ليس ممكناً تصوّر أن يمرّ حدثٌ جللٌ بقدر قتل خليفة المسلمين دون تداعيات
وعواقب خطيرة. كان من المؤكد أن مشاكل كبيرة جداً ستندلع, لأن عثمان كان يترأس
دولة مترامية الأطراف, وقد رسّخ فيها جهازاً إدارياً وعسكرياً قوياً عمادُه
أقرباؤه من بني أمية .
وكان الهدوء الظاهر الذي أعقب بيعة عليّ في المدينة مجرّد سكون مؤقت ناتج
عن الترقب لما ستستقر عليه الأمور بعد التطورات الأخيرة. ولكن السماء كانت
ملبدة بالغيوم, والعواصف تموج تحت السطح. والانفجار كان مسألة وقت ليس إلاّ.
ولكن المفاجأة كانت في الجهة التي صدرت منها المبادرة ! فأولُ تحركٍ لم
يأتِ من الأقاليم , ولا من رجالات عثمان. لقد صدر إعلان التمرد والانشقاق من زوجة
الرسول(ص), وابنة الخليفة الأول, أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر.
الفصل الأول : خصومُ عليّ , الخلفيات[1]
عائشة
: إعطاء الشرعية للتمرّد
لعبت
أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر دوراً محورياً
في أول فتنة واقتتال داخليّ وحربٍ
أهلية في الإسلام, وهي ما تعرف بحرب الجمل. ولذا فإن الحديث عن شخصية عائشة
وخلفيتها ضروري للغاية.
فلا
شك أن عائشة كانت تتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الفطنة والذكاء. وهي كانت على مستوىً عالٍ
من الإلمام بعلوم اللغة والأدب والشعر وتاريخ العرب. وفي أواخر عمرها أصبحت عالمةً
فقيهة ومفتية يرجع إليها كثير من الصحابة والتابعين فيما يشكل عليهم من مواضيع
الفقه والأحكام. وقد تصدّت عائشة للرواية عن النبي(ص) , خاصةً وقد طال بها العمر
كثيراً, فكانت من أكثر الذين رووا أحاديث عن الرسول(ص).
وكانت عائشة أكثر من غيرها من نساء النبي(ص) إدراكاً ووعياً
للجهد السياسي الهائل الذي كان يبذله الرسول(ص). فخلال الفترة التي كان فيها
النبي(ص) متزوجاً من عائشة, كان
في ذات الوقت يبني دولته , ويقوم بدور الرئيس فيها. كانت عائشة تشاهد
الرسول(ص) بأم عينيها وهو يستقبل وفود
القبائل, وهو يرسل البعوث, وهو يجهز الجيوش , وهو يعيّن الولاة, وهو يعقد
التحالفات, وهو يبرم العهود.
ولذا
يمكن القول أن البعد السياسي في شخصية عائشة يعود في جذوره إلى الفترة النبوية.
آمنت عائشة أن دين محمد(ص) لم يكن مجرّد دعوةٍ إيمانيةٍ محضة, وأنه لا يكفي للمسلم
أن يكون مؤمناً بالغيبيات وعقيدة النبي(ص), بل لا بد من ربط ذلك كله بدورٍ سياسي
دنيوي.
وبخلاف
زوجات النبي(ص) الأخريات, اللواتي ارتضينَ أن يكنّ بلا دورٍ سياسيٍ يُذكر والاكتفاء بالبقاء على ذكرى رسول
الله(ص) وعهده من بعده, كانت عائشة ذات همّةٍ عالية. فهي لم ترضَ إلاّ أن يكونَ
لها دور مهمٌ وكلمةٌ مسموعةٌ بين المسلمين , وخاصةً حين تأصّلت أسباب النزاع
والشقاق بينهم وبدأت نذر الحرب الأهلية تلوح
في الأفق. وربما كانت عائشة تشعر بنوعٍ من المسؤولية تجاه " أبنائها
" وبأنّ عليها واجباً في
رعايتهم وتوجيههم إلى ما تراه خيراً لدين محمد(ص) ودولته من بعده.
وبحكم
كونها ابنة أبي بكر, صاحب النبي(ص) القديم وشيخ المهاجرين القرشيين, فلا شك أنها
كانت قريبةً مما كان يدور في أوساط المهاجرين القرشيين وعقلهم المفكّر عمر بن الخطاب, من تدوالٍ ونقاشٍ حول شؤون
الحكم والقيادة من بعد النبي(ص), وخاصةً في السنتين الأخيرتين من حياته(ص).
ومن
المؤكد ان عائشة تابعت بكل تركيزٍ واهتمام ذلك الخلاف الخطير الذي حصل بعد وفاة
الرسول(ص) وفرحت لنجاح أبيها وعمر في مسعاهما لفرض رؤيتهما للحُكم وإرساء مبدأ
تداول الخلافة ما بين المهاجرين القرشيين.
البُعد
الشخصي في موقف عائشة
والعامل الشخصي له دور. فالمؤشرات كلها ترجح أن عائشة كان
لديها حساسية , بالمعنى السلبي, تجاه أهل بيت النبي(ص) وبالتحديد خديجة وفاطمة
وعلي. فمشاعرها الذاتية, النافرة من عليّ, ساهمت أيضاً في صقل إرادتها وعزمها على
التمرد.
وقد روى المحدثون ما يوضح تلك
الغيرة الشديدة التي كانت تشعر بها عائشة تجاه خديجة بنت خويلد, رغم كونها متوفية
منذ سنوات عديدة. وربما فاقمَ من حدة موقفها تجاه خديجة بالتحديد, ما كانت تراه من
حب الرسول(ص) لابنته منها : فاطمة. كما كانت عائشة تعرف بالتأكيد مدى حب الرسول(ص)
لعليّ والخصال المجتمعة فيه والتي جعلته يطرَحُ نفسَه, ويطرحَهُ آخرون, كمنافس
لأبيها عند توليه الخلافة, وأنه كان بما يمتلكه من فضل وثقل في الإسلام يمثل
عنصرَ تشكيك رئيسيّ, إن لم يكن الوحيد, في شرعية خلافة أبيها.
كما أن عليّ بن أبي طالب , بمواقفه
القديمة من عائشة , لم يقدم لها ما يساعدها على التخلص من نظرتها السلبية له.
فعندما حصلت حادثة الإفك, كان لعليّ رأيٌ لا يمكن أن يُمحى من ذاكرتها. فقد روى البخاري أن رسول الله(ص) لمّا كثر الكلام وإلاشاعات والشبهات حول عائشة وشرفها, صار متضايقاً جداً
من الأمر إلى حد أنه أرسلَ عائشة إلى بيت أبيها إلى أن يأتيه الوحي بشأنها. وخلال
ذلك استشار علياً بشأنها, فقال له " يا رسول الله! لم يضيّق الله عليك. والنساء
سواها كثير"[2]
فلم يكن موقف عائشة السلبي تجاه
شخص عليّ أمراً طارئاً استجدّ بعد مقتل
عثمان, بل كان يعود إلى سنين طويلة . وكان عليّ
يعرف أنها تبغضه هو خاصّة. وقد عبّر عن ذلك مرة بقوله " ... وأمّا
فلانة فأدركها رأي النساء, وضغنٌ غلا في صدرها كمَرجل القين, ولو دُعِيَت لتنالَ
من غيري ما أتت إليّ لم تفعل, ولها بعدُ حرمتها الأولى. والحساب على الله
تعالى "[3]
خلفيات موقف طلحة والزبير
كان
طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام من المهاجرين الأولين الذين شهدوا الإنجاز
النبوي منذ بداياته إلى نهايته. وهما أصغر سناً من الرسول(ص) وأبي بكر, وبالتالي
هما من نفس جيل عليّ بن أبي طالب تقريباً.
وينتمي
طلحة إلى البطن التيميّ من قريش , نفس بطن أبي بكر, ويبدو أنه بالتالي كان يعتبر
نفسه وريثاّ طبيعياّ للخليفة الأول. ورغم
انه لم يشهد بدراً , إلاّ أنه شهد أحُداً,
وتوجد عدّة روايات تفيد أنه
أبلى بلاءً حَسَناً يومها. وكان تحالفه مع ابنة عمه عائشة أمراً طبيعياً جداً. فهو
كان من المتحمسين لمنهج أبي بكر وعمر تجاه عليّ وبني هاشم.
وأما
الزبير فهو من بطن أسد بن عبد العزى من قريش. وهو يمتّ بصلة القرابة إلى الرسول(ص)
من جهة الأم. فهو ابن صفية بنت عبد المطلب بن هاشم, وهو بالتالي ابن عَمّة
النبي(ص) وعليّ. وكان الزبير مشهوراً بالشجاعة والفروسية.
كان
لنظام الشورى الذي ابتكره عمر بن الخطاب عواقب بعيدة المدى. فهو لم يؤدّ فقط إلى
النتيجة المباشرة المتمثلة باختيار عثمان خليفة عقب عمر, ولكنه أيضاً أدّى إلى أن هؤلاء الأشخاص الذين أدخلهم
عمر في لجنة الشورى السداسية, أصبحوا يرون أنفسهم أنداداً
كاملي
الندّية لعليّ بن ابي طالب.
ومن
الطبيعي أن كلاً من الزبير وطلحة كان يشعر في قرارة نفسه أنه ليس
أقل شأناً من
عثمان بن عفان في معايير الاسلام.
وإذا كانا كلاهما يعرفان تماماً
أنهما بعيدان كثيراً عن مؤهلات عليّ الشرعية ومزاياه الفريدة, فكذلك كان
عثمان ؟!
فبالنسبة
لطلحة والزبير, أصبح الموضوع الآن هو الدفاع عن المبدأ الذي اعتمَدَه عمرُ
وأقرّته قريش
: الخلافة مناطة باتفاق كبار المهاجرين القرشيين , وما عليّ إلاّ واحدٌ منهم. وما دام الأمر كذلك فهما يريان نفسيهما أهلاً للحكم. وكان الزبير وطلحة واثقين تماما
ان من يتصدى منهما للخلافة سيجد قريشاً
خلفه حتماً , ما دام الخصمُ هو عليّ! فقريشٌ لا
تستسيغ علياً ولا تطيقه وتعتبر ان وصوله للخلافة نوع من هيمنة بني هاشم بالنظر الى
ان النبي(ص) هو ايضا من بني هاشم. فوصول علي للخلافة هو بنظر قريش كسرٌ للتوازن
الذي كان قائماً بين بطونها لصالح عائلة بذاتها – بني هاشم- وهذا ما لا يجوز.
ومن
المهم هنا ملاحظة مدى التأثير الذي تركته فكرة عمر بشأن الشورى.
ففيما يتعلّق بالزبير بن العوام, تقول المصادر
التاريخية انه كان من ضمن المسلمين الذين رفضوا تعيين أبي بكر خليفة وأصرّوا على
أحقّية عليّ بن أبي طالب بها. وكان ممن التجؤوا إلى بيت عليّ وفاطمة ورفضوا بيعة
الخليفة الجديد[4]. أي أن
الزبير كان محسوباً على عليّ وآل
البيت, ولم يكن يتصور نفسه غير تابع له. إلى أن
جاء عمر بن الخطاب ليقول للزبير : انهض , فلستَ
دون عليّ بشيء, ولكَ أن تساميه
وتعلو عليه!
وسوف يقول طلحة بن عبيد الله مباشرة لعليّ إنه نقضَ بيعته وتمرّد عليه استناداً إلى
قانون عمر بن الخطاب , الذي أصبح مقدساً بنظره , وسوف يحتج عليه به :
" ... كنا في الشورى ستة. فمات اثنان.
وقد كرهناكَ . ونحن ثلاثة...."[5]
الفصل الثاني : بدء التحرّك العملي ضد
عليّ
روى
البلاذري وابن الاثير:
"
إن الناس لما بايعوا علياً بالمدينة بلغ عائشة أن الناس بايعوا لطلحة. فقالت :
إيه ذا الإصبع لله أنت! لقد وجدوك لها محشا.
وأقبلت جذلة
مسرورة حتى إذا انتهت إلى سرف استقبلها عبيد بن مسلمة فسألته عن الخبر.
قال : قتلَ الناسُ عثمان.
قالت : نعم.
ثم صنعوا ماذا ؟
قال : خيراً. حارت بهم الأمور إلى خير محار. بايعوا
ابنَ عم نبيهم علياً.
فقال لها :
ولِمَ ؟ والله ما أرى اليوم في الأرض مثله. فلمَ تكرهين سلطانه؟
فلم ترجع
إليه جواباً
ورجعت إلى مكة فأتت الحجر فاستترت فيه وجعلت تقول : إنا عتبنا على عثمان في أمور
سميناها له ووقفناه عليها, فتابَ
منها واستغفرَ ربه
فقبل المسلمون منه ولم يجدوا من ذلك بداً. فوثب عليه مَن إصبعٌ من أصابع عثمان خيرٌ منه فقتله. فقتل والله وقد ماصوه كما يُماص الثوب الرحيض , وصفوه كما يصفى القلب
"[8]
وما
يلفت النظر في قولها هو "أوفعلوها", فكأن الناس ارتكبوا محرماً ببيعة عليّ ! وهي تتمنى لو أن السماء
انطبقت على الأرض إن كان عليّ تولّى خلافة المسلمين.
وهذا النص يشير أيضاً إلى أن موقفها السلبي من خلافة
عليّ كان منذ اليوم الأول لبيعته, ولم يكن ناتجاً عن تطورات لاحقة.
قرار عائشة
قررت
أم المؤمنين أن
الأمور وصلت إلى درجةٍ لا يمكن قبولها من الانحراف عن منهاج أبيها وعمر بن الخطاب,
وبالتالي هي لن تسمح لعليّ بن أبي طالب بأن ينقض المبدأ الذي أرساه أبوها وعمر.
فالخلافة لا تكون الاّ بإجماع المهاجرين القرشيين, ذلك هو الأساس , وهو ما لم يحصل
في حالة عليّ. وقد أثبتت الانتصارات
والفتوحات صواب ذلك المبدأ بنظر أم المؤمنين. وهي مستعدّة لفعل كل شيئ في سبيل
استرجاع النظام الذي أسسه ابو بكر وعمر , والذي يقوم عليّ بالفعل بتغييره حين قبل
ان تكون بيعته تمت رغماً عن ارادة كبار المهاجرين القرشيين ودون موافقتهم. وكان
المحيطون بالخليفة عليّ بن أبي طالب, الخليط المتمرّد من ابناء قبائل عربية عديدة
بعيدةٍ عن قريش وتراثها, مما يزيد في
تصميم عائشة على الذهاب إلى آخر الشوط في تصدّيها للوضع القائم الجديد من أجل
تغييره.
كانت
عائشة تدرك أن ما تقوم به من تمرّدٍ وانشقاق أمر غير مسبوقٍ في الإسلام, خاصةً
وانه يصدر عن امرأة. فلم يسبق في تاريخ
العرب أن تزعّمت النساءُ وتصَدّينَ للقيادة والريادة. فتلك شؤون
الرجال ولم تكن النساء عند العرب سوى " عَيْبةٍ " يجب صونها و " حُرْمةٍ
" يجب حفظها.
وكانت
عائشة, وكل الذين شايعوها وساروا تحت لوائها, يعلمون أن
بروز أم المؤمنين على مسرح الأحداث, وظهورها بشخصها في الأمصار البعيدة عن المدينة
المنورة أمام المسلمين العاديين طالبةً منهم العون والنصرة, من شأنه أن يثير أقصى
درجات البلبلة والصدمة والذهول لديهم. فلا شك أن عامة المسلمين سيعتبرون أن
أمراً"هائلاً وفظيعاً " قد جرى, مما دفع أم المؤمنين , زوجة الرسول(ص) وحَرَمه,
إلى الخروج والانغماس في الصراع. وسيكون من الصعب على عامة المسلمين أن يتركوا
" ثِقلَ رسول الله " دون أن يجيبوها.
فشلت عائشة في استدراج بقية أمهات
المؤمنين إلى حركتها[9]
وكانت
عائشة قد حاولت جرّ بقية أزواج
النبي(ص) إلى حركتها المعادية للخليفة عليّ
بن أبي طالب. فأرسلت إليهنّ ودعتهنّ إلى
الانضمام إليها في التمرد عليه.
واستجابت لها من بينهن, وكما هو متوقع,
حفصة بنت عمر التي أرادت الرحيل معها[10] لولا أن أخاها عبد الله بن عمر , الذي كان
مصمماً على موقفه السلبي من كل ما يجري , تدخّل
ومنعها من ذلك. وأما بقية الزوجات فقد عارضنَ
بشدة تمرّد
عائشة, بل وأرسلنَ إليها وطالبنها
بالقرار في بيتها احتراماً لرسول الله(ص) وعهده. ومن بينهنّ كانت أم سلمة
الأكثر غضباً على عائشة وكتبت إليها تذكرها بالمنزلة العظيمة التي يتمتع بها
علي بن أبي طالب في الإسلام,
وبأن خروجها الى البصرة خطأ لا يجوز أن يصدر عن زوجةٍ للرسول(ص), كما وجهت أم سلمة[11] خطابها
الى المسلمين كافة وقالت " ايها
الناس : آمركم بتقوى الله , وان كنتم تابعتم علياً فارضوا به , فوالله ما أعرف في زمانكم خيراً منه "[12].
وفي
الإمامة والسياسة لابن قتيبة رسالة
طويلة بعثتها أم سلمة إلى عائشة لما بلغها أنها تنوي الخروج على عليّ والشخوص إلى
البصرة طلبت منها فيها عدم هتك حجاب رسول الله
وترك عهده. وهذا نصها:
" وذكروا انه لما تحدث الناس بالمدينة بمسير عائشة مع طلحة والزبير , ونصبهم
الحرب لعلي, وتألفهم الناس, كتبت أم سلمة الى عائشة :
أما بعد : فإنك سدة بين رسول الله وبين أمته , وحجابك مضروبٌ على حرمته.
قد جمع القرآن الكريم ذيلك فلا تندحيه[13],
وسكّن عقيرتك[14]
فلا تصحريها. الله من وراء هذه الأمة , قد علم رسول الله مكانك لو أراد أن يعهد
اليك. وقد علمتِ ان عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال , ولا يرأب بهن إن انصدع.
حماديات[15]
النساء غض الأبصار وضمّ الذيول . وما كنتِ قائلة لرسول الله (ص) لو عارضك بأطراف
الجبال والفلوات, على قعود من الابل, من منهل الى منهل ؟ ان بعين الله مهواك, وعلى
رسول الله(ص) تردين , وقد هتكتِ حجابه الذي ضرب الله عليك, وتركت عهيداه.
ولو أتيتُ الذي تريدين, ثم قيل لي ادخلي الجنة لاستحييتُ أن ألقى الله
هاتكة حجاباً قد ضربه عليّ!
فاجعلي حجابك الذي قد ضرب عليك حصنك. فابغيه منزلاً لك حتى تلقيه. فإن أطوع
ما تكونين إذا ما لزمته, وأنصح ما تكونين إذا ما قعدتِ فيه . ولو ذكرتكِ كلاماً
قاله رسول الله(ص) لنهشتني نهش الحية. والسلام.
فكتبت اليها عائشة: ما أقبلني لوعظك, وأعلمني بنصحك! وليس مسيري على ما
تظنين. ولنعم المطلع مطلعٌ فزعت فيه إليّ فئتان متناجزتان. فإن أقعد ففي غير حرج,
وإن أخرج فإلى ما لا غنى بي عن الازدياد منه. والسلام"[16]
وكذلك في كتاب الفتوح لابن
اعثم خبر محاولة عائشة اقناع ام سلمة بالخروج الى البصرة ورفض ام سلمة
الشديد[17] .
ولم
تكتفِ أم سلمة بذلك بل إنها , بعد ذلك, قالت لعليّ حين كان يستعد للخروج إلى
العراق" يا أمير المؤمنين! لولا أن
أعصي الله عز وجل, وإنك لا تقبله مني, لخرجت معك. وهذا ابني عمر والله لهو أعز
عليّ من نفسي يخرج معك فيشهد مشاهدك"[18]
وفي
رواية ابن ابي الحديد نقلا عن هشام
الكلبي ان ام سلمة كتبت الى عليّ " ,,, ولولا ما نهانا الله عنه من
الخروج, وأمرنا به من لزوم البيت, لم أدعْ الخروج اليك والنصرة لك. ولكني
باعثة نحوك ابني , عدل نفسي, عمر بن ابي سلمة فاستوصِ به يا أمير المؤمنين خيرا"
خروج طلحة والزبير من المدينة[19]
مكث
الزبير وطلحة في المدينة المنورة لبضعة أشهر بعد بيعة علي بن أبي طالب. فقد أسقط في أيديهما لأن علياً قد بويع بالفعل , والتحرك
العملي ضده أمرٌ صعبٌ ويحتاج إلى مالٍ ورجالٍ وحشدٍ وتخطيط, مما لم يكن متاحاً
لهما على الفور. فكان لا بد من فترةٍ
استكشافية للعهد الجديد وتوجهاته, لعلهما ينجحا
في التفاهم مع عليّ على ترتيبٍ معين يضمن لهما نوعا من تقاسم السلطة مع الخليفة و
يحافظ على وضعهما العالي في الدولة .
ولكن يبدو أن الأمور لم تكن تسير كما رغبا.
فقد بدأ يظهر ان علياً ليس مستعداً لإشراكهما معه في
الحكم , بل على العكس كان ينوي في الواقع ابعادهما عن مركز القيادة وصنع القرار.
ويبدو
أن الرجلين قد بذلا محاولةً أخيرةً
للتفاهم مع عليّ بن أبي طالب والتوصل إلى صيغةٍ مقبولةٍ تضمن لهما استمرار وضعهما العالي والمتميز, ولكن المحاولة
باءت بالفشل. فقد وردت روايات تشير إلى أن طلحة والزبير طالبا علياً بتوليتهما
مناصب عالية في الدولة , ولكنه رفض. روى صاحب الامامة والسياسة :
"... فلما استبان لهما أن علياً غيرُ مولّيهما شيئا أظهرا الشكاة......فانتهى قولهما إلى
عليّ .
فدعا عبدَ الله بن عباس, وكان استوزره, فقال له : بلغكَ قول هذين الرجلين؟
قال : نعم بلغني قولهما .
قال : فما ترى ؟
قال : أرى أنهما أحبا الولاية. فولّ البصرة
الزبير, وولّ طلحة الكوفة فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من
عثمان.
فضحك
عليّ ثم قال : ويحك! إن العراقين بهما الرجال والأموال, ومتى تملكا رقاب
الناس يستميلا السفيه بالطمع, ويضربا الضعيف بالبلاء, ويقويا على القوي بالسلطان.
ولو كنتُ مستعملا أحداً لضرّه ونفعه
لاستعملتُ
معاوية على الشام. ولولا ما ظهر لي من حرصهما على
الولاية لكان لي فيهما رأي"[20]
وروى البلاذري في انساب الاشراف عن طريق الزهري " سأل طلحة والزبير علياً أن يوليهما البصرة
والكوفة. فقال : تكونان عندي فأتجمل بكما, فإني أستوحش لفراقكما"
وانا اعتقد انه لو كان الزبير وطلحة قد طالبا فعلا
بولاية البصرة والكوفة فإن ذلك لا يعدو كونه "اختبار" أو جسّ نبض لعليّ
وطريقة حكمه ونظرته الى دورهما في إدارته الجديدة, وليس هدفاً بحد ذاته. فالرجلان
طموحهما أعلى من ذلك حيث كانا يعتبران نفسيهما ندّين لعليّ وليس ولاة له.
وبالاضافة الى ذلك فان الزبير وطلحة قد
أغضبهما قرار عليّ في أول عهده بالمساواة التامة بين المسلمين في قسمة الأموال[21],
فقال لهما :
"
.. وأمّا ما ذكرتما من أمر الأسوة فانّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي , ولا
وليته هوى منّي . بل وجدتُ أنا
وأنتما ما جاء به رسول الله(ص) قد فرغ منه , فلم أحتج
إليكما فيما فرغ الله من قسمه وأمضى فيه حكمه , فليس لكما والله عندي ولا لغيركما
في هذا عتبى .. "[22]
ولا
عجبَ من
غضب الزبير وطلحة ورفضهما لقرار عليّ , ففي عهد عثمان صارا من كبار الأثرياء
والرأسماليين وأصحاب المصالح.[23]
وكان
فشل الرجلين في التوصل إلى تفاهمٍ مع عليّ يقوم على أساس صيغةٍ من الحكم الجماعي
وتقاسم المناصب, قد قوّى لديهما القناعة بأن القطيعة مع عليّ وحكمه ستكون نهائية.
فكل ما صدر عن عليّ حتى الآن لا يسرهما.
فإلى جانب رفضه منحهما أي تميز , فهما يريان أن علياً
أصبح أقرب إلى " الغوغاء والأعراب " الذين داهموا المدينة , منه إلى
كبار الصحابة! ولم يعد الوضع في المدينة يطاق بالنسبة إليهما, فقررا وضع عليّ أمام
مسؤولياته كخليفة وطالباه بتطبق الحدود على القاتلين.
روى ابن كثيرفي
البداية والنهاية:
" ولما استقر أمر بيعة عليّ, دخل عليه
طلحة والزبير ورؤوس الصحابة رضي الله عنهم, وطلبوا منه إقامة الحدود , والأخذ
بدم عثمان.
فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مددٌ وأعوان , وأنه لا يمكنه ذلك يومه
هذا.
فطلب منه الزبير أن يوليه إمرة الكوفة ليأتيه
بالجنود, وطلب منه طلحة أن يوليه إمرة البصرة ليأتيه منها بالجنود ليقوى بهم على
شوكة هؤلاء الخوارج وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه.
فقال
لهما : مهلاً
عليّ حتى أنظر
في هذا الأمر".
وفي
رواية نهج البلاغة ان علياً أجابَ الذين طالبوه بمعاقبة قتلة عثمان " ,,,,
فاصبروا حتى يهدأ الناسُ وتقع القلوب مواقعها, وتؤخذ الحقوق مسمحة. فاهدأوا
عني وانظروا ماذا يأتيكم به أمري ,,,"
ويبدو
أن ذلك الطلب الذي تقدما به لعليّ, رغم علمهما بعدم إمكانيته من الناحية العَملية, كان بمثابة " الإعذار
" لعليّ, أمام نفسيهما على الأقل,
قبيل شروعهما في تنفيذ مشروعهما الانشقاقي.
وعندئذ
طلب الزبير وطلحة من عليّ السماح لهما بالخروج إلى مكة[24]
" من أجل أداء العمرة ". فوافق عليّ.
لماذا سمح عليّ لطلحة والزبير بالخروج من المدينة تحت ذريعة العمرة؟ ألم يكن مدركاً للخطر ؟
الجواب هو أنهما قد بايعاه بالفعل . وأن البيعة
بالذات في منظومة عليّ الإسلامية هي العقد الذي يربط الخليفة بالمسلمين نهائياً. فعليٌ
نفسه قد تأخر ستة أشهر
عن بيعة أبي بكر, ثم بايع عن غير رغبةٍ ولا
اقتناع. ولكنه بعدما فعل كان ملتزماً
بعهده, بكلمته وبفعله. وبالتالي لم يكن وارداً أبداً بنظره أنه يمكن لصحابيين الإخلال ببيعتهما فيتراجعان
عنها وينقلبان عليه, ويُصبحا
من الناكثين. كان عليّ يتوقع منهما سلوكاً على نفس الدرجة من المسؤولية. وقد عبّر
عليّ مرة عن ذلك بقوله " وبايعني طلحة والزبير, ثم نكثا بيعتي, وألبا
الناس عليّ. ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وخلافهما عَلَيّ.
والله إنهما ليعلمان أني لستُ
بدون رجلٍ ممن قد مضى"[25]
وكان
عليّ ولا شك يعرف شعورهما نحوه:
" ... انّ هؤلاء قد تمالأوا على سخطة
إمارتي ... وانّما طلبوا هذه الدنيا حسَداً لمن
أفاءها الله عليه فأرادوا ردّ الأمور
على أدبارها ... "[26]
بل
كان عليّ يعتبر طلحة من الكارهين لعثمان والمحرّضين عليه ولكنّه انقلب للمطالبة
بدمه كذبا وبغياً:
" .. والله ما استعجلَ متجرداً للطلب بدم عثمان إلاّ خوفاً من أن يطالب بدمه لأنه مظنّته .. فأرادَ أن يغالط بما أجلبَ فيه ليلبسَ الأمر ويقع الشك. ووالله ما صنع في أمر
عثمان واحدة من ثلاث :
لئن
كان ابن عفان ظالماً –
كما كان يزعم – لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه وأن ينابذ ناصريه.
ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه والمعذّرين فيه.
ولئن
كان في شكّ من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله ويركد جانباً ويدع الناس معه .
ولا بد من القول أن علياً, كخليفةٍ عادل, لم يكن
ليسمح لنفسه بأن يُحاسبَ الناسَ على نواياهم وما أضمرت قلوبهم. فحتى لو كان
متأكداً من نية الغدر لدى طلحة والزبير, فالفِعلُ لم يقعْ بعدُ وبالتالي عليه أن
يقبلَ ما يقوله الرجلان بلسانهما , إلى أن يصدر منهما خلاف ذلك.
وأصبحت مكة وكراً لمعارضي
خلافة عليّ
كانت
عائشة قد أصبحت قطباً جاذباً لكل هؤلاء الذين يعارضون الخليفة الجديد, وخاصة أفراد
الأسرة الأموية من أمثال مروان بن الحكم, وعمال عثمان مثل عبد الله بن عامر بن كريز
الذي كان والي عثمان على البصرة, ونائبه عبد
الله بن عامر الحضرمي , ووالي اليمن
السابق يعلي
بن أمية الذي امتاز بولائه الشديد لعثمان. وهؤلاء قاموا بتمويل حركة عائشة.
ولما كان موقف أهل مكة , القرشيون, من بيعة
علي بن أبي طالب, هو الرفض وبالإجماع,
منذ البداية , فقد كانت
مكة هي الحاضنة الطبيعية , والاختيار التلقائي لعائشة .
وقد
كان مجيء طلحة والزبير إلى مكة بعد
بضعة أشهر من مقتل عثمان تطورا حاسماً في مسار الاحداث. لأنهما رجلان ويمكنهما قيادة الرجال
والقتال. ويمكن لأحدهما أن يطرح نفسه كبديل لعليّ والترشّح للخلافة.
وهذا
التحالف الثلاثي بين ام المؤمنين عائشة والصحابيّيْن الكبيرين طلحة بن عبيد الله
والزبير بن العوام, كان يطمح أن يوازن
هيبة عليّ ونفوذه. ولكن عائشة كانت هي القلب وهي الرمز لحركة التمرد[28]
على عليّ وكان لها سلطة ووزن معنوي كبير يجعلها في موقع المرجعيّة وصاحبة الكلمة
الأعلى والقرار الفصل لدى التكتل المعادي لعليّ الذي تجمع في مكة.
تجهيز جيش عائشة [29]
وهكذا اكتملت العناصر الأساسية من أجل القيام بتمرّدٍ
حقيقيّ وفعال ضد عليّ : فعنصر الشرعية قد وُجد بتحالف زوجةٍ للرسول(ص) , وابنةٍ
للخليفة الأول أبي بكر, مع اثنين من كبار الصحابة القرشيين ممن كانا من ضمن قائمة
عمر بن الخطاب للمؤهلين للحُكم. وعنصر المال والرجال سيتولاّه رجالات عثمان
والقيادات الأموية القوية التي التفّت حول تحالف ام المؤمنين والصحابيّيْن
الكبيرين وصارت تضبط إيقاع تحركاته.
روى
ابن سعد أن عبد الله بن عامر بن كريز
لمّا بلغه مقتل عثمان " حَملَ ما في بيت
المال , واستخلفَ على البصرة عبد الله بن عامر الحضرمي ثم شخصَ إلى مكة". ولما
قابل هناك عائشة وطلحة والزبير وهم يفكرون بالذهاب الى الشام قال لهم " لا
بل ائتوا البصرة, فإن لي بها صنائع. وهي أرض الأموال وبها عدد الرجال والله لو شئتُ ما خرجتُ منها حتى اضرب بعض
الناس ببعض "[30]
وروى ابن عبد البر
في الاستيعاب عن المدائني " كان يعلي بن أمية على الجند, فبلغه قتل عثمان
رضي الله عنه , فأقبل لينصره, فسقط عن بعيره في الطريق, فانكسرت فخذه. فقدم مكة
بعد انقضاء الحج, فخرج الى المسجد , وهو كسير على سرير , واستشرف اليه الناس
واجتمعوا فقال : مَنْ خرج يطلب بدم عثمان فعليّ جهازه.
وذكر عن مسلمة , عن عوف قال : أعان يعلي بن أمية
الزبيرَ بأربع مئة ألف , وحمل سبعين رجلاً من قريش, وحملَ عائشة رضي الله عنها على
جمل يقال له عسكر , كان اشتراه بمئتي دينار"[31]
وذكر
ابن كثير أن يعلي بن امية قدم الى مكة من
اليمن ومعه 600 بعير و 600 ألف درهم. [32]
وروى
ابن حبان في كتاب الثقات "وقدم
يعلي بن امية من اليمن وقد كان عاملا عليها بأربعمائة من الابل فدعاهم الى الحملان
. فقال له الزبير : دعنا من إبلك هذه ولكن أقرضنا من هذا المال . فأعطاه ستين
الف دينار وأعطى طلحة 40 الف دينار فتجهزوا "
قال الذهبي
في سير اعلام النبلاء في ترجمة يعلي بن أمية " ولي اليمن لعثمان. وكان ممن
خرج مع عائشة وطلحة والزبير نوبة الجمل في الطلب بدم عثمان الشهيد. فأنفق
أموالاً جزيلة في العسكر كما ينفق الملوك . فلما هزموا هرب يعلي الى مكة"
وتظهر كل الروايات التي تتناول تلك الأحداث مدى التأثير
الذي كانت القيادات الأموية ورجال عهد عثمان يتمتعون به في تحديد حركة ام المؤمنين
والصحابيّيْن الكبيرين وتوجهاتهم. فكأنّ هؤلاء يقولون لأم المؤمنين وللصحابيين
الكبيرين : لا تقلقوا! فنحن سنكفيكم التخطيط والتنظيم والحشد والتحضير, وما عليكم
سوى الانقياد لنا لأننا نعرف كيف نواجه الخليفة الجديد الذي تولى المنصب بعد ربع
قرنٍ من العزل والتهميش, نحن نحتاجكم ونريد اسماءكم ولكن دعوا لنا العمل والفعل
على الارض !
تحالفُ أم المؤمنين والصحابيّيْن : مبرّرات التمرّد على عليّ
قالت
عائشة في معرض إجابتها لمن
سألها عن أسباب قدومها إلى البصرة :
"
إن الغوغاء من أهل الأمصار , ونزاع القبائل, غزوا حرم رسول الله(ص), وأحدثوا
فيه الأحداث...
مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين, بلا ترة ولا عذر
فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه, وانتهبوا المال
الحرام.....
وأقاموا في دار قومٍ كانوا كارهين
لمقامهم....
فخرجتُ في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم,
وما فيه الناس وراءنا, وما ينبغي لهم ان يأتوا في إصلاح هذا..."
وأكد
الزبير بن العوام ما قالته عائشة. وبعد أن عبّر عن ازدراءٍ شديد " للغوغاء
ونزاع القبائل ومَن ظاهرهم من الأعراب والعبيد" أضاف سبباً جوهرياً للتمرّد :
"
نُنهِضُ الناسَ فيُدرَكُ بهذا الدم
لئلاَ يبطل .
فإن إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبداً.
إذن
يمكن تلخيص الأسباب المعلنة:
بأن المدينة في أيدي غوغاء الأمصار, وبدو
نهّابين وعبيدٍ آبقين. وأن النظام العام والاجتماعي مهدد.
وأن هؤلاء الناس الخارجين على المجتمع هم الذين
ارتكبوا جريمة قتل خليفة المسلمين بلا وجه حق ولا مبرر شرعي, وبالتالي فإن عثمان
قتل مظلوماً , فلا بد من القصاص من قتلته.
وإنّ
التساهل في موضوع قتل الخليفة على يد هؤلاء من شأنه زعزعة مؤسسة الخلافة ذاتها ,
ويهدد مستقبلها, ويقوّض سلطان الله في الارض , وهذا ما لا يجوز.
تحالفُ أم المؤمنين والصحابيّيْن يسيرُ إلى البصرة[34]
"
فاجتمعوا عند عائشة فأداروا الرأي فقالوا : نسير إلى المدينة فنقاتل علياً.
فقال
بعضهم : ليس لكم بأهل المدينة طاقة .
قالوا : فنسير إلى الشام فيه الرجال والأموال,
وأهل الشام شيعة لعثمان, فنطلب بدمه ونجد على ذلك أعواناً وأنصارا ومشايعين.
فقال قائل منهم : هناك معاوية. وهو والي الشام
والمطاع به. ولن تنالوا ما تريدون. وهو أولى منكم بما تحاولون لأنه ابن عم الرجل.
فقال بعضهم : نسير إلى العراق , فلطلحة بالكوفة
شيعة, وللزبير بالبصرة مَن
يهواه ويميل إليه.
فاجتمعوا على المسير إلى البصرة وأشار عليهم
عبد الله بن عامر بذلك, وأعطاهم مالاً كثيراً قواهم به.
وأعطاهم يعلي بن منية التميمي
مالاً
كثيرا وإبلاً.
فخرجوا في
تسعمائة رجل من أهل المدينة ومكة ولحقهم الناس حتى كانوا ثلاثة آلاف رجل"[35]
وكان
الموتور العجوز, العدو القديم للنبي(ص), صفوان بن أمية من أشدّ المحرّضين ضد عليّ
في مكة. وكان من المتحمسين جداً
للخروج مع عائشة وصحبها إلى البصرة, إلاّ أنه توفي.[36]
وفي هذا القرار بالمسير إلى البصرة, تظهر بوضوح بصمات
ربيب عثمان وقريبه وواليه على البصرة عبد الله بن عامر بن كريز. فهو الذي أقنعهم
بالتوجه إلى هناك اعتماداً منه على نفوذه السابق وشبكة علاقاته في تلك المدينة. أما
قصة ان لطلحة في البصرة شيعة وللزبير في الكوفة من يهواه ( كما ورد في نص البلاذري
اعلاه) فليست الاّ من اضافات الرواة ولا تستند الى أدلة.
ويلاحظ أيضاً أنهم لم يتوجهوا إلى الشام. فعلى الرغم من
معرفة الجميع بمتانة القاعدة العثمانية في الشام, إلاّ أنهم أيضاً أدركوا أن الشام
قد تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى إقطاعيةٍ خالصة لمعاوية بن أبي سفيان. وعلى
الرغم من فرحة معاوية الشديدة بأنباء تمرّد أم المؤمنين ومعها طلحة والزبير, إلاّ
أنه لم يكن ليسمح بوجود مركز ثقل مهم أو قطبٍ جاذب في عقر داره وقاعدة حكمه.
فمعاوية مستعدٌ للتعاون والانخراط في المشروع الانشقاقي, ولكنه لن يسمح أن يكون
ذلك على حساب نفوذه أو مركزه كحاكم مطلق في إقليمه.
ورغم الاتحاد والتآلف الظاهر بين
طلحة والزبير, إلاّ أنه في الحقيقة كان بينهما
تنافس على الزعامة. فأكثر
ما يجمعهما كانت كراهية خلافة عليّ. وكان ذلك يؤجل خلافاتهما الكامنة. ولو
قدر لهما الظفر يوم الجمل, لربما كان الصراع بينهما قد تفجّر إلى العلن:
" فلما حضر وقت الصلاة, تنازع طلحة
والزبير, وجذب كل واحد منهما صاحبه, حتى فات وقت الصلاة. وصاح الناس : الصلاة
الصلاة يا أصحاب محمد! فقالت عائشة : يصلي محمد بن طلحة يوماً وعبد الله بن
الزبير يوماً.
فاصطلحوا على ذلك" [37]
وفي رواية البلاذري " فتدافع
طلحة والزبير الصلاة, وكانا بويعا أميرين غير خليفتين, وكان الزبير مقدماً. ثم
اتفقا على ان يصلي هذا يوماً وهذا يوماً ".
البصرة تشعر بما هو آتٍ[38]
وقام
طلحة والزبير , بمشورةٍ ونصحٍ من ابن عامر, بمراسلة الزعماء القبائليين في
البصرة وهم : كعب بن سور , شيخ
اليمانية, والمنذر بن ربيعة زعيم ربيعة, والأحنف بن قيس زعيم مضر. وكانت كتبهم
إليهم متشابهة وتتلخص في أن عثمان بن عفان قد قتل مظلوماً
وفيها دعوة لهم أن "يغضبوا لعثمان".
فكتب طلحة
والزبير الى كعب بن سُور « اما بعدُ ، فإنّك قاضي عمر بن الخطاب ، وشيخ اهل
البصرة وسيد أهل اليمن ، وقد كنت غضبت لعثمان من الاذى ، فأغضب له من القتل
، والسلام »
وكتبا الى
المنذر بن ربيعة « اما بعدُ ، فإنّ أباك كان رئيساً في الجاهلية ، وسيداً في
الاسلام وإنّك من أبيك بمنزلة المصلى من السابق ، يقال كادَ أو لَحِق ، وقد قتل
عثمان من انت خيرٌ منه ، وغضب له من هو خيرٌ منك ، والسلام »
وكتبا الى
الاحنف بن قيس « اما بعد ، فإنّك وافد عمر ، وسيد مضر ، وحليم اهل العراق ، وقد
بلغك مصاب عثمان ، ونحن قادمون عليك ، والعيان أشفى لك من الخبر ، والسلام
» [39]
وأحدثت
كتبهم تلك جدلاً داخلياً
في البصرة. وكان هناك شعور بين أبناء القبائل العربية, غير القرشية, في البصرة
بأنهم يُستدرجون ليصبحوا وقوداً لخلافات وصراعاتٍ قرشية داخلية, لا ناقة لهم فيها ولا جمل:
" فقالوا : مالنا ولهذا الحي من قريش؟
أيريدون أن يخرجونا من الإسلام بعد أن دخلنا فيه؟ ويدخلونا في الشرك بعدما خرجنا
منه؟ قتلوا عثمان, وبايعوا علياً.
لهم ما لهم وعليهم ما عليهم"[40]
وروى
ابن كثير في البداية والنهاية تفاصيل
جدال داخلي بين اهل البصرة حين تلقوا دعوة عائشة للنصرة وخبر قرب وصولها وجمعها
لمدينتهم:
"
فقام رجلٌ وعثمان (بن حنيف) على المنبر فقال : ايها الناس , إن كان هؤلاء
القوم جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمن فيه الطير! وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم
عثمان فما نحن بقتلته ! فأطيعوني وردّوهم من حيث جاؤوا.
فقام
الاسود بن سريع السعدي فقال : انما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان, ومنا ومن
غيرنا . فحَصَبَهُ الناسُ "
وهذه
الجدالات الداخلية والآراء المتعارضة تعكس حال البصرة على خير وجه : حيرةٌ
وانقسامٌ وشعورٌ بالخوف مما هو قادم.
وكانت ردود الزعماء القبائليين لطلحة والزبير
سلبية إزاء تحرك طلحة والزبير , فلم يعدوهم بشيء , وأظهروا عدم اقتناع
بدعواهم:
رد
المنذر بن ربيعة عليها « اما بعدُ ، فأنه لم يلحقني بأهل الخير إلا ان اكون
خيراً من اهل الشر ، وإنما اوجب حقّ عُثمان اليوم حقّهُ امس ، وقد كان بين
أظهركم فخذلتموه ، فمتى استنبطتم هذا العلم ، وبدا لكم هذا الرأي ».
ردّ
كعب بن سُور على طلحة والزبير « اما بعد ، فإنا غضبنا لعثمان من الاذى ، والغير
باللسان ، فجاء أمر الغير فيه بالسيف ، فإنّ يك عثمان قُتِلَ ظالماً فما لكما وله
؟ وإنْ كان قُتِلَ مظلوماً فغيركما أولى به ، وإن كان أمره أشكل على من شهده
فهو على من غاب عنه أشكل »
وكتب
الاحنف اليهما « اما بعدُ ، فإنه لم يأتنا من قبلكم أمرٌ لا نشك فيه الا قتل
عثمان ، وانتم قادمون علينا ، فإنّ يكن في العيان فضلٌ نظرنا فيه ونظرتم ،
وإلا يكن فيه فضل فليس في ايدينا ولا ايديكم ثقة ، والسلام » [41]
ورغم
ذلك فقد قرر تحالفُ أم المؤمنين والصحابيّيْن المضيّ قدماً في مسيرهم إلى البصرة.
فهم قدّروا أن حضورهم بأشخاصهم في البصرة سيغيّر الموقف لصالحهم, وسيضطرّ
الزعماء القبائليون هناك إلى قبولهم , خاصة مع وجود " حَرَم " رسول الله بينهم.
كلابُ الحوأب[42]
وفي سياق الحديث عن مسير عائشة وجمعها الى البصرة لا بد
من التطرق الى حادثة مذكورة كثيراً في كتب التاريخ وهي ما تعرف بـ ( كلاب الحوأب )
والتي يمكن تلخيصها كما يلي : ان النبي (ص) كان يوماً قد حذر نساءه عامة, أو عائشة
خاصة, ألاّ تكون هي التي تنبح عليها كلاب الحوأب. وبقي الامر هكذا دون أن يدري أحد
أين هي (الحوأب) التي تحدث عنها النبي(ص) الى أن تحققت نبوءته اثناء مسير عائشة
الى البصرة : فنبحت عليها كلابٌ عند بئر ماء تبيّن أن اسمه (الحوأب) فاضطربت عائشة
وصرخت لأنها عرفت أنها المعنية بتحذير النبي(ص) وصممت على الرجوع! ولكن ابن اختها
عبد الله بن الزبير تدخل وأقنعها ان هذا النبع ليس هو ( الحوأب ) وأحضر 40 أو 50
شاهد زور من الاعراب حلفوا على ذلك , وعندها قنعت عائشة وواصلت المسير. وفيما يلي
النص من أحد المصادر القديمة ( انساب الاشراف للبلاذري):
" وسمعتْ عائشة في طريقها نباح كلابٍ فقالت :
ما يقال لهذا الماء الذي نحن به؟
قالوا : الحوأب.
فقالت : إنا لله وإنا إليه
راجعون. ردّوني ردّوني. فإني سمعتُ رسول الله(ص) يقول – وعنده نساؤه – (أيتكن
ينبحها كلاب الحوأب). وعزمتْ على الرجوع.
فأتاها عبد الله بن الزبير
فقال : كذب من زعم ان هذا الماء الحوأب. وجاء بخمسين من بني عامر فشهدوا وحلفوا
على صدق عبد الله"
وقد وجدتُ هذه القصة بألفاظها وتعبيراتها المختلفة (وفي
أغلب الحالات الراوي هو شخص اسمه قيس بن ابي حازم) في المصادر التالية : صحيح ابن حبان, تاريخ الطبري,
تاريخ اليعقوبي, البداية والنهاية لابن كثير, مسند احمد
بن حنبل, المستدرك على الصحيحين للحاكم,
الاستيعاب لابن عبد البر . ومؤكدٌ أنها
موجودة لدى غيرهم لأنها مشهورة للغاية.
وانا أسوق قصة الحوأب هذه كمثالٍ على نزعةٍ موجودةٍ
لدى الرواة وأصحاب الاخبار لإدخال رسول الله(ص) كطرفٍ في أحداث الفتنة الكبرى
والصراع الكبير الذي حصل بين المسلمين. فالبعضُ يريد أن يستدلّ على صحة موقفه
بالاستناد الى نبوءات للرسول(ص) أو أقوالٍ
له يتم إسقاطها عنوة على مسار الأحداث.
فلا ينبغي النظر بجدية الى كل الأحاديث النبوية التي
تتناول تفاصيل الفتنة الكبرى أو يظهر منها دعمٌ وتأييدٌ لهذا الطرف أو تلك الشخصية. فكلها وراؤها ما وراؤها.
وفي حالتنا هذه الهدف من قصة الحوأب إظهار أن عائشة كانت
مخطئة في موقفها وأفعالها , والدليل أنها خسرت المعركة, وأن ذلك لأنها خالفت
تحذيرات النبي(ص) وتجاهلت نبوءته!
وانا أقول ان كون عائشة مخطئة في موقفها ظاهرٌ وواضحٌ
ولا يحتاج لحديث نبويّ يتم تفصيله لإثبات ذلك! ولكن ليس كل الرواة يفكرون هكذا بل
ان منهم من يحب الاثارة , والنبوءات , والمعجزات ,,,, فإن لم توجد فلا بد من
إيجادها!
وهذا الكلام
ينطبق ايضاً على حديث ( لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة ) الذي رواه – منفرداً –
الصحابي أبو بكرة ونسبه الى النبي(ص) , وقد قاله في اعقاب هزيمة جيش عائشة في
معركة الجمل, وسوف نأتي له لاحقاً عند الكلام عن ابي بكرة واحاديثه.
الفصل الثالث : بدءُ الصراع داخل البصرة
والي عليّ يتصدّى للقادمين من الحجاز[43]
فوجئ
عثمان بن حنيف الانصاري, والي البصرة المعيّن من قِبَل
عليّ , بمسير هؤلاء القوم من مكة وقدومهم
عليه بهذا العدد الضخم[44] ,
وقرر أن يستشير رعيته في هذا الخطب الجلل وكيف يتصرفون إزاء قدوم أم المؤمنين
وصحابةٍ كبار إلى البصرة في جمعٍ مقاتل . وفيما يلي سردٌ من الإمامة
والسياسة لابن قتيبة:
" قام عثمان بن حنيف عامل
البصرة لعلي بن أبي طالب فقال : يا أيها الناس! إنما بايعتم الله ( يد الله فوق
أيديهم ومَن
نكث فإنما ينكث على نفسه ومَن
أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيما). والله لو علم عليّ أن أحداً أحق بهذا الأمر منه ما قبله. ولو بايع
الناسُ غيرَه لبايع مَن بايعوا وأطاع مَن ولوا. وما به إلى أحدٍ من صحابة رسول الله حاجة و وما بأحدٍ عنه غنى. ولقد شاركهم في محاسنهم وما
شاركوه في محاسنه. ولقد بايعه هذان الرجلان وما يريدان الله , فاستعجلا
الفطام قبل الرضاع, والرضاع قبل الولادة , والولادة قبل الحمل, وطلبا ثواب الله من
العباد. وقد زعما أنهما بايعا مُستكرَهَين. فإن كانا
استكرها قبل بيعتهما كانا رجلين من عرض قريش, لهما أن يقولا ولا يأمرا. ألا وإن الهدي ما كانت
عليه العامة, والعامة على بيعة عليّ , فما ترون أيها الناس؟
فقام
حكم بن جبلة
العبدي فقال : نرى إن دخلا علينا قاتلناهما وإن وقفا تلقيناهما . والله ما
أبالي ان أقاتلهما وحدي, وإن كنتُ أحب
الحياة, وما أخشى في طريق الحق وحشة ولا غيرة ولا غشاً ولا سوء منقلب إلى بعث. وإنها لدعوة
قتيلها شهيد وحيّها فائز.
والتعجيل على الله قبل الأجر خيرٌ من
التأخير في الدنبا. وهذه ربيعة معك"
وتظهر
من هذا النص الحماسة الكبيرة التي أظهرها والي عليّ في جهوده الحثيثة لحشد الناس
من خلفه لمواجهة الخطر الداهم. وكلماته تشير إلى مدى الولاء الشخصي الذي يكنّه
عثمان بن حنيف لعليّ. كما يلاحظ أنه لجأ إلى التأكيد على إلزامية البيعة في عنق
الزبير وطلحة سواءً حصلت طوعاً أم كرهاً. فهو يذكّر الناس بأن البيعة عهدٌ
وميثاق لا يجوز نقضه.
وليست حماسة حكيم بن جبلة في تأييد والي عليّ وتأكيده
الاستعداد للمواجهة أمراً مُستغرباً. فهو كان من العناصر الرئيسية في حركة التمرد
على عثمان.
ولما اقترب الجمعُ القادم من الحجاز من البصرة, أرسل
عثمان بن حنيف مندوبَيْه:
عمران بن الحصين, صاحب رسول الله (ص), وأبا الأسود الدؤلي إلى أم المؤمنين ليستفسرا منها عن أسباب قدومها :
"
يا أم المؤمنين! ما هذا المسير؟ أمعكِ به من رسول الله عهد؟
قالت: قتل عثمان مظلوماً. غضبنا لكم من السوط والعصى, ولا
نغضب لعثمان من القتل؟
فقال
أبو الأسود : وما أنتِ من عصانا وسيفنا وسوطنا؟
فقالت
: يا أبا الأسود بلغني أن عثمان بن حنيف يريد قتالي.
وفي رواية الجاحظ
في البيان والتبيين أن المندوبَين قالا لها " أنتِ حبيسُ رسول الله(ص),
أمركِ أن تقرّي في بيتكِ , فجئتِ تضربين الناسَ بعضهم ببعض" وانها
ردّت بالإشارة إلى أن مخالفات عثمان لا يستحق عليها أن يستباح دمه وأنه بالتالي
قتل مظلوماً. وفي معرض كلامها دَعَت على كل من عمار بن ياسر والاشتر النخعي وأخيها
محمد, وذكرتهم بسوء.
وفي
رواية سيف بن عمر لدى الطبري تسترسل
عائشة في شرح اسباب خروجها فتقول "ان الغوغاء من اهل الامصار ونزاع القبائل
غزوا حرم رسول الله(ص) واحدثوا فيه الاحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة
الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل امام المسلمين بلا ترة ولا عذر فاستحلوا الدم
الحرام فسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام ومزقوا
الاعراض والجلود وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين
ولا متقين لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون . فخرجتُ في المسلمين اعلمهم ما أتى
هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم ان يأتوا في اصلاح هذا ..."
عائشة تفصح عن الهدف النهائي[46]
تجاهلت
عائشة موقف والي البصرة وواصلت مسيرها مع أتباعها إليها
حتى دخلوها, وسط استغراب واستهجان الناس لذلك. وألقت خطبة جديدة عامة كررت فيها ما قالته لأبي الأسود ولكنها أضافت
هنا شرطاً افصح عن حقيقة موقفها:
" اصطفّ لها الناس في
الطريق . يقولون : يا أم المؤمنين! ما الذي أخرجكِ من بيتك؟
فلما أكثروا عليها, تكلمت بلسان طلق,
وكانت من أبلغ
الناس, فحمدت الله وأثنت عليه
ثم قالت : أيها الناس : والله ما بلغ من ذنب
عثمان أن يُستحل
دمه. ولقد قتل مظلوماً.
غضبنا لكم من السوط والعصى, ولا نغضب لعثمان من القتل؟ وإن من الرأي أن تنظروا إلى
قتلة عثمان, فيقتلوا به. ثم يردّ هذا الأمر شورى, على ما جعله عمر بن
الخطاب."[47]
إذن
أعلنت عائشة أن تحركها يهدف في حقيقته ليس فقط إلى "الطلب بدم عثمان" بل
يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد: خلعُ عليّ بن أبي طالب من الخلافة , وإعادتها
إلى شورى المهاجرين القرشيين يتداولونها.
واستعملت
عائشة كل ما لها من وزن معنوي عند عامة المسلمين, كونها حرم رسول الله, من أجل حشد
جماهير البصرة إلى جانبها. وقد تمادت في ذلك إلى حد الإلحاح الشخصي على الزعماء
العشائريين الذي يصل حدّ
الإحراج
" وقعَدَ أيضاً عنهم كعب بن سور في أهل بيته, حتى أتته عائشة ,في
منزله, فأجابها. وقال : أكرهُ ألاّ أجيبَ أمي"
[48]
وهنا التفاصيل من رواية ابن
سعد في الطبقات الكبرى :
" ... ان كعب بن سور لما قدم طلحة والزبير وعائشة البصرة دخل في بيت وطيّن
عليه وجعل فيه كوّة يناول منها طعامه اعتزالا للفتنة.
فقيل لعائشة ان كعب بن سور إن خرج معك لم يتخلف من الأزد
أحد.
فركبت إليه فنادته وكلمته.
فلم يجبها.
فقالت : يا كعب ! ألستُ أمك
ولي عليك حق؟
فكلمها.
فقالت : انما اريد ان اصلح بين الناس..."
ونجحت
في تحييد الزعيم التميمي , الأحنف بن قيس , فاعتزل القتال واتخذ موقف الحياد عندما
وقعت المعركة بين عليّ وعائشة.[49]
وكان من الطبيعي أن والي عليّ المخلص لن يبقى ساكناً وهو يرى هؤلاء الخصوم
دائبين على استقطاب الناس وإخراجهم من طاعته :
"
ونادى عثمانُ بن
حنيف في الناس فتسلحوا.
وأقبل طلحة
والزبير وعائشة حتى دخلوا المربد مما يلي بني
سليم.
وجاء أهل البصرة مع عثمان
ركباناً ومشاة.
فخطب طلحة فقال : إن عثمان بن عفان كان من أهل
السابقة والفضيلة من المهاجرين الأولين. وأحدث أحداثاً نقمناها عليه فبايناه ونافرناه, ثم اعتب
حين استعتبناه. فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الأمة أمرَها بغير رضا ولا
مشورة فقتله. وساعده على ذلك رجالٌ غيرُ أبرار
ولا أتقياء, فقتلوه بريئا تائبا مسلماً. فنحن ندعوكم إلى الطلب بدمه فإنه الخليفة المظلوم.
وتكلم
الزبير بنحو من هذا الكلام.
فاختلف الناس. فقال قائلون : نطقا بالحق.
وقال آخرون :
كذبا. وهما كانا أشد الناس على عثمان! وارتفعت الأصوات.
وأتي بعائشة على جملها في هودجها فقالت : صَه صَه . فخطبت بلسان
ذلق وصوت جهوري فأسكت لها الناس. فقالت : إن عثمان
خليفتكم قتل مظلوماً بعد
أن تاب إلى ربه وخرج من ذنبه. والله ما بلغ من فعله ما يستحل به دمه, فينبغي في
الحق أن يؤخذ قتلته فيقتلوا به ويجعل الأمر شورى.
فقال قائلون : صدَقَت .
وقال آخرون :
كذبَت.
حتى تضاربوا
بالنعال. وتمايزوا فصاروا فرقتين: فرقة مع عائشة
وأصحابها, وفرقة مع ابن حنيف.
... وتأهبوا إلى القتال فانتهوا
إلى الزابوقة... فزحف إليهم عثمانُ بن حنيف فقاتلهم أشد قتال. فكثرت منهم القتلى وفشَت فيهم الجراح.
ثم
إن الناس تداعوا إلى الصلح فكتبوا بينهم كتابا بالموادعة إلى قدوم عليّ :
على
أن لا يعرض بعضهم لبعض في سوق ولا مشرعة
وإن
لعثمان بن حنيف دار الإمارة وبيت المال والمسجد
وإن طلحة والزبير ينزلان ومَن معهما حيث شاؤوا.
ثم انصرف الناس وألقوا السلاح"[51]
وحسب
رواية البلاذري هذه , فإن كتاب
الصلح قد تم على أساس انتظار قدوم عليّ من المدينة.
ولا
بدّ أيضاً من ملاحظة ذلك الاتهام الصريح والمباشر الذي وجهه طلحة إلى عليّ بقتل
عثمان. وهذا الاتهام سيكون هو صلب دعاية معاوية بن أبي سفيان في صراعه اللاحق ضد
عليّ.
ولكن
الطبري قد أورد نفس الرواية هذه
تقريباً , مع اختلافٍ يتعلق
بأساس كتاب الصلح, الذي جعله إرسال مندوبٍ من البصرة إلى المدينة ليسأل أهلها
ويتأكد فيما إذا كان الزبير وطلحة قد بايعا علياً مكرهين , كما يؤكّدا,
ام طائعين. وهذا نص كتاب الصلح :
"
بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا
ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومَن معهما من المؤمنين والمسلمين, وعثمان بن حنيف
ومَن معه من المؤمنين والمسلمين:
أن
عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما في يده.
وان
طلحة والزبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما في أيديهما .
حتى
يرجع أمين الفريقين
ورسولهم , كعب بن سور من المدينة.
ولا
يضار واحد من الفريقين الآخر
في مسجدٍ ولا سوق ولا طريق ولا فرصة. بينهم عيبة مفتوحة حتى يرجع كعب.
فإن
رَجَعَ بأن
القوم أكرهوا طلحة والزبير فالأمر أمرهما, وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيته وإن شاء دخل
معهما.
وإن
رجع بأنهما لم يُكرها
فالأمر أمر عثمان. فإن شاء طلحة والزبير أقاما على طاعة عليّ , وإن شاءا خرجا حتى
يلحقا بطيتهما.
والمؤمنون
أعوان الفالح منهما"[52]
وسواء
كان الصلح قد تم بين الفريقين على أساس انتظار قدوم عليّ, أم على أساس انتظار
معرفة الحقيقة حول بيعة الزبير وطلحة[53],
فإن ذلك لا يغيّر من مجرى الأحداث شيئاً. فالحقيقة أن ذلك الصلح كان عبارة عن
هدنة مؤقتة بين الطرفين , أملتها ظروف الصدمة والمواجهة. لقد فشل كل من
الطرفين في إقناع الآخر بتغيير موقفه وقناعاته سلمياً, وبالتالي كان لا بد من
فسحةٍ من الوقت تتيح لكليهما التقاط الأنفاس وتجميع الصفوف تمهيداً للإنقتال إلى
الخطوة التالية, وهي الحسم, لمصلحة أحدهما. فلم يكن ممكناً لذلك الصلح أن يدومَ ,
أو يكون حقيقياً.
وقد
أورد الطبري أن ذلك الخلاف قد انتقل
بدوره إلى المدينة المنورة, التي كان عليّ قد غادرها بالفعل. فعندما سأل كعب بن
سور أهلها عن كيفية بيعة طلحة والزبير,
أجابه بعض الناس, أسامة بن زيد بالتحديد, أنهما قد أكرها على البيعة بالفعل
, مما أثار غضب غيره من الصحابة عليه,
وخاصة سهل بن حنيف , فحصل اهتياجٌ, مما
دفع صهيب بن سنان وأبا أيوب ومحمد بن مسلمة للتدخل وتهدئة الخواطر وحماية أسامة من
الأذى.
تحالف أم المؤمنين والصحابيّيْن يسيطر على البصرة[54]
لم يكن بإمكان تحالف المعارضين لعليّ بن ابي طالب أن
يجلسوا بهدوء وادعين في البصرة انتظاراً لقدومه من المدينة. فهم لم يدخلوا كل هذه
المغامرة ويقودوا كل هذا التحرك من أجل أن ينتهي بهم المطاف إلى جدال كلاميّ ومحاجَجَة
, كانوا يعرفون أنهم سيخسرونها, مع عليّ. فلو كانوا يريدون "النقاش" مع
عليّ بن أبي طالب من أجل "إقناعه" برأيهم لكان بإمكانهم أن يفعلوا ذلك
في المدينة, دون الحاجة إلى إعلان الانشقاق وحشد القوات.
فقرروا أن يسيروا إلى آخر الشوط, وأن يأخذوا المبادرة
بأنفسهم لكسر الجمود القائم:
"
فمكث عثمان بن حنيف في دار الإمارة أياماً.
ثم
إن طلحة والزبير ومروان بن الحكم أتوه نصف الليل في جماعة معهم, في ليلة مظلمة
سوداء مطيرة, وعثمان نائم. فقتلوا أربعين رجلا من الحَرَس.
وقال
البلاذري في انساب الاشراف "
وتناظر طلحة والزبير فقال طلحة : والله لئن قدم علي البصرة ليأخذن بأعناقنا !
فعزما على تبييت ابن حنيف وهو لا يشعر وواطآ أصحابهما على ذلك . حتى اذا كانت ليلة
ريح وظلمة جاؤوا الى ابن حنيف وهو يصلي بالناس العشاء الآخرة فأخذوه وامروا به
فوطئ وطئاً شديداً , ونتفوا لحيته وشاربيه.”
وأثار
الغدر بعثمان بن حنيف استياء الكثيرين من أهل البصرة الذين طالبوا بإطلاقه وإرجاعه
إلى دار الإمارة. ولكن التحالف المعارض لعلي قال لهؤلاء, على لسان عبد الله بن
الزبير " لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان بن حنيف حتى
يخلع علياً"[56]
ولكن في النهاية قام طلحة والزبير بالافراج عن ابن حنيف
. نتابع رواية البلاذري:
"فقال لهما : ان سهلاً حيّ
بالمدينة , والله لئن شاكني شوكة ليضعنّ السيف في بني ابيكما, يخاطب بذلك طلحة
والزبير , فكفا عنه وحبساه"
اذن
فالسبب الذي جعل المهاجمين يوفرون دم عثمان بن حنيف هو أنهم خافوا أن يقوم أخوه,
سهل بن حنيف, وهو والي عليّ في المدينة, بالانتقام من أقربائهم هناك إن هم قتلوه,
فاكتفوا بتعذيبه وإهانته.
وبالفعل
فإن رواية صالح بن كيسان لدى البلاذري
(انساب الاشراف) تشير الى ان تهديد أخيه في المدينة كان السبب الذي أدى الى اطلاق
سراح عثمان بن حنيف :
"
بلغ سهلَ بن حنيف- وهو والٍ على المدينة من قبل علي- ما كان من طلحة والزبير
الى أخيه عثمان وحبسهما اياه فكتب اليهما ( أعطي الله عهداً لئن ضررتموه بشيء ولم
تخلوا سبيله لأبلغنّ من أقرب الناس منكما مثل الذي صنعتم وتصنعون به ).
فخلوا
سبيله حتى أتى عليا "
وسواء
قام طلحة والزبير بالايقاع بوالي علي وهو نائم , أو وهو يصلي, وسواء أطلقوا سراحه
بفعل تهديد أخيه أم لسبب آخر , وسواء نتفوا شعر لحيته وحاجبيه أم اكتفو بضربه ,
فذلك لا يغير من حقيقة انهما أوقعا به , وباشرا على الفور في تمكين سيطرتهما على البصرة
:
"فأصبحَ طلحة والزبير وبيت المال والحرس في
أيديهما"
تقول
رواية ابي مخنف ( انساب الاشراف) :
"
وبعثا عبد الله بن الزبير في جماعة الى بيت المال وعليه قوم من السبايجة[57]
يكونون اربعين , ويقال اربعمائة, فامتنعوا من تسليمه دون قدوم عليّ, فقتلوهم
ورئيسهم ابا سلمة الزطي , وكان عبدا صالحا"
وقال
ابن كثير في البداية والنهاية انهم عينوا عبد الرحمن بن ابي بكر – شقيق
عائشة- مسؤولاً عن بيت المال " وقسم طلحة والزبير اموال بيت المال في
الناس وفضلوا اهل الطاعة, وأكبّ عليهم الناس يأخذون ارزاقهم, وأخذوا الحرس,
واستبدوا في الامر في البصرة"
وأثارت
هذه التطورات غضب الكثيرين, ومخاوف آخرين في البصرة. وهذا الكلام الذي قاله رجلٌ من قبيلة عبد القيس لطلحة والزبير يظهر
رد فعل قطاع مهم من أهل البصرة:
"
يا معشر المهاجرين: أنتم أول مَن أجاب رسول الله(ص) , فكان لكم بذلك فضل.
ثم
دخل الناس في الإسلام كما دخلتم.
فلما
توفي رسول الله(ص) بايعتم رجلاً
منكم. والله ما استأمرتمونا في شيء من ذلك, فرضينا واتبعناكم. فجعل الله عز
وجل للمسلمين في إمارته بركة. ثم مات رضي الله عنه.
واستخلف
عليكم رجلاً
منكم. فلم تشاورونا في ذلك. فرضينا وسلمنا.
فلما
توفي الأمير جعل الأمر إلى ستة نفر. فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورة منا.
ثم
أنكرتم من ذلك الرجل شيئا, فقتلتموه, عن غير مشورة منا.
ثم
بايعتم علياً عن
غير مشورة منا.
فما
الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثرَ بفيءٍ؟ أو عمِلَ
بغير الحق؟ أو عمل شيئا تنكرونه فنكون معكم عليه؟ وإلاّ فما هذا ؟"
ومن
اللافت للنظر, تكرار الرجل عبارات "
عن غير مشورة منا" و " ما استأمرتمونا في شيء" التي تشير بكل وضوح
إلى شعور قطاع مهم من القبائل العربية أنهم بدأوا يستخدمون وقوداً لصراعاتٍ داخل أجنحة قبيلة قريش, لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وطبعاً لم يَرُق كلام الرجل , وخاصة الجزء الأخير الذي
أشار فيه إلى عدم وجود أي سببٍ
مقنع لدى تحالف أم المؤمنين والصحابيّيْن للخروج على الخليفة الشرعي, للزبير وطلحة, الذين لم يريدا لهكذا
تساؤلات أن تنتشر بين الناس, فكان لا بد
من الحسم تجاه تلك المبادرات :
وكان
مؤكداً أن تتجه أنظار تحالف معارضي عليّ في البصرة الى حكيم بن جبلة . فهو من
المتهمين الرئيسيين بالمشاركة في قتل عثمان وهو كان من أبرز محركي الثورة
ضده. وقد كان يُحرّض الناسَ
ضدهم في البصرة إلى درجة توجيه الشتائم المباشرة لعائشة.
والواقع
ان حكيم بن جبلة لم ينتظر أن يأتوا اليه , بل كانت المبادرة منه هو بعدما علم بما
جرى لابن حنيف. تقول رواية ابي مخنف لدى البلاذري
(انساب الاشراف):
"
وركب
حكيم بن جبلة حتى انتهى الى الزابوقة وهو في ثلاثمائة , منهم من قومه سبعون, وتألف
إخوة له وهم : الاشرف والحكيم والزعل. فسار اليهم طلحة والزبير فقالا : يا حكيم
ماذا تريد؟
قال : اريد أن تخلوا عثمان بن حنيف وتقروه في دار
الامارة وتسلموا اليه بيت المال, وأن ترجعا الى قدوم عليّ[59].
فأبوا ذلك واقتتلوا
"
وكان
طلحة قد خاطب أهل البصرة في الزابوقة وأكّد مرة أخرى على صحة وشرعية موقفهم, فقال
(انساب الاشراف -رواية أبي مخنف) :
"
يا اهل البصرة : توبة بحوبة ! انما أردنا أن نستعتب عثمان ولم نردْ قتله, فغلب
السفهاءُ الحكماءَ حتى قتلوه.
فقال
ناس لطلحة : قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا , من ذمّهِ والتحريض على قتله[60]"
ورواية
ابي مخنف لدى البلاذري تورد وصفاً
لاستبسال حكيم بن جبلة في القتال الى أن قتل , وفيها تفاصيل ملحمية :
" فجعل
حكيم يقول:
أضربهم باليابس ***
ضربَ غلامٍ عابس *** من الحياة آيس
فضربت
رجله فقطعت فحبا وأخذها ورمى بها ضاربه فصرعه وجعل يقول :
يا نفسُ لا تراعي ***
إن قطعوا كراعي *** إن معي ذراعي
وجعل
يقول ايضا:
ليس عليّ في الممات عارُ ***
والعارُ في الحرب هو الفرارُ
*** والمجدُ أن لا يُفضحَ الذمارُ
فقتل
حكيم في سبعين من قومه وقتل اخوته الثلاثة "[61]
وبعد
الانتهاء من حكيم بن جبلة ومجموعته واصل تحالف ام المؤمنين والصحابيّيْن عملهم في
البصرة , فاتجهوا الى تصفية الجهات التي لا زالت ملتزمة بعهدها لعليّ بن أبي
طالب.
وعلى
الرغم من معرفتهم بأن قتلة عثمان الحقيقيين كانوا في أغلبيتهم من الثوار الذين قدِموا من مصر, وبدرجة أقل الكوفة, إلاّ أنهم
شنّوا حملة عسكرية قاسية في البصرة, بحجة القضاء على "قتلة عثمان". ورغم
أنه لا شك أنه
كان بينهم بعض مَن شاركوا في
التمرد على عثمان, إلاّ أن الغالبية العظمى من الذين استهدفتهم حملة تحالف ام
المؤمنين والصحابيّيْن كانوا من أنصار عليّ بن أبي طالب, ومن الرافضين
لسلطتهم.
فتعرّض
المعادون لتحالف ام المؤمنين والصحابيّيْن لما يشبه المجزرة في البصرة . ولنلاحظ
الوصف القاسي (كما يجاء بالكلاب ) الذي ورد في رواية تاريخ الطبري:
"
ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة : ألا مَن كان فيهم من
قبائلكم أحدٌ ممن
غزا المدينة فليأتنا بهم. فجيء بهم كما يجاء بالكلاب. فقتلوا.
فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعا إلاّ حرقوص بن زهير, فإن بني سعد منعوه"[62]
وان
نجاة حرقوص بن زهير من تلك المذبحة يدلّ على قوة العامل القبلي في تلك المرحلة.
فهو نجا فقط لأن قبيلته القوية قررت ان تحميه وتدافع عنه , رغم انه كان من أشدّ
أعداء الخليفة عثمان والمؤلبين عليه.
وأسفرت
تلك المقتلة عن مصرع المئات ( 600 شخص حسب الطبري ) من أهل البصرة, من قبائل شتى. ولكن
وقعها على قبيلتي عبد القيس, وبدرجة أقل بكر بن وائل, كان كبيراً. وأدى ذلك إلى خروج معظم القبيلتين من
البصرة , إنتظاراً لوصول عليّ بن
أبي طالب للانضمام إليه. وكان ذلك في أواخر ربيع الآخر من سنة 36 للهجرة.
ولما
استتبت لهم السيطرة بدأ التحالف بترسيخ سلطانه في البصرة, فنجحوا في استقطاب جزء
مهم من القبائل العربية في البصرة. وكان عدم وجود قطب منافس لهم على الساحة
البصرية, مما يسهل مهمتهم, خاصة مع وجود " حَرَم " رسول الله معهم.
تحالف ام المؤمنين والصحابيّيْن يوسّع نطاق تحرّكه[63]
ولما
شعرت عائشة والزبير وطلحة أنهم نجحوا في هدفهم المرحليّ , السيطرة على البصرة,
بدأوا في تحركات كشفت حقيقة مراميهم التي تتجاوز كثيرا ما كانوا يعلنونه من
الطلب بدم عثمان.
فهم
كتبوا رسالة إلى معاوية بالشام يخبرونه فيها بنجاحاتهم,
وأرسلوا أيضا إلى الكوفة ,
وإلى اليمامة,
وإلى
المدينة المنورة .
وهذا
النص:
"وكتبوا الى اهل الشام بما صنعوا
وصاروا اليه :
انا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله عز وجل
بإقامة حدوده في الشريف والوضيع والكثير والقليل حتى يكون الله عز وجل هو الذي
يردنا عن ذلك.
فبايعنا
خيارُ أهل البصرة ونجباؤهم وخالفنا شرارهم ونزاعهم. فردونا بالسلاح وقالوا فيما
قالوا: نأخذ أم المؤمنين رهينة إن أمرتهم بالحق وحثتهم عليه , فأعطاهم الله عز وجل
سنة المسلمين مرة بعد مرة حتى اذا لم يبق حجة ولا عذر استبسل قتلة امير المؤمنين
فخرجوا الى مضاجعهم فلم يفلت منهم مخبر الا حرقوص بن زهير والله سبحانه مقيده ان
شاء الله وكانوا كما وصف الله عز وجل .
وإنا نناشدكم الله في أنفسكم إلاّ نهضتم بمثل ما
نهضنا به, فنلقى الله عز وجل وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي
علينا"[64].
وهنا
يظهر أن العمل الفعّال قد بدأ لتقويض خلافة عليّ بن أبي طالب في كل مكان. فالدعوة
صريحة لبقية الامصار لكي تحذو حذوهم, فتخلع علي بن ابي طالب.
وقد استغلوا انتصارهم المرحلي في البصرة لتشجيع المترددين على التحرك ضد عليّ.
وكان
هناك تركيز على الكوفة من قبل عائشة . وقد اورد الطبري
في تاريخه نص رسالة طويلة كتبتها عائشة الى أهل الكوفة تشرح فيها ما جرى بالبصرة
من أحداث وكيف انها تعرضت للبغي والعدوان من قبل عثمان بن حنيف ومن معه الذين
ارادوا قتلها و "شهدوا علينا بالكفر وقالوا لنا المنكر"
مما اضطرها في النهاية الى القتال " فجمع الله عز وجل لعثمان رضي الله
عنه ثارهم فأقادهم فلم يفلت منهم الاّ رجل" وتدعوهم في النهاية الى
التخلي عن الثائرين على عثمان ونبذهم وعدم مناصرتهم.
ولم
تكتفِ عائشة بتلك الرسالة العامة بل ايضاً "كتبت إلى رجالٍ بأسمائهم
" . ومن هؤلاء زيد بن صوحان (وهو من نشطاء قبيلة عبد القيس الكبيرة):
"
كتبت عائشة الى زيد بن صوحان تدعوه الى نصرتها والقيام معها, فإن لم يجئ فليكفّ
يده وليلزم منزله, أي لا يكون عليها ولا لها.
فقال : انا في نصرتك ما دمتِ في منزلك. وأبى أن
يطيعها في ذلك.
وقال
: رحم الله ام المؤمنين! أمرها الله ان تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل, فخرجت من
منزلها وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي احق بذلك منا"[65]
ويمكن
النظر الى رسالة عائشة الى زيد بن صوحان على انها تحذير وتهديد لا دعوة وترغيب,
ذلك ان زيداً , وأخاه صعصعة, كانا مشهورين بنشاطهما في صفوف الثائرين على عثمان بن
عفان الى حد انهما تعرضا للعقوبة وللنفي قبل فترة ليست بعيدة. فكأن عائشة ارادت ان
تقول له , ولكل انصار علي بن ابي طالب : نحن قادمون وعليكم التسليم لنا بالحسنى ,
وإلاّ ,,,,
ولذلك
كان جواب زيد متوقعاً تماماً.
وهكذا
بدأ الصراعُ على الكوفة.
الفصل الرابع : عليّ يتحرك
لمواجهة خصومه. الخلافة تغادر مدينة الرسول
عليّ يتجه إلى العراق [66]
لما
وصلته أخبار تحالف عائشة وطلحة والزبير وقرارهم نقض بيعته والتمرد عليه وبدء
تحركهم العملي في استنفار الناس ضده, قرر عليّ أن ذلك مما لا يمكن السكوت عنه. فعَزَمَ عليّ أن يسير بنفسه إلى تحالف المتمردين
ليواجههم بشخصه في مكة. لم تكن الأمور حتى تلك اللحظة قد اتخذت منحىً حربياً بعد,
وعليّ كان لا يزال يتصرف على أساس قدرته على ضبط الأمر سلماً عن طريق إقامة الحجة
على خصومه. فهو قدّر أنه بوجوده بشخصه, وجهاً لوجه, أمام طلحة والزبير من شأنه أن يحبط تحركهما في
مهده لأنهما, وهما صحابيان كبيران, لن يستطيعا إنكار بيعتهما العلنية لعليّ وسوف
لن يتمكنا من الاستمرار في مشروعهما الانشقاقي لأنهما سيؤثران في النهاية مصلحة
أمة الإسلام ولو كان ذلك على حساب مشاعرهما الذاتية.
تجهز
عليّ وجمعَ أهله وخاصته وسار إلى مكة. وخرج معه بضع مئاتٍ من أنصاره من أهل
المدينة.
وكان
خروج عليّ من المدينة حدثاً تاريخياً. فهو يمثل انتقال مركز الخلافة الاسلامية
منها . فلم تعد المدينة هي العاصمة ولن تعود مرة أخرى.
وقد
شعر اهل المدينة بجسامة الامر الذي يحصل. ولم يكن هيناً عليهم رؤية خليفة المسلمين
وهو يغادرهم. وربما كان لديهم تخوّف على مستقبل مدينتهم بغياب الخليفة. والمدينة
المنورة لها رمزية كبيرة في الاسلام, والخلفاء الثلاثة السابقون بقوا متمسكين بها
كعاصمةٍ لهم رغم اتساع امبراطورية الاسلام في زمانهم وافتتاح بلادٍ أكبر وأهم من
ناحية سياسية واستراتيجية. تمسك الخلفاء الثلاثة بالمدينة ولم يغادروها الاّ في
رحلاتٍ قصيرة ومحددة.
وذلك
يفسر التثاقل الذي واجهه عليّ حين انتدب اهل المدينة للخروج معه[67].
وحاول
بعض الانصار أن يوازنوا بين تأييدهم لعليّ وبين رغبتهم في بقائه بينهم, فحاولوا
اقناعه بجميل الكلام. قال الدينوري في
الاخبار الطوال " اجتمع اشراف الانصار فأقبلوا حتى دخلوا على عليّ. فتكلم
عقبة بن عامر , وكان بدرياً , فقال : يا امير المؤمنين ان الذي يفوتك من الصلاة
في مسجد رسول الله(ص) والسعي بين قبره ومنبره أعظم مما ترجو من العراق . فإن
كنت انما تسير لحرب الشام فقد أقام عمرُ فينا وكفاه سعدُ زحف القادسية , وأبو موسى
زحف الاهواز. وليس من هؤلاء رجلٌ إلاّ ومثله معك. والرجال أشباه والايامُ دول.
فقال عليّ : ان الاموال والرجال بالعراق,
ولأهل الشام وثبة أحب أن أكون قريباً منها .
ونادى
في الناس بالمسير فخرج وخرج معه الناس"[68]
وتذكر
بعض المصادر ان الصحابي عبد الله بن سلام قد حذر علياً من الخروج من المدينة وتنبّأ بما سيحدث ! قال ابن الاثير " فلقيه عبد الله بن سلام
فأخذ بعنانه وقال : يا أمير المؤمنين لا تخرج منها فوالله إن خرجت منها لا يعود
اليها سلطان المسلمين ابداً.
فسبّوه
فقال : دعوا الرجل , من اصحاب محمد(ص) "[69]
ولكن
الأنصار سرعان ما تخلوا عن هواجسهم واستجابوا لعليّ على بتأثير من
بعض كبارهم. قال ابن الاثير :
"
فلما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس انتدب الى علي وقال له : من تثاقل عنك
فإنا نخفّ معك فنقاتل دونك!
وقام
رجلان صالحان من أعلام الانصار , أحدهما ابو الهيثم بن التيهان, وهو بدريّ,
والثاني خزيمة بن ثابت[70] ,,,
فأجابه الى نصرته" . بل ان بعض الانصار أظهروا مواقف حماسية في
تأييدهم لعلي. يتابع ابن الاثير "
وقال ابو قتادة الانصاري لعليّ : يا أمير المؤمنين ان رسول الله(ص) قلدني هذا
السيف, وقد أغمدته زماناً وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذي لا يألون
الأمة غشاً "
ولكن
أخبار التطورات المتلاحقة بلغت علياً لما وصل إلى الربذة. فعائشة والزبير وطلحة
غادروا مكة باتجاه البصرة, ومعهم كل رموز عهد عثمان من أقربائه الأمويين وولاته
السابقين وزعماء بطون قريش.
تغيرت
خطط عليّ عندها , فلم يتابع المسير إلى مكة, وعسكرَ في الربذة وأخذ يدرس
الاحتمالات الممكنة. كان قرار ام المؤمنين والصحابيّيْن بالمسير إلى العراق خطيراً
جداً بنظره. فليس هناك من تفسير الآن سوى أن هؤلاء قد قرروا القطيعة النهائية مع
الخليفة. وتحركهم ذاك يوضح تماماً سعيهم إلى امتلاك قوةٍ ماديةٍ حقيقية تمكنهم
من تحدي سلطانه عملياً والخروج من دائرة الشرعية, شرعية الصحبة والسبق في الإسلام,
إلى دائرة الصراع السياسي المبني على موازين القوى, قوى الجيوش والرجال والأموال.
قرر
عليٌ اللحاق بهم إلى البصرة. وبدأ مسيره
الطويل إلى العراق.
ولكنه
قبل ذلك كان لا بد له أن يوضح حقيقة نواياه لأتباعه ومؤيديه. وقد كان حريصاً جداً
على إظهار رغبته في اصلاح الأمور سلماً لا حرباً وتأكيده انه لن يدخر جهداً في
تجنب القتال . وهذا ظاهر في رواية الكامل لابن
الاثير :
"فلما
اراد المسير من الربذة الى البصرة قام اليه ابنٌ لرفاعة بن رافع فقال : يا أمير
المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟
فقال
: أما الذي نريد وننوي فلاصلاح إن قبلوا منا وأجابونا اليه.
قال
: فإن لم يجيبونا اليه؟
قال:
ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر.
قال
: فإن لم يرضوا؟
قال
: ندعهم ما تركونا.
قال
: فإن لم يتركونا؟
قال
: امتنعنا منهم.
قال:
فنعم اذن
وقام
الحجاج بن غزية الانصاري فقال : لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول"
سار
عليّ إلى البصرة بشكل بطيء جداً واتخذ مساراً متعرجاً. فمن الربذة إلى الثعلبية
فالآساد إلى أن وصل ذي قار. ويبدو أن علياً
كان يسير إلى البصرة واضعاً الكوفة نصب عينيه. كان بإمكانه أن يسير إلى
البصرة بشكلٍ أسرع ومباشر, ولكنه آثر ذلك البطء ربما من أجل التأكد من كسب الكوفة
إلى جانبه. وكان طوال مسيره منخرطاً في مراسلاتٍ مكثفة مع الكوفة وأهلها.
وهو وإن كان لم يتجه إلى الكوفة مباشرة إلاّ أنه اقترب منها كثيراً واستقر بذي قار
التي لا تبعد عنها إلاّ قليلا[71].
وبلغت
أخبار ما جرى في البصرة علياً وهو
في مسيره إلى العراق. وكانت تلك الأخبار بالغة الخطورة والأهمية بالنسبة له. فسيطرة
خصومه على البصرة والإطاحة بعامله عليها, تعني أنه أصبح لهؤلاء قاعدة يمكنهم
الارتكاز إليها في أية مواجهة محتملة مع علي. ففي البصرة أعدادٌ كبيرة من الرجال, وكمّ مهمٌ من الأموال والعتاد.
وهكذا
فإن علياً يرى أن الأمور قد خرجت عن نطاق المقارعة
بالحجة والبرهان, والبيان والإقناع, واتخذت منحى تصاعدياً
ينذر بشرّ مستطير. فالآن تملك عائشة والزبير وطلحة قوة مادية حقيقية تضعهم في
موقع يتيح لهم تحدي سلطان عليّ بالفعل, بالقوة المادية, وليس فقط اعتماداً على ثقلهم في الموازين الشرعية
والإسلامية.
لا شك أن علياً كان يدرك أنه حتى لو وصل البصرة الآن,
وأقام الحجة على خصومه, ووضّح موقفه من مقتل عثمان بكل جلاء, فإن ذلك لن يكون
كافياً لإرغام خصومه على العودة إلى سلطانه
وبيعته. فماذا سيفعل عليّ إن أصرّ خصومه على موقفهم, ومعهم ما يكفي من القوة
لتحدّيه؟ وماذا سيفعل إن وضعوا شروطا تعجيزية؟
كان
لا بد لعليّ من امتلاك قوة تسانده وتقوّي موقفه تجاه خصومه. قوة كبيرة مؤثّرة,
يمكنه استعمالها إذا لزم الأمر.
كان
الذين خرجوا مع عليّ من الحجاز بضع مئات, أغلبهم من الأنصار من أهل المدينة[72].
وهم بالتالي لا يشكلون قوة عسكرية يُعتدّ
بها, ولن يكونوا أبداً ندّا للقوات
العربية المستوطنة في البصرة, الضخمة, والمتأقلمة تماماً
مع أوضاع القتال والغزو من خلال تاريخها الحافل مع الفرس.
ولذلك
كلّه كان لا بدّ لعليّ أن يكسب تأييد الكوفة. فبما أن
البصرة سقطت تحت سيطرة الزبير وطلحة, وبما أن الشام تحت إمرة معاوية, وبما أن مصر
واليمن بعيدان عن مسرح الأحداث, وبما أن الحجاز ليس بمقدورها أن تشكّل قوة عسكرية
فاعلة, لم تبقَ غير الكوفة أمام عليّ لكي يوجّه أنظاره
إليها. كان لزاماً على عليّ أن
يكسب الكوفة إلى جانبه. وكانت عواقب الفشل في استمالة الكوفة وخيمة جداً على مستقبل خلافته.
والكوفة
هي عاصمة العراق الحقيقية. وفيها كان التجمع العربي الضخم الذي كان صاحب الباع
الأكبر في تحطيم امبراطورية فارس. وللدلالة على مدى أهمية الكوفة داخل الإطار
الإسلامي آنذاك يكفي الإشارة إلى ما خاطب به عمر بن الخطاب أهل الكوفة مرة " أنتم
رأس العرب وجمجمتها, وسهمي الذي أرمي به إن أتاني شيئ من ههنا وههنا
..."
وكان
نجاح عليّ في استقطاب الكوفة أمراً منطقياً ومتوقعاً.
فقد كانت الكوفة مصدر القلاقل المهمة التي هزّت حكم عثمان بن عفان, ومنبعاً لأفكار ومشاعر الرفض للهيمنة الأموية
خاصة, والقرشية عامة. ولم ينجح ولاة عثمان, الوليد وسعيد, في إدارتهم لشؤون
الكوفة, ولكنهم نجحوا في زرع بذور التمرّد ضد الحكم الأموي, عن طريق سياسة
الاستعلاء القرشي, البارز والبيّن, التي طبّقت, وخاصة على يد سعيد, تجاه عموم أهل
الكوفة.
وعلى
هذا الأساس نظر الكثيرون إلى عليّ كنقيض لقريش وسياستها . فعلى الرغم من كون عليّ,
من حيث النسَب,
من صميم قبيلة قريش, إلاّ أنّ انتماءه إلى البيت النبويّ وعلاقته القريبة جدا مع
النبي(ص) تجعله مؤهلاً , بشكل فريد ,
لكي ينال إجماعاً من عامة
المسلمين, خاصة إذا ما أضيف إلى ذلك جهاده العظيم مع النبي(ص) وخصاله الشخصية وما
عرف عنه من العدل والزهد. وكان مما يجعله مرشحاً
مفضلا للكوفة هو إجماع قريش على معاداته.
وبالإضافة
إلى العامل القبليّ, ونفور غالبية أهل الكوفة من قبيلة قريش وممثليها, كان هناك
العامل الديني. فقد كانت الكوفة تضم تجمعات ذات صبغة دينية صرفة, أفرادها متدينون
مخلصون متمسكون بكتاب الله وأحكام الدين, وهم الذين عرفوا بِ " القرّاء " نظراً إلى اشتهارهم بقراءة القرآن وتلاوته
وحفظه. وهؤلاء كانوا أصلاً من
تلاميذ " المعلمين " البارزين , عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري.
وكان ابن مسعود بالتحديد مختصّا بالعلوم القرآنية, وكان يفتخر بمدى علمه بأسباب
نزول الآيات وتأويلها, وكان له مصحفه المشهور, قبل أن يقوم عثمان بحرقه. وكان يعقد
حلقات لتعليم القرآن للراغبين من أهل الكوفة, الذين كان الكثيرون منهم توّاقين إلى
تعلّم " كلام الله" على يد صحابيّ من السبّاقين إلى الإيمان, كابن
مسعود.
كانت
تلك الأوساط هي التي نمَت
وكبرت لتصبح ذات ثقل نوعيّ في الكوفة. كانوا أشخاصاً
متعلّقين بالروح الدينية التي جاء بها النبي(ص), وبصفاء العقيدة والضمير الإسلامي.
وكان القرآن الذي بين أيديهم هو بنظرهم المقدّس والإلهي, والطريق إلى الله.
وبنظر
هؤلاء , كان السلوك غير الأخلاقي, أو بعبارة أخرى غير الملتزم بتعاليم الدين, الذي
أظهره ولاة عثمان, وخاصة الوليد بن عقبة, كمثل شرب الخمر والخلاعة, أو الاستهتار
بشأن الصلاة, يُعتبر من الجرائم التي لا تغتفر. وهذا
النوع من السلوك الشائن أثار لدى أوساط القراء تساؤلات جدّية حول مدى شرعية عثمان
نفسه. ولم يكن سلوك عثمان يساعد هؤلاء القراء في إقناع أنفسهم أن هناك فارقاً بين الخليفة وبين ولاته الفاسقين.
فعثمان يدعم ولاته بقوة, ولا يلجأ لمحاسبتهم إلاّ مضطراً, وبعد شكاوى عديدة , ومماطلة.
كان
شخص علي بن أبي طالب يناسب أوساط القراء تماماً,
خاصة مع ما عُرف عنه من زهدٍ
حقيقي وورعٍ وتقوى. فهو بنظرهم نقيض عثمان وولاته
وعشيرته.
فالكوفة,
باختصار, كانت تتوق إلى التغيير وتسعى إليه. وكانت الأرضية في
الكوفة مهيّأة لتقبّل عليّ واحتضانه.
وبدأ
علي , وهو في طريقه من الحجاز إلى العراق, بإرسال مندوبيه إلى الكوفة, لكي يدرسوا
أوضاعها, ولحثّ أهلها على نصرة الخليفة في مواجهته لخصومه الذين تمردوا عليه.
مشكلة غير متوقعة لعليّ : أبو موسى الأشعري[73]
ولكنّ
علياً اصطدم, على غير توقع, بعقبة كأداء.
مشكلة حقيقية , وهي موقف أبي موسى الأشعري في الكوفة . فقد كان أبو موسى هو الوالي الذي
فرضته الكوفة على عثمان كبديل لسعيد بن العاص الذي خلعته.
وكان
عليٌ قد أقرّه
على ولاية الكوفة لمّا بويع كما سبق وذكرنا. وقد برّر
ذلك القرار فيما بعد بقوله :
"
... والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح. ولقد أردتُ عزله فأتاني
الأشتر فسألني أن أقرّه,
وذكر أن أهل الكوفة به
راضون. فأقررته"[74]
وكان أبو موسى يحظى باحترام واسع في أوساط
الكوفيين, ويتمتع بنفوذ معنوي مهم. وبحكم كونه يمانياً,
فقد كان مقرباً من القبائل اليمانية القوية والكبيرة في
الكوفة, وكان يُنظر له بشكل أو بآخر على أنه يمثل مصالح
الجانب القحطاني[75] من أمة
العرب. ويمكن تلخيص أسباب وضعية أبي موسى المميزة في الكوفة على النحو
التالي : فهو صحابيّ حقيقي وله احتكاك مع النبي(ص), وهو ليس قرشياً, وله ماضٍ جيد في حركة الفتوحات
أثناء ولايته على البصرة ايام عمر, وأخيراً
خصاله
الشخصية
والعلم الذي كان ينشره بين الناس.
"
يا أهل الكوفة : أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب, يأوي إليكم المظلوم
ويأمن فيكم الخائف .
أيها الناس : إن الفتنة إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت
تبينت, وإن هذه الفتنة الباقرة لا يدرى من أين تأتي ولا من أين تؤتى.
شيموا سيوفكم وانزعوا أسنة رماحكم, واقطعوا أوتار قِسِيّكم. والزموا
قعور البيوت.
أيها الناس : إن النائم في الفتنة خيرٌ من القائم.
والقائم خيرٌ من الساعي"
لم
يكن هناك شيئ أسوأ يمكن أن يحدث في الكوفة, بالنسبة لعليّ, من شيوع هكذا أفكار بين
أهلها.
فما طرَحَه
أبو موسى كان ببساطة دعوة للكوفة وأهلها باتخاذ موقف السلبيّة التامة تجاه ما يجري
من أحداث متسارعة في العالم العربي – الإسلاميّ. كان طرح أبي موسى , لو قدّر له أن
ينفّذ, نداءً إلى الكوفة بأن تنأى بنفسها وتنعزل عن جسد الأمة. كان طرحه غير
واقعيّ ولا سياسيّ على الإطلاق.
فمن الناحية الموضوعية البحتة, لم يكن ممكناً لمَصْر
مركزيّ في عالم العرب , بحجم وأهمية الكوفة, أن يبقى خارج سياق الأحداث .
فما كان يتبلور له تأثيرٌ
مباشر على "امبراطورية" العرب كلها, بشتّى أقطارها. وليست الكوفة بلدة
صغيرة في ناحية نائية في العراق حتى يمكن أن يتجاهلها عليّ, أو غير عليّ ممن انخرط
في الصراع على الحكم والخلافة, ولم تكن الكوفة نفسها لتسمح بأن يتمّ تجاهلها. فما
كان ينادي به أبو موسى – اللاموقف – كان هو المستحيل بعينه.
وقد
عبّر رجلٌ من أهل الكوفة , اسمه عبد خير الخيواني,
عن ذلك خيرَ تعبير في معرض جدالٍ له مع أبي موسى: " يا أبا موسى: هل
كان هذان الرجلان, يعني طلحة والزبير , ممن بايع علياً؟
قال : نعم .
قال : هل
أحدث حدَثاً يحل به نقض بيعته؟
قال : لا أدري!
قال : لا دريتَ! فإنا تاركوك حتى تدري. يا أبا موسى:
هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة التي تزعم إنما هي فتنة؟ إنما بقي أربع قرون:
عليّ بظهر الكوفة, وطلحة والزبير بالبصرة, ومعاوية بالشام, وفرقة أخرى بالحجاز لا
يُجبى
بها فيئ ولا يقاتل بها عدو"[77]
واللافت
للنظر حقاً, هو الشراسة التي دافع بها أبو موسى عن
أفكاره ودعوته. كان أبو موسى يقاتل بالفعل في سبيل ثني الكوفيين عن التجاوب مع
طلب النصرة من عليّ. وإذا كان من المفهوم وجود تيار "اعتزال الفتنة"
بين قطاعات من الصحابة والمتدينين, فإن أبا موسى كان مختلفاً عن غيره من "المعتزلين".
فهؤلاء كانوا سلبيين في كل شيئ . لم يشاركوا في الصراع ولم يتدخلوا في مجريات
الأحداث, واكتفوا بالجلوس في بيوتهم (سعد بن أبي وقاص , مثلا), على الحياد. ولكنّ
أبا موسى لم يرغب في الجلوس ببيته, بل أظهر إصراراً
غريباً على تحدّي طلب الخليفة, وقام بمجهودٍ هائل في أوساط الكوفيين لإقناعهم برفض
دعوة عليّ.
كان أبو موسى يناظر ويجادل ويتصرف كمن يؤدي مهمة مقدسة. ومهمته هي منع الناس من
الانجرار وراء دعوات " الفتنة " .
ويذكر
المؤرخون أن علياً اضطر الى ارسال عدة بعثات الى الكوفة من أجل الحصول على
تأييدها وأن مبعوثي علي توجّب عليهم خوض صراع حقيقي مع ابي موسى الذي كان
مصراً على إفشالهم. وتختلف الروايات في ذكر اسماء الذين أرسلهم علي وتفاصيل مواجهاتهم
مع ابي موسى .
وقد
ذكر العلامة ابن خلدون في تاريخه خلاصة الروايات اعتمادا
على كتاب ابن جرير الطبري الذي يثق بمصداقيته "لسلامته من الاهواء
الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين", فقال أن عليا أرسل
ثلاثة وفود الى ابي موسى في الكوفة:
أولها يتكون من محمد بن ابي بكر ومحمد بن جعفر[78] "
فبلغا الى الكوفة ودفعا الى ابي موسى كتاب علي, وقاما في الناس بأمره, فلم
يجبهما أحد. وشاورا أبا موسى في الخروج الى علي فقال : الخروج سبيل الدنيا
والقعود سبيل الآخرة! فقعدوا كلهم.
فغضب محمد ومحمد واغلظا لأبي موسى.
فقال لهما : والله ان بيعة عثمان لفي عنقي وعنق علي وان
كان لا بد من القتال فحتى نفرغ من قتلة عثمان[79]"
اذن وصلت الامور بين ابي موسى وأول وفدٍ ارسله عليّ الى
حد تبادل السباب[80] (أغلظا
لأبي موسى).
فقرر علي ان يحاول مرة أخرى مع ابي موسى. يتابع ابن خلدون:
"فرجعا
الى عليّ بالخبر وهو بذي قار , فرجع باللائمة على الاشتر وقال : أنت صاحبنا في ابي
موسى. فاذهبْ أنت وابن العباس وأصلحْ ما أفسدتَ.
فقدما على ابي موسى وكلما
استعانا عليه بالناس لم يجبْ الى شيء ولم يرَ الا القعود حتى تنجلي الفتنة ويلتئم
الناس.
فرجع ابن عباس والاشتر[81] الى
علي"
اذن فشل الوفد الثاني المكوّن من مالك الاشتر وعبد الله
ابن عباس في مهمته. وهذا يدل فعلاً على شراسة ابي موسى لأن الاشتر كان صاحب نفوذٍ
كبير في الكوفة.
وأثار
ذلك كله غضب عليّ الشديد, مما دفعه إلى إرسال كتابٍ قاسٍ شديد اللهجة إلى أبي
موسى, هدّده فيه , وخيّره بين العزل أو التعاون:
"
أما بعد: فقد بلغني عنك قولٌ هو لك وعليك.
فإذا قدِم رسولي عليكَ فارفع ذيلكَ , واشدُد مئزركَ ,
واخرج من حجركَ, واندبْ مَن معكَ .
فإن حققتَ فانفذ, وإن تفشلتَ فابعد.
وأيم
الله لتؤتينّ حيث أنتَ, ولا تترك حتى يخاطَ زبدكَ بخاثركَ, وذائبكَ بجامدكَ, وحتى
تعجل عن قِعدتكَ, وتحذر مِن أمامكَ كحذركَ مِن خلفكَ.....
فاعقِل عقلكَ, واملك أمركَ وخذ نصيبكَ وحظكَ .
فإن كرهتَ فتنحّ إلى غير رحبٍ, ولا في نجاةٍ .
فبالحريّ
لتكفينّ وأنت نائم حتى لا يقال أين فلان.
رواية ملطفة من صحيح البخاري :
روى البخاري
في صحيحه[83] عن عبد
الله بن زياد الاسدي:
" لما سار طلحة والزبير وعائشة الى البصرة بعث
عليٌ عمار بن ياسر وحسنَ بن علي , فقدما علينا الكوفة فصعدا المنبرَ , فكان الحسن
بن علي فوق المنبر في أعلاه وقام عمار
أسفل من الحسن. فاجتمعنا اليه فسمعتُ عماراً يقول : ان عائشة قد سارت الى البصرة ,
ووالله انها لزوجة نبيكم (ص) في الدنيا والآخرة , ولكنّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم
ليعلم إياه تطيعون أم هي"
وأنا أظن ان الرواة قد زادوا على لسان عمار كلمة " والآخرة
" في ذكره لحقيقة ان عائشة كانت زوجة النبي(ص). فهذه الزيادة تعني إقرار عمار
ان عائشة مضمونة لها الجنة , وذلك بعيد جداً بالنظر الى مواقف عمار وحماسه في
محاربة كل خصوم علي. فلو كان عمار مقراً بالفعل أن عائشة هي زوجة النبي (ص) في
الجنة لكان من المتوقع أن يكون أصابه نوع من التشكك والتردد في مواقفه. وهذا
بالقطع لم يحصل.
ويلاحظ ان البخاري – كدأبه دائماً – يتجنب قدر الامكان
الحديث عن الخلافات بين الصحابة ويحاول إظهار حالة من الوئام بينهم. وهنا هو لم
يتكلم عن الصراع بين ابي موسى ومندوبي عليّ , ولم يذكر رسائل عليّ له. بل هو أخرج
هذه الرواية فقط لأن فيها " زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة" على
لسان عمار.
أفكار أبي موسى : خلفيات موقفه في الكوفة
من المفيد التساؤل : لماذا جاء أبو
موسى بهذه الأفكار, ومن أي مصدرٍ نبعت؟
بالتأمل
في تفاصيل الروايات التي أوردها ابن أبي الحديد
وغيره حول جدالات أبي موسى مع مندوبي عليّ وأهل الكوفة, يمكن الاستنتاج أن أبا
موسى كانت تحركه اربعة أفكار رئيسية :
·
استنكار مقتل
الخليفة عثمان من حيث المبدأ, ورفض التمرد على شرعية مؤسسة الخلافة
ذاتها. قال أبو موسى لمحمد بن جعفر ومحمد بن أبي بكر:
" ... والله إن بيعة عثمان لفي عنق عليّ
وعنقي وأعناقكما. ولو أردنا قتالاً ما كنا لنبدأ بأحدٍ قبل قتلة عثمان"
·
استنكار مبدأ
الاقتتال الداخلي بين المسلمين مهما كانت الأسباب. فهو قال لأهل الكوفة
:
" الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد, فجمعنا
بعد الفرقة, وجعلنا إخوة متحابين بعد العداوة, وحَرّم
علينا دماءنا و أموالنا.... إن علياً إنما يستنفركم لقتال أمكم عائشة وطلحة والزبير حواري
رسول الله ومَن
معهم من المسلمين"
بالإضافة
إلى الأحاديث النبوية الكثيرة التي رواها بشأن تحريم الفتنة.
·
اعتبار الصراع
المندلع على الحُكم
بين عليّ من جهة والزبير وطلحة من جهة أخرى, مشكلة داخلية قرشية, ينبغي حلها سلماً بين أطراف
الصراع دون جرّ بقية المسلمين إلى مهاوي الردى :
" .... وخلّوا قريشاً ترتق فتقها , وترأب صدعها. فإن فعلت
فلأنفسها ما فعلت, وإن أبَت
فعلى أنفسها ما جَنت,
سَمنُها في أديمها"[84]
·
ضرورة حصول الخليفة
الجديد على إجماع الامة, وخصوصا كبار الصحابة , على طريقة عمر
بن الخطاب. قال أبو موسى لأهل الكوفة:
" ... (ايها الناس انكم قد سلمتم من الفتنة
الى يومكم فتخلفوا عنها وأقيموا الى ان يكون الناس جماعة فتدخلوا فيها)[85]."
تطوّرٌ حاسم : عليّ يكسبُ الكوفة[86]
وقرر عليّ أخيراً أن يرمي أبا موسى بأقوى ما عنده : حفيد
رسول الله (ص) وصحابيّ عريق من الطبقة الاولى في الاسلام, بما لهما من ثقل معنويّ
كبير. يقول ابن خلدون " فأرسل عليٌ ابنه الحسن وعمارَ بن ياسر..."[87]
وعندها أخيراً
نجح في استقطاب الكوفة, بعد أن اقتنع أهلها بتجاهل ابي موسى وموقفه السلبي.
ويذكر ابن خلدون
ان ابا موسى عندما بدأ برواية حديثه المشهور عن النبي حول الفتنة التي يكون فيها
القاعد خير من القائم والقائم خير من الماشي ...الخ ثار غضب عمار بن ياسر وانفجر
بوجهه فسبّه.
ولكن عمار بن ياسر لم يكتفِ بسب ابي موسى بل انه قام
بالرد المُفحم على أساس دعوة ابي موسى وما كان يذيعه بين اهل الكوفة : حديث اجتناب
الفتنة.
وقد روى ابن عساكر
في تاريخ دمشق كيف تصدّى عمار بن ياسر بكل همّة لأبي موسى حين كان ينشر بين الناس
حديثه المشهور حول الفتنة. وحسب الرواية فإن أبا موسى قد بُهت وعجز عن الرد على
عمار , وهو الصحابيّ الأعرق والأعظم قدراً, الذي أكّد أن كلام النبي(ص)
بشأن الفتنة كان موجهاً الى أبي موسى خصوصاً وإخباراً له بأن جلوسه هو في الفتنة
التي قد تقع بين المسلمين خيرٌ له ولهم من نشاطه في تلك الفتنة :
فمن طريق ابي يعلي ان عماراً قال له " يا
أبا موسى أنشدك الله ! ألم تسمع رسول الله (ص) يقول من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ
مقعده من النار. وأنا سائلك عن حديث فإن
صدقتَ وإلاّ بعثتُ عليك من أصحاب رسول الله(ص) من يقرركَ به . أنشدكَ الله !
أليسَ إنما عناك رسول الله(ص) أنتَ نفسك فقال : انها ستكون فتنة بين أمتي أنت
يا أبا موسى فيها نائماً خيرٌ منك قاعداً وقاعداً خيرٌ منك قائماً وقائماً خير منك
ماشياً . فخصّكَ رسول الله(ص) ولم يعمّ الناس.
فخرج أبو موسى ولم يرد عليه شيئاً"
وهكذا فإن عماراً قد نجح في دحر الدعاية التثبيطية
المغرضة التي كان يبثها أبو موسى في غير صالح عليّ, عن طريق توضيح حقيقة ذلك
الحديث النبوي أمام الناس.
وفي رواية ابن اعثم
في كتاب الفتوح ان عماراً قال لأبي موسى " ان عائشة أُمِرتْ بأمرٍ
وأُمِرْنا بغيره : أُمِرتْ أن تقرّ في بيتها, وأُمِرْنا أن نقاتل حتى لا تكون
فتنة, فأمَرَتنا هي بما أُمِرتْ وركبتْ ما أُمِرنا به"
روى
الدينوري المزيد من التفاصيل عما دار
بين الحسن وعمار من جهة وابي موسى من جهة أخرى:
"
فساروا حتى دخلوا الكوفة , وأبو موسى يومئذ بالكوفة, وهو جالسٌ في المسجد, والناس محتوشوه ......
فانتهى
الحسن بن علي وعمار رضي الله عنهما إلى المسجد الأعظم وقد اجتمع عالم من الناس على
أبي موسى......
فقال له الحسن : أخرجْ عن مسجدنا وامضِ حيث شئتَ!
ثم
صعد الحسن المنبر , وعمار صعد معه, فاستنفرا الناس.
فأجابه الناس من كل وجه : سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين. نحن خارجون على
اليسر والعسر والشدة والرخاء. فلما أصبحوا من الغد خرجوا مستعدين.
وقد أورد ابن أبي الحديد تفاصيل الخطبة المؤثرة التي
ألقاها الحسن بن عليّ في جموع أهل
الكوفة, والتي أسفرت اخيراً عن
إقناعهم بنبذ أبي موسى والاستجابة لنداء عليّ :
"
... أيها الناس : إنا جئنا ندعوكم إلى الله وإلى كتابه وسنة رسوله, وإلى أفقه مَن تفقه من المسلمين , وأعدل من تعدلون,
وأفضل مَن تفضلون, وأوفى مَن تبايعون. مَن لم يعبه القرآن ولم تجهله السنة ولم
تقعد به السابقة. إلى مَن قرّبه الله تعالى إلى رسوله قرابتين : قرابة
الدين وقرابة الرحم. إلى مَن
سبق الناسَ إلى
كل مأثرة. إلى مَن
كفى الله به رسوله والناس متخاذلون. فقرب منه وهم متباعدون. وصلى معه وهم مشركون . وقاتل معه وهم منهزمون.
وبارز معه وهم مُحجمون.
وصدقه وهم يكذبون. إلى مَن لم
ترد له رواية ولا تكفأ له سابقة.
وهو
يسألكم النصر ويدعوكم إلى الحق ويأمركم بالمسير إليه, لتوازروه وتنصروه على قوم
نكثوا بيعته , وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه , ومثلوا بعماله وانتهبوا بيت ماله.
فاشخصوا
إليه رحمكم الله"[90]
وفي
رواية اخرى ان الحسن قال عن طلحة والزبير ومَن
معهم " ثم نكثَ
منهم ناكثون بلا حَدَثٍ أحدثه ولا خلافٍ أتاه, حسَداً له وبغياً عليه"
وفي
رواية ابن أعثم في كتاب الفتوح ان
الحسن قال " أجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما قد بلينا به. فوالله اني لأعلم
ان من سمع بهذا الامر ولم يكن إلاّ مع الحق انه لسعيد"
وتتفق
جميع المصادر أن الذي عينه عليّ والياً على الكوفة بديلاً لأبي موسى كان قرظة بن
كعب الانصاريّ[91].
واستقبل
عليّ وهو بذي قار القوات القادمة من الكوفة بسرورٍ بالغٍ. وألقى فيهم خطبة امتدحهم فيها لتاريخهم الجهادي المشرف, ثم حرص على توضيح هدفه وأسباب تحركه
لهم, وأكد أن الحرب ضد إخوانهم البصريين ليست هدفه,
وأنه سيحرص على دخول المتمردين في طاعته سلماً :
"يا أهل الكوفة! أنتم وليتم شوكة العجم
وملوكهم, وفَضَضتم جموعَهم حتى صارت إليكم مواريثهم, فأغنيتم حوزتكم, وأعنتم
الناس على عدوهم.
وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة. فإن
يرجعوا فذاك ما نريد. وإن يلجّوا داويناهم بالرفق وبايناهم حتى يبدأونا بظلم. ولن
ندعَ أمراً فيه صلاحٌ إلاّ آثرناه على ما فيه الفساد"[92]
وحسب
رواية ابن ابي الحديد في شرح نهج
البلاغة نقلاً عن ابي مخنف ان علياً قال " مرحباً بأهل الكوفة, بيوتات
العرب ووجوهها, وأهل الفضل وفرسانها, وأشد العرب مودّة لرسول الله صلى الله عليه
ولأهل بيته, ولذلك بعثت اليكم واستصرختكم عند نقض طلحة والزبير بيعتي عن غير جور
مني ولا حدث ,,,"
ويقول
ابن اعثم في كتاب الفتوح ان عدد القوات
التي اجتمعت بإمرة عليّ في ذي قار وسارت باتجاه البصرة وصل الى تسعة عشر الفاً ,
بمن فيهم الذين جاؤوا من الكوفة بالاضافة الى من كان مع علي من اهل الحجاز ومصر
" ثم صار الناس يتلاحقون به من كل أوب".
[1] مصادر هذا البحث : صحيح البخاري ( ج5 ص151باب حديث الإفك + ج6 ص 14 باب مرض النبي ووفاته), نهج البلاغة بشرح محمد عبده
(ج2 ص199), السنن الكبرى للبيهقي (ج8
ص152), الامامة والسياسة لابن قتيبة
(ج1 ص95).
[2] صحيح البخاري / باب
حديث الإفك. وبلغت شدة موقفها من عليّ إلى درجة أنها لا تطيق مجرّد ذكر اسمه كما
ورد في صحيح البخاري
/ باب مرض النبي ووفاته
[4] فمثلاً روى البيهقي في السنن الكبرى أن عمر بن الخطاب وعبد
الرحمن بن عوف ومحمد بن مسلمة قاموا بكسر سيف الزبير من شدة غضبه بسبب بيعة أبي
بكر!
[6] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف للبلاذري
(ج3 ص18), الكامل لابن الاثير (ص 406),
تاريخ اليعقوبي (ج2 ص180).
[7] وفي رواية تاريخ اليعقوبي
أنها قالت لمن أتاها بخير بيعة علي " والله ما كنتُ أبالي أن تقع هذه على
هذه ". تقصد السماء والارض.
[8] انساب الاشراف للبلاذري
من طريق ابي مخنف . ومعنى كلمة محش : ما
تحرك به النار من حديدة أو عود. ويقال فلان محش حرب أي موقدها. وسرف :موضع على بعد
6 أميال من مكة. ورواية الكامل لابن الاثير
قريبة منها , وبها قول عائشة " ردّوني ردّوني" , ولكن فيها اضافة ربما
مُقحمة على الرواية , حيث يجيبها الرجل " ولقد كنتِ تقولين اقتلوا نعثلاً
فقد كفر"
[9] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج3
ص471-472), البداية والنهاية لابن كثير
( ج7 ص258), انساب الاشراف للبلاذري
(ج3 ص23), الإمامة والسياسة لابن قتيبة(ج1 ص76), كتاب الفتوح لابن
اعثم (ج2 ص455-456), المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3 ص119), شرح نهج
البلاغة لابن ابي الحديد (ج6 ص219) و
"جمهرة رسائل العرب".
[10] تاريخ الطبري. وايضاً
: البداية والنهاية لابن كثير
[11] ويلاحظ ان العلامة ابن كثير
, الامويّ الهوى, تجاهل أخبار موقف ام سلمة القوي من عائشة, بل انه حاول التخفيف
من حدّة انفراد عائشة عن طريق الايحاء بأن بقية امهات المؤمنين لم يكنّ معارضات
لمبدأ تحركها بل لمكان مسيرها. فقال في البداية والنهاية ان بقية امهات المؤمنين
الموجودات في مكة قلن انهنّ على استعداد للمسير مع عائشة الى المدينة المنورة ,
ولكن ليس للبصرة. واضاف انهنّ ودعنها وداعاً حاراً لدى خروجها الى العراق " وبكين
, وتباكى الناس, وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب"
[14] عقيرتك : من عقر الدار , أي أصلها, والمعنى : سكّني نفسك التي
حقها ان تلزم مكانها. ولا تصحريها : لا
تبرزيها وتجعليها بالصحراء.
[16] وشبيهٌ بهذا النص ورد في "جمهرة رسائل العرب" نقلاً عن
شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد وعن
العقد الفريد لابن عبد ربه.
[17] ولكن تفاصيل خبر ابن اعثم
تبدو متأثرة كثيراً بالمحاججة المذهبية الشيعية وفيه عبارات لا يمكن تصديقها ,
ومنها اعتراف عائشة بصحة قول ام سلمة ان النبي(ص) قال " علي خليفتي عليكم
في حياتي ومماتي فمن عصاه فقد عصاني" ونحو ذلك من عبارات يظهر فيها تلاعب
الرواة. ورغم ذلك يبقى أصلُ الخبر صحيحاً.
[18] تاريخ الطبري . وقريبٌ من ذلك رواه الحاكم
النيسابوري في المستدرك على الصحيحين . وروى الخبر ايضا ابن اعثم في كتاب الفتوح ولكن باستعمال لغة أقرب
الى المذهبية الشيعية.
[19] مصادر هذا البحث: الإمامة والسياسة لابن
قتيبة (ج1 ص71), البداية والنهاية لابن
كثير (ج7 , ص 253+ ص255), انساب الاشراف
للبلاذري (ج3 ص18), نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج2 : ص281 و ص220 و ص224),
نهج البلاغة , بشرح ابن ابي الحديد (
ج9 ص291) , الاخبار الطوال للدينوري
(ص144), "جمهرة رسائل العرب", تاريخ
الطبري (ج3 ص496).
[20] الإمامة والسياسة لابن قتيبة.
وحسب رواية ابن كثير في البداية
والنهاية إن طلحة والزبير " سألاه ان يؤمرهما على البصرة والكوفة. فقال
لهما : بل تكونا عندي أستأنس بكما"
[21] كان عمر بن الخطاب قد فرض تراتبيّة معينة لتوزيع العطاء بين
المسلمين فضّل فيها كبار الصحابة وامهات المؤمنين على غيرهم من الناس.
[23] ذكرنا في الجزء الاول من هذه السلسلة (عهد عثمان بن عفان) تفاصيل
ثروات كبار الصحابة ايام حكم عثمان. فليراجع من شاء.
[24] يورد صاحب " جمهرة رسائل العرب" نقلاً عن ابن ابي الحديد نص رسالتين بعثهما معاوية من
الشام , واحدة للزبير والاخرى لطلحة , وفيهما حث على الخروج والتمرد على عليّ لجمع
الكلمة وإنقاذ الأمة. ولكني أستبعد ان
يكون تمرد الزبير وطلحة على عليّ له علاقة بمعاوية ورسائله التي أشك في صدورها عنه
خاصة وان بها دعوة للقدوم الى الشام التي يقول معاوية انه أحكم الامر فيها لهما !
[27] نهج البلاغة, بشرح محمد عبده.
[28] روى الدينوري في
الاخبار الطوال ان الزبير وطلحة قالا لعائشة " وان اهل البصرة لو قد
رأوكِ لكانوا جميعا يداً واحدة معك " في معرض دعوتها للمسير معهما
الى البصرة.
[29] مصادر هذا البحث : الطبقات الكبرى لابن
سعد (ج 5 ص48), تاريخ دمشق لابن عساكر
(ج29 ص262) , أسد الغابة لابن الأثير
(ج3 ص192)و (ج5 ص128), الاستيعاب لابن عبد البر (ص
765),
البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص257
), كتاب الثقات لابن حبان (ج2 ص279), انساب الاشراف للبلاذري
(ج3 ص23), سير اعلام النبلاء للذهبي
(ج3 ص101)
[30] الطبقات الكبرى لابن سعد
. ونفس الرواية نقلها عنه ابن عساكر في
تاريخ دمشق. وأيضا ذكر ذلك ابن الأثير
في أسد الغابة.
[31] وأخرج ابن الاثير في أسد الغابة نفس هذه الرواية عن
المدائني. وروى البلاذري نقلا عن صالح
بن كيسان " وكان يعلي بن منية قد قدم من اليمن فحملهم على اربعمائة بعير,
فيها " عسكر " جمل عائشة الذي ركبته ".
[32] البداية والنهاية لابن كثير . واضافت الرواية ان يعلي بن امية هو الذي اشترى جمل عائشة المسمى عسكر " بـ 200 دينار, وقيل بـ 80 دينارا , وقيل
غير ذلك"
[34] مصادر هذا البحث : أنساب الأشراف للبلاذري
(ج3 ص21-22 و ص26) , البداية والنهاية لابن كثير
(ج7 ص258), الطبقات الكبرى لابن سعد
(ج5 ص449), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص 181),
مروج الذهب للمسعودي (ج2 ص280).
[35] أنساب الأشراف للبلاذري
في رواية الزهري. وكذلك ورد في البداية والنهاية لابن
كثير أنهم كانوا ثلاثة آلاف, منهم ألف فارس, وعائشة تحمل في هودج على
جمل اسمه عسكر.
[38] مصادر هذا البحث : الامامة والسياسة لابن قتيبة
( ج1 ص 79-80) والبداية والنهاية لابن كثير
(ج7 ص259), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2
ص458).
[41] هذه النصوص الثلاثة من الامامة والسياسة لابن قتيبة
. وفي كتاب الفتوح لابن اعثم تظهر
لمحات من المذهبية الشيعية في ثنايا جواب الاحنف بن قيس لعائشة " لا والله
لا اقاتل علي بن ابي طالب ابدا وهو اخو رسول الله(ص) وابن عمه وزوج ابنته وابو
سبطيه , وقد بايعه المهاجرون والانصار".
[42] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف
للبلاذري (ج3 ص24), صحيح ابن حبان (ج15 ص126), تاريخ الطبري
( ج3 ص475), تاريخ اليعقوبي (
ج2 ص181), البداية والنهاية لابن كثير
(ج7 ص258), مسند احمد بن حنبل ( ج6 ص52), المستدرك على الصحيحين للحاكم (ج3 ص120), الاستيعاب لابن عبد البر (
ص 921)
[43] مصادر هذا البحث : الإمامة والسياسة لابن
قتيبة (ج1 ص83-84 + 87), البداية والنهاية لابن
كثير (ج7 ص257), البيان
والتبيين للجاحظ (ج2 ص194), تاريخ الطبري (ج3 ص 479), وانساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص25).
[44] يختلف المؤرخون حول عدد الذين ساروا من مكة إلى البصرة وتراوحت
تقديراتهم ما بين 600 إلى 3000 رجل. فمثلاً قال ابن كثير في البداية والنهاية " وسار الناس صحبة
عائشة في الف فارس, وقيل تسعمائة فارس من اهل المدينة ومكة وتلاحق بهم آخرون
فصاروا في ثلاثة آلاف"
[45] الإمامة والسياسة لابن قتيبة.
وفي رواية البلاذري أن ابا الاسود رجع
الى عثمان بن حنيف وأنشده شعراً :
يا
ابن حنيفٍ قد أُتيتَ فانفرْ ..... وطاعن
القومَ وضاربْ واصبرْ
وابرزْ
لهم مستلئماً وشمّرْ
فأجابه ابن حنيف
: أي ورب الحرمين لأفعلنّ.
[46] مصادر هذا البحث : الإمامة والسياسة لابن
قتيبة (ج1 ص87), انساب الاشراف للبلاذري (ج3
ص25), الطبقات الكبرى لابن سعد ( ج7
ص93),
أسد الغابة لابن الأثير ( ج1 ص55),
الأخبار الطوال للدينوري ( ص144).
[47] الإمامة والسياسة لابن قتيبة
. وفي رواية ابي مخنف لدى البلاذري في
انساب الاشراف ان عائشة اختتمت كلامها بالقول " ويُجْعلُ الأمرُ شورى".
[50] مصادر هذا البحث : أنساب الأشراف للبلاذري
(ج3 ص25-26), تاريخ خليفة
بن خياط ( ص137), تاريخ الطبري (ج3 ص484), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص260).
[51] أنساب الأشراف للبلاذري
,في رواية طويلة لأبي مخنف. والجزء الأخير
من الرواية المتعلق بكتاب الصلح أخرجه أيضاً خليفة
بن خياط في تاريخه .
[52] تاريخ الطبري (ج3 ص484)
[54] مصادر هذا البحث : الإمامة والسياسة لابن
قتيبة (ج1 ص 89). البداية والنهاية لابن
كثير (ج7 ص260), تاريخ الطبري
(ج3 ص487-488 + 491), انساب الاشراف للبلاذري
(ج3 ص26 -29), الكامل لابن الاثير(ص409).
[55] الإمامة والسياسة لابن قتيبة.
واما ابن كثير في البداية والنهاية فقد
حرص على تبرئة طلحة والزبير من مسؤولية قتل الـ 40 رجلاً والاساءة الى ابن حنيف.
فقد وجه التهمة الى(الرعاع) و (الناس)
وقال " ووقع من رعاع الناس من اهل البصرة كلامٌ وضرب, فقتل منهم
نحو اربعين رجلاً. ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه الى طلحة
والزبير ولم يبق في وجهه شعرة إلاّ نتفوها. فاستعظما ذلك وبعثا الى عائشة فأعلماها
الخبر فأمرت أن تخلي سبيله"
[58] تاريخ الطبري . وطبعاً
الضمير الموجود في " وثبوا " لا يعود بالضرورة على طلحة والزبير شخصياً
, بل الارجح أن تكون الجموع المحيطة بهما هي التي تبادر الى البطش دون صدور أوامر
مباشرة منهما بالضرورة.
[59] وفي رواية الكامل لابن الاثير
ان حكيم خاطب ابن الزبير بقوله " أما تخافون الله ؟ بم تستحلون الدوم
الحرام؟! قال : بدم عثمان . قال : فالذي قتلتم هم قتلوا عثمان؟! اما تخافون مقت
الله "
[60] وفي رواية اخرى للزهري عند البلاذري
" لما قدم طلحة والزبير البصرة أتاهما عبد الله بن حكيم التميمي بكتبٍ
كتبها طلحة اليهم يؤلبهم فيها على عثمان, فقال له حكيم : اتعرف هذه الكتب ؟ قال :
نعم. قال : فما حملك على التأليب عليه امس والطلب بدمه اليوم؟ فقال : لم أجد في
أمر عثمان شيئاً إلاّ التوبة والطلب بدمه"
ولا
يمكن تصديق مثل هذه الروايات التي تتحدث عن كتب ارسلها طلحة الى الامصار يدعو فيها
لقتل عثمان.
فهذا غير صحيح. وهو يدخل في باب تلطيخ سمعة طلحة وإظهاره كمسؤول عن مقتل عثمان.
[63] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري
( ج3 ص488-489), البداية والنهاية لابن كثير
(ج7 ص261), الكامل لابن الاثير(ص409).
[65] البداية والنهاية لابن كثير.
وهذا النص الذي اورده ابن كثير مخفف وملطف بالقياس الى غيره من المصادر . فمثلا
نجد في نص الكامل لابن الاثير ان عائشة
طلبت منه أن " يخذَل الناس عن علي" إن لم ينضم لها , وفيه ايضا
ان زيدا يقول في سياق جوابه " وإلا فأنا أول من نابذك ". وهاتان
العبارتان حذفهما ابن كثير.
[66] مصادر هذا البحث: الكامل في التاريخ لابن
الاثير ( ص410-411), الاخبار الطوال للدينوري
(ص143), تاريخ ابن خلدون
(ج2 ص158) , البداية والنهاية لابن كثير
(ج7 ص261), مروج الذهب للمسعودي (ج2
ص280).
[68] الاخبار الطوال للدينوري
. وسياق الرواية يتكلم عن الاستعداد للتوجه الى البصرة , أي بعد أن خرج علي بالفعل
من المدينة ووصل الربذة. ولكن الرواية مفيدة في توضيح موقف قسم مهم من الانصار.
[69] الكامل في التاريخ لابن الاثير.
وروى مثل هذه الرواية ابن
خلدون في تاريخه وابن كثير
في البداية والنهاية. ويلاحظ وجود الكثير
من الروايات عن عبد الله بن سلام فيها تنبؤات صحيحة جداً عن أحداث مستقبلية, حتى
بشأن أحداث مقتل الخليفة عثمان. وربما يكون السبب هو الخلفية التوراتية والتلمودية
الكبيرة لعبد الله بن سلام, فهو كان من أحبار اليهود قبل أن يسلم.
[70] يذكر ابن الاثير في
الكامل قولين متعارضين عن خزيمة : انه هو ذو الشهادتين , وانه ليس ذا الشهادتين!
[71] ذي قار هي مدينة الناصرية الحالية في العراق. وهي تقع في منتصف
المسافة تقريبا بين البصرة والكوفة : تبعد حوالي 200 كم شمال غرب البصرة وحوالي
250 كم الى الجنوب الشرقي من الكوفة.
[72] وقد انضم اليه اثناء مسيره الطويل مئات آخرون من القبائل العربية
, وخصوصاً طيء التي يقول المسعودي ان
600 من ابنائها لحقوا بركب عليّ حين كان بالربذة.
[73] مصادر هذا البحث : الأخبار الطوال للدينوري
(ص 145), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج14 ص10), تاريخ الطبري (ج3 ص500), المستدرك على الصحيحين للحاكم
(ج3 ص117), تاريخ ابن خلدون (ج2 ص159),
انساب الاشراف للبلاذري (ج3
ص29-31) ,
نهج البلاغة بشرح محمد
عبده (ج3 ص389).
[75] وهناك رواية تقول أن عليا , في أعقاب صفين, حين سمّى عبد الله بن
عباس كممثل عنه في مؤتمر التحكيم في مواجهة عمرو بن العاص, احتجّ عليه البعض
وأصرّوا على اختيار أبي موسى لأنه " لا يحكم فينا مُضَريان
".
[78] الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين يقول ان المحمدين
كانا: محمد بن الحنفية (ابنه) ومحمد بن ابي بكر.
[80] يقول البلاذري في انساب الاشراف عن طريق ابي مخنف ان أول من بعثه عليّ
لأبي موسى كان هاشم بن عتبة بن ابي وقاص وان الاشعري توعده بالحبس.
[81] الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين يقول انهما كانا :
الحسن بن علي(ابنه) والاشتر. واما البلاذري
في انساب الاشراف فيقول انهمما كانا ابن عباس وعمار بن ياسر. وفي رواية أخرى للبلاذري عن ابي مخنف انهما كانا ابن عباس ومحمد
بن ابي بكر.
[82] نهج البلاغة , بشرح محمد عبده. وهناك مصادر أخرى تذكر نصوصاً فيها كلمات جارحة
استخدمها الامام علي في مخاطبة ابي موسى , ومنها انساب الاشراف للبلاذري وفيها قوله له " يا ابن
الحائك". بل ان المحمودي , وهو احد محققي كتاب انساب الاشراف, اعتبر
ان "يا ابن الحائك" مخففة من طرف البلاذري الذي قصد بها مراعاة سمعة ابي
موسى, ومن ثم أخرج نصاً نسبه الى شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد وبه عبارات
بالغة الفحش ولا تليق ابداً بمقام الامام علي وأدبه , من قبيل " يا
عاضّ ايرَ أبيه ...". وانا أستبعد تماماً صدور عبارات السب
هذه من الامام علي – مهما كان غضبه- وأعتبرها من تقولات الرواة.
[86] مصادر هذا البحث : تاريخ ابن خلدون (ج2 ص159), المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3 ص117), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج32 ص92), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج2 ص460 -461),
الأخبار الطوال للدينوري ( ص
145), تاريخ الطبري
(ج3 ص512 و ص502), انساب الاشراف للبلاذري
(ج3 ص29 - 33), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج14 ص12) و (ج2 ص188).
[88] ابن اعثم في كتاب الفتوح يذكر ان الذين كان لهم دور في حث الناس على الاستجابة
لدعوة علي كانا زيد بن صوحان العبدي و الهيثم بن مجمع العامري.
[89] الأخبار الطوال للدينوري
. وذكر الطبري في تاريخه أن عدد الذين
استجابوا لنداء عليّ وخرجوا إليه من الكوفة حتى وافوه بذي قار بلغ اثني عشر ألفاً مقسمين إلى أسباع. وروى البلاذري في انساب الاشراف من طريق صالح بن
كيسان ان عددهم كان " عشرة آلاف أو نحوهم". والبلاذري في رواية ابي مخنف
يورد تفاصيل " الاسباع" أي التقسيمات العسكرية للقوات والمبنية على أساس
القبائل ويذكر اسماء القيادات. ويقول ابن اعثم
في كتاب الفتوح ان عددهم كان 9200 رجلاً .
[90] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .
[91] منها مثلاً : الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين وانساب الاشراف للبلاذري وتاريخ الطبري . وقال الطبري ان علياً أرسل كتاباً
إلى أبي موسى يهدده فيه بالعواقب الوخيمة إن هو تحدى أمرَ
العزل واستمرّ في تثبيط الناس عن الإمام