليّ طاعة , وانها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أول من فتحها. فردّ الناسَ وخرج اليه"


ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى عن هشام بن عروة عن ابيه أن عثمان حرم ابن مسعود عطاءه لمدة سنتين وأن الزبير ذهب إلى عثمان وطالبه بعطاء ابن مسعود بعد موته وقال له "  أعطني عطاء عبد الله. فأهل عبد الله أحق به من بيت المال.
فأعطاه عطاءه عشرين ألفاً أو خمسة وعشرين ألفاً"[30]

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر هناك اعتراف ان عثمان منع عن ابن مسعود عطاءه ( دون الاشارة الى السبب). ففي رواية عن يحيى بن ابي زكريا الغساني عن هشام " اوصى عبد الله بن مسعود الى الزبير وكان عثمان بن عفان قد حبس عطاءه سنتين[31]". وهذه كانت أكثر الروايات صراحة ان عثمان منعه عطاءه, ولكن حتى سياق غيرها – المخففة – يوحي بذلك ايضا . فمثلا رواية شجاع عن ابي فاطمة ان عثمان لما عاده في مرضه قال له " أفلا نأمر لك بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه اليوم. قال : تدعه لأهلك وعيالك. قال : قد علمتهم شيئا اذا قالوه لم يفتقروا: سمعت رسول الله(ص) يقول : من قرأ الواقعة كل ليلة لم يفتقر".

وهناك روايات تقول ان عقوبة ابن مسعود لم تقتصر على حرمانه من عطائه , بل انه تعرض الى عقوبة جسدية (الضرب). ومن ذلك النص الذي أورده ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح وفيه يلوم الزبيرُ بن العوام الخليفة عثمان على تصرفاته , وكان مما فيه "مالك ولعبد الله بن مسعود هجرتَ قراءته وأمرتَ بدوس بطنِه ، فهو في بيته لما به وقد اقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان : إن الذي بلغني من ابن مسعود أكثر مما بلغت منه ، وذاك أنه قال : وددتُ أني وعثمان برمل عالج يحث علي وأحث عليه حتى يموت الأعجز منا"

ومن هؤلاء اليعقوبي الذي روى في تاريخه" وكان ابن مسعود بالكوفة, فامتنع ان يدفع مصحفه الى عبد الله بن عامر[32], وكتب اليه عثمان : أن أشخصه, إنه لم يكن هذا الدين خبالاً وهذه الامة فساداً.
فدخل المسجدَ وعثمان يخطب , فقال عثمان : إنه قد قدمت عليكم دابة سوء ! فكلمه ابن مسعود بكلام غليظ , فأمر به عثمان فجرّ برجله حتى كسر له ضلعان, فتكلمت عائشة وقالت قولا كثيراً ......."

وقد ذكرنا سابقاً رواية البلاذري في أنساب الأشراف التي تذكر أن عثمان قد أمر بإخراجه بعنف من المسجد فتم الاعتداء عليه وضربه بقسوة مما استدعى تدخل علي بن ابي طالب لرعايته. وفي نفس تلك الرواية وصف عثمان الشنيع له " دويبة سوء

وعلى الرغم من روايات ابن أعثم واليعقوبي والبلاذري هذه, إلاّ أنني استبعد أن يكون عبد الله بن مسعود قد تعرض للضرب والاهانة بهذه الطريقة ( الدوس ببطنه , كسر ضلعه... ). فالاغلب وجود مبالغة هنا. كذلك الأمر بالنسبة لكلمة عثمان " دابة سوء" , فلا يعقل أن يستقبله بشتيمة كهذه لذى دخوله المسجد. فما أرجحه هو قيام عثمان بلومه وعتابه بلهجة حازمة واتهامه بخلق الشقاق والخلاف فدافع عن نفسه فاستفز عثمانَ فقام بإهانته وطرده من المسجد وحرمه من عطائه. وربما تعرض ابن مسعود للدفع الخشن من قبل بعض رجال الخليفة مما أدى الى سقوطه وإصابته.

نهاية ابن مسعود

واستمر هذا العقاب القاسي إلى أن شارف ابن مسعود على الموت. عندها رقّ الخليفة فذهب يعوده عارضاً عليه عطاءه الذي حرمه منه لسنوات طويلة, ولكنه تلقى صفعة مؤلمة من ابن مسعود, صاحب النفس الأبية:
 "لما بلغ عثمان أن عبد الله مريض, حمل إليه عطاءه خمسة عشر ألفا, وكان عطاء البدريين خمسة آلاف. فدخل عليه عثمان رضي الله عنه فقال : كيف تجدك؟
قال : مردود إلى مولاي الحق.
  قال : يرحمك الله. كأنها ظنة, هذا عطاؤك خمسة عشر ألفا فاقبضه.
 قال : منعتنيه إذ كان ينفعني! فأنا آخذه منك يوم القيامة.
 فانصرف ولم يقبل عطاءه"[33]
وقد بلغ من شدة كره ابن مسعود للخليفة وشعوره بالظلم أنه أوصى ألاّ يصلي عليه عثمان ! فجاء في تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري:
 "أوصى عبد الله إلى الزبير وأمَرَه ألاّ يصلّي عليه عثمان.
 فلما مات عجّله.
 وانتهى عثمان رضي الله عنه إلى القبر حين رفعوا أيديهم من التراب .
 فقال : يا زبير! لم لم تؤذِن أمير المؤمنين ولم تعلمه؟
قال الزبير : إنما كرامة الميت تعجيله.
 فقال عثمان رضي الله عنه : فعلتَ هذا عمداً, لم يكن بك تعجيله. لولا أن تكون سنة لنبشته حتى أصلي عليه. فقال الزبير : ما كنتَ تصل إلى ذاك. وتفرقا"[34].
 وواضح من النص كيف أن الخليفة شعر بإهانة عظيمة بسبب وصية ابن مسعود إلى حد انه فكر بإخراجه من القبر ليصلي عليه ثم يعاد دفنه!

ويذكر ابن الاثير في أسد الغابة ان عبد الله بن مسعود توفي سنة 32 للهجرة " وصلى عليه عثمان, وقيل صلى عليه عمار بن ياسر, وقيل صلى عليه الزبير ودفنه ليلاً, أوصى بذلك. وقيل لم يعلم عثمان رضي الله عنه بدفنه فعاتب الزبيرَعلى ذلك"

وروى اليعقوبي في تاريخه " واعتلّ ابن مسعود فأتاه عثمان يعوده, فقال له : ما كلام بلغني عنك؟ قال : ذكرتُ الذي فعلته بي : انك أمرتَ بي فوطئ جوفي , فلم أعقل صلاة الظهر , ولا العصر, ومنعتني عطائي.
قال : فإني أقيدك من نفسي , فافعل بي مثل الذي فعلتُ بك!
قال : ما كنتُ بالذي أفتح القصاص على الخلفاء. قال : فهذا عطاؤك فخذه.
قال : منعتنيه وانا محتاج اليه, وتعطينيه وانا غني عنه؟ لا حاجة لي به.
فانصرف. فأقام ابن مسعود مغاضبا لعثمان حتى توفي. وصلى عليه عمار بن ياسر, وكان عثمان غائباً فستر أمره . فلما انصرف رأى عثمان القبرَ فقال : قبر من هذا ؟ فقيل : قبر عبد الله بن مسعود قال : فكيف دفن قبل أن أعلم؟ فقالوا : ولي أمره عمار بن ياسر. وذكر أنه أوصى ألاّ يخبر به ..."

وقال ابن سعد في الطبقات الكبرى" قال محمد بن عمر : وقد روي لنا انه صلى على عبد الله بن مسعود عمارُ بن ياسر . وقال قائل : صلى عليه عثمان بن عفان. واستغفر كل واحد منهما لصاحبه قبل موت عبد الله.
قال : وهو أثبتُ عندنا ان عثمان بن عفان صلى عليه"

وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عروة أن عثمان كان قد حرم ابنَ مسعود عطاءه لمدة سنتين, فلما مرض ابنُ مسعود جاءه عثمان عائداً وعرض عليه أن يأمر له بعطاء فرفض وقال : لا حاجة لي به.
وروى ايضاً أن ابن مسعود قد أوصى الى الزبير ان يصلي عليه, وان الزبير قد راجع عثمان بعد وفاته وطالبه بعطاء ابن مسعود " أعطني عطاء عبد الله, فعيال عبد الله أحق به من بيت المال. فأعطاه خمسة عشر ألفاً"


واخيرا فإن أغلب الروايات التي ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق تشير الى ان عبد الله بن مسعود قد أوصى للزبير وانه الذي صلى عليه ( وليس عثمان كما هو مفترض كونه الخليفة ), وان الزبير قد أخذ عطاءه من عثمان بعد وفاته وهو خمسة عشر الفا لعياله. وتوجد روايات قليلة تشير ان الذي صلى عليه كان عمار بن ياسر " أو عثمان بن عفان".


انحياز بعض الرواة والمؤرخين ضد ابن مسعود

 ومن هؤلاء الامام الذهبي. فهو في ترجمة ابن مسعود من سير أعلام النبلاء لم يورد أي شيء عن علاقته بالوليد بن عقبة. ولكنه ذكر الروايات التي تفيد بغضبه من تولية زيد بن ثابت كتابة المصحف وبأنه كان يعارض ذلك لعدم أهلية زيد بنظره . ففي رواية " قال عبد الله : لقد قرأتُ من في رسول الله(ص) سبعين سورة , وزيد له ذؤابة يلعب مع الغلمان" وفي رواية أخرى انه قال عن زيد" والله لقد أسلمتُ وإنه لفي صلب أبيه كافر".
وقد دافع الذهبي عن عثمان ولام ابن مسعود على موقفه الرافض لزيد بن ثابت فقال " انما شق على ابن مسعود لكون عثمان ما قدمه على كتابة المصحف, وقدم في ذلك من يصلح أن يكون ولده. وانما عدل عنه عثمان لغيبته عنه بالكوفة, ولأن زيداً كان يكتب الوحي لرسول الله(ص), فهو إمام في الرسم, وابن مسعود فإمام في الاداء. ثم ان زيداً هو الذي ندَبَهُ الصديق لكتابة المصحف وجمع القرآن, فهلا عتب على أبي بكر؟ وقد ورد ان ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد. وفي مصحف ابن مسعود أشياء أظنها نسخت. وأما زيد فكان أحدثَ القوم بالعرضة الأخيرة التي عرضها النبي(ص) عام توفي على جبريل"

وهذا رأي له وجاهة من قبل الامام الذهبي. وهو لا يستند الى تزييف للحقائق التي لا ينكرها (بشأن الخلاف الذي حصل). ولذلك يجب احترام رأيه. وهذا يختلف عن سيف بن عمر الذي يسعى لترويج آرائه المؤيدة لعثمان عن طريق اختلاق الروايات وتلفيقها.

فهكذا جاءت روايات سيف بن عمر كما ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق : فقد ذكر احتكاكا بين ابن مسعود والوليد, ولكنه روى ذلك في سياق الدفاع عن الوليد وتبرئته! فبعد ان تحدث عن كيد الحاقدين على الوليد له , ودخولهم عليه وقصة "قطف العنب" الذي وجدوه مخفيا لديه اضاف " فقالوا : الوليد يعكف على الخمر, وأذاعوا ذلك حتى طرح على ألسن الناس. فقال ابن مسعود : من استتر منا بشيئ لم نتبع عورته ولم نهتك ستره.
فأرسل الى ابن مسعود فأتاه فعاتبه في ذلك وقال : يرضى من مثلك بان يجيب أقواما موتورين ؟ على أي شيئ أستتر به؟ انما يقال هذا للملجلج.
فتلاحيا وافترقا على تغاضب. ولم يكن بينهما أكثر من ذلك"
  كما هبّ سيف بن عمر لإنقاذ سمعة عثمان " كان ابن مسعود قد ترك عطاءه حين مات عمر[35]. وفعل ذلك رجال من اهل الكوفة أغنياء. واتخذ ضيعة براذان فمات عن تسعين الف مثقال سوى رقيق وعروض وماشية بالسيلحين. فلما رأى الشر ودنو الفتنة استأذن عثمان فلم يأذن له قرب موته فقدم على عثمان فلم يلبث ان مات. فوليه عثمان وبينهما أشهر" وواضح مدى التهافت في هذه الرواية التي جعلت من ابن مسعود رجلا غنيا اقطاعيا له ضياع واموال وعبيد وماشية في نواح من العراق بحيث قرر ان يتخلى عن عطائه " حين مات عمر ؟ ", كما ان الفارق الزمني بين وفاة ابن مسعود وعثمان لم يكن بضعة أشهر بل سنوات . فابن مسعود مات حسب أغلب الروايات سنة 32 للهجرة بينما قتل عثمان سنة 35 ! وبالتالي يكون قول سيف " لما رأى الشر ودنو الفتنة " مردودا عليه بالتأكيد.


وأما ابن كثير في البداية والنهاية فقد أغفل الحديث عن أي خلافات بين ابن مسعود وعثمان في خلال استعراضه لوفاة ابن مسعود. ويبدو التعمد واضحاً في إخفاء المعلومات من طرف ابن كثير: فهو يتحدث عن عيادة عثمان لابن مسعود في مرضه وعرضه عليه عطاءه " وكان قد تركه سنتين " وامتناع ابن مسعود عن أخذه ورفضه حتى أن يعطيه لبناته من بعده " لأنه أوصاهن بقراءة سورة الواقعة التي لن يفقر من يقرأها كل ليلة". ولم يشر ابن كثير إلى مشاكل ابن مسعود مع الوليد ولا إلى حرق مصحفه. ورغم ذلك يعترف أن ابن مسعود قد أوصى للزبير " فيقال انه هو الذي صلى عليه ليلاً, ثم عاتب عثمان الزبير على ذلك, وقيل بل صلى عليه عثمان, وقيل عمار, فالله اعلم". لم يذكر ابن كثير الأسباب. 



ثالثاً : ما حصل لعمار بن ياسر على أيدي الخليفة عثمان[36]

خلفيات العلاقة بين عمار وعثمان

كان عمار بن ياسر من المشهورين في السبق للإسلام, هو ووالداه. وكانوا من المستضعفين في مكة , من حلفاء بني مخزوم. وبعد دخولهم في الإسلام تعرّضوا لتعذيبٍ فظيع على أيدي جبابرة قريش , وبني مخزوم بالأخص, مما أدى إلى اسشهاد أبويه الذين قتلا وهما تحت التعذيب من أبي جهل وأضرابه. وأما عمار فقد عذبه القرشيون حتى اضطرّوه أن يشتم محمدا(ص) لكي ينقذ نفسه من الموت. وقد أقرّه النبي(ص) على ذلك وقال له إنه ما دام قلبه مطمئناٌ بالإيمان فلا بأس أن يقول للجبابرة ما يرضيهم. فالرسول(ص) كان يحبّه , وكان يؤلمه جداً ما يتعرّض له عمار من اعتداء وحشيٍ بسبب إيمانه.
 ونتيجة لتاريخه المجيد والمشرّف منذ بدء دعوة الإسلام في مكة, كان النبي(ص) يحتفظ لعمار بمودّة خاصّة , صادرة من أعماق نفسه الكريمة التي كانت لا ترى في عمار ذلك المولى المستضعف ذي الأصل المتواضع, بل نموذجاً للمسلم المثالي, ويظهر ذلك حتى في اللغة التي كان يستعملها النبي(ص) في وصف عمار , فمثلاً :
" جاء عمار بن ياسر يستأذن على النبي(ص) فقال : ائذنوا له . مرحباً بالطيب المطيب"[37]
فكان عمار يرى في رسول الله (ص) , ودينه ودعوته, ملاذا له من جبروت عظماء قريش , وطريقا للخلاص من ظلمها. ورغم أن أخوة الاسلام قد جمعته مع الصحابي عثمان بن عفان , خاصة في مراحل الاسلام الاولى, إلا أن كل الدلائل تشير الى أن عماراً كان ينظر بريبة وتوجس الى عثمان, ذلك التاجر الثري , ذي المكانة الرفيعة في قريش, ويعتبره وجهاً آخر, مُحَسّناً, للقبيلة التي لا مكان فيها للضعفاء والفقراء من امثاله.

وهناك مؤشرات على ان العلاقة بين عمار وعثمان لم تكن على ما يرام , حتى أيام النبي(ص).
فمن المفيد التأمل في خبر ورد في السيرة النبوية لابن هشام , ويفيد بأنه أثناء انتداب الرسول (ص) لأصحابه لبناء مسجده بعد وصوله إلى المدينة, وانخراطه هو شخصياً في العمل المرهق لكي يشجعهم ويكون قدوة لهم, كان عمار يعمل بهمة ونشاط شديدين , حتى انه كان يحمل أثقالاً كبيرة من اللبن. وذكر ابن اسحق " وارتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ :
لا يستوي مَن يعمر المساجدا                                            يدأبُ فيه قائماً وقاعدا
ومَن يُرى عن الغبار حائدا"
وظاهر سياق الرواية يشير الى أن الامام علياً ارتجز هذه العبارات لأنه رأى البعض من الصحابة يأنف عن العمل الشاق.. فأثار موقفهم ذاك حفيظة عمار بن ياسر, الذي أخذ يردد بصوت عال ما ارتجزة علي بن ابي طالب ( وهو يقصد ان يسمعوه ).
ويضيف ابن هشام أنه عندئذ " ظنّ رجلٌ من أصحاب رسول الله(ص) أنه إنما يعرّض به.
فيما حدثنا زياد بن عبد الله البكائي, عن ابن اسحاق. وقد سمّى ابنُ اسحاق الرجلَ.
فقال : قد سمعتُ ما تقولُ منذ اليوم يا ابن سميّة. والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفكَ ! وفي يده عصا.
فغضب رسول الله (ص) ثم قال : ما لهُم وعمار؟! يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار. إن عماراً جِلدَة ما بين عَيني وأنفي. فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يستبق فاجتنبوه"

والملاحظة المهمة على هذه الرواية أن ابن هشام قد تدخل فيها بشكل فظ , للتغطية على شخص الصحابي الذي اشتبك مع عمار بن ياسر. وأنا أقول ان عثمان بن عفان كان ذلك الرجل. فكل شيئ يشير الى ذلك. ولا عجب أن يتدخل ابن هشام بهذا الشكل الصارخ في الرواية. ففي هذه الحادثة ما لا يتسق مع المقام الرفيع الذي يتمتع به الخليفة الثالث لدى ابن هشام ومن على رأيه. فابن هشام قرر أن يجدَ حلاً للمعضلة مع المحافظة على ذكر الحادثة لكي يرضي ضميره ويقنع نفسه بأنه لم يحذف سيرة النبي(ص) نفسها! فكان الحل عنده أن يروي معظم الرواية دون أن يذكر فيها اسم عثمان, لكي يبقي الرجلُ الذي أغضب عماراً وتدخل الرسول(ص) ضده , مجهولاً للقارئ. وهكذا فإن ابن هشام قرر أن يبقي اسم عثمان طيّ الكتمان, واستبدله بِ " رجلٌ من أصحاب رسول الله", رغم أنه اعترف بأن ابن اسحاق , صاحب السيرة الأصلي, قد سمّى ذلك الرجل صراحة.

فيبدو أن عثمان بن عفان , وهو التاجر المرموق,  كان يشارك بقية المسلمين مجاراة للرسول(ص) لا أكثر, وليس عن رغبة ولا همة, لأن ذلك النوع من العمل لا يناسب مقامه. ويبدو أنه كان يتثاقل في نقل اللبن ويُظهِرُ اهتماماً زائداً بالمحافظة على نظافة ثيابه وأكمامه, فينفضها من الغبار باستمرار. والأرجح أنه شعر بالضيق والاستياء مما ارتجزه علي بن ابي طالب ولكنه كتم مشاعره لمكانة علي من النبي (ص). ولكنه لما سمع عماراً يكررها وعرف أنه المقصود , لم يتمالك نفسه , فغضبَ وهَدّد عماراً بالضرب , مما أدى إلى تدخل الرسول (ص) إلى جانب عمار ووقفه لعثمان عند حدّه.

وسوف يأتي الحديث فيما بعد عن الحديث النبوي المتواتر " تقتلك الفئة الباغية" والذي قاله النبي (ص) بحق عمار.

وأما لماذا نقول ان عثمان بن عفان هو عين الصحابي الذي أخفى ابن هشام اسمه؟ فلا دليل لدينا سوى جمع القرائن والترجيح .

فسيرة عمار مع الخليفة عثمان مليئة بالخلافات والصراع.

فبعد انتصار النبي(ص), بقي عمار كارهاً لعظماء قريش ووجوهها, وإلى آخر يومٍ في حياته.
وكان عمار متمسكاً بشخص رسول الله(ص) , وآله من بعده. وتمثّل ذلك في ولائه العظيم لعليّ بن أبي طالب من بعده. كان عليّ بنظر عمار امتداداً حقيقياً للنبي(ص) وحكمه, وضمانةً. ومن الواضح أن عماراً كان يشمئزّ من الحكم القرشي ويرى في عليّ الضمانة الوحيدة دون عودة الوجوه القديمة إلى الصدارة , بقناعٍ جديدٍ.
وعثمان بن عفان, بنظر عمار, هو رمز قريش في حلّتها الجديدة. واختيار قريشٍ لعثمان خليفةً كان اعتداءً على حقّ عليّ وإبعاداً مقصوداً لآل الرسول(ص) عن مقاليد الحكم التي يستحقونها.
وفي عهد عثمان بن عفان, طفحَ الكيلُ بعمار بن ياسر. وأغلب الظن أنه كان كلما رأى الطلقاء من وجهاء بطون قريش يتذكر أمه وأباه وكل المستضعفين من أمثاله الذين كانوا يعانون على أيدي هؤلاء الجبابرة. فكم كان تألمه عظيماً وهو يرى أبناء طلقاء قريش, أعداء الرسول القدماء, وقد تسلموا ولاية امور المسلمين. وحين كان يسمع أبناء ارستقراطية قريش[38] وهم يصفونه تارة ب " العبد الأسود" وتارة ب " ابن السوداء" وتارة ب " ابن سمية ", كان يشعر أن كل ما بناه الرسول(ص) في طريقه إلى الانهيار. فسمية هذه التي يعيرونه بها هي أول شهيدة في الإسلام!

وقد تمسّك عمارُ بموقفٍ شديد العداء تجاه عثمان, وبقي عليه حتى عندما كان عثمان يمر بأحلك الظروف. فلأنَ عثمان يعرف أن عماراً ربما يكون مسموع الكلمة لدى الثوار الذين جاؤوا من مصر وحاصروه, طلب من سعد بن ابي وقاص أن يذهب لعمار ليطلب منه أن يخرج مع علي بن ابي طالب وغيره من الصحابة الذين حاولوا التوسّط وردّ الثوار الى مصرهم , ولكن عماراً رفض وبكل تصميم ! روى الطبري في تاريخه عن الواقدي "وأرسل عثمان الى عمار بن ياسر يكلمه أن يركب مع علي , فأبى.
فأرسل عثمان الى سعد بن ابي وقاص فكلمه أن يأتي عماراً فيكلمه أن يركب مع علي.
قال : فخرج سعد حتى دخل على عمار فقال : يا ابا اليقظان : ألا تخرج فيمن خرج؟ وهذا عليٌ يخرج فاخرج معه واردد هؤلاء القوم عن إمامك, فإني لأحسب انك لم تركب مركباً هو خير لك منه.....
فكلمه سعد وجعل يفتله بكل وجه.
فكان آخر ذلك أن قال عمار : والله لا أردهم عنه أبداً "

وقد بلغت حدة العداء بين الخليفة وعمار الى درجة ان معاوية بن ابي سفيان قد اختص عماراَ بتهديد صريح عام 34 للهجرة في معرض زيارته للمدينة واجتماعه مع عثمان وبقية الولاة . فقد روى ابن شبة في تاريخ المدينة" حدثنا علي بن محمد ، عن أبي دينار - رجل من بني دينار ابن النجار - ، عن أبي معبد الأسلمي ، عن قيس بن طلحة قال : خرج معاوية رضي الله عنه من عند عثمان رضي الله عنه فمر به نفر من المهاجرين فقال : استوصوا بشيخي هذا خيرا ، فوالله لئن قتل لا أعطيكم إلا السيف !
 ثم أتى عمارا فقال : أبا اليقظان ، إني تركت بالشام أكثر من عدد أهل الحجاز ، كلهم شجاع فارس ، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ، ويحج البيت ، لا يعرف عمارا ولا سابقته ، ولا عليا ولا قرابته ، فإياك أن تنجلي الغمة فيقال هذا قاتل عمار !
فقال : أبالقتل تخوفني ؟ والله يا بني أمية لا تسبوني ونقول أحسنتم"


واما من الروايات , فيمكن الاشارة الى ما ذكره أبو الغادية الجهني, وهو الشخص الذي قتل عمار بن ياسر في معركة صفين عام 36 للهجرة. فهو كان يفتحر لدى أسياده من بني أمية بأنه شخصياً قد خلصهم من "ابن سمية"! روى ابن سعد في الطبقات الكبرى عن كلثوم بن جبر أن أبا الغادية هذا قال " إنا كنا نعد عمار بن ياسر فينا حنانا. فبينا أنا في مسجد قباء إذ هو يقول ألا إن نعثلا هذا ,لعثمان, فالتفت, فلو أجدُ عليه أعوانا لوطئته حتى أقتله! قال قلت اللهم إنك إن تشأ تمكني من عمار فلما كان يوم صفين..."[39]
وروى ابن سعد أيضا " أخبرنا أبو حفص وكلثوم بن جبر عن أبي غادية قال: سمعت عمار بن ياسر يقع في عثمان يشتمه بالمدينة. قال فتوعدته بالقتل قلت لئن أمكنني الله منك لأفعلن"[40]
وقال الذهبي في تاريخ الاسلام بشأن أبي الغادية"وقال ابن عبد البر : أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام . وقال الدارقطني وغيره : هو قاتل عمار بن ياسر يوم صفين . وقال حماد بن سلمة : ثنا كلثوم بن جبر ، عن أبي الغادية قال : سمعت عمار بن ياسر يشتم عثمان ، فتوعدته بالقتل ، فلما كان يوم صفين طعنته ، فوقع ، فقتلته"

ورغم أن هناك احتمالاً أن يكون أبو الغادية حريصاً على نيل رضا الأسياد من بني أمية, من اجل الحظوة عندهم , عن طريق التأكيد على انه قتل عماراً "الذي كان يشتم عثمان", إلاّ أنه لا يوجد ما يمنع من أن عماراً كان بالفعل يقع في عثمان علناً في المدينة .

وكان ما جرى لأبي ذر الغفاري على يد عثمان سبباً إضافياً لمشكلة كبيرة بين عثمان وعمار , كادت أن تتطور لولا تدخل علي بن ابي طالب , وبني مخزوم . روى اليعقوبي في تاريخه:
"...فلما بلغ عثمانَ وفاة ابي ذر قال : رحم الله ابا ذر!
 قال عمار : نعم رحم الله ابا ذر من كل أنفسنا!
 فغلظ ذلك على عثمان . وبلغ عثمانَ عن عمار كلام , فأراد أن يسيره ايضاً.
 فاجتمعت بنو مخزوم الى علي بن ابي طالب وسألوه إعانتهم فقال علي : لا ندع عثمان ورأيه. فجلس عمار في بيته.
 وبلغ عثمانَ ما تكلمت به بنو مخزوم فأمسك عنه"

وقد روى ابن أعثم في كتاب الفتوح هذا الخبر كما يلي:
"وبلغ ذلك عثمان فقال : رحم الله يا أبا ذر !
فقال عمار بن ياسر : فرحم الله أبا ذر من كل قلوبنا !
قال : فغضب عثمان ثم قال : يا كذا وكذا أتظن أني ندمت على تسييره إلى ربذة ؟
 قال عمار : لا والله ما أرى ذلك !
قال عثمان : ادفعوا في قفاه ، وأنت فالحق بالمكان الذي كان فيه أبو ذر ولا تبرحه أبدا ما بقيت وأنا حي .
 فقال عمار : والله إن جوار السباع لاحب إلي من جوارك ، ثم قام عمار فخرج من عنده .
قال : وعزم عثمان على نفي عمار ، وأقبلت بنو مخزوم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالوا : إنه يا أبا الحسن قد علمت بأنا أخوال أبيك أبي طالب ، وهذا عثمان بن عفان قد أمر بتسيير عمار بن ياسر ، وقد أحببنا أن نلقاه فنكلمه في ذلك ونسأله أن يكف عنه ولا يؤذينا فيه ، فقد وثب عليه مرة ففعل به ما فعل وهذه ثانية ، ونخاف أن يخرج معه إلى أمر يندم ونندم نحن عليه ، فقال : أفعل ذلك فلا تعجلوا ، فوالله ! لو لم تأتوني في هذا لكان ذلك من الحق الذي لا يسعني تركه ولا عذر لي فيه .
قال : ثم أقبل علي رضي الله عنه حتى دخل على عثمان فسلم وجلس فقال : اتق الله أيها الرجل وكف عن عمار وغير عمار من الصحابة ، فإنك قد سيرت رجلا من صلحاء المسلمين وخيار المهاجرين الأولين حتى ملك في تسييرك إياه غريبا ، ثم إنك الآن تريد أن تنفي نظيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم !
 فقال عثمان : لانت أحق بالمسير منه ، فو الله ما أفسد علي عمارا وغيره سواك !
فقال علي رضي الله عنه : والله يا عثمان ! ما أنت بقادر على ذلك ولا إليه بواصل فروم ذلك إن شئت ، وأما قولك : إني أفسدهم عليك ، فوالله ما يفسدهم عليك إلا نفسك ، لأنهم يرون ما ينكروه فلا يسعهم إلا تغيير ما يرون .
 قال : ثم وثب علي رضي الله عنه فخرج واستقبله الناس فقالوا له : ما صنعت يا أبا الحسن ؟
فقال : صنعت إنه قال لي كذا وكذا وقلت له كذا ، فقالوا له : أحسنت والله وأصبت يا أبا الحسن ! فو الله لئن كان هذا شأن عثمان ورأيه فينا كلما غضب على رجل منا نفاه إلى بلد غير بلده فلا يموت أحد منا إلا غريبا في غير أهل ولا عشيرة ، وإلى من يوصي الرجل عند موته وبمن يستعين فيما ينويه ، والله ! لئن نموت في رحالنا خير لنا من حياة الأبد بالمكان الذي مات فيه أبو ذر رحمة الله تعالى .
 قال : ثم أقبل علي رضي الله عنه على عمار بن ياسر فقال له : اجلس في بيتك ولا تبرح منه ، فإن الله تبارك وتعالى مانعك من عثمان وغير عثمان ، وهؤلاء المسلمون معك ، فقالت بنو مخزوم : والله يا أبا الحسن ! لئن نصرتنا وكنت معنا لا وصل إلينا عثمان بشيء نكرهه أبدا .
وبلغ ذلك عثمان فكف عن عمار وندم على ما كان منه"

حادثة ضرب عمار

رغم أن الأخبار بشأن الخلافات الحادة بين عمار وعثمان قد انتشرت حتى بلغت حد التواتر, إلاّ أن شيوخ التاريخ كانوا أكثر تحفظاً في ذكر واقعة الضرب الجسدي الذي تعرض له عمار بن ياسر كعقاب له من الخليفة. فيبدو أن بعضهم قد رأى في هذه الواقعة ما يشين الخليفة عثمان, وبعضهم ربما رأى فيها ما يسيئ الى مقام الصحابة عموماً, فقرر الاعراض عنها.

ومع ذلك فيمكن الوصول الى تفاصيل ما حدث من خلال الكثير من المصادر.

ومن أكثر الروايات تفصيلاً في هذا الشان ما جاء في الإمامة والسياسة لابن قتيبة  :
 " اجتمع ناسٌ من أصحاب النبي (ص), فكتبوا كتاباً ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله وسنة صاحبيه.
وما كان من هِبته خمس افريقية لمروان وفيه حق الله ورسوله, ومنهم ذوو القربى واليتامى والمساكين.
وما كان من تطاوله في البنيان حتى عدّوا سبع دور بناها بالمدينة : داراً لنائلة وداراً لعائشة وغيرهما من أهله وبناته.
 وبنيان مروان القصور بذي خشب , وعمارة الأموال بها من الخمس الواجب لله ورسوله.
 وما كان من إفشائه العمل والولايات في أهله وبني عمه من بني أمية أحداث وغلمة لا صحبة لهم من الرسول(ص) ولا تجربة لهم بالأمور.
 وما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلى بهم الصبح وهو أمير عليها سكران أربع ركعات ثم قال لهم : إن شئتم أزيدكم صلاة زدتكم, وتعطيله إقامة الحد عليه وتأخيره ذلك عنه.
 وتركه المهاجرين والأنصار لا يستعملهم على شيء ولا يستشيرهم واستغنى برأيه عن رأيهم .
 وما كان من الحِمى الذي حَمى حول المدينة.
 وما كان من إدراره القطائع والأرزاق والأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي (ص), ثم لا يغزون ولا يذبون.
وما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط, وإنه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس, وإنما كان ضرب الخليفتين من قبله بالدرة والخيزران.

ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب بيد عثمان. وكان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود. وكانوا عشرة.

 فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان والكتاب بيد عمار, جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده. فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه , فأذِنَ له في يوم شاتٍ.
 فدخل عليه وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية.
فدفع إليه الكتاب. فقرأه. فقال له : أنت كتبتَ هذا الكتاب ؟
 قال : نعم.
 قال : ومَن كان معك؟
 قال : كان معي نفر تفرقوا فرَقاً منك.
 قال : مَن هم؟
 قال : لا أخبرك بهم.
 قال : فلِمَ اجترأتَ عليّ من بينهم؟
 فقال مروان : يا أمير المؤمنين! إن هذا العبد الأسود ( يعني عمارا ) قد جرّأ عليك الناس, وإنك إن قتلته نكلتَ به من وراءه.
 قال عثمان : اضربوه.
 فضربوه وضَرَبه عثمانُ معهم حتى فتقوا بطنه. فغشي عليه, فجرّوه حتى طرحوه على باب الدار.
 فأمرت به أم سلمة زوج النبي(ص) فأدخل منزلها"

والرواية هذه أخرجها ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح ضمن سياق إسناد جمعي نقلاً عن شيوخ الاخباريين :
"قال أبو محمد أحمد بن أعثم الكوفي حدثني أبو الحسين علي بن محمد القرشي قال حدثني عثمان بن سليم عن مجاهد عن الشعبي وأبي محصن عن أبي وائل ، وعلي بن مجاهد عن أبي إسحاق ، قال وحدثني نعيم بن مزاحم قال : حدثني أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي قال : وحدثني إسحاق بن يوسف الفزاري قال : حدثني أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب قال : حدثني لوط به يحيى بن سعيد الأزدي عن الحارث بن الحصين بن عبد الرحمن بن عبيدة والنضر بن صالح بن حسين بن زهير قال : وحدثني عمران بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن يزيد عن صالح بن إبراهيم وزيد بن عبد الرحمن الواقفي وعلي بن حنظلة بن أسعد الشامي وغير هؤلاء ذكروا هذا الحديث سرا وعلانية .
 وقد جمعت ما سمعتُ من رواياتهم على اختلاف لغاتهم فألفته حديثا واحدا على نسق واحد"

والنص هو:
"واجتمع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنهم كتبوا كتابا وذكروا فيه كل حدث أحدثه عثمان منذ يوم ولي الخلافة إلى ذلك اليوم ، ثم إنهم خوفوه في الكتاب وأعلموه [ أنه - ] إن لم ينزع عما هو عليه خلعوه واستبدلوا به غيره . قال : فكتبوا هذا الكتاب ثم قالوا ننطلق به جميعا حتى نضعه في يده ، فإننا إن ذهبنا نكلمه وليس معنا كتاب لم يحضرنا من الكلام ما نريد ، ثم أقبلوا على عمار بن ياسر وقالوا له : يا أبا اليقظان ! هل لك أن تكفينا هذا الامر وتنطلق بالكتاب إلى عثمان ؟ فقال عمار : أفعله.
 ثم أخذ الكتاب وانطلق إلى عثمان ، فإذا عثمان وقد لبس ثيابه وخفيه في رجليه ، فلما خرج من باب منزله نظر إلى عمار واقفا والكتاب في يده فقال له : حاجة يا أبا اليقظان ؟
 فقال عمار : مالي حاجة ولكنا اجتمعنا فكتبنا كتابا نذكر فيه أمورا من أمورك لا نرضاها لك ، قال : ثم دفع إليه الكتاب.
 فأخذه عثمان فنظر فيه حتى قرأ سطرا منه ، ثم غضب ورمى به من يده!
 فقال له عمار : لا ترم بالكتاب وانظر فيه حسنا فإنه كتاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا والله ناصح لك !
 فقال له عثمان : كذبت يا بن سمية !
 فقال عمار : أنا والله ناصح لك !
فقال عثمان : كذبت يا بن سمية !
فقال عمار : أنا والله ابن سمية وابن ياسر .
 قال : فأمر عثمان غلمانه ، فضربوه ضربا شديدا حتى وقع لجنبه ، ثم تقدم إليه عثمان فوطئ بطنه ومذاكيره ، حتى غشي عليه وأصابه الفتق ، فسقط لما به لا يعقل من أمر شيئا .
 قال : واتصل الخبر ببني مخزوم ، فأقبل هشام بن الوليد بن المغيرة في نفر من بني مخزوم فاحتملوا عمارا من موضعه ذلك وجعلوا يقولون : والله لئن مات الآن لنقتلن به شيخا عظيما من بني أمية ، ثم انطلقوا بعمار إلى منزله مغشيا عليه ، فلم يصل ظهرا ولا عصرا ولا مغربا ولا عشاء حتى ذهب بعض الليل ، ثم أفاق بعد ذلك من غشيته فقام فقضى ما فاته من صلواته كلها . قال : فكان هذا من إحداثه الذي نقموا عليه"

كما أورد ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح نصاً يلوم فيه الزبير بن العوام الخليفة عثمان على تصرفاته , وكان مما فيه " فما لك ولعمار بن ياسر أمرتَ بدوسِ بطنهِ حتى أصابَهُ الفتق ؟ فقال : لأنه أراد أن يغري الناسَ بقتلي"

وأخرج ابن عبد ربه في العقد الفريد القصة عن الاعمش كما يلي " كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه في صحيفة. فقالوا : من يذهب بها اليه؟ قال عمار : انا.
فذهب بها اليه فلما قرأها قال : أرغم الله أنفك!
قال : وبأنف ابي بكر وعمر.
قال : فقام اليه فوطئه حتى غشي عليه.
ثم ندم عثمان وبعث اليه طلحة والزبير يقولان له : اختر إحدى ثلاث: إما أن تعفو, وإما أن تأخذ الأرش, وإما أن تقتص.
فقال : والله لا قبلتُ واحدة منها حتى ألقى الله"

وأما البلاذري في أنساب الأشراف فيجعل سبب الضرب اعتراض عمار على سوء تصرف عثمان ببيت المال:
فعن أبي مخنف قال" كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر , فأخذ عثمانُ ما حلّى به بعض أهله. فأظهر الناسُ الطعنَ عليه في ذلك وكلموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه. فخطب فقال : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيئ وإن رغِمت أنوف أقوام!
فقال له علي: إذاً تُمنَعُ من ذلك ويُحال بينك وبينه .
وقال عمار بن ياسر : أشهدُ الله أن انفي اول راغم من ذلك.
فقال عثمان: أعَليَّ يا ابن المتكاء تجترئ؟! خذوه.
فأخذ , ودخل عثمانُ فدعا به فضربه حتى غُشي عليه . ثم أُخرِجَ فحُمِلَ حتى أُتي به منزل أم سلمة زوج رسول الله (ص) فلم يصلّ الظهر والعصر والمغرب . فلما أفاق توضّئ وصلى وقال : الحمد لله , ليس هذا اول يوم أوذينا فيه في الله.
وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي , وكان عمار حليفاً لبني مخزوم , فقال : يا عثمان , أما عليّ فاتقيتهُ وبني أبيه, وأما نحن فاجترأتَ علينا وضربتَ أخانا حتى أشفيتَ به على التلف. أما والله لئن مات لأقتلنّ به رجلاً من بني امية عظيم السرة! فقال عثمان : وإنك لها هنا يا ابن القسرية...."
وقد أتبع البلاذري هذه الرواية بأخرى تتحدث عن كتاب الاحتجاج الذي كتبه الصحابة وحمله عمارُ الى عثمان مما اغضبه "ثم ضربه عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق", ولكنه أخرج هذه الرواية بصيغة "ويُقال" مما يشي بتشككه بها.
واضاف البلاذري رواية ثالثة تجعل سبب الضرب هو قيام عمار بكتمان أمر وفاة ابن مسعود عن الخليفة وتوليّ الصلاة عليه مما أدى الى غضبه " فعندها وطئ عماراً حتى أصابه الفتق".  ولكنه أخرج هذه أيضاً بصيغة " وقد قيل". 

وأخرج ابن شبة في تاريخ المدينة عدة روايات عن حادثة ضرب عثمان. أحدها تقول انه ضربه عن قصد وعمد : فعن ابن سمعان "ان عثمان أمر بعمار بن ياسر فضرب في أمر نازعه فيه حتى أغمي عليه. فحمله زياد بن سمعان وناس معه الى بيت أم سلمة زوج النبي(ص) وهو لا يعقل. فصلى الناس الجمعة ثم صلوا العصر ولم يفق عمار ولم يصل حتى دنت الشمس أن تغرب. ثم أفاق قبل أن تغرب الشمس بقليل فصلى الاولى والعصر جميعا" . وأيضا عن المغيرة قال " اجتمع ناس فكتبوا عيوب عثمان – وفيهم ابن مسعود – فاجتمعوا بباب عثمان ليدخلوا عليه فيكلموه. فلما بلغوا الباب نكلوا إلاّ عمار بن ياسر فإنه دخل عليه فوعظه . فأمر به فضرب حتى فتق , فكان لا يستمسك بوله..."
وثانية تقول انه أمر بضربه بسبب فورة غضب وندم على ذلك: فعن سالم بن ابي الجعد "دعا عثمان رضي الله عنه ناساً من اصحاب رسول الله(ص) وفيهم عمار فقال : اني سائلكم : أنشدكم الله هل تعلمون ان رسول الله (ص) كان يؤثر قريشاً على سائر الناس ويؤثر بني هاشم على سائر قريش؟ فسكت القوم!
فقال : لو ان مفاتيح الجنة في يدي لأعطيتها بني أمية حتى يدخلوا من عند آخرهم. والله لأعطينهم ولأستعملنهم على رغم أنف من رغم!
فقال عمار : على رغم أنفي؟
قال : على رغم أنفك!
قال : وأنف ابي بكر وعمر؟
فغضب عثمان رضي الله عنه , فوثب اليه فوطأه وطأ شديداً, فأجفله الناس عنه.
ثم بعث الى بني أمية فقال : يا أخابث خلق الله ! أغضبتموني على هذا الرجل حتى أراني أهلكته وهلكتُ.
فبعث الى طلحة والزبير فقال : ما كان نوالي إذ قال لي ما قال إلاّ أن أقول له مثل ما قال, وما كان لي على قسره من سبيل. إذهبا الى هذا الرجل فخيراه بين ثلاث : بين ان يقتص أو يأخذ أرشاً أو يعفو.
فقال : والله لاأقبل منها واحدة حتى ألقى رسول الله(ص) فأشكوه إليه..."
والرواية الثالثة تقول ان عثمان لم يأمر بضرب عمار أصلاً , بل تم ذلك من دون علمه : فعن جهيم الفهري قال " أنا شاهدٌ للأمر : سعد وعمار, فأرسلوا لعثمان ان ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشياء أحدثتها وأشياء فعلتها.
فأرسل اليهم : أن انصرفوا اليوم فإني مشتغلٌ وميعادكم يوم كذا وكذا حتى أتشوف لكم.
فانصرف سعد وأبى عمار أن ينصرف. فتناوله رسول عثمان فضربه.
فلما اجتمعوا للميعاد ومن معهم قال لهم عثمان : ما تنقمون؟
قالوا : ننقم عليك ضربك عماراً.
فقال : جاء سعد وعمار فأرسلتُ اليهما فانصرف سعد وأبى عمار أن ينصرف, فتناوله رسولي عن غير أمري. فوالله ما أمرت ولا رضيتُ . فهذي يدي لعمار فليصطبر. قال ابو محصن : يعني ليقتص"

واما ابن عبد البر في الاستيعاب فلم تذكر روايته صراحة أن عثمان قد أمر بضرب عمار, واكتفت بإثبات حادثة الاعتداء وتحميل بني مخزوم المسؤولية لعثمان " وللحلف والولاء اللذين بين بني مخزوم وبين عمار وأبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم الى عثمان , حين نالَ من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب, حتى انفتق له فتق في بطنه, ورغموا وكسروا ضلعاً من أضلاعه. فاجتمعت بنو مخزوم وقالوا : والله لئن مات لا قتلنا به أحداً غير عثمان"

وقد ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة نقلا عن المرتضى في معرض ردّه على من أنكر ضرب عمار " أما الدفع لضرب عمار , فهو كالإنكار لطلوع الشمس ظهورا وانشاراً وكل من قرأ الأخبار وتصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة ولا مدافعة, وهذا الفعل – أعني ضرب عمار – لم تختلف الراوة فيه, وإنما اختلفوا في سببه.." ثم تابع ابن أبي الحديد في ذكر الروايات المختلفة التي وردت في سبب ضربه والتي يمكن تلخيصها كما يلي :
-         رواية أبي مخنف التي فيها أن عثمان أخذ جواهر وحلياً كانت في بيت المال وحلى بها بعض أهل بيته, فاعترض عليه قومٌ بشدة , وخاصة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر, فغضب عثمان كثيراً وقال لعمار بالذات " أعلي يا بن ياسر تجترأ ؟! خذوه , فأخذ . فدخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه" وبعدها أخذ وعولج في بيت أم سلمة. وأن هشام بن الوليد المخزومي غضب وقال لعثمان انه اتقى عليا بينما اجترأ على بني مخزوم وحليفهم عمار وهدده بقتل رجل من بني أمية إن مات عمار. وأن عائشة أيضا غضبت لعمار وقالت " ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم, وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد"
-         " وروى آخرون " ان السبب كان أن عثمان اكتشف أن عماراً قد تولى الصلاة على عبد الله بن مسعود ودفنه دون إبلاغه فغضب لذلك " وعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق"
-         " وروى آخرون " ان المقداد وعمار وطلحة والزبير وعدة من أصحاب رسول الله (ص) كتبوا كتابا عددوا فيه احداث عثمان وخوفوه وأن عمارا حمل الكتاب لعثمان فأثار غضبه لاجترائه عليه " فأمر عثمان غلمانا له, فمدوا بيديه ورجليه, ثم ضربه عثمان برجليه – وهي في الخفين على مذاكيره – فأصابه الفتق, وكان ضعيفا كبيرا فغشي عليه "
و في موضع آخر روى ابن ابي الحديد نقلا عن الاستيعاب لابن عبد البر " نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب , حتى انفتق له فتق في بطنه, زعموا, وكسروا ضلعا من أضلاعه"


الروايات المدافعة عن عثمان

بالاضافة الى الرواية التي ذكرها ابن شبة عن جهيم الفهري , والتي تفيد بأن رسول عثمان قد ضرب عماراً بدون إذن,
روى الذهبي في سير اعلام النبلاء نقلاً عن ابي عوانة في مسنده" أن عمارا قال لعثمان: حملتَ قريشا على رقاب الناس . عدوا عليّ فضربوني!
فغضب عثمان ثم قال: مالي ولقريش؟ عدوا على رجل من أصحاب محمد (ص) فضربوه. سمعتُ النبي(ص) يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية. وقاتله في النار"
وقال ان ابا عوانة روى ذلك من طريق الاعمش عن زيد بن وهب, وايضا من طريق سالم بن ابي الجعد عن محمد بن الحنفية.
ولا يخفى طبعا ان هذه الرواية مصممة للدفاع عن عثمان. ولو سلمنا بما فيها جدلا, فلماذا لم ينصف عثمانُ عماراً من قريش الذين اعتدوا عليه؟ ومن هم قريش هؤلاء المشار اليهم؟

وكعادته في الدفاع عن عثمان وسياسته , قام سيف بن عمر بابتكار سبب لتفسير عداء عمار للخليفة. فقد روى الطبري في تاريخه بشأن عمار" كان بينه وبين عباس بن عتبة بن ابي لهب كلام.
فضربهما عثمان. فأورث ذاك بين آل عمار وآل عتبة شراً حتى اليوم"
وهكذا يريد سيف ان يختزل كل مواقف عمار بحقد شخصي ناتج عن عقوبة بحقه قررها الخليفة بسبب مشكلة تشاتم مع عباس بن عتبة!

وقد اعتمد ابن كثير, الأموي الهوى, على هذه الرواية في سياق انتقاده لعمار بن ياسر ومواقفه تجاه عثمان , فقال عن عمار في البداية والنهاية:" وكان متعصبا على عثمان بسبب تأديبه له فيما تقدم على أمر , وضربه اياه في ذلك, وذلك بسبب شتمه عباس بن عتبة بن ابي لهب, فأدبهما عثمان , فتآمر عمار عليه لذلك وجعل يحرض الناس عليه.."


الفصل السادس : الاثراء الفاحش في عهد عثمان[41]

قرار اقتصادي خطير

وتنبغي الإشارة إلى قرار مهم اتخذه عثمان , يتعلق بالسياسة المتبعة بشأن أراضي البلاد المفتتحة, وكان له تأثير على العرب المقيمين في العراق خاصة. فقد قرر عثمان السماح لمن كان يمتلك أراض في الحجاز أو اليمن باستبدالها بأراض في البلاد المفتتحة, بعد أن يتنازل لبيت المال عنها.
ذكر الطبري في تاريخه عن رواية لسيف بن عمر " ان عثمان جمع اهل المدينة فقال : يا أهل المدينة ان الناس يتمخضون بالفتنة , وإني والله لأتخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله اليكم إن رايتم ذلك , فهل ترونه حتى يأتي من شهد مع اهل العراق الفتوح فيه فيقيم معه في بلاده.
فقام اولئك وقالوا : كيف تنقل لنا ما أفاء الله علينا من الارضين يا أمير المؤمنين ؟
فقال: نبيعها ممن شاء بما كان له بالحجاز.
ففرحوا ..."
ورغم أني لم أجد هذه الرواية لدى مصدر آخر غير سيف بن عمر, إلاّ أنه ليس هناك سبب لردها. بل هي تلقي الضوء على طريقة الاثراء الفاحش الذي ميز العديد من كبار الصحابة, كما سيأتي.
وبما أن عددا كبيرا من أبناء قبيلة قريش, بمن فيهم صحابة كبار, وزعماء قبائل أخرى, يمانية وقيسية, كانوا يمتلكون اراض كثيرة في الحجاز واليمن, بعضها موروث, وبعضها مكتسب عن طريق التجارة, وبعضها نصيبهم من الغنائم من أيام الرسول (ص) والخليفتين من بعده ( مثلا في منطقة خيبر), وبعضها من هبات وأعطيات عثمان بن عفان, فقد فتح الخليفة أمامهم آفاقاً هائلة للغِنى والثراء الفاحش. فالأراضي في داخل الجزيرة العربية كانت في أغلبها فقيرة وغير منتجة, ولا تقارن أبدا بالأراضي الغنية والخصبة في بلاد الرافدين, حيث البساتين والغابات في ضفاف الفرات ودجلة.
وقام عدد كبير من القرشيين والزعماء القبائليين باستغلال قرار الخليفة إلى الحد الأقصى. فتملكوا مساحات شاسعة من أراضي "السواد" في الكوفة وغيرها من المنطق العراقية. وأصبح عدد من الصحابة من أمثال طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام من كبار الأثرياء والرأسماليين الذين تنهال عليهم الأموال من تلك الممتلكات الجديدة في العراق. وهناك روايات كثيرة جدا تصف مدى الغنى الفاحش الذي صاروا يرفلون فيه, حتى وهم يقيمون في المدينة المنورة, دون الحاجة إلى الإقامة في العراق. وطبعاً كان لبني أمية, من أمثال مروان بن الحكم, وللقرشيين بشكل عام, نصيب الأسد من هذه الامتيازات.
يتابع سيف روايته السابقة " وكان طلحة بن عبيد الله قد استجمع له عامة سهمان خيبر الى ما كان له سوى ذلك . فاشترى طلحة منه من نصيب من شهد القادسية والمدائن من أهل المدينة ممن أقام ولم يهاجر الى العراق النشاستج بما كان له بخيبر وغيرها من تلك الاموال . واشترى من بئر اريس شيئا كان لعثمان بالعراق.
واشترى منه مروان بن الحكم بمال كان له , أعطاه اياه عثمان, نهرَ مروان, وهو يومئذ اجمة
واشترى منه رجال من القبائل بالعراق بأموال كانت لهم في جزيرة العرب من اهل المدينة ومكة والطائف واليمن وحضرموت . فكان ممن اشترى منه الاشعث بمال كان له في حضرموت ما كان له بطيزناباذ"
ولا بد من ملاحظة كيفية اثراء ابن عم الخليفة في قول الراوي عن مروان " بمال كان له, أعطاه اياه عثمان". وهذا يعني ببساطة ان الخليفة أعطى ابن عمه أموالاً, وليس معروفاً تبرير ذلك إلا صلة الرحم, فقام هذا بدوره باستبدالها بمصالح في العراق فأصبح له نهر يعرف باسمه هناك!


ثروات الصحابة في عهد عثمان

ومن أبرز الامثلة على هؤلاء المستفيدين كان طلحة بن عبيد الله, الصحابي الكبير الذي استغل حكمَ عثمان بن عفان كثيراً , فبلغت ثروته أرقاماً خيالية , فهو استفادَ من حركة الفتوحات ليكتسب قصوراً وضياعاً وأراضٍ, خاصة في العراق.
ورد في الطبقات الكبرى لابن سعد:
عن الواقدي " كان طلحة بن عبيد الله يغل بالعراق ما بين اربعمائة ألف الى خمسمائة ألف , ويغل بالسراة عشرة آلاف دينار أو أقل أو أو أكثر. وبالاعراض له غلات . وكان لا يدع أحدا من بني تيم عائلاً إلاّ كفاه مؤونته ومؤونة عياله وزوج أياماهم وأخدم عائلهم وقضى دين غارمهم . ولقد كان يرسل الى عائشة اذا جاءت غلته كل سنة بعشرة آلاف . ولقد قضى عن صبيحة التيمي ثلاثين ألف درهم"
وعن الواقدي ايضا " كانت قيمة ما ترك طلحة بن عبيد الله من العقار والاموال وما ترك من الناض ثلاثين ألف ألف درهم, ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار, والباقي عروض"
وعنه أيضاً " قتل طلحة بن عبيد الله يرحمه الله وفي يد خازنه الفا الف درهم ومائتا ألف درهم . وقومت اصوله وعقاره ثلاثين ألف الف درهم"
وعنه ايضا " قال عمرو بن العاص : حدثت ان طلحة بن عبيد الله ترك مائة بهار , في كل بهار ثلاث قناطر ذهب. وسمعتُ ان البهار جلد ثور"

روى الذهبي في سير أعلام النبلاء :
عن ابن عيينة " كانت غلة طلحة كل يوم ألفُ وافٍ."
وعن الحسن البصري " ان طلحة بن عبيد الله باع ارضاً له بسبع مئة ألف. فبات أرقاً من ذلك المال , حتى أصبح ففرقه"
وعن الواقدي "عن موسى بن طلحة أن معاوية سأله : كم تركَ أبو محمد من العين؟
قال : ترك ألفي ألف درهم ومئتي ألف درهم. ومن الذهب مئتي ألف دينار
فقال معاوية : عاش حميداً سخياً شريفاً , وقتل فقيداً , يرحمه الله "
والوافي : درهم وأربعة دوانق

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر عن رواية ابن سعد عن الواقدي, عن موسى بن طلحة ان معاوية سأله " كم ترك ابو محمد يرحمه الله من العين؟ قال : ترك الفي ألف درهم ومائتي ألف دينار . وكان ماله قد اغتيل كان يغل كل سنة من العراق مائة ألف سوى غلاته من السراة وغيرها. ولقد كان يدخل قوت أهله بالمدينة سنتهم من مزرعته بقناة كان يزرع على عشرين ناضحاً . وأول من زرع القمح بقناة هو...."
وذكر ابن عساكر ايضا رواية الزبير بن بكار " أتي طلحة بن عبيد الله من النساسق بالعراق خمس مائة ألف درهم . فقسمها حتى أتى على آخرها وهو في حنيف" وروى عن عمرو بن دينار " كان غلة طلحة بن عبيد الله كل يوم ألف واف"

وكذلك كان الزبير بن العوام من كبار الأثرياء والرأسماليين وأصحاب المصالح في عهد عثمان.
وقد جاء في صحيح البخاري تفاصيل ثروة الزبير التي أورثها بعد مقتله, وهي تحتوي على غابة كان الزبير قد اشتراها  بسبعين ومائة ألف وباعها ابنه عبد الله بألف ألف وستمائة ألف, بالإضافة إلى إحدى عشرة داراً بالمدينة ودارين بالبصرة وداراً بالكوفة وداراً بمصر وأنه ".. كان للزبير أربع نسوة , ورُفع الثلث, فأصاب كل امراة ألف ألف ومائتا ألف, فجميعُ ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف"
وقد قدم ابن كثير في البداية والنهاية (ج7 ص278) حسبة تفصيلية أدق من حسبة البخاري لثروة الزبير عند مقتله . فقال عنه " وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جداً . لما كان يوم الجمل أوصى الى ابنه عبد الله فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتا ألف فوفوها عنه , وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به, ثم قسمت التركة بعد ذلك, فأصاب كل واحدة من الزوجات الاربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف درهم. فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف واربعمائة ألف . والثلث الموصى به : تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف . فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين الف ألف وثمانمائة ألف .
وانما نبهنا على هذا لأنه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي ان ينبه له . والله اعلم"
ويبدو ان ابن كثير قد لاحظ مدى ضخامة هذه الثروة وعظمها , فقرر ان يعللها لكي يزيل من ذهن القارئ أي شك بشأن مصدرها, فقال " وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة , والمآثر الغزيرة مما أفاء الله عليه من الجهاد , ومن خمس الخمس ما يخص أمه منه , ومن التجارة المبرورة من الخلال المشكورة . وقد قيل انه كان له ألف مملوك يؤدون اليه الخراج . فربما تصدق في بعض الايام بخراجهم كلهم رضي الله عنه وأرضاه"

 ولم يشر ابن كثير الى أنه كانت تنهال عليه عطايا بني أمية  أيام عثمان بلا حساب. فمثلا ورد في تاريخ دمشق لابن عساكر, أن الزبير قدِم مرةً الكوفة فأعطاه واليها الأموي سعيد بن العاص 700 ألف درهم ,فأخذها, فقال له الوالي " لو كان في بيت المال أكثر منها لبعثتُ بها إليك". وأعطاه عثمان مرةً 600 ألفٍ من مال أصبهان.

وروى ابن سعد في الطبقات الكبرى بعض مظاهر ثراء عبد الرحمن بن عوف:
عن الواقدي " ترك عبد الرحمن بن عوف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة بالبقيع ومائة فرس ترعى بالبقيع. وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً , وكان يدخل قوت أهله من ذلك سنة"
وعن حماد بن زيد " ان عبد الرحمن بن عوف توفي وكان فيما ترك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه . وترك أربع نسوة فأخرجت امرأة من ثمنها بثمانين ألفا"
وعن الواقدي قال " أصاب ماضر بنت الاصبغ ربع الثمن فأخرجت بمائة ألف وهي إحدى الأربع"
وروى أحمد بن حنبل في مسنده أن عبد الرحمن قال لأم سلمة " قد خفتُ أن يهلكني كثرة مالي. أنا أكثر قريش مالاً"

وقال ابن الأثير  في ترجمته في أسد الغابة  :
"وكان عظيمَ التجارة, مجدوداً فيها, كثيرَ المال.
قيل أنه دخل على أم سلمة, فقال : يا أمَه, خفتُ أن يُهلكني كثرة مالي "
وقال ايضاً :
 "... فكثر ماله حتى قدمت له سبعمائة راحلة تحمل البر وتحمل الدقيق والطعام. فلما دخلت المدينة سمع لأهل المدينة رجة . فقالت عائشة : ما هذه الرجة؟ فقيل لها : عير قدمت لعبد الرحمن بن عوف سبعمائة بعير تحمل البر والدقيق والطعام . فقالت عائشة : سمعتُ النبي(ص) يقول : يدخل عبد الرحمن بن عوف الجنة حبواً . فلما بلغ ذلك عبد الرحمن قال : يا أمة ! اني أشهدكِ أنها بأحمالها وأحلاسها وأقتابها في سبيل الله عز وجل"
وقال عنه ايضاً :
" وخلّفَ مالاً عظيماً من ذهب قطع بالفؤوس حتى محلت أيدي الرجال منه. وترك ألف بعير ومائة فرس وثلاثة ألف شاة ترعى بالبقيع. وكان له أربع نسوة, أخرجت إمرأة بثمانين ألفاً. يعني صولحت "

وأما ابن كثير في البداية والنهاية , فبعد أن روى عن الزهري واحمد بن حنبل قصة السبعمائة العير المحملة التي تبرع بها في سبيل الله أضاف " ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار – وكانوا مائة – فأخذوها حتى عثمان وعلي, وقال علي : اذهب يا ابن عوف فقد أدركتَ صفوها وسبقتَ زيفها. وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول : سقاه الله من السلسبيل. وأعتق خلقاً من مماليكه, ثم ترك بعد ذلك كله مالاً جزيلاً, من ذلك ذهبٌ قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال. وترك ألف بعير ومائة فرس وثلاثة آلاف شاة ترعى بالبقيع . وكان نساؤه أربعاً فصولحت إحداهن من ربع الثمن بثمانين ألفاً"

وقال عنه المسعودي في مروج الذهب " ابتنى داره ووسعها . وكان على مربطه مائة فرس, وله ألف بعير وعشرة آلاف شاة من الغنم. وبلغ بعد وفاته رُبُعُ ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا"[42]

و " ثروة " علي بن ابي طالب ؟! 
أنقل هنا بعضا مما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية. وابن كثير كما هو معلوم اموي الهوى, وهو آخر من قد يُتهم بالتشيّع لعلي بن ابي طالب . فما يذكره بشأن فضائل علي يمكن اعتباره الحد الأدنى , أو غيض من فيض.
فهو قال ان علياً لم يبنِ البيوت ولا القصور " وقال ابو نعيم : سمعتُ سفيان الثوري يقول : ما بنى عليٌ لبنة ولا قصبة على لبنة"
وهو ذكر ان علياً ما كان عنده من الثياب ما يقيه برد شتاء العراق " قال ابو عبيد : حدثنا عباد بن العوام , عن مروان بن عنترة, عن ابيه قال : دخلتُ على عليّ بن ابي طالب بالخورنق, وعليه قطيفة, وهو يرعد من البرد فقلتُ : يا أمير المؤمنين ان الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيباً في هذا المال , وأنت ترعد من البرد؟ فقال : اني والله لا أرزأ من مالكم شيئاً. وهذه القطيفة هي التي خرجتُ بها من بيتي – أو قال من المدينة"
كما ذكر أنه كان يشتري القميص بثلاثة دراهم ! فعن ابن عباس " اشترى علي قميصاً بثلاثة دراهم وهو خليفة, وقطع كمّه من موضع الرسغين, وقال : الحمد لله الذي هذا من رياشه"
بل انه ذكر أن علياً كان ربما يضطر الى بيع سيفه ليشتري بعض ما يرتديه ! فعن مجمع بن سمعان التيمي قال " خرج علي بن ابي طالب بسيفه الى السوق فقال : من يشتري مني سيفي هذا ؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً ما بعته"

وذكر ابن الاثير في اسد الغابة ان الحسن بن علي ذكر ان أباه لم يترك إلاّ 600 درهم , اشترى بها خادماً.

ورغم ذلك, فعلي كان له مال بينبُع. فالمصادر حافلة بالاشارة الى ذهاب علي المتكرر الى " مال له بينبع" , وخاصة تلك التي تتحدث عن حصار عثمان ومقتله. ويبدو ان علياً كان يذهب الى "ماله بينبع" كلما رغب في الابتعاد عن عثمان لغضبه عليه أو إحباطه من سياسته. وينبع كما هو معلوم تقع الى الشمال من جدة على البحر الاحمر.
ولكن, ماذا كان ذلك المال الذي له بينبع؟

من أكثر المصادر تفصيلاً في هذا الشأن كتاب تاريخ المدينة لعمر بن شبة:

" وكانت أموال علي رضي الله عنه عيونا متفرقة بينبع, منها عين يقال لها " عين البحير" وعين يقال لها " عين أبي نيزر" وعين يقال لها " عين نولا" , وهي اليوم تدعى العدر وهي التي يقال ان عليا رضي الله عنه عمل فيها بيده. وفيها مسجد النبي(ص) متوجهه الى ذي العشيرة يتلقى عير قريش...
وعمل علي رضي الله عنه ايضا بينبع " البغيبغات" , وهي عيون منها عين يقال لها " خيف الاراك" ومنها عين يقال لها " خيف ليلى"  ومنها يقال لها " خيف بسطاس" فيها خليج من النخل مع العين"

ويذكر ابن شبة ثلاث روايات بشأن كيفية تملك تلك الأرض في ينبع :
الأولى تقول ان تلك الأرض كان رسول الله (ص) قد أقطعها لابن أخي كشد الجهني فاشتراها منه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الانصاري بثلاثين ألف درهم, ولكنه كرهها بسبب ريحها الشديدة فعرضها على علي بن ابي طالب " فهل لك أن تبتاعها؟ قال علي: قد أخذتها بالثمن. قال : هي لك. فخرج اليها علي رضي الله عنه. فكان أول شيء عمله فيها البغيبغة, وأنفذها"
وفي الرواية الثانية "ان عمر رضي الله عنه قطع لعلي رضي الله عنه ينبع, ثم اشترى علي رضي الله عنه الى قطيعة عمر أشياء, فحفر فيها عيناً"
وفي الثالثة  " أقطع النبي (ص) علياً رضي الله عنه بذي العشيرة من ينبع , ثم أقطعه عمر رضي الله عنه بعد ما استخلف إليها قطيعة, واشترى علي رضي الله عنه اليها قطعة, وحفر بها عيناً"

وتجمع راويات ابن شبة ان علياً لم يكن يستفيد هو شخصيا من تلك الاموال بل كان رصدها في سبيل الله :  روايتان متشابهتان عن جعفر بن محمد (الامام الصادق), نص أحدهما" بشر علي رضي الله عنه بالبغيبغة حين ظهرت فقال : تسر الوارث. ثم قال : هي صدقة على المساكين وابن السبيل وذي الحاجة الأقرب"
وتقول أخرى (عن محمد بن كعب القرظي)" ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل, القريب والبعيد, وفي الحياة والسلم والحرب. ثم قال : صدقة لا توهب ولا تورث, حتى يرثها الله الذي يرث الارض ومن عليها , وهو خير الوارثين"
ويمكن الشك في عبارة "صدقة لا توهب ولا تورث" الواردة في رواية محمد بن كعب القرظي. فربما المقصود منها تأييد الخلفاء (لاحقاً) في حرمان ورثة علي من حقهم فيها.
فالأرجح أن علياً قد وقف ذلك الماء بينبع على الفقراء مع احتفاظه بحق الملكية, أي أنه لم يتنازل عنها لبيت المال. ومما يدل على ذلك ما رواه ابن شبة نفسه " وكانت البغيبغات مما عمل علي رضي الله عنه وتصدق به. فلم تزل في صدقاته حتى أعطاها حسينُ بن علي ابنَ عبد الله بن جعفر بن ابي طالب , يأكل ثمرها ويستعين بها على دينه ومؤونته , على ألاّ يزوج ابنته يزيدَ بن معاوية بن ابي سفيان " . ويدعم ذلك رواية لابن حجر العسقلاني تشير الى أن علياً أباح للحسن والحسين بيعها إن دعتهم الحاجة لذلك , ولكن الحسين رفض بيعها لمعاوية رغم عرضه المغري. 
 فقد ذكر ابن حجر العسقلاني في الاصابة في ترجمة أبي نيزر , نقلاً عن كتاب الكامل للمبرد أنه " كان يقوم بضيعتي علي اللتين في البقيع , تسمى أحدهما البغيبغة, والاخرى عين أبي نيزر" وأضاف ان علياً " وقفهما على فقراء المدينة وابن السبيل , إلاّ أن يحتاج الحسن أو الحسين فهما طلق" وأضاف " وفي آخر الخبر ان الحسين احتاج لاجل دين عليه , فبلغ ذلك معاوية فدفع له في عين أبي ميزر مائة ألف, فأبى أن يبيعها وأمضى وقفها"
ورواية المبرد هذه ,التي ذكرها ابن حجر, تتكلم عن ممتلكات لعلي في البقيع, أي في المدينة المنورة. ولكن الصحيح والشائع ان " البغيبغة" و"عين أبي نيزر" هي في ينبع . وذلك مشهور وخاصة فيما يتعلق بالبغيبغة.

على أن الامام علي كان له بعض الممتلكات في مناطق أخرى , سوى ينبع. روى ابن شبة:
" وكان له ايضا صدقات بالمدينة : " الفقيرين" بالعالية , و"بئر الملك" بقناة, و "الادبية" بالاضم"
وفي وادي القرى " عين ناقة" و " عين موات"
وفي مكان وعر بين المدينة والشام يدعى " حرة الرجلاء" كان له "واد يدعى الاحمر, شطره في الصدقة وشطره بأيدي آل مناع من بني عدي , منحة من علي" و "واد يقال له البيضاء فيه مزارع وعفا, وهو في صدقته. وله ايضا بحرة الرجلاء أربع آبر يقال لها "ذات كمات" و " ذوات العشراء" و " قعين" و "رعوان" فهذه الآبر في صدقته"
وقريباً من ذلك المكان, ناحية فدك, له مال يقال له " القصيبة" و " واد بين لابتي حرة يدعى " رعية" فيه نخل ووشل من ماء يجري على سقا بزرنوق, فذلك في صدقته"

والمتأمل في "ممتلكات" الامام علي هذه , يرى أن معظمها يقع في المناطق التي كانت لليهود, مثل وادي القرى وقرب فدك. ولم يذكر ابن شبة كيفية تملك الامام علي لها. ولكن يبدو أنها كانت من نصيبه من الفتوحات أيام النبي(ص). كما يلاحظ انها في معظمها عيون ماء وآبار. والظاهر أن الامام علي كان يحرص على حفر الآبار ليحيي تلك الارض ويجعلها ذات قيمة وفائدة ثم يتصدق بها . قال ابن شبة " لما أشرف علي رضي الله عنه على ينبع , فنظر الى جبالها قال : لقد وضعت على نقى من الماء عظيم"

وبخلاف غيره من كبار الصحابة القرشيين , لم يرد أبداً ما يشير الى ممتلكات لعلي في العراق أو غيره من البلاد المفتتحة. وطبعاً لا يوجد أي حديث عن غابات وأنهار أو آلاف العبيد الذين يؤدون خراجهم له أو يعملون لحسابه, ولا عن ذهب متكدس لديه, ولا عن مئات الجمال ولا قوافل محملة له.   كل ما تذكره المصادر هو إشارات متفرقة الى ممتلكات بسيطة (عيون ماء وآبار استصلحها بنفسه) جلها من العهد النبوي.

ومن المؤكد أن الامام علياً كان معارضاً لسياسة الطبقة الأموية الحاكمة التي تسيطر على ثروات هائلة من موارد الأمصار, وكان الصرف يتم بلا حساب لمن شاء الخليفة وولاته. وكان نصيب كبار الصحابة من عطاياهم وافراً. فتلك التصرفات كانت تثير حفيظة علي بن ابي طالب وغضبه , رغم محاولاتهم استرضاءه . ومن ذلك ما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق من رواية ابن سعد " وقدم سعيد بن العاص المدينة وافداً على عثمان. فبعث الى وجوه المهاجرين والانصار بصلات وكسا. وبعث الى علي بن ابي طالب أيضاً فقبل ما بعث به اليه . وقال علي : ان بني أمية ليفوقوني تراث محمد تفويقاً ! والله لئن بقيتُ لهم لأنفضنهم من ذلك نفضَ القصابِ الترابَ الوذمة"
ويمكن التحفظ على فقرة " فقبل علي ما بعث به اليه", فهي تتناقض مع سياق الرواية نفسها : فكيف يقبل عطايا بني أمية وهو يتوعدهم؟!




[1] مصادر هذا البحث : نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج1 ص35),  شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج8 ص 255و ص259) و (ج8 ص302-303) و (ج9 ص2-30), تاريخ المدينة لابن شبة (ج3 ص1044-1048), الامامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص51), تاريخ الطبري (ج3 ص377), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج39 ص263-266) , البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص188), كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ( ج 2 ص378- ص380 وص 392), مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي (ج 2 , ص268) و صحيح البخاري (ج2 باب التمتع والاقران من كتاب الحج) و أنساب الأشراف للبلاذري (ج6 ص147+ ص99)

[2] و" أبو تراب" هو اللقب الذي سيعتمده معاوية بن أبي سفيان وجماعته لوصف علي بن أبي طالب وشتمه .
[3] نافجاً حضنيه : رافعاً لهما. والحضن : ما بين الإبط والكشح. يقال للمتكبّر : جاء نافجاً حضنيه. ويقال مثله لمن امتلأ بطنه طعاماً. والنثيل : الروث. والمعتلف : موضع العلف. والخضم : الأكل بأقسى الأضراس أو ملء الفم بالمأكول. انتكث فتله : انتقض. والبطنة : البطر والأشر والاسراف في الشبع. وكبت به : من كبا الجواد إذا سقط لوجهه.
[4] وقد أخرج ابن كثير في البداية والنهاية هذه الرواية عن الواقدي في سياق كلامه عن سنة 34 للهجرة , حين كثر كلام الناس وانتقادهم لعثمان فطلبوا من علي أن يكلم عثمان.

[5] سيأتي الحديث مفصلاً حول ابن مسعود ومشاكله مع عثمان والوليد
[6] العباس هو خال عثمان مجازاً, لأنه ليس أخا أمه, بل أخو جدته. فأم عثمان هي أروى بنت كريز – من بني عبد شمس. ولكن امها – أي جدة عثمان- هي البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم. وقد ذكر البلاذري في أنساب الأشراف انها كانت الاخت التوأم لعبدالله والد النبي(ص). ولذلك كان عثمان كثيراً ما يخاطب العباس بصيغة الخال.
[7] ورواية ابن ابي الحديد الاخيرة هذه التي أسندها الى الشعبي أخرجها ايضاً ابن أعثم الكوفي بإسناده الجمعي في كتاب الفتوح  بنفس العبارات تقريباً , وفيها كلام المغيرة الوقح الموجه الى علي " والله ! لتكفن عنه شئت أو أبيت ، وهو والله أقدر عليك منك عليه"


[8] بل إن حدة الخلاف بينهما تعدت المواقف السياسية والنظرة الى طريقة ادارة الدولة فوصلت الى القضايا الدينية والشرعية. وهناك نص في صحيح البخاري (ج2 باب التمتع والاقران من كتاب الحج) يشير بوضوح الى أن علياً لم يكن يعترف بعثمان كمصدر للفتوى الشرعية ولم يكن يتردد في مخالفته بشكل علني :
"سمعتُ عثمان وعلياً بين مكة والمدينة , وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما .
 فلما رأى ذلك علي أهلّ بهما جميعاً قائلاً : لبيك عمرة وحجة معاً.
فقال عثمان : تراني انهى الناسَ عن شيئ وتفعله انت ؟
فقال علي : لم أكن لأدع سنة رسول الله (ص) لقول أحد من الناس "

[9] قال له علي بن أبي طالب في أحد المواقف " أما رضيتَ من مروان ولا رضي منك الاّ بتحرّفك عن دينك وعن عقلك . مثل جمل الظعينة يُقاد حيث يُسار به.
 والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه ... أذهبتَ شرفك وغلبتَ على أمرك " كما روى الطبري في تاريخه (ج3 ص397)
[10] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج3 الصفحات 335-337, 368, 378, 399, 430),  صحيح البخاري ( باب قصة زمزم ج4 ص221) و( باب ما أدى زكاته فليس بكنز ج2 ص133) , (ج1 ص27 باب العلم قبل القول والعمل), سنن ابن ماجه ج1 ص55, سير أعلام النبلاء للذهبي (ج2 الصفحات 62, 65, 68-69, 74, 77), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج8 الصفحات 246, 253, 257, 258, 259, 260, 261, 262 و ج13 ص228), تاريخ المدينة لابن شبة النميري (ج3 الصفحات 1034-1041), المستدرك على الصحيحين للحاكم (ج3 ص343), علل الدارقطني (ج6 ص236), أنساب الأشراف للبلاذري (ج6 ص171) , البيان والتبيين للجاحظ (ج3 ص122), سنن الدارمي ( ج1 ص136), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص 171-172), الطبقات الكبرى لابن سعد ( ج4 ص226-230) و ( ج2 ص354), فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر (ج1 ص148), البداية والنهاية لابن كثير ( ج7 ص185), صحيح ابن حبان (ج15 ص58), السيرة النبوية لابن هشام (ج4 ص139) , نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج2 ص178)ومسند أحمد بن حنبل (ج1 ص63)
[11] رواه ايضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء بعبارات قريبة
[12] ومثال على ذلك ما رواه الطبري في تاريخه عن عبيد الله بن عامر " كنتُ أفطر مع عثمان في شهر رمضان , فكان يأتينا بطعام هو ألين من طعام عمر. قد رأيتُ على مائدة عثمان الدرمك الجيد, وصغار الضأن كل ليلة. وما رأيتُ عمر قط أكل من الدقيق منخولاً ولا أكل من الغنم إلاّ مسانّها"
[13] ونفس هذه الرواية اخرجها الذهبي في سير اعلام النبلاء.
[14] وقد ذكر اليعقوبي في تاريخه هذه الرواية , باختصار, وفيها " بنو أمية" بدلاً من " بنو أبي العاص"

[15] نفل الناس أي أفسدهم              
[16] ويلاحظ خلو الرواية من تفاصيل الكلام المتبادل بين معاوية وابي ذر.
[17] بلغت شهرة حادثة النفي تلك إلى حد أنه حتى ابن اسحاق قد ذكرها في السيرة النبوية بقوله " لما نفى عثمانُ أبا ذر إلى الربذة, وأصابه بها قدره, لم يكن معه احد إلاّ امرأته وغلامه ... " في السيرة النبوية لابن هشام

[18] وهذه الرواية اخرجها أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء .
[19] ويمكن التحفظ على وجود عقيل بن ابي طالب ضمن المودعين لأبي ذر مع أخيه علي وبنيه وعمار (كما في هذه الرواية). فعقيل لم يعرف عنه نشاط يذكر في تحدي عثمان أو الاعتراض على سياساته.
[20] وفي موضع آخر , أعلن الطبري أنه قرر الإعراض عن ذكر كثير من الأسباب التي كانت وراء الثورة التي أدت إلى قتل عثمان. فقال " فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها" ولم يوضح ماهية تلك العلل, إلاّ أنه من الواضح أن ذلك يندرج في نطاق سعيه للدفاع عن عثمان.
[21] تقول روايات البلاذري في أنساب الاشراف انه توفي سنة 31
[22] مصادر هذا البحث : السيرة النبوية لابن هشام (ج1 ص232), صحيح البخاري ( باب مناقب عبد الله بن مسعود ج5 ص35), سنن الترمذي باب مناقب عبد الله بن مسعود (ج5 ص 338 رقم 3898), أسد الغابة  لابن الاثير (ج3 ص256 و ص260)  , الطبقات الكبرى لابن سعد (ج3 ص150) و (ج3 ص161), مسند الامام أحمد بن حنبل (ج1 ص450), العقد الفريد لابن عبد ربه ( ج5 ص56), تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري (ج3 ص1049 و ص 1006 و ص1051 و ص1050), التاريخ الصغير للامام البخاري (ج1 ص106), طبقات خليفة بن خياط (ص47), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص171 و ص170), البداية والنهاية  لابن كثير ( ج7 ص183 ), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج33 ص136-137-183-188 -191) و (ج63 ص240 و ص243), سير أعلام النبلاء للذهبي (ج1 ص473-499), فتح الباري لابن حجر (ج7 ص45) و كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ( ج 2 - ص 393 ) و أنساب الأشراف للبلاذري (ج6 ص140)
[23] روى مثل هذه الرواية أيضاً ابن عساكر في تاريخ دمشق
[24] وقد تطرقنا سابقاً الى الروايات التي تحدثت عن خلاف الخليفة عثمان مع خازن بيت المال عبد الله بن الارقم والذي استقال احتجاجاً على سياسة عثمان المالية. وتلك الروايات فيها عبارات مشابهة لهذه المنسوبة الى ابن مسعود هنا " انما أنت خازن لنا ... والقاء المفاتيح". ولكن لا مانع من قبول الروايتين لأن ابن الارقم كان خازن بيت المال في المدينة بينما ابن مسعود كان خازن بيت مال الكوفة. وليس غريباً تشابه رد الفعل من قبل الرجلين لأن ذلك متوقع من الموظف المخلص الامين تجاه تجاوزات الحاكم.
[25] وحسب تاريخ اليعقوبي ينحصر سبب الخلاف بين ابن مسعود وعثمان في مسالة حرق المصاحف. فهو لم يتحدث عن مشاكل ابن مسعود مع الوليد. وربما يرجع ذلك الى ميل اليعقوبي للاختصار والتلخيص والتركيز على ما هو أشهر.
[26] تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري
[27] ذكر البخاري في التاريخ الصغير أن زيد بن ثابت شهد الخندق وكان ابن خمس عشرة.
[28] وهذا يدل على خشيتهم أن يناله سوء, رغم ان ابن الاثير لم يوضح سبب ذلك
[29] ومن قبيل الامانة العلمية ذكر ابن الاثير الرواية الأخرى المصممة للدفاع عن الخليفة, ولكنه ذكرها بصيغة تشي بتشككه بها "وقيل : بل كان عبد الله ترك العطاءَ استغناءً عنه"
[30] لم يوضح ابن سعد هنا طبيعة المشكلات بين الخليفة وابن مسعود.
[31] ونفس هذه الرواية أخرجها ابن عساكر أيضاً عن طريق الفضل بن دكين عن حفص بن غياث عن هشام بن عروة بن الزبير
[32] ويلاحظ هنا خطأ الرواي في ذكر عبد الله بن عامر الذي كان والياً على البصرة, لا الكوفة.
[33] تاريخ المدينة المنورة لابن شبة النميري
[34]وأيضاً روى خليفة بن خياط في طبقاته أن الزبير بن العوام هو الذي صلى على ابن مسعود بعد وفاته.
[35] والذهبي أيضاً (في سير أعلام النبلاء) روى عن سيف بن عمر ما يشير الى ان ابن مسعود كان قد ترك عطاءه طواعية "ان ابن مسعود ترك عطاءه حين مات عمر" دون أن يذكر السبب الذي يجعله يأخذ عطاء عمر ويرفضه في زمن عثمان؟
[36] مصادر هذا البحث : السيرة النبوية لابن هشام (ج2 ص122), الطبقات الكبرى لابن سعد (ج3 ص260), سنن الترمذي (ص 332 ج5 باب مناقب عمار بن ياسر حديث3888) , تاريخ اليعقوبي (ج2 ص172), المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3 ص391), الإمامة والسياسة لابن قتيبة  (ج1 ص 50), العقد الفريد لابن عبد ربه (ج5 ص57), ترجمة علي بن ابي طالب في أنساب الأشراف للبلاذري ( ص315), أنساب الأشراف للبلاذري (ج6 ص162) ,شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ( ج3 ص48) و( ج10 ص102), تاريخ المدينة لابن شبة (ج3ص1091-ص1098 و ص1099-1102), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج1 ص420), تاريخ الطبري (ج3 ص394 و ص 428), كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي ( ج 2 – ص372- ص373- 393), الاصابة لابن حجر العسقلاني (ج7 ص259), تاريخ الإسلام للذهبي ( ج 4 - ص 135), والاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ( ص481), والبداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص191)
[37] سنن الترمذي باب مناقب عمار بن ياسر
[38] روى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين حادثة نزاع بين خالد بن الوليد وعمار وصفَ خلالها خالدٌ عماراً بأنه " ابن سمية " وأن رسول الله(ص) أجابه " يا خالد : لا تسُب عماراً, فإنه مَن يسُب عماراً يسبّه الله ومَن يبغض عماراً يبغضه الله ومَن يسفه عماراً يسفهه الله"
[39] وأخرج البلاذري في أنساب الأشراف هذه الرواية بسنده الى كلثوم بن جبر نفسه , وفيها ان أبا الغادية قال هذا الكلام بحضرة عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز بواسط القصب.
[40] وقد روى ابن حجر العسقلاني في الاصابة هاتين الروايتين عن ابي الغادية نقلا عن يعقوب بن شيبة واحمد بن حنبل وابن سعد , من طريق كلثوم بن جبر أيضا. 
[41] مصادر هذا البحث: تاريخ الطبري (ج3 ص333), الطبقات الكبرى لابن سعد (ج3 ص221-222 وص136), صحيح البخاري ) ج4 ص106( , سير أعلام النبلاء للذهبي ( ج1 ص33), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج25 ص103) و( ج21 ص451 وص114 وص123) , البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص 278 وص184) و (ج8 ص4), مسند أحمد بن حنبل  ( ج6 ص290), أسد الغابة لابن الاثير (ج3 ص315-317 ) و(ج4 ص24), تاريخ المدينة لعمر بن شبة (ج1 ص219-225), الاصابة لابن حجر العسقلاني(ج7 ص343)  و مروج الذهب للمسعودي (ج2 ص262)
[42] ومن المثير فعلاً مقارنة ما تركه طلحة والزبير وعبد الرحمن من أموال, مع ما تركه صحابيٌ كبير آخر من ذوي الأصل المتواضع . فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق أن تركة سلمان الفارسي لدى وفاته لم تزد على ثلاثين درهماً !