الفصل الاول : سقوط مصر
هناك اربع شخصيات من جانب فريق عليّ لعبت دورا في
الاحداث التي أدت الى سقوط مصر بيد معاوية , ولا بد من التحدث عنها بالتفصيل نظرا
لتكرر ورودها في المصادر والتداخل في أخبارها : محمد بن ابي حذيفة , قيس
بن سعد بن عبادة الانصاري, محمد بن ابي بكر الصديق و مالك الاشتر
النخعي.
سبق وتحدثنا بالتفصيل عن دوره هو ومحمد بن ابي بكر في التحريض على عثمان
ومشاكلهما مع واليه على مصر ابن ابي السرح .
ومعظم المصادر تشير الى نجاحه (ولو بشكل مؤقت) في السيطرة على مقاليد
الامور في مصر بعد هرب الوالي ابن ابي السرح[2]
وبيعة عليّ في المدينة.
وقلة من المصادر تذكر ان الامام علياً قد ولاه إمارة مصر. وبالتحديد ابن عساكر في روايتين عن خليفة و عن ابي جعفر
الهمداني وابن عبد البر في ترجمته في
الاستيعاب, وكذلك ابن الاثير في أسد
الغابة في رواية عن خليفة.
ولكن من المستبعد جدا ان يكون ذلك قد حصل. فالبلاذري لم يشر الى تولية علي لابن ابي حذيفة
مصراً بل تحدث عن تعيينه قيس بن سعد مما اثار شماتة والي عثمان الهارب ابن ابي
السرح به , فقال وهو يشير الى دور ابن ابي حذيفة في التمرد على عثمان " أبعد
الله ابن ابي حذيفة, بغى على ابن عمه وسر اهل بيته وسعى عليه , حتى ولي بعده من
لم يمتعه بسلطان بلده حولا ولا شهرا ولم يره لذلك اهلا".
والطبري في تاريخه أخرج نفس
كلام ابن ابي السرح في رواية البلاذري
, وعلّق قائلا " فخبر هشام هذا يدل على ان قيس بن سعد ولي مصر ومحمد بن
ابي حذيفة حي"
واليعقوبي في
تاريخه لم يذكر تولية علي لابن ابي حذيفة.
أي أن مصادر التاريخ الرئيسية , الطبري
والبلاذري واليعقوبي , لم تذكر أن علياً قام بتعببن ابن ابي حذيفة
واليا على مصر. فقط هو تولى شؤونها بمبادرة منه , وجماعته, بعد فرار ابن
ابي السرح من مصر خوفاً من عليّ.
وكان من الطبيعي جدا , والمتوقع, أن معاوية قرر ان يتعامل مع التطورات
التي تحصل في مصر نظرا لأهميتها وتأثيرها المحتمل عليه. روى ابن حجر العسقلاني " وذكر ابو احمد
الحاكم ان محمدا بن ابي حذيفة لما ضبط
مصر وأراد معاوية الخروج الى صفين بدأ بمصر أولاً . فقاتله محمد بن ابي حذيفة
بالعريش الى أن تصالحا. وطلب منه معاوية ناساً يكونون تحت يده رهناً ليأمن جانبهم
إذا خرج الى صفين . فأخرج محمد رهنا عدتهم ثلاثون نفساً فأحيط بهم وهو فيهم فسجنوا"[3]
ولكن
يجب الشك في صحة هذه الرواية: لأنه من المستبعد جداً ان يفكر معاوية بالهجوم على مصر أثناء
استعداداته لقتال أهل العراق. لقد كان معاوية منهمكاً بأقصى طاقته لتجنيد أهل الشام وحشدهم
خلفه للمعركة التي يعلم جيداً أنها قادمة حتماً
وأنها ستكون حاسمة بالنسبة له . في تلك
اللحظات الحرجة قبل صفين , كان معاوية يضع
مصيره الشخصي, والحزب الأموي بأكمله, على شفير الهاوية. كانت الهزيمة والفشل أمام
زحف عليّ والعراقيين احتمالاً
مطروحاً أمام عيني معاوية, خاصة وقد رأى عليا
يحارب زوجة الرسول واثنين من كبار الصحابة, بلا هوادة وبلا تردد. وكان يدرك مدى
القدرات الاستقطابية التي يتمتع بها عليّ ومدى الشرعية والأخلاقية التي تميز
تحركه. ولذلك لم يكن معاوية في وارد الدخول في مغامرات مصرية آنذاك. كما أن
معاوية كان بحكم خبرته يدرك أيضا أن محمد بن أبي حذيفة, مع صغر سنه وقلة تمرّسه في
العمل السياسي والإداري, ومع حداثة وثوبه على السلطة في مصر, لم يكن في وضع يسمح
له بتشكيل تهديد جدي له في الشام. إن معاوية لم يستشعر التهديد الحقيقي له من
الحدود المصرية إلاّ مع تولّي قيس بن سعد للولاية هناك.
ولكن
هذا لا يمنع أن يكون معاوية بذل محاولات من أجل الحصول على دعم ابن خاله, محمد بن
أبي حذيفة, أو على الأقل تحييده. والكثير من الروايات تفيد بأن معاوية نجح في
إلقاء القبض على ابن أبي حذيفة, بالخديعة على الأغلب. فربما يكون معاوية قد
استدرجه إلى كمين أو دعاه إلى مفاوضات وغدر به أو غيرها من الوسائل.
وبشأن مصير ابن ابي حذيفة , بعضُ الروايات
تفيد بأنه قتل في معركة, وبعضها تفيد أنه حُبس
ومن ثم هرب من سجنه وقتل بعد ذلك , وبعضها تفيد انه قتل في سجنه :
هناك رواية واضحة لدى ابن عساكر
حول كيفية تخلص معاوية منه . فعن ابي جعفر الهمذاني " ... فخدع حتى خرج
الى العريش, وخلف الحكم بن المطلب بن مخرمة على مصر. فنُصِبَ المنجنيق عليه حتى
نزل على صلح في ثلاثين من أصحابه , فحبسوا ثم قتلوا "
واضاف ابن عساكر نقلا عن يزيد
بن ابي حبيب " ... ففرّقهم نصفين : فسجن محمد بن ابي حذيفة ومن معهم في
سجن دمشق , وسجن ابن عديس والنصف الباقي في سجن بعلبك"
وأكد
ابن حجر العسقلاني في الاصابة رواية ابن عساكر
عن تفاصيل صراع ابن ابي حذيفة مع معاوية . فروى عن يزيد بن ابي حبيب " واستخلف
ابن ابي حذيفة على مصر الحكم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف, وخرج مع
جماعة منهم عبد الرحمن بن عديس وكنانة بن بشر وأبو شمر بن أبرهة بن الصباح, فلما
بلغوا به غدر بهم عسكر معاوية وسجنوهم الى ان قتلوا بعد ذلك[4].
وأضاف ابن حجر "وقال
ابو احمد الحاكم : خدع معاوية محمد بن ابي حذيفة حتى خرج الى العريش في ثلاثين
نفساً فحاصره ونصب عليه المنجنيق حتى نزل على صلح . فحُبس ثم قتل".
وأما ابن كثير في البداية
والنهاية فقد ذكر رواية شاذة حول مصير محمد بن ابي حذيفة جعلت مقتله يتأخر لأكثر
من سنتين عما هو معروف . ولكن سياق رواية ابن كثير يظهر تشككه بها فقال " وقد
زعم هشام بن محمد الكلبي ان محمد بن ابي حذيفة بن عتبة مُسِك بعد مقتل محمد بن
ابي بكر – وكان من جملة المحرضين على قتل عثمان – فبعثه عمرو بن العاص الى
معاوية ولم يبادر الى قتله لأنه ابن خال معاوية. فحبسه معاوية بفلسطين فهرب من
السجن , فلحقه رجل يقال له عبد الله بن عمر بن ظلام بأرض البلقاء . فاختفى محمد
بغار , فجاءت حُمر وحش لتأوي اليه فلما رأته فيه نفرت, فتعجب من نفرها جماعة من
الحصادين هنالك فذهبوا الى الغار فوجدوه فيه . فجاء اولئك اليه فخشي عبد الله بن
عمرو بن ظلام أن يرده الى معاوية فيعفو عنه , فضرب عنقه.
هكذا ذكر ذلك ابن الكلبي. وقد ذكر الواقدي وغيره ان محمد بن ابي حذيفة قتل
في سنة 36 كما قدمنا. والله أعلم"
واما ابن الاثير في اسد الغابة
فقد ذكر رواية تقول ان نهاية ابن ابي حذيفة كانت على يد رشدين , مولى معاوية, الذي
قتله بعد أن كان هرب من سجنه[5].
يمكن
اعتبار تعيين قيس بن سعد في منصب
والي مصر وإفريقية خلفاً لرجل عثمان, ابن أبي السرح , جزءاً من سياسة عليّ القائمة على إعادة الاعتبار للأنصار
بشكل عام, بعد الفترة الطويلة التي تم تهميشهم فيها على يد الخلفاء الثلاثة.
فقد عيّن عليّ شخصيات أنصارية بارزة في مناصب قيادية في دولة الإسلام. فهو كان
يعتبر الأنصار المجموعة الرئيسية التي ساهمت في إنجاح دعوة محمد(ص) ودفعوا ضريبة
الدم في سبيل ذلك, وباتالي من حقهم إسناد دور محوري لهم في المنظومة الإسلامية.
فإخلاصهم للرسول(ص) وللإسلام لا يرقى إليه الشك, وتضحياتهم يجب أن تكافئ. ولذا قام علي بتعيين رجال الأنصار في مناصب
الولاة في البصرة وفي المدينة المنورة بالإضافة إلى مصر.
وقيس
بن سعد, كشخص, كان يمتلك خصالاً
تؤهله لهكذا منصب. وعدا عن كونه ابناً
لواحدٍ من زعماء الأنصار السابقين ( كان سعد بن
عبادة أحد النقباء الاثني عشر في بيعة العقبة الآخرة ) , فإنه هو ذاته كان محل ثقة
رسول الله(ص) وتقديره. ومن ذلك ما رواه البخاري
في صحيحه ان قيس بن سعد كان هو صاحب لواء رسول الله(ص) في الحج.
دخل
قيس إلى مصر ومعه كتاب التعيين من الخليفة الجديد, وسرعان ما نجح في بسط سيطرته
ونشر سلطان الإمام عليّ في مصر. وهذا أمرٌ يحسب له. فعلى الرغم من أن مصر كانت
منذ أكثر من عشرين عاما تحت حكم عمرو بن العاص ومن ثم ابن أبي السرح, إلاّ أن قيسا
نجح في أخذ البيعة من أهلها لعليّ دون مشاكل كبيرة.
ولكن كان لا بد لعشرين عاماً من حكم عدوّي الإمام عليّ في مصر أن
يترك بعض الأشياع والأتباع, وخاصة من الموظفين الإداريين والتنفيذيين والوجهاء
الذين كانوا مستفيدين من حكم عثمان, وأصبحوا فجأة يرون كل امتيازاتهم ونفوذهم
يتبخر أمام أعينهم مع قدوم والي الخليفة الجديد.
يروي البلاذري
" فقام الناس فبايعوا علياً واستقاموا لقيس,
إلاّ رجلاً
يقال له يزيد بن الحرث. وكان معتزلاً في قرية هناك فبعث إلى قيس : إنّا لا نبايعك ولا
ننتزي عليك في سلطانك, فابعث عاملك, فإن الأرض أرضك. ولكنا نتوقف حتى ننظر إلى ما
يصير أمر الناس.
ووثب
مسلمة بن مخلد الساعدي من الأنصار, فنعا عثمان ودعا إلى الطلب بدمه.
فأرسل
إليه قيس : ويحك أعليّ تثب؟! فوالله ما أحب أن أقتلك ولي ملك مصر والشام.
فكفّ
فتاركه. وجَبا
قيس الخراج وليس أحدٌ
ينازعه"
وقد
أورد الطبري تفاصيل أكثر عن أنصار
النظام القديم " فقام الناس فبايعوا. واستقامت له مصر وبعث عليها
عماله. إلاّ أن قرية منها , يقال لها خربتا , فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان بن
عفان رضي الله عنه, وبها رجل من كنانة , ثم من بني مدلج يقال له يزيد بن الحارث.
فبعث هؤلاء إلى قيس بن سعد إنا لا نقاتلك, فابعث عمالك فالأرض أرضك, ولكن أقرنا
على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس"
من
هذا النص يتضح أن موقف الفئة المرتبطة بالنظام السابق في مصر, والتي سوف تعرف
لاحقاً ب " العثمانية " , كان مهادناً لوالي الخليفة الجديد. لم يكن هؤلاء
" العثمانية " في وضع يسمح لهم بالقيام بتحدّي جدّي لسلطة الإمام عليّ.
والمؤكّد أنهم كانوا أقلية في مصر وأنهم كانوا مصدومين بمقتل خليفتهم وعزل واليهم
وتتالي الأحداث بسرعة شديدة عليهم جعلتهم غير قادرين على التمييز بوضوح. ولذلك كان
قرارهم التريّث في الأمور , وكان كل ما يريدونه أن يتركوا وشأنهم دون اعتداء من
الوالي الجديد. ولم يكن حتى ذلك الوقت قد برز تحدّي صريح لسلطة علي بن أبي
طالب وخلافته.
وعاملهم
قيس بن سعد باللين والهوادة , ورضي منهم بالاعتزال والموادعة. فطالما لم يكن ليصدر
منهم ما من شأنه أن يفسد عليه ولايته وحكمه, فلا داعي له أن يبدأ عهده في مصر
بالقتال وسفك الدماء. كان قيس بحاجة إلى وقت من أجل تثبيت ركائز إدارته الجديدة ,
ولكي يتعرف على البلاد وأهلها ويضمن تأييد الجنود وأبناء القبائل العربية في مصر
لخلافة عليّ. وقد بدا أن قيساً نجح
في ذلك ( وفي ذلك الزمان كانت جباية الخراج بسلاسة ودون مشاكل هي المقياس لنجاح
الحاكم في ولايته, وهي التعبير عن الطاعة من الرعية للحاكم ).
ولما كان قيس بن سعد والياً مقتدرا وقائداً
ناجحاً , فقد أثار خوفاً شديداً لدى معاوية بسبب
وجوده على الحدود الجنوبية لمعاوية, وخاصة
مع ما يعلمه معاوية من استقامة قيس وولائه للإمام عليّ. وقد كان قيس بن سعد موجوداً في مصر , ومسيطراً على الأوضاع فيها خلال فترة حرجة من
خلافة عليّ وهي تلك التي تشمل حرب الجمل وتمتد إلى ما بعد استقرار عليّ في الكوفة.
وحرم قيسٌ معاوية من الميزة الاستراتيجية التي
كانت متاحة له عن طريق استغلال الحرب التي يخوضها عليّ في البصرة وانشغاله هناك
للسيطرة على مصر , التي لا شك لم تغب يوماً
عن ذهن رجل كمعاوية. وقد عبّر الطبري
عن هواجس معاوية بسبب وجود قيس في مصر " فكان أثقل خلق الله على معاوية
بن أبي سفيان, لقربه من الشام, مخافة أن يقبل إليه عليّ في أهل العراق
, ويقبل إليه قيس بن سعد في أهل مصر فيقع معاوية بينهما"
ويتحدث الطبري
عن سلسلة من المراسلات[7]
حصلت بين معاوية وقيس بن سعد. بدأها معاوية باسـتعمال اسلوبه المفضل: الرشوة
أولاً! أرسل معاوية إلى قيس بن سعد عارضاً عليه الانضمام إليه والتخلّي عن عليّ:
" فإن
استطعتَ يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان
فافعل.
تابعنا على
أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرتُ ما بقيتُ , ولمن أحببتَ من أهل بيتك سلطان
الحجاز ما دام لي سلطان.
وسَلني غير هذا مما
تحب, فإنك لا تسألني شيئا إلاّ أوتيته. واكتب إليّ
برأيك فيما كتبت به إليك . والسلام"
وهنا
يذكر الطبري رسالة جوابية من قيس
تحمل عرضاً بالموادعة والمهادنة :
"
فلما جاءه كتاب معاوية أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل له حربه
فكتب اليه : أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمتُ ما ذكرت فيه ,,,,, وأما ما سألتني
من متابعتك وعرضت عليّ من الجزاء به فقد فهمته وهذا أمرٌ لي فيه نظر وفكرة ,
وليس هذا مما يسرع اليه . وأنا كافّ عنك ولن يأتيك من قبلي شيء تكرهه[8]
حتى ترى ونرى"
وهذا
الجزء من المراسلات يثير الحيرة لدى الباحث. لأن مواقف سعد بن عبادة كانت على
الدوام شديدة العداء لمعاوية , وبقيت كذلك الى ما بعد اغتيال عليّ وبيعة ابنه
الحسن. ولذلك فإن رسالته لمعاوية والتي تجعله قريبا من الحياد بينه وبين عليّ
من الصعب قبولها . ولكن في ذات الوقت سنرى ان علياً يقوم بعزل قيس من منصبه
بسبب شكه في موقفه من معاوية ولينه تجاهه , مما يعطي قوة لرواية عرضه المهادنة .
فالأمر ملتبس. هل حقاً جرّب قيس نوعا من سياسة المداراة تجاه معاوية ؟! على كل حال
حتى لو فعل ذلك لم تنجح حركته تلك, بل ان معاوية ربما استفاد منها في دق إسفين
بينه وبين عليّ كما سيأتي.
وعلى
أي حال فالطبري يقول ان معاوية لم
يقتنع بجواب قيس المُوارب, فطلب منه موقفا صريحاً :
"فلما
قرأ معاوية كتابه لم يره الّا مقارباً مباعداً . ولم يأمن أن يكون له في ذلك
مباعداً مكايداً . فكتب اليه معاوية ايضا : أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو
فأعدّك سلماً ولم أركَ تباعد فأعدّك حربا! أنت فيما ههنا كحنك الجزور , وليس مثلي
يصانع المخادع ولا ينتزع للمكايد ومعه عدد الرجال وبيده أعنة الخيل
"
ويضيف الطبري انه عندها طفح الكيل بقيس, أو حسب تعبيره
: أظهر له ذات نفسه, فأرسل جواباً
مزلزلاً لمعاوية :
"
.. أما بعد ,فإن العجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك رأيي!
أتسومني الخروج من طاعة أولى الناس بالإمرة
واقولهم للحق وأهداهم سبيلاً
وأقربهم من رسول الله وسيلة؟! وتأمرني بالدخول في طاعتك؟ طاعة أبعد الناس من هذا
الأمر وأقولهم للزور وأضلّهم سبيلا وأبعدهم من الله عز وجل ورسوله وسيلة ؟! ولد
ضالين مُضِلين, طاغوتٌ من طواغيت
إبليس.
واما
قولك إني مالئ عليك مصرَ
خيلاً ورجلاً, فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهم إليك
إنك لذو جد والسلام ....
فلما
بلغ معاوية كتابُ قيس
أيسَ منه وثقلَ عليه مكانُه"
وفي
رواية البلاذري أن قيساً كتب الى معاوية رداً غاضباً " يا وَثن ابن الوَثن,
دخلتم في الإسلام كارهين وخرجتم منه طائعين"[9]
عزلُ قيس بن سعد
تحدثنا
الروايات أن معاوية طبّق خطة في غاية الذكاء من أجل هز حكم قيس بن سعد في مصر.
وكانت الخطة تعتمد في الأساس على زعزعة علاقة الثقة المتبادلة بين الإمام عليّ
وتابعه المخلص قيس بن سعد. وهذا هدفٌ صعب
المنال بلا شك , نظراً
إلى طول عهد الإمام عليّ بقيس بن سعد , والأنصار عموماً
, في المدينة المنورة وإلى مواقفهم المشهودة في دعم وتأييد عليّ ضد توجهات الهيمنة
القرشية.
لجأ
معاوية إلى الإشاعة بين الناس في الشام أن قيس بن سعد قد انقلب في مواقفه وأصبح
مع معاوية من الطالبين بدم عثمان! وكان معاوية يدرك أن الأخبار ستصل حتماً إلى العراق بهذا الأمر مما سيلقي الشك
في قلب عليّ تجاه واليه. يقول الطبري :
"
واختلقَ
معاوية كتابا من قيس بن سعد, فقرأه على أهل الشام :
بسم الله الرحمن الرحيم . للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد . سلام عليك.
فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو . أما بعد: فإني لما نظرثُ رأيتُ أنه لا يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامَهم مُسلماً محرماً بَراً تقياً, فنستغفر الله عز وجل لذنوبنا ونسأله العصمة لديننا .
ألا وإني قد ألقيتُ
إليكم بالسلم. وإني قد أجبتك إلى قتال قتلة عثمان رضي
الله عنه, إمام الهدى المظلوم. فعوّل عليّ فيما أحببتَ من الأموال والرجال أعجل عليك
والسلام......
فشاع في أهل الشام أن قيس بن سعد قد بايع
معاوية بن أبي سفيان, فسرحت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك.
فلما أتاه ذلك أعظمه وأكبره وتعجب له. ودعا بنيه
ودعا عبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك.
فقال : ما رأيكم ؟
فقال عبد الله بن جعفر : يا أمير المؤمنين دَع ما يريبك إلى
ما لا يريبك. اعزل قيسا عن مصر.
قال
لهم علي : إني والله ما أصدّق بهذا على قيس!
إذن
نجحت خطة معاوية, ووصلت الأخبار إلى عليّ أن قيساً
قد انشقّ عليه! وظاهرٌ من كلام الإمام علي مع آله أنه كان غير مصدّق لذلك , ولكن
ماذا تراه يفعل وقد ملأت الإشاعات الآفاق تحمل تلك الأخبار؟ كان لا بد للخليفة لكي
يتأكد أن يعهد إلى واليه المشكوك فيه بمهمة صعبة تظهر إخلاصه.
وفي تلك الظروف بالتحديد جاء كتاب من قيس بن سعد
لعليّ يذكر له فيه خبر " العثمانية " في مصر والذين كان قد قرر موادعتهم
ما داموا مسالمين. يروي الطبري " وإنهم
كذلك إذ جاء كتابٌ من
قيس بن سعد فيه : بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد . فإني أخبر أمير المؤمنين
أكرمه الله أن قِبلي
رجالاً معتزلين قد سألوني أن أكف عنهم وأن أدعهم على حالهم
حتى يستقيم أمر الناس فترى ويروا رأيهم. فقد رأيتُ أن أكفّ عنهم ولا أتعجل
حربَهم
وأن أتألفهم
فيما بين ذلك, لعل الله عز وجل أن يُقبل بقلوبهم وأن يفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله.
فقال
عبد الله بن جعفر : يا امير المؤمنين ما أخوفني أن يكون هذا ممالأة لهم منه.
فمُره يا أمير المؤمنين بقتالهم.
فكتب
إليه عليّ : بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد . فسِر إلى القوم الذين ذكرتَ فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون ,
وإلاّ فناجزهم إن شاء الله.
فلما
أتى قيسَ بن سعد الكتاب فقرأه لم يتمالك أن كتب إلى أمير المؤمنين : أما بعد يا أمير المؤمنين فقد عجبتُ لأمرك! أتأمرني بقتال قوم كافين عنك,
مفرغيك لقتال عدوك. وإنك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوك. فأطعني يا أمير
المؤمنين واكفف عنهم فإن الرأي تركهم والسلام[11]
فلما
أتاه هذا الكتاب قال له عبد الله بن جعفر : يا أمير المؤمنين, ابعث محمد بن أبي
بكر على مصر يكفِكَ أمرَها واعزل قيساً. والله لقد بلغني أن قيساً يقول : والله إن سلطاناً لا يتم إلاّ بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان
سوء. والله ما أحب ان لي ملك الشام إلى مصر وإني قتلتُ ابن مخلد
لقد
ترافقت إشاعات معاوية حول قيس بن سعد, مع كتابه الذي أرسله إلى عليّ يخبره فيه
بقراره مهادنة " العثمانية " في مصر, لتخلق لدى الإمام عليّ شكّا في
واليه دفعه إلى عزله من قبيل الاحتياط. في تلك الظروف لم يكن أمام عليّ من سبيل آخر
سوى عزل قيس بن سعد من منصبه, لأن تلك كانت الطريقة الوحيدة للتأكد من إخلاصه.
فإذا نفّذ قيس قرار العزل وأطاع علياً
فعندها فقط تكون الأخبار عنه كاذبة, وأما إذا أعلن رفضه لقرار الخليفة وتمسك
بمنصبه فتكون الإشاعات صحيحة ويكون على عليّ أن يتصرف بناء على ذلك. ولم يكن ممكنا
أن يُبقي عليّ قيساً
في منصبه المهم جداً مع شكه فيه,
ذلك الشكّ الذي تعزز مع إصرار قيس على رفض مناجزة العثمانية وتصميمه على قرار
الموادعة[13].
لم
ينجح محمد بن أبي بكر في السيطرة على الأوضاع في مصر. ولم يكن يمتلك الخبرة
الكافية لإدارة شؤونها على النحو الأمثل. ويبدو أنه كان في طبعه وأسلوبه حدّة في
التعامل مع بقايا عهد عثمان" لم يمكث محمد بن أبي بكر إلاّ يسيراً حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين
الذين كان قيس وادَعَهم فقال لهم :
إما أن تبايعوا وادخلوا في طاعتنا , وإما أن ترحلوا عنا[15]"
دفع ذلك " العثمانية" في مصر إلى
تنظيم أنفسهم على شكل معارضة فعالة, وكانوا بشكل خاص من القبائل اليمانية . ولا بد
من ملاحظة أن التحدي الحقيقي وبدء المواجهة الفعلية من قبل
"العثمانية" في مصر لسلطة محمد تجلّت بعد انتهاء معركة صفين , وما تبعها
من مهزلة التحكيم. يضيف البلاذري
"فامتنعوا وأخذوا حذرهم وكانوا له هائبين. حتى أتى خبر الحكمين
فاجترؤوا عليه ونابذوه". فقد علموا أن أعداء عليّ قد صمدوا في
المواجهة وأعطاهم ذلك دفعاً
معنويا كبيراً ولا شك:
"
فبعث ابنَ جهيمان البلوي إلى يزيد بن الحرث الكناني ومَن قبله من أهل القرية التي كان بها,
فقاتلوه فقتلوه. فبعث إليهم ابن أبي بكر رجلاً من كلب فقتلوه أيضا"
وبدأ "العثمانية" في التعامل
الإيجابي مع حليفهم الموضوعي في الشام ,
معاوية . نتابع رواية البلاذري :
" وخرج معاوية بن حديج الكندي ثم
السكوني فدعا إلى الطلب بدم عثمان , وذلك أن معاوية دسّ إليه في ذلك وكاتبه فيما
يقال وأرغبه. فأجاب ابنَ حديج بشرٌ كثير. وفسدت مصر على ابن أبي بكر".
إذن اضطربت الأحوال بابن أبي بكر وشعر أن الأمور
تسير في غير صالحه مما دفعه إلى مراسلة الخليفة في العراق يطلب منه العون :
"
وبلغ علياً ضعف
محمد بن أبي بكر وممالأة اليمانية معاوية وعمرو بن العاص, فقال : ما أوتي محمد من
حرض. ووجه مالك بن الحارث الأشتر إلى مصر..... فلما بلغ معاوية أن علياً قد وجه الأشتر عظم عليه , وعلم أن أهل
اليمن أسرع إلى الأشتر منهم إلى كل أحد"[16]
إن
قيام الإمام عليّ بتعيين مالك الأشتر[17]
بديلاً لابن أبي بكر يشير بوضوح إلى مدى الاهتمام من طرفه بالمحافظة على
مصر وحرصه على عدم سقوطها بيد أعدائه. فعليٌ كان
يعتبر مالك الأشتر من أخلص الرجال له الذين يعتمد عليهم في إدارته وحكمه, وكان
يفضل دائماً وجوده إلى جانبه. وحسب تعبير عليّ في كتابه لأهل مصر بهذا الشأن فهو
" آثرَهُم به على نفسه
", وحسب رواية اليعقوبي ان علياً
كتب لأهل مصر " اني بعثت اليكم سيفا من سيوف الله , لا نابي الضربة ولا
كليل الحد , فإن استنفركم فانفروا وإن أمركم بالمقام فأقيموا , فإنه لا يقدم ولا
يحجم إلّا بأمري"
قال البلاذري
انه في ذلك الوقت كان الاشتر يشغل منصب والي الجزيزة لعليّ , ومقرّه نصيبين , فكتب
اليه عليّ " انك ممن أستظهر به على إقامة الدين, وأقمع ببأسه ونجدته
نخوة الأثيم, وأسدّ به وبحزم رأيه الثغر المخوف.
وأخبره بأمر ابن ابي بكر, وشرحه له , وأمره أن يستخلف
على عمله بعض ثقاته ويقدم عليه. ففعل , فولّاه مصر"
ولكن
هل كان على عليّ أن يفعل أكثر من ذلك؟ ألم يكن واجباً عليه إرسال جيشٍ لإنقاذ
مصر من السقوط؟
يبدو
أنه فكر بذلك ولكنه اصطدم بعقباتٍ لها علاقة بالمشاكل الداخلية لديه في العراق,
بالإضافة إلى أمورٍ موضوعية تتعلق بصعوبة
إرسال جيشٍ كبير يخترق بلاد الشام ليصلَ إلى مصر. وعلى كل حال فالمصادر تخبرنا أن
علياً أرسل بالفعل جيشاً الى مصر , ولكن بعد فوات الاوان , بعد أن مات الاشتر وقتل
محمد بن ابي بكر . روى ابن كثير في البداية والنهاية ان عليا قد أرسل
بالفعل نجدة الى محمد ولكنه أرجعهم بعد أن بلغته الأخبار " ... فقام اليه
مالك بن كعب الأوسي , فندب الناسَ الى امتثال أمر علي والسمع والطاعة. فانتدب ألفا
, فأمر عليهم مالك بن كعب هذا , فسار بهم خمساً . ثم قدم على علي جماعة ممن كان مع
محمد بن ابي بكر بمصر, فأخبروه كيف وقع الأمر وكيف قتل محمد بن ابي بكر , وكيف
استقر أمر عمرو بها. فبعث الى مالك بن كعب فردّه من الطريق – وذلك أنه خشي عليهم
من أهل الشام قبل وصولهم الى مصر"
*****
والرسائل
المتبادلة بين معاوية في الشام وبين أعداء محمد بن أبي بكر في مصر, تظهر بوضوح أن العثمانية
كانوا حتى ذلك الوقت لا يدينون بالولاء لمعاوية , بل كانوا يرون أنفسهم أوفياء لذكرى الخليفة " المظلوم " وتراثه.
وقد أحسن معاوية التعامل معهم, وقبلوا هم عرضه لمساعدتهم ضد محمد , لحاجتهم لذلك :
كتب
معاوية إلى مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج " فإن الله عز وجل قد ابتعثكما
لأمر عظيم . أعظم به أجركما ورفع درجتكما ومرتبتكما في المسلمين.
طلبتما
بدم الخليفة المظلوم. وغضبتما لله إذ ترك حكم الكتاب. وجاهدتما أهل الظلم والعدوان . فأبشروا برضوان الله
وعاجل نصرة أولياء الله والمواساة لكما في دار الدنيا, وسلطاننا , حتى ينتهي ذلك إلى
ما يرضيكما ويؤدي به حقكما.
فالزما
أمركما وجاهدا عدوكما وادعوا المدبرين منكما على هداكما. فكأن الجيش قد أظل عليكما
, فاندفع كل ما تكرهان ودام كل ما تهويان. والسلام عليكما ورحمة الله"
وكان
الجواب:
"
أما بعد . فإن هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا, وابتغينا الله به على
عدونا, أمر نرجو به ثواب ربنا والنصر على مَن خالفنا, وتعجيل النقمة على مَن سعى على
إمامنا , وطأطأ الركض في مهادنا.
ونحن
بهذه الأرض قد نفينا مَن
كان بها من أهل البغي, وأنهضنا مَن
كان بها من أهل القسط والعدل.
وقد
ذكرتَ موازرتك في
سلطانك وذات يدك. وبالله إنه لا من أجل مال نهضنا ولا إياه أردنا....
عجّل
علينا بخيلك ورجلك, فإن عدونا قد كان علينا جريئا وكنا فيهم قليلا . وقد أصبحوا
لنا هائبين وأصبحنا لهم منابذين.
فهؤلاء
إذن يرحبون بالعون والمدد من معاوية ولكنهم يفعلون ذلك لحاجتهم للإستقواء به على
ابن أبي بكر وليس حباً بمعاوية. فالعثمانية موجودون في مصر لأسبابٍ لا علاقة
لها بمعاوية, ولم يكونوا نتاجاً لمخططاته. وإنما هو يستفيد منهم بذكاء , ويجرّهم
إلى معسكره.
معاوية
يتخلص من الأشتر[19]
كان لمعاوية جهاز مخابرات فعّال , يشبه انظمة
المخابرات الحديثة من حيث التنظيم والتخصص في اعمال التجسس والمراقبة. وطبعا كان
جهازه ينقل له أخبار العراق ومعسكر عليّ أولاً
بأول. فلما قرر الإمام عليّ إرسال مالك الأشتر
إلى مصر, أبلغه جواسيسه بالخبر فوراً,
وعلى حد تعبير الطبري " وأتت
معاوية عيونه فأخبروه بولاية عليّ الأشتر" .
وكان هذا خبراً
سيئا
لمعاوية, لأنه يعرف مدى شدة مالك الأشتر ومدى خبرته التنظيمية والقتالية
والميدانية أيضاً. ولا يُقارن مالك الأشتر بمحمد بن أبي بكر,
الشاب اليافع, وقليل الخبرة, والمتحمس . ولذلك قرر معاوية أن يحاول التخلص من
الأشتر بأي وسيلة قبل وصوله إلى مصر ودخولها, الذي كان من شأنه ربما أن يقلب خطط
معاوية وابن العاص رأساً على
عقب. فلجأ هنا إلى أيضا إلى أسلوب الرشوة والتآمر وشراء الذمم. رسم خطة محكمة
تعتمد على الغدر بالأشتر من حيث لا يتوقع!
فحتى تلك اللحظة لم يكن أهل البلاد الأصليين
يتدخلون فيما يحدث من خلافات بين السادة العرب الفاتحين. كان أقباط مصر بكتلتهم
معزولين عن التجمعات العربية, ذات الطابع العسكري في الغالب, والآخذة بالازدياد في
مصر, وكان دورهم مقتصراً على
أداء الجزية والخراج للحكام العرب. وهنا
قام معاوية بخطوة غير تقليدية حين أرسل إلى أحد الوجهاء المحليين في مصر , والمسمى
الجايستار , عارضاً عليه أن يضطلع
بالدور الرئيسي في مؤآمرة اغتيال الأشتر, مقابل أن يعفيه من الضرائب
والخراج في المستقبل " فبعث معاوية إلى الجايستار, رجل من أهل الخراج,
فقال له : إن الأشتر قد ولي مصر, فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت. فاحتلْ له بما قدرتَ عليه"[20] .
ولم يقاوم الجايستار هذا الإغراء الكبير وقبل
القيام بالدور. والخطة تتلخص في أن يذهب الجايستار هذا إلى منطقة في بداية الحدود
المصرية تدعى "القلزم"[21]
من أجل استقبال والي الخليفة الجديد أول دخوله البلاد. وفعلا قام الجايستار هذا
بالترحيب الشديد بالأشتر حين وصوله. ولم تثر شكوك الأشتر لأن هذا سلوك معتاد من
قبل أهل البلاد الأصليين الميالين إلى الموادعة, فقبل أن يستضيفه الجايستار وأكل
من طعامه, ولم يَدُر بخلده أن السُم
قد مزج في العسل الذي قدمه الدهقان له!
قال البلاذري " ,,, استقبله الرجل فأنزله وأكرمه وأتاه بطعام . فلما أكل قال له
: أي الشراب أحب اليك ايها الأمير ؟ قال : العسل . فأتاه بشربة منه قد جعل فيها
سمّاً . فلما شربها قتلته من يومه او من غده "
ويكاد يكون هناك اجماع في المصادر على قصة تسميم الاشتر . وقد ذكرها بالاضافة الى الطبري والبلاذري
كل من ابن حبان في كتاب
الثقات و اليعقوبي في تاريخه,,,وغيرهما.
ولكن هناك من بين المصادر
الاسلامية اثنان وجدتهما لا يصدّقان بقصة التسميم . الاول هو ابن خلدون , حيث قال في تاريخه " وجاء
الاشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك. وقيل ان معاوية بعث الى صاحب
القلزم فسمّه على أن يُسقط عنه الخراج , وهذا بعيد". ورغم ان ابن خلدون لم يشرح سبب عدم تصديقه لرواية
التسميم , إلّا ان له عندي مكانة عالية , ورأيه مُعتبر, فهو المؤرخ العقلانيّ
العملاق, وربما يعود رأيه هذا الى نزعته العقلانية التي لا تتقبل كثيرا
فكرة المؤآمرات الخفية. والثاني هو ابن كثير
, الأموي الهوى, الذي أعلن شكّه في الرواية , وعبّر عن ذلك بقوله " وفي
هذا نظر" . قال في البداية والنهاية ان علياً لما أرسل الاشتر الى
مصر " فلما سار الاشتر اليها وانتهى الى القلزم, استقبله الخانسار وهو
مقدم على الخراج , فقدم اليه طعاما وسقاه شراباً من عسل فمات منه.
فلما بلغ ذلك معاوية وعمراً واهل الشام قالوا : ان لله جنوداً من عسل .
وقد ذكر ابن جرير في تاريخه ان معاوية كان قد تقدم الى هذا الرجل في أن
يحتال على الاشتر ليقتله , ووعده على ذلك بأمور , ففعل ذلك.
وفي هذا نظر. وبتقدير صحته
فمعاوية يستجيز قتل الاشتر لأنه من قتلة عثمان رضي الله عنه"
ومن الواضح هنا أن تشكك ابن كثير في رواية تسميم
الاشتر مردّه حسن الظن بمعاوية , لا غير.
والعلامة ابن ابي الحديد
في شرح نهج البلاغة ذكر بشأن وفاة الأشتر عدة روايات :
واحدة عن المدائني , وفيها أن معاوية طلب من أحد " أهل
الخراج" الذين يثق بهم في منطقة القلزم أن يحتال لقتل الأشتر مقابل وعد
بإعفائه من الخراج " ما بقيتُ وبقيتَ" وأنه نفذ ذلك عن طريق دعوة
الاشتر للإقامة والاستراحة عنده ودسّ السم له في العسل.
وأخرى عن الشعبي تقول ان معاوية " بعث رسولا
يتبع الاشتر الى مصر وأمره باغتياله . فحمل معه مزودين فيهما شراب, وصحب الاشتر.
فاستسقى الاشتر يوما فسقاه من احدهما. ثم استسقى يوما آخر منه فسقاه من الآخر,
وفيه سمّ فشربه "
وثالثة عن مغيرة الضبي " ان معاوية دس للأشتر
مولى لآل عمر . فلم يزل المولى يذكر للأشتر فضل علي وبني هاشم, حتى اطمأن إليه
واستأنس به. فقدم الاشتر يوما ثقله أو تقدم ثقله فاستسقى ماء فقال له مولى عمر:
وهل لك في شربة سويق؟ فسقاه شربة سويق فيها سم فمات."
واضاف ابن ابي الحديد " قال ابراهيم (بن سعد الثقفي
) : وقد روي من بعض الوجوه ان الاشتر قتل بمصر بعد قتال شديد.
والصحيح انه سقي سما فمات
قبل ان يبلغ مصر"
إذن " ان لله جنوداً من عسل "
كانت ردة فعل معاوية على اخبار وفاة الاشتر. وقد عبّر عن سروره الشديد للخلاص من
الاشتر بقوله " فإنه كانت لعليّ بن ابي طالب يدان يمينان , قطعت
احداهما يوم صفين , يعني عمار بن ياسر , وقطعت الاخرى اليوم , يعني الاشتر
"[22]
وأما ردّة فعل عليّ , فكانت الحزن على فقدان الاشتر الى
حد الفجيعة " قال عليّ : على مثلك فلتبكِ البواكي يا مالك , وأنّى
مثلُ مالك[23]
"
استطراد بشأن مبالغات بعض الرواة بشأن القتل
بالتسميم
ويبدو ان لجوء عميل معاوية المصري الى التخلص من الاشتر
عن طريق السم قد فتح شهية العديد من الرواة وشجعهم على تطوير نظريات بشأن وفاة
العديد من الشخصيات بواسطة سم معاوية. وهناك مبالغات ظاهرة في الروايات الى
حد أن الذين ذُكِرَ ان معاوية سممهم كان من بينهم رجال من أعمدة نظام معاوية
وأقربائه ودعائم حكمه, وليس فقط أعداؤه وأنصار علي وأهل بيته.
والمشكلة في موضوع الاغتيال بالسم هذا أنه لا يمكن
إثباته أبداً ! فبغياب التشخيص الطبي العلمي الحديث , يكفي أن يموت شخصٌ فجأة
أو بسرعة حتى يقال انه قد تعرّض للتسميم, خاصة إذا كان له شأن ما مع معاوية.
والسامع قد يميل إلى قبول تلك الرواية خاصة مع ما هو معروف عن معاوية من دهاء
ومكر.
والحقيقة أن الموت "فجأة" أو خلال أيام
معدودات في ذلك الزمان لا ينفي إمكانية أن الميت كان مصاباً بمرض داخلي خبيث أو
عضال لم يشخصه أحد أو يعلم عنه, أو أزمة قلبية أو سكتة دماغية أو نوبة ضغط , الى
غير ذلك من الأمراض الكثيرة التي نعلم عنها اليوم ما يكن معروفاً آنذاك.
وكمثال على تلك المبالغات يمكن الرجوع الى كتاب جواهر
التاريخ (ج2 ص320-329) للشيخ اللبناني علي
الكوراني العاملي. فهو يقول :
نقلاً عن مقاتل الطالبيين " وأراد معاوية البيعة
لابنه يزيد, فلم يكن شيئ أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص ,
فدسّ اليهما سمّأً فماتا منه"
وينقل عن البلاذري والعسكري وابن عساكر وابن حبيب ان
معاوية قتل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسم بواسطة طبيبه الرومي ابن
أثال , وذلك بسبب ان أهل الشام قالوا له انهم يرونه أهلاً لخلافته!
وهو يتحدث عن معارضة عبد الرحمن بن ابي بكر
لتعيين يزيد وليا للعهد , ويشير الى وفاته الفجائية, ثم يستنتج ان معاوية سمّه !
وهو يضع عنواناً " هل قتل معاوية عائشة بنت ابي
بكر ؟! " يتكلم فيه على مدى خمس صفحات عن خلافات عائشة مع معاوية في
أواخر عهده , ليخلص الى ان معاوية قد تخلص منها عن طريق " مجموعته المتخصصة
في السم, بإدارة طبيب يهودي " .
ويضع عنواناً
آخر " هلك زياد بن أبيه بدعاء الامام الحسين وسمّ معاوية
" ويشرح فيه ان زياداً عارض تعيين يزيد ولياً للعهد لما استشاره معاوية الذي
عندها " أصدر أمره الى مجموعة الاغتيال بالتخلص منه".
ولم يكتفِ الشيخ الكوراني بكل هؤلاء الذين اجتهد في
البحث عن بعض النصوص التي تدعم نظرية تسميمهم , فاضاف " وممن نظن أنه
قتلهم " :
-
عبد الله بن عامر بن كريز , الذي
مات "قبيل مبايعة يزيد بولاية العهد" ويقول عنه " لعله كان يطمع
بالخلافة"
-
سعيد بن العاص الاموي " فقد
كان طامعاً بالخلافة ويرى نفسه أحق من معاوية لمكان جده في بني امية"
-
محمد بن مسلمة الانصاري
" الذي اعترض على معاوية في مجلسه لأنه سكت على اتهام الحاخام يامين
للنبي(ص) بأنه غدر بصاحبه كعب بن الاشرف"
ولا داعي للاستطراد في نقض نظريات التسميم هذه , والتي
في أحسن الاحوال لا تعدو كونها ناتجة عن "الظن" ليس إلاّ . فالموت
سمّاً أمرٌ لا يمكن اثباته ولا نفيه . وحتى وجود روايات تتحدث عن دسّ سمّ لفلان من
الناس لا يمكن أخذه دليلاً على حصول ذلك.
أصبحت
الأجواء الآن مهيئة أمام معاوية
لتحقيق هدفه الاستراتيجي بالسيطرة على مصر. فعقد اجتماعاً مع قادته المقرّبين[25]
واتفقوا على إرسال حملة عسكرية الى مصر بعد ترتيب الامور والتنسيق مع العثمانية
فيها . وطبعا لم يجد معاوية أفضل من عمرو بن
العاص لكي يعهد إليه بقيادة الحملة المصرية, فهو صاحب الخبرة الطويلة جدا في
الشؤون المصرية , وقد سبق له أن افتتحها وحكمها لعدة سنوات أيام عمر. وغدت
الفرصة سانحة أمام ابن العاص لكي يحقق حلمه الذي لم يفارقه : العودة إلى حكم مصر.
تقدم
عمرو بن العاص إلى مصر في جيش لجب من ستة آلاف. ولما اقترب منها كتب إلى محمد بن أبي بكر يأمره بالتنحي والتخلّي عن ولاية
مصر.
قال ابن كثير في البداية
والنهاية " وكتب عمرو بن العاص
الى محمد بن ابي بكر : أما بعد, فتنحَّ! فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر, فإن
الناس قد اجتمعوا بهذه البلاد على خلافك ورفض أمرك, وندموا على اتباعك. فهم
مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان. فاخرج منها فإني لك لمن الناصحين. والسلام.
وبعث اليه عمرو ايضا بكتاب معاوية اليه : أما بعد, فإن غب البغي والظلم
عظيم الوبال. وإن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه من النقمة في الدنيا والتبعة
الموبقة في الآخرة. وإنا لا نعلم أحداً كان أشد خلافاً على عثمان منك حين
تطعن بمشاقصك بين خششائه وأوداجه. ثم انك تظن أني عنك نائم , أو ناسٍ ذلك لك, حتى
تأتي فتأمر على بلاد أنت بها جاري وجل أهلها أنصاري. وقد بعثت اليك بجيوش
يتقربون الى الله بجهادك , ولن يسلمك الله من القصاص اينما كنتَ . والسلام"[26]
رفض
ابن أبي بكر التهديد وأمر الاستسلام الصادر من ابن العاص , وصمم على القتال بمن معه من المقاتلين الموالين
له. وقبل ذلك كان قد كتب الى عليّ بالكوفة يخبره بالتطورات وبقدوم جيش عمرو بن
العاص ويطلب منه العون ويشكو ضعف قواته وجماعته " فإن كانت لك بمصر
حاجة فأمدّني بالأموال والرجال " فرد عليه عليّ "يأمره بالتحرّز
والاحتراس, وإذكاء العيون , وجمع شيعته اليه, وأن يندب كنانة بن بشر – وهو الذي
ضرب عثمان بن عفان بعمود على رأسه – الى عدوه, ويعلمه أنه باعث اليه بالرجال على
كل صعب وذلول "[27]
وبعد
أن فقد ابن ابي بكر التأييد العام من مقاتلة مصر بسبب الحرب النفسية الهائلة التي
شنها معاوية وحملة الترهيب التي نفذها ابن العاص, أصبح جلّ اعتماده على قاعدته
الصلبة من المؤيدين الذين كان لهم باعٌ طويل في معاداة عثمان بن عفان,
وشاركوا في التمرد عليه وساهموا في قتله, وعلى رأسهم كنانة بن بشر السكوني.
ومن
الجهة المقابلة , انضم "العثمانية" القدماء في مصر إلى ابن العاص
في حملته, وكانوا بقيادة فعالة من معاوية بن حديج, السكوني أيضا, والذي هو من نفس قبيلة كنانة بن
بشر.
وحصلت
معركة طاحنة بين الفريقين. فكان جماعة محمد ابن أبي بكر وكنانة بن بشر, يدركون أن
الجيش الشامي لن يرحمهم بعد كل الذي جرى من أحداث, خاصة وأن ابن أبي بكر وكنانة,
كانا من الأشخاص المتهمين مباشرة بقتل عثمان. وكان القتال شديداً بين جيش من حوالي أربعة آلاف وآخر من
ستة آلاف. وحسب تعبير اليعقوبي " فلقيهم
محمد بن أبي بكر في موضع يقال له : المسناة, فحاربهم محاربة شديدة. وكان عمرو يقول
: ما رأيتُ مثل
يوم المسناة. وقد كان محمدٌ
استذمّ إلى اليمانية, فمايلَ عمرو بن العاص اليمانية"
وأورد
الطبري مزيداً
من التفاصيل حول القتال:
" واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على
مقدمة محمد.
فأقبل
عمرو نحو كنانة, فلما دنا من كنانة سرّحَ
الكتائبَ كتيبة بعد كتيبة. فجعل كنانة لا تأتيه
كتيبة من كتائب أهل الشام إلاّ شدّ عليها بمن معه فيضربها حتى يقربها بعمرو بن
العاص. ففعل ذلك مراراً.
فلما رأى ذلك عمرو بعث إلى معاوية بن خديج
السكوني, فأتاه في مثل الدهم فأحاط بكنانة وأصحابه. واجتمع أهل الشام عليهم من كل
جانب.
فلما رأى ذلك كنانة بن بشر, نزل عن فرسه ونزل
أصحابه وكنانة يقول (وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتابا مؤجلا. ومن يرد
ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين). فضارهم
بسيفه حتى اسشهد رحمه الله.
وأقبل عمرو بن
العاص نحو محمد بن أبي بكر وقد تفرق عنه أصحابه لما بلغهم قتل كنانة حتى بقي وما
معه أحد من أصحابه.
فلما رأى ذلك محمد خرج يمشي في الطريق حتى انتهى
إلى خربة في ناحية الطريق فأوى إليها.
وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط وخرج معاوية
بن حديج في طلب محمد حتى انتهى إلى علوج في قارعة الطريق. فسألهم : هل مرّ بكم أحدٌ تنكرونه؟
فقال احدهم : لا والله. إلاّ أني دخلتُ تلك الخربة فإذا أنا برجل فيها جالس.
فقال ابن حديج :
هو ورب الكعبة!
فانطلقوا يركضون
حتى دخلوا عليه فاستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً. فأقبلوا به نحو فسطاط مصر.
ووثب أخوه عبد
الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص , وكان في جنده, فقال : أتقتل أخي صبراً؟ ابعث إلى معاوية (ابن حديج) فانهَه.
فبعث إليه عمرو بن العاص يأمره أن يأتيه بمحمد
بن أبي بكر.
فقال معاوية : أكذاك قتلتم كنانة بن بشر, وأخلي
أنا عن محمد بن أبي بكر؟ هيهات. أكفّاركم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءة في الزبر؟!
.....قال له معاوية : أتدري ما أصنع بك؟
أدخلك في جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار.
فقال له محمد : إن فعلتم بي ذلك فطالما فعل ذلك
في أولياء الله. وإني لأرجو هذه النار التي تحرقني بها أن يجعلها الله عليّ برداً وسلاماً كما جعلها على خليله ابراهيم وأن يجعلها عليك وعلى
أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه. ان الله يحرقك ومَن ذكرته قبل(يعني عثمان), وإمامك (يعني
معاوية) , وهذا (وأشار إلى عمرو بن العاص) بنار تلظى عليكم كلما خبَت زادها الله سعيرا.
قال
له معاوية : إني إنما أقتلك بعثمان .
فقال محمد : وما أنت وعثمان؟ إن عثمان عمل
بالجور ونبذ حكم القرآن. وقد قال الله تعالى (ومَن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون) فنقمنا
ذلك عليه فقتلناه, وحسّنتَ أنت
له ذلك ونظراؤك. فقد برّأنا
الله إن شاء الله تعالى من ذنبه, وأنت شريكه في إثمه وعظم ذنبه, وجاعلك على مثاله.
فغضب
معاوية فقدمه فقتله ثم ألقاه في جيفة حمار ثم أحرقه بالنار".
وقد
اشتهرت هذه الحادثة , التمثيل بجثة محمد بن ابي بكر وحرقة داخل حمار ميت, لفرادتها
وبشاعتها[29].
فذكرتها معظم المصادر , إن لم يكن كلها. قال الذهبي في تاريخ الاسلام ان
معاوية بن حديج لما القى القبض على محمد " فقتله ثم جعله في بطن حمار وأحرقه
". وفي تاريخ ابن خلدون " وطلب
محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان ثم أحرقه في جوف حمار بعد ان لعنه
ودعا عليه وعلى معاوية وعمرو". و ذكر الإمام البخاري في التاريخ الصغير عن الحسن قال "
لم يدع الله الفسقة , قتلة عثمان, حتى قتلهم بكل أرض[30].
فأما ابن أبي بكر فضربت عنقه ثم جعل بدنه في مسك حمار ثم أحرق بالنار"
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب أنه لما سار عمرو بن العاص الى مصر "
فانهزم محمد بن ابي بكر, فدخل في خربة فيها حمار ميت , فدخل في جوفه, فأحرق في جوف
الحمار. وقيل : بل قتله معاوية بن خديج في المعركة, ثم أحرق في جوف الحمار بعد"
وأما ابن كثير في البداية
والنهاية فقد أخرج نفس هذه الرواية في اجمالها, ولكنه شذبها بما ينسجم مع نزعته
الأموية! وبالتحديد قام ابن كثير بحذف تفاصيل كلام محمد بشأن عثمان ومعاوية
وعمرو بن العاص وقدحه بهم . فقال عن ذلك " وقد ذكر ابن جرير وغيره ان
محمد بن ابي بكر نال من معاوية بن خديج هذا ومن عمرو بن العاص ومن معاوية ومن
عثمان بن عفان أيضاً , فعند ذلك غضب معاوية بن خديج فقدمه فقتله, ثم جعله في جيفة
حمار فأحرقه بالنار"
ويلاحظ ان ابن كثير قد اعترف
بحادثة حرق جسد محمد في جيفة حمار , رغم
بشاعتها. ومن ملاحظة منهاجه واسلوبه, لو كان في تلك الحادثة أدنى شك لنفاها أو
لشكك بها, ان وجد لذلك سبيلا.
****
وقد
كان خبر مقتل محمد ابن أبي بكر مؤلماً جدا
للإمام عليّ, فقال : " .. فإنّ
مصر قد افتتحت ومحمد بن أبي بكر رحمه الله قد استشهد. فعند الله نحتسبه ولدا ناصحاً وعاملا كادحاً وسيفا قاطعاً وركنا دافعاً .. "[31]
وروى الطبري
" وحزن عليّ على محمد بن ابي بكر حتى رؤي ذلك في وجهه وتبيّن فيه.
وقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى
عليه وصلى على رسوله (ص) وقال : ألا ان مصر قد افتتحها الفجَرَة أولوا الجور
والظلم الذين صدّوا عن سبيل الله وبغوا الاسلام عوجا .
ألا وإن محمد بن ابي بكر قد استشهد رحمه
الله , فععند الله نحتسبه. أما والله إنْ كان ما علمتُ لممن ينتظر القضاء ويعملُ
للجزاء ويُبغض شكل الفاجر ويحب هدى المؤمن ".
وقال اليعقوبي
" ,,, تفجّع عليه وقال : انه كان لي ولدا, ولولدي وولد أخي أخاً"
الفصل
الثاني : الصراع على اليمن
قال
البلاذري " كان عبيد الله بن
العباس بن عبد المطلب – عامل عليّ على اليمن – اشتدّ على اهل صنعاء فيما
يجب عليهم , وطرد قوماً من شيعة عثمان عنها . وكان سعيد بن نمران الهمداني على
الجند فصنع مثل ذلك. فتجمّعت العثمانيّة وادّعت أن الأمر قد أفضى الى معاوية
واجتمع الناسُ عليه "
وروى
ابن ابي الحديد " إن قوماً بصنعاء كانوا من شيعة عثمان , يعظمون
قتله, لم يكن لهم نظامٌ ولا
رأسٌ,
فبايعوا لعليّ عليه السلام على ما في أنفسهم, وعاملُ عليّ عليه السلام على صنعاء يومئذ عبيد الله بن عباس
وعامله على الجند سعيد بن نمران. فلما اختلفَ الناسُ على عليّ عليه السلام بالعراق , وقتل محمد بن أبي بكر
بمصر, وكثرت غارات أهل الشام , تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان.
فبلغ
ذلك عبيد الله بن عباس فأرسل إلى ناس من وجوههم فقال : ما هذا الذي بلغني عنكم؟
قالوا
: إنا لم نزل ننكر قتل عثمان, ونرى مجاهدة مَن سعى عليه.
فحبَسَهم.
فكتبوا
إلى مَن بالجند من أصحابهم, فثاروا بسعيد بن
نمران, فأخرجوه من الجند, وأظهروا أمرهم. وخرج إليهم مَن كان
بصنعاء وانضم إليهم كل مَن
كان على رأيهم. ولحق بهم قومٌ لم
يكونوا على رأيهم, أرادوا أن يمنعوا الصدقة"
وبسبب
تلك التطورات كتب عبيد الله بن عباس إلى عليّ :
" أما بعد:
فإنا نخبر أمير المؤمنين عليه السلام أن شيعة عثمان وثبوا بنا, وأظهروا أن
معاوية قد شيد أمره , واتسق له أكثر الناس.
وإنا سرنا إليهم
بشيعة أمير المؤمنين ومَن
كان على طاعته. وإن ذلك أحمشهم وألبهم, فعبئوا لنا, وداعوا علينا من كل أوب.
ونصرهم علينا مَن لم
يكن له رأي فيهم إرادة أن يمنع حق الله المفروض عليه.
وليس يمنعنا من
مناجزتهم إلاّ انتظار أمر أمير المؤمنين"
فأرسل عليّ
كتابين من العراق : الأول إلى عبيد الله وسعيد[34],
يقرّعهما فيه على تخاذلهما وسوء تدبيرهما,
والآخر إلى المتمردين من أهل اليمن يطلب منهم الاستمرار بالطاعة والوفاء بالبيعة ,
ويَعُدهم
بالعفو إن تراجعوا, وبنفس الوقت يهددهم بإرسال جيش بقيادة يزيد بن قيس الأرحبي
ليطحَنهم إن هم أصروا على العصيان.
فكان رد فعل
المتمردين أن أرسلوا إلى معاوية يسألونه المدد وقالوا له :
"
معاويَ
إلاّ تسرع السيرَ
نحونا نبايع علياً أو يزيدَ اليمانيا "
واضاف البلاذري ان معاوية استجاب لهم , فأرسل سفّاحه
المشهور بسر بن أرطأة في حملةٍ عسكرية من 2600 جندي الى المدينة ومكة وقال له
" ,,, ثم امضِ الى صنعاء فإن لنا بها شيعة فانصرهم واستعنْ
بهم على عمال عليّ وأصحابه , فقد أتاني كتابهم. واقتلْ كل من كان في طاعة
عليّ اذا امتنع من بيعتنا , وخذ ما وجدتَ لهم من مال"
قال
ابن عساكر بشأن هجوم بسر بن أرطأة على
اليمن " ثم مشى إلى اليمن وعليها
يومئذ عبيد الله بن العباس عاملاً
لعلي بن أبي طالب. فلما بلغ عبيدَ الله أن بسراً قد توجه إليه , هرب إلى عليّ
واستخلف عبد الله بن عبد المدان المرادي. وكانت عائشة بنت عبد الله المرادي قد
ولدت من عبيد الله غلامين من أحسن صبيان الناس وأرضاه وأنظفه. فذبحهما ذبحا!
فخرجت
نسوة من بني كنانة فقالت منهن قائلة : مُهيم يا هذا ! هذا الرجال قتلتَ فعلامَ تقتل الولدان ؟!
والله ما كانوا يُقتلون
في جاهلية ولا إسلام . والله إن سلطاناً لا يقوم إلاّ بقتل الضرع الصغير
والمدره الكبير ويرفع الرحمة , وعقوق الأرحام لسلطانُ سوء.
فقال لها بسر : والله لهممتُ أن أضع فيكنّ السيفَ !
فقالت له : تالله إنها لأخت التي صنعتَ, وما أنا لها منك بآمنة.
وكانت أمهما قد هامت بهما , وكادت
تخالط في عقلها وكانت تنشدهما في الموسم في كل عام تقول :
ها مَن أحس بابنيّ الذين هما كالدّرتين تجلاّ
عنهما الصدفُ
ها مَن أحس بابنيّ
الذين هما سمعي وقلبي فقلبي
اليوم مختطفُ
ها مَن أحس بابنيّ الذين هما مُخ العظام فمخي اليوم مزدهفُ
حُدثتُ بسراً وما صدقتُ ما زعموا
من قولهم ومن الإفك الذي وصفوا
أنحى
على روحَي ابنيّ مُرهفة
مشحوذةً وكذاك الإثم يُقترفُ
وقد تدارك
عليّ الموقف المتدهور في اليمن . فقام بإرسال جيش من ألفي فارس بقيادة جارية بن قدامة, فوصل اليمن وقام بمواساة
الناس - الذين أثقل عليهم بسر فوثبوا به- وملاحقة ابن أرطأة الذي فر إلى الشام.
وهرب شيعة عثمان الى الجبال[36].
وهكذا نجح في منع السقوط الكامل لليمن – ولو مؤقتاً – بيد معاوية.
استطراد بشأن جريمة بسر بن
أرطأة في اليمن : قتلُ ولديّ عبيد الله بن عباس[37]
تتحدث معظم الروايات في مختلف المصادر عن الولدين الذين
قتلهما قائد قوات معاوية , بسر بن أرطاة , اثناء هجومه على اليمن, ذبحاً وبكل
وحشية. والشعر الذائع الذي قالته أم الغلامين عاطفيٌ ومؤثر ومن المستبعد ان يكون
ملفقاً, ولذلك فالتشكيك في حصول واقعة ذبح الغلامين ليس في محله, خاصة مع ما هو
معلوم بالضرورة من طباع ابن أرطأة. ولكنّ هناك ظلالا من الشك حول هوية هذين
الولدين , وهل هما حقاً ابنا عبيد الله بن العباس[38] ؟!
فالمصادر ذاتها تحدثنا ايضاً ان عبيد الله بن عباس
كان من قادة جيش الحسن بن عليّ في الكوفة سنة 41 عندما بويع بعد مقتل ابيه. وتقول
المصادر ان عبيد الله بن عباس ارتكب فعل الخيانة في ذلك الوقت العصيب وانضم الى
معاوية[39] ! فكيف
يمكن صدور فعل الخيانة هذا من جانب عبيد الله بن العباس بالذات علماً
بأن حادثة مقتل ولديه الجميلين على يد قوات معاوية حصلت قبل شهور قليلة فقط ؟!! فالمتوقع
والطبيعي أن يكون عبيد الله بن العباس موتوراً وحاقداً على معاوية بشكل يفوق
الآخرين. فكيف إذن يستجيب عبيد الله لدعوات واغراءات معاوية ؟ وكيف يأمل معاوية
أصلاً في استمالة عبيد الله؟ الأصل أن يكون يائساً منه وان يدعه ويحاول مع غيره.
اذن هناك احتمالان
لتفسير موقف الخيانة الذي صدر من عبيد الله بن عباس :
-
فإما أن يكون قد وصل درجة من الانهيار النفسي والمعنوي والانهزام الداخلي
تجاه معاوية تدفعه إلى الاستسلام اللامشروط للرجل المسؤول عن قتل ولديه.
-
وإما أن يكون الغلامان المقتولان على يد بسر بن أرطأة ليسا ابنيه. وهو
ما نرجحه.
فربما يكون الغلامان ابنين لمساعد عبيد الله الذي استخلفه ليدير الشؤون ريثما يصل هو إلى الخليفة علي في الكوفة.
وهناك بالفعل روايات تتحدث عن قتل ابن او ابناء لمساعدي عبيد الله على يد
بسر, رغم انه في الأغلب يُذكر قتل هؤلاء الى جانب قتل ابني عبيد الله – كجريمة
اضافية. وهناك اسمان يترددان. الأول هو عمرو بن أراكة الثقفي . فمثلاً روى ابن أبي الحديد أن بسراً لما وصل صنعاء , تصدى
له عمرو بن اراكة الثقفي – الذي استخلفه
عبيد الله بن عباس – إلى أن قتل. ثم أورد ابن أبي الحديد شعراً قاله عبد الله بن
أراكة الثقفي في رثاء ابنه عمرو.
ولكن الاسم الأكثر تردداً هو عبد الله بن عبد المدان المرادي.
فمثلا ذكر اليعقوبي في تاريخه أن الذي استخلفه عبيد الله كان عبد الله بن عبد
المدان الحارثي[40], وأن
بسراً قتله وقتل ابنه مالك .
وقد روى البلاذري في أنساب
الأشراف روايتين بهذا الشأن: الأولى عن الجماعة" قالوا " وفيها أن الذي
استخلفه عبيد الله – بعد أن هرب هو وسعيد - كان عبد الله بن عبد المدان الحارثي,
وأن بسراً قتله وقتل ابنه مالك. والثانية عن الهيثم بن عدي وفيها أن الذي استخلفه
عبيد الله على صنعاء كان عمرو بن اراكة الثقفي, وأن بسراً قتله, فرثاه أبوه بشعر
عاطفي مؤثر.
كما أن هناك اختلافاً في الروايات حول اسم أم الغلامين : فهي تارة جويرية بنت
قرظ الكناني[41] وتارة
عائشة بنت عبد الله المرادي[42] .
وبعض الروايات تقول ان عبيد الله بن العباس عندما فرّ ترك ولديه عند
أخوالهما من بني كنانة فقام بسر بن أرطأة بقتلهما هناك[43] .
وان وجود البعض ممن قرر أن يقاوم غزوة قوات معاوية في اليمن يجعل من
إمكانية لجوء بسر بن أرطأة لذبح ابنائهم - انتقاماً - أمراً ممكنا ومرجحاً أكثر من
قيامه بقتل ابني الوالي المنهزم الفار عبيد الله بن العباس. ولذلك كله فانا أرجح
أن يكون قد حصل خلط لدى الرواة بشأن الغلامين المذبوحين فنسبوهما لعبيد الله بن
العباس لشهرته.
وجديرٌ بالذكر أن الرواة قد وصفوا موقفاً حصل فيما
بعد في بلاط معاوية وبحضرته , يجتمع فيه عبيدالله مع بسر بن أرطاة, فينكر
معاوية مسؤوليته عن قتل ابني عبيد الله ويقول له انه لم يأمر بذاك ولم يعلم به.
فيقول عبيد الله انه لن يقتل بسرا بدم ابنيه لأنه " أحقر وألأم من ذلك" وانه لن يدرك ثأره إلاّ إذا أصاب ابني معاوية
نفسه : يزيد وعبد الله! وتضيف الرواية أن معاوية ابتسم واحتمل ذلك من عبيد
الله" لشرفه و سؤدده ". ولا يخفى ما في هذه الرواية من ضعف: فكيف
ينقلب عبيد الله , الذي جبُن وفر من واجب الدفاع عن ولايته في اليمن, ومن ثم خانَ
إمامَه وقائده الحسن, إلى مِغوارٍ يواجه معاوية بهمّة عالية ويقرعه بعظيم
الكلام؟ هذا الكلام لا يمكن ان يصدر عمن أخذ الرشوة من معاوية وقبل الدنية لنفسه. بل
ان رواية البلاذري في أنساب الأشراف
تذهب إلى أن بسراً ألقى سيفه على الأرض غضبا من كلام عبيد الله ووجه كلامه لمعاوية
قائلا له انه كان ينفذ أوامره, فأجابه معاوية محذراً " خذ سيفك فإنك ضعيف الرأي حين تلقي سيفا بين
يدي رجل من بني هاشم وقد قتلتَ ابنيه!"
وهناك رواية في تاريخ دمشق لابن
عساكر تتحدث عن دخول عبيد الله على معاوية وكلامه معه بشأن بسر. وتظهر
في هذه الرواية بكل جلاء بصمات الرواة الوضّاعين : فالرواية كلها أشبه بأدب
المساجلات والمفاخرات! فهي لا تعبر عن حرقة أبٍ لفقد ولديه على يد قتلةٍ
مجرمين, بقدر ما تعبر عن حرص عبيد الله على إظهار مقدار فصاحته. فهو يقول
لمعاوية انه يطالبه ان يقيده من بسر الذي قتل ولديه ظلما , ويسرد له مزاياه "وقد
علمت قريش اني غير هش المشاشة ولا مرئ المأكلة وان أولنا ساد أولكم وان آخرنا هدى
آخركم ... وأيم الله لولا انه لا فتك في
الاسلام لما سألناك استقادة بسر" ثم يبدأ بذكر أشعار لاظهار فضل بني هاشم
في قريش ... الخ فيردّ عليه معاوية بالشعر أيضا وعلى نفس الوزن معترفا بفضله وفضل
بني عبد المطلب . وأقتطف منها البيتين التاليين الذين يظهران معاوية مقراً بفضل
بني عبد المطلب !
أنتَ علمتَ قريشاً جودها أدب منك وللجود أدب
ليس تمريك قريش كلها
ان خير القوم عبد المطلب
والطريف ان الرواية ذاتها تقول ان معاوية وافق على طلب
القود وقال لعبيد الله "ان بسرا قتل ابنيك ظالما لهما فاقتل ابنيه بابنيك,
فدونك الرجل" ولكن الرواية لا تذكر ماذا فعل عبيد الله ببسر بعد هذا
التصريح من معاوية!
وخلاصة البحث عندي أن الولدين الذين قتلهما بسر بن أرطأة
في صنعاء ليسا ابنيّ عبيد الله بن العباس بل ابنان لنائبه عبد الله بن عبد المدان
المرادي [44]
الذي استخلفه عندما هرب لدى سماعه بقرب وصول قوات معاوية.
الفصل الثالث : معاوية يطمح إلى اقتحام العالم العراقي
قرر
معاوية أن الوقت قد حان ليسعى لاستغلال الوضع القبليّ المضطرب في البصرة ومحاولة
الحصول على ولائها, بعد إخراجها من طاعة عليّ.
كانت
تلك خطوة كبيرة من جانب معاوية, وتعكس بلا ريب نموّا متزايداً في ثقته بجبهته ومعسكره, وفي ذات الوقت
إدراكه لعمق المشاكل والصعوبات التي تواجه علياً
في العراق.
فالبصرة
ليست رهاناً سهلا. فهي الحاضرة الرئيسية الثانية في
العراق , بعد الكوفة. والنجاح في الاستيلاء عليها سيشكّل ضربة شبه قاصمة لعليّ
وسلطته. وسيضيق فضاء عليّ , عندها, لينحصر فعلياً
في الكوفة وما شرقها من بلاد فارس, وسيجد عليّ نفسه وقد فقد بالفعل السيطرة على
جلّ المناطق العربية وسكانها. فالشام ومصر صارت خالصة لمعاوية, والحجاز واليمن
أضحت مناطق " متنازع عليها " بينهما, وسقوط البصرة أيضاً سيؤدّي فعلياً
إلى سقوط البحرين واستتباب الأمر لمعاوية في الجنوب العربي بأسره.
ومغامرة
معاوية باتجاه البصرة كانت في الحقيقة رهانا منه على قدرته على إحياء كل مآسي يوم
الجمل بين أهلها. هو كان يراهن على الدماء التي سالت في البصرة,
والتي لم يطل عليها العهد. وحسب خطة معاوية, فإن البصريين, أو جزءً مهما منهم, سيكونون مهيئين لقبول حكم
معاوية, نكاية بعليّ الذي وَترَهم يوم الجمل.
وسير
الأحداث يُظهر أن كل رهان معاوية كان منصباً على هذا الوتر. فهو لم يُرسل جيشاً
لفتح البصرة, ولا مقاتلين لهزيمة رجال عليّ, بل أرسل رجلاً
خبيراً في الشؤون البصرية, وهو عبد الله بن
عامر بن الحضرمي[46], الذي
كان نائبا لعبد الله بن عامر بن كريز, والي البصرة أيام عثمان. وابن الحضرمي كان
بلا شك يعرف أوضاع البصرة الداخلية تماما, ويملك الصلات والعلاقات القديمة مع
كثيرين من رجالاتها والمفاتيح فيها, بما يؤهله للنجاح في مهمته الصعبة تلك.
وكان
والي عليّ على البصرة, عبد الله بن عباس , حينذاك موجوداً
في الكوفة عند عليّ[47],
وقد استخلف على البصرة وبيت مالها زياد بن أبيه.
ونزل
ابن الحضرمي جاراً على قبيلة تميم
في البصرة, التي تعهدت بحمايته, وبدأ من هناك عمله الدؤوب في محاولة السيطرة على
البصرة وإخراجها من طاعة عليّ عن طريق بذل الوعود لوجهائها بالنيابة عن سيده معاوية.
وباشر بالاتصال مع الذين كانوا على علاقة ببني أمية وولاتهم والمستفيدين من أيام
عثمان.
ولكن
زياد بن أبيه, الذي كان يعتبر والي عليّ في غياب ابن عباس, أثبت أنه ذو قدرات
عالية المستوى في مواجهة المخاطر والصعوبات. لجأ زياد إلى التعامل مع الأزمة
بالأسلوب الوحيد الذي يمكن ان ينجح في تلك البيئة : اللعب على حبال القبائل
المتنافسة! كان هذا الأسلوب يبرع فيه معاوية , ولسوء حظه أنه واجه , على غير
توقع , خصماً يجيد هذا الأسلوب أيضا!
لجأ
زياد إلى القبيلة الرئيسية في البصرة التي تنافس تميم,
وهي الأزد, وطلب منهم الحماية. وفعلاً
استجاب أشراف الأزد انصياعا للتقاليد العربية بإغاثة الملهوف, ونكاية بتميم. وهكذا
أصبح زياد في مَنعَةٍ بعد أن
استثار حمية زعماء الأزد. ونزل زياد دار صبرة بن شيمان ومعه بيت المال.
ودسّ
زياد مَن يوصل لزعماء الأزد أن تميماً تزدريهم وتستهين بشرفهم وتريد أن تعتدي
على الذي أجاروه. وأدى ذلك بالفعل إلى أن الأزد زاد تصميمهم على التمسّك بزياد
وحمايته, كي لا يفرطوا بشرف القبيلة!
وأرسل زيادٌ
إلى الإمام عليّ يخبره بتطورات الأوضاع في البصرة. فقام عليّ باختيار شخص من قبيلة
تميم وأرسله من الكوفة ليقنع قومه في البصرة
بالتخلي عن ابن الحضرمي. وفعلاً ذهب
أعين بن ضبيعة إلى البصرة , ولكنه دخل في سلسلة مشاكل هناك, داخل أجنحة قبيلة
تميم, أسفرت عن مقتله[48].
وأصبحت
هناك حالة من التوازن في البصرة, أقرب إلى الهدنة, بين القبيلتين. فالأزد تحمي
وتمنع زياداً, بينما تميم تدفع عن ابن الحضرمي. وبقي
الخصمان متربصين ببعضهما بانتظار عامل حسم لا بد أن ياتي من الخارج.
فأرسل
الإمام عليّ رجلا آخر من تميم, وهو جارية بن قدامة, في كتيبة صغيرة إلى البصرة.
ونجح جارية هذه المرّة في إقناع معظم قومه بالتخلي عن مندوب معاوية, بعد أن قرأ
عليهم كتاب عليّ. وقام جارية بمطاردة ابن الحضرمي وحصره وقتله مع السبعين رجلاً الذين كانوا معه, وأحرق عليهم
دارهم.
وهكذا
فشلت مؤامرة معاوية في البصرة ورجع زياد إلى دار الإمارة.
كان
هذا ملخصاً للروايات الموجودة في تاريخ الطبري
[49].
وقد روى ابن أبي الحديد
في شرح نهج البلاغة تفاصيل وافية جدا عن هذا الموضوع, نقلا عن كتاب الغارات
لابراهيم بن هلال الثقفي. وفيها تظهر قبيلة الأزد وهي تعكس موقفها الذي اتخذته يوم
الجمل – حين ناصرت عائشة وجمعها – وتقرر تأييد أمير المؤمنين عليّ وعدم تكرار
الخطأ السابق. وفيها يظهر أن معاوية – وهو الاستاذ الماهر في التلاعب بالقبائل
والعصبيات - اضطر مرغماً إلى دفع ثمن
نزاعات القبائل في البصرة. فقد أرغم رجل معاوية إلى الاختيار : إما الأزد وإما
تميم! وفشل في ارضاء الطرفين معاً. وهكذا فإن معاوية الذي خاض هذه المغامرة
على أساس استغلال الولاءات القبلية , وبالأخص مشاعر المرارة لدى الذين خسروا
أبناءهم في حرب علي يوم الجمل – وجلهم من الأزد – وجد ما راهن عليه يرتدّ ضدّه : فالأزد
هنا يتشددون في حمايتهم لوالي علي , وهو زياد , ويظهرون استعدادهم لحمل السلاح
وخوض القتال ضد تميم , لأن مندوب معاوية اختارهم عليهم ونزل لديهم, فعدّوا ذلك
إهانة لهم وقرروا إظهار أنهم ليسوا بأقل شأناً من خصومهم. وفي القصة الطويلة
أن معاوية كان قد تلقى دعوة من رجل من عبد القيس[50]
لارسال من يأخذ البصرة له وأنه استشار عمرو بن العاص الذي كان بمصر بعد قتل
ابن أبي بكر فشجعه بقوة. وفيها أيضا أن زيادا هو الذي طرح اسم جارية بن قدامة على
عليّ لارساله إلى البصرة بعد مقتل أعين بن ضبيعة. كما يظهر أن مندوب معاوية نجح
إلى حد كبير جدا في السيطرة على البصرة ولقي قبولا عاما هناك , لولا موقف زعيم
الأزد صبرة بن شيمان, وإلى درجة دفعت علياً إلى تهديد مخالفيه بالبصرة بالشخوص
إليهم بنفسه إن لم ينهضوا مع جارية. كما يظهر مدى العجز القيادي لابن عباس الذي
ترك مصره قبيل تلك الأحداث الخطيرة ولم يبدِ أي اهتمام بالعودة إليها لمعالجة
تدهور الاحوال مع قدوم ابن الحضرمي, وترك كل شيء لزياد ليتدبر الأمور وحده. ويكرر
الأحنف بن قيس هنا موقفه القديم : فيعتزل الفريقين.
استطراد بشأن " خيانة " عبد
الله بن عباس[51]
في الواقع تحدثنا المصادر عن خيانتين لابنيّ عباس !
الاولى خيانة عبد الله بن عباس لعلي بن ابي طالب حين كان واليا له على البصرة سنة
40, والثانية خيانة أخيه عبيد الله بن عباس للحسن بن علي بن ابي طالب حين كان من
قادة جيشه في الكوفة لما قدم اليها معاوية سنة 41. وسوف نأتي للثانية لاحقا عند
الوصول الى موضوع صلح الحسن ومعاوية.
هناك اشكالية حقيقية في الروايات التي تتحدث عن قصة
خيانة عبد الله بن عباس لأمير المؤمنين عليّ وقيامه بسرقة بيت المال في البصرة
وحمله معه الى مكة بعد أن فارق علياً اثر خلافٍ شديد بينهما . والاشكالية تنبع من
كون ابن عباس معروفاً بنشاطه الشديد في تأييد ابن عمه عليّ وانخراطه في صفوفه طوال
احداث الفتنة الكبرى , من الجمل الى صفين الى النهروان ,,,, بل وقيام عليّ
باعتماده كمستشار مخلص له ومن ثم تعيينه والياً على البصرة. كما أن ابن عباس
استمر في ولائه لعليّ والدفاع عنه وعن سمعته في العهد الاموي – أيام معاوية.
وهناك روايات كثيرة توضح ذلك. ولا ننسى أن ابن عباس ذاته هو راوي الحديث النبوي
المشهور في صحيح مسلم والذي به ذمّ لمعاوية ( لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ ) , مما ينفي عنه
, من حيث المبدأ , تهمة موالاة معاوية او الترويج له.
ولكن المصادر غير متفقة بشأن " خيانة " عبد
الله بن عباس : فبعضها يذكر القصة بتفاصيلها وبشكل مُسيء جدا لابن عباس , وبعضها
لا يذكر القصة على الاطلاق , وبعضها يذكرها مخففة او ملطفة او بشكل عرضي مُبهم.
بل اني اكتشفتُ أمراً مثيراً اثناء بحثي في الموضوع : اختلاف
نفس المصدر بهذا الشأن , وبالتحديد كتاب أنساب
الاشراف للبلاذري . ففي النسخة التي حققها محمد باقر
المحمودي من الكتاب وطبعتها مؤسسة الأعلمي في لبنان توجد كل الرواية وتفاصيل
الرسائل المسيئة كاملة , بينما لا توجد هذه الرسائل والتفاصيل في النسخة التي
حققها سهيل زكار و رياض زركلي وطبعتها دار الفكر في لبنان ايضاً !
وهذه رواية البلاذري في نسخة أنساب الأشراف بتحقيق
المحمودي :
(قالوا) ان عليا استعمل ابن عباس واليا على البصرة وأبا
الأسود الدؤلي على بيت مالها. فكتب أبو الأسود رسالة إلى الخليفة علي في الكوفة
يتهم فيها ابن عباس " ... وإن عاملك وابن عمك قد أكل ما تحت يده
بغير علمك, ولا يسعني كتمانك ذلك... " فأرسل عليٌ كتابا إلى ابن عباس –
دون أن يطلعه على ما وصله من أبي الأسود " أما بعد, فقد بلغني عنك أمر إن
كنتَ فعلته فقد أسخطتَ ربك وأخربتَ أمانتك وعصيتَ إمامك وخنتَ المسلمين. بلغني
أنك جردتَ الأرض وأكلتَ ما تحت يديك. فارفع إليّ حسابك واعلم أن حساب الله أشد من
حساب الناس . والسلام"
فأجابه ابن عباس " اما بعد . فإن الذي بلغك
عني باطل. وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ. فلا تصدق عليّ الأظناء رحمك الله.
والسلام"
فلم يقتنع عليٌ بجوابه وكتب له " أما بعد فإنه
لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذتَ من الجزية؟ ومن أين أخذته؟ وفيما وضعتَ ما
أنفقتَ منه؟ فاتق الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه. فإن المتاع بما أنت
رازي منه قليل وتباعة ذلك شديدة. والسلام"
وعند ذلك انفجر ابن عباس في وجه عليّ فكتب له كتابا
قبيحاً " أما بعد فقد فهمتُ تعظيمك عليّ مرزأة ما بلغك أني رزاته من أهل
هذه البلاد. ووالله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها ,
وبطلاع ما على ظهرها, أحبّ إليّ من أن ألقاه وقد سفكتُ دماء الأمة لأنالَ بذلك
المُلكَ والإمارة. فابعث إلى عملك من أحببتَ.
وأجمع ابن عباس على الخروج
قالوا : فلما قرأ علي الكتاب قال : أو ابن عباس لم
يشركنا في هذه الدماء؟!"
ثم تتابع الرواية فتقول ان ابن عباس لجأ إلى أخواله من
قبيلة بني هلال لكي يحموه أثناء خروجه من البصرة , بعد أن حمل معه المال وهو ستة
آلاف ألف. فلحقته القبائل الأخرى , الأزد وبكر بن وائل وتميم , وهو غير بعيد عن
البصرة يريدون أخذ المال. ولكن بني هلال , وعموم القيسية, أصرّوا على حماية ابن
عباس فتطوّرت الاشكاليات بين القبائل وحصلت مناوشات محدودة بين بعض الأفراد إلى أن
نجح ابن عباس وحماته في الوصول سالماً إلى مكة. وفي مكة بدأ ابن عباس في الاستمتاع
بالأموال فاشترى ثلاث جوارٍ مولدات.
فكتب إليه علي رسالة قاسية جدا " أما بعد فإني
كنتُ أشركتك في أمانتي ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي
وموازرتي وأداء الأمانة إليّ. فلما رايتَ الزمان على ابن عمك قد كلب, والعدو
عليه قد حرب, وأمانة الناس قد خربت وهذه الامة قد فتنت, قلبتَ له ظهر المجنّ
ففارقته مع القوم المفارقين, وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين وخنته مع الخائنين. فلا
ابن عمك آسيتَ ولا الأمانة أديتَ , كأنك لم تكن الله تريد بجهادك؟! وكأنك لم
تكن على بينة من ربك! وكأنك إنما كنتَ تكيد امة محمد عن دنياهم وتطلب غرتهم عن
فيئهم! فلما أمكنتك الشدة أسرعتَ العدوة وأغلظتَ الوثبة وانتهزتَ الفرصة واختطفتَ
ما قدرتَ عليه من اموالهم اختطاف الذئب الأزل دامية المعزى الهذيلة, وظالعها
الكسير, فحملتَ أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر, تحملها غير متأثم من
أخذها كأنك – لا أبا لغيرك – انما حزتَ لأهلك تراثك عن أبيك وأمك؟ سبحان الله أفما
تؤمن بالمعاد؟! ولا تخاف سوء الحساب! أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراماً؟
أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل
والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد!! فاتقِ الله وأدّ أموال القوم, فإنك
والله إن لا تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك أعذر إليه فيك حتى آخذ الحق وأرده, وأقم
الظالم وأنصف المظلوم. والسلام
فكتب إليه عبد الله : أما بعد فقد بلغني كتابك تعظم عليّ
إصابة المال الذي أصبته من مال البصرة. ولعمري إن حقي في بيت المال لأعظم مما
أخذتُ منه. والسلام."
وتتابع الرواية بأن عليا بعث له برسالة تقريعية أخرى
شديدة اللهجة.
وأضاف البلاذري
" وقد زعم بعض الناس أن عبد الله لم يبرح البصرة حتى صالح الحسن معاوية.
وليس ذلك بثبت, والثبت أنه لما قتل أمير المؤمنين علي عليه السلام كتب إلى
الحسن كتابه – الذي نذكره إن شاء الله في خبر صلح الحسن ومعاوية – من الحجاز"
ولكن في طبعة انساب الاشراف بتحقيق الدكتور سهيل زكار
وزميله وجدتُ فقط اتهاماً من ابن الزبير
لابن عباس بالسرقة ( في الجزء الرابع – ترجمة عبد الله بن عباس) , ولم اعثر على تلك
الرسائل الشديدة اللهجة والاتهامات الموجهة من علي لابن عباس[52].
هذا ما وجدته في نسخة أنساب الأشراف بتحقيق سهيل زكار ورياض
زركلي :
ان عبد الله بن الزبير قال وهو على المنبر بمكة
كلاماً سيئا جدا بحق ابن عباس , من ضمنه " وقد حمل ما في بيت مال
البصرة وترك أهلها يرضخون النوى" ! وفي الرواية ان ابن عباس قد رد عليه كما يلي " ... وأما حملُ
مال البصرة فإنه كان مالاً جبيناه ثم أعطينا كل ذي حق حقه , وبقيت منه بقية هي دون
حقنا في كتاب الله وسهامه فأخذناه بحقنا[53]
".
ولستُ أدري سبب هذا الاختلاف. هل يُعقل أن يكون موضوع
شيعيّة المحمودي وسنّية زكار سبباً لحذف عبارات او اضافة فقرات في كتاب البلاذري
؟! هل يفعل الباحثون المحترفون ذلك ؟! أم أن النسخة المخطوطة التي حققها كل منهما
كانت في الاصل مختلفة هكذا ؟! لستُ متأكدا.
وقد روى ابن عبد ربه
في العقد الفريد رواية الخيانة برمتها , عن ابي مخنف , وبتفاصيل أكثر قليلا من
نسخة المحمودي من انساب الاشراف. وفيها إضافة ان اختتام المراسلات بين علي وابن
عباس كان برسالة من عبد الله بن عباس قال له فيها عن المال" والله لئن
لم تدعني من أساطيرك لأحملنه الى معاوية يقاتلك به. فكفّ عنه عليّ"
كما قدم ابن عبد ربه
رواية أكثر اختصارا عن ابي بكر بن ابي شيبة فيها تفسير لاختلاس ابن عباس أموال البصرة, وهو أنه تأول أن
ذلك حق له " كان عبد الله بن عباس من أحب الناس الى عمر بن الخطاب,
وكان يقدمه على الأكابر من أصحاب محمد (ص), ولم يستعمله قط. فقال له يوما: كدتُ
أستعملك, ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل!
فلما صار الأمر الى علي استعمله على البصرة, فاستحل
الفيء على تأويل قول الله تعالى (واعلموا انما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول
ولذي القربى) واستحله من قرابته من رسول الله(ص) "
وروى الطبري
في تاريخه عن ابي مخنف رواية مفارقة ابن عباس لعلي في أحداث سنة 40 للهجرة.
وروايته تتشابه في عمومها مع نسخة المحمودي من انساب الاشراف, ولكنها مخففة قليلا وخالية
من العبارات الجارحة . فهو يذكر كتاب ابي الأسود لعلي بشأن خيانة ابن عباس ,
وجواب عليّ له, وكتابه الى ابن عباس وجواب الأخير عليه منكرا الخيانة , وتشديد عليّ
في طلب المحاسبة مما دفع ابن عباس الى إبلاغ عليّ باعتزاله العمل له, ولكن الرواية
تخلو من الجزء المثير للإشكال من رد ابن عباس وهو (ووالله لأن ألقى الله
بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها , وبطلاع ما على ظهرها, أحبّ إليّ من أن
ألقاه وقد سفكتُ دماء الأمة لأنالَ بذلك المُلكَ والإمارة) .
ثم تتابع الرواية فتقول ان ابن عباس لجأ إلى أخواله من
قبيلة بني هلال لكي يحموه أثناء خروجه من البصرة , بعد أن حمل معه المال, ولكن دون ذكر رقم معين (الذي هو ستة آلاف ألف
عند البلاذري), ووصفت الرواية المال بأنه "كانت أرزاقا قد اجتمعت فحمل معه مقدار ما اجتمع له"
ثم يذكر أبو مخنف عند الطبري
مشاكل القبائل على نحو قريب مما رواه البلاذري
في انساب الاشراف, وينهي روايته بوصول ابن عباس الى مكة سالماً, ولكن دون ذكر
شرائه للجواري المولدات ولا ذكر رسالة علي له التي فيها (أفما تؤمن
بالمعاد؟! ولا تخاف سوء الحساب! أما تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراماً؟).
وبعد أن أنهى الطبري
رواية ابي مخنف قال "وحدثني أبو زيد قال : زعم أبو عبيدة ولم أسمعه منه ,
أن ابن عباس لم يبرح من البصرة حتى قتل علي عليه السلام, فشخص الى الحسن فشهد
الصلح بينه وبين معاوية ثم رجع الى البصرة وثقله بها , فحمله ومالا من بيت
المال قليلا وقال : هي أرزاقي.
قال أبو زيد: ذكرت ذلك لأبي الحسن فأنكره وزعم أن عليا
قتل وابن عباس بمكة وأن الذي شهد الصلح بين الحسن ومعاوية عبيد الله بن عباس"
وقد أخرج ابن أعثم
الكوفي في كتاب الفتوح رواية الخيانة ولكن مع اختلافٍ في خاتمتها ! وهو قال
ان كتاب ابي الأسود الدؤلي الى عليّ بخبر سرقة ابن عباس للأموال كان نوعاً من
الوشاية سببها الخلاف الحاد الذي وقع بين أبي الأسود وزياد بن أبيه في البصرة
وانحياز ابن عباس الى زياد وتقريعه لأبي الأسود " مالك وللأحرار ! تهجوهم
وتقول فيهم القبيح وتذكر أعراضهم بما لا يجب . أخرج عني , فعل الله بك وفعل
". وتذكر رواية ابن اعثم صيغة
معتدلة للرسالة التي بعثها عليّ لابن عباس " بلغني عنك أمورٌ الله اعلم
بها. فإن تكن حقا فلستُ أرضاها لك وإن تكن باطلاً فإثمها على من اقترفها.
فإذا ورد عليك كتابي هذا فأعلمني في جوابه ما أخذت من مال البصرة, من أين أخذته
, وفيمَ وضعته". وهذه الرسالة ليست شديدة ولا قاسية بل هي أقرب
الى الاستفسار منها الى الاتهام , وهي بالتأكيد لا تستحق ذلك الجواب الغريب
الذي ارسله ابن عباس " ان الذي بلغك عني باطل , واني لما تحت يدي لضابطٌ
وحافظ , فلا تصدق اقوال الوشاة. وأما تعظيمك مرزأة ما رزأته من هذه البلدة فوالله
لئن ألقى الله عز وجل بما في الارض من لجينها وعقيانها وعلى ظهرها من طلاعها أحبّ
إليّ من أن ألقاه وقد أرقتُ دماء الأمة! فابعث لعملك من أحببت فإني معتزلٌ عنه
والسلام". وهنا الخاتمة الغريبة لهذه الرواية " فكتب اليه علي
بن ابي طالب رضي الله عنه بكتاب يعذله فيه على غضبه ويكذّب من سعى به اليه ,
وأعاده الى عمله !".
فواضحٌ تماما عدم الانسجام بين أجزاء رواية ابن اعثم .
وابن خلدون في
تاريخه أخرج الرواية بشكل مختصر , واستعمل كلمة " فراق ابن عباس لعليّ
" في وصف ما جرى. وفيها ان ابن عباس برر موقفه كما يلي " ولم يبعث
الاموال وقال : هذه أرزاقنا " ثم توجه الى مكة.
وذكر ابن ابي الفتح
الاربلي في كشف الغمة , وهو من المصادر الشيعية[54],
أن عبد الله بن العباس كان موجودا مع الامام الحسن حين بويع عقب مقتل أبيه في
الكوفة " فقام عبد الله بن العباس رحمة الله عليهما ما بين يديه فقال :
معاشر الناس هذا ابن نبيكم ووصيّ إمامكم فبايعوه. فاستجاب له الناس.... "
وهذا يعني أن ابن عباس كان موجودا في الكوفة عند مقتل
علي, لأنه لا يمكن تصور أن يقدم من مكة الى الكوفة بهذه السرعة الخارقة ! وهذا
يشكل على قصة خيانته.
كما يُشكل على قصة الخيانة ما رواه ابن سعد في ترجمة ابي الاسود الدؤلي في طبقاته
من أن ابن عباس ذاته قد استخلفه حين خرج من البصرة, وأن علياً أقرّه.
الخلاصة : الحكم على قصة خيانة عبد الله بن العباس
لا يمكن تصديق ان ابن عباس قد نهب بيت مال البصرة وفرّ
به الى الحجاز. فالسرقة بذلك الشكل الصارخ والمفضوح لا
يمكن ان تصدر عن شخص بمكانة ابن عباس , الذي كان في منتصف الاربعينات من عمره ,
صاحب علمٍ وقرابةٍ من رسول الله (ص). وهو قد عُرف لاحقاً بفقهه واختصاصه بشؤون
الدين وتفسير القرآن.
أما الذي يمكن ان يكون حصل فهو أن ابن عباس لم يحتمل
تطورات الاحداث وشدّتها وخطورتها , من الجمل لصفين للنهروان لغارات معاوية
لصراع القبائل ,,, الى آخر تلك السلسلة الجهنمية من الاحداث المتسارعة التي لا
ترحم والتي صارت أخيراً تتجه لصالح معاوية وجماعته على حساب عليّ وخلافته. فربما
جعل ذلك كله ابن عباس يقرر مراجعة موقفه والانسحاب من " الفتنة " فراراً
الى بيت الله في مكة[55]. نوعٌ
من الضعف. فلعلّه ذهب في موسم الحج سنة 39 الى الحجاز وبقي هناك ولم يعد الى
البصرة , وقد يكون أخذ معه من بيت المال ما يراه حقاً له , من عطاء مستحق ولكونه
من اقرباء رسول الله (ص) , أي ذوي القربى.
وابن عباس لم يكن شخصية قيادية او إدارية ناجحة , ولم يكن من ذوي
الخبرة والكفاءة في تولي مسؤوليات الحكم وإدارة ولايةٍ مهمة بحجم البصرة. وقد
لاحظنا كيف أن زياد بن ابيه كان أقدر منه وأقوى على تحمل مسؤوليات القيادة
ومجابهة الصعوبات والظروف الحرجة. فكانت مكانة زياد ترتفع وأهميته تبرز حتى
وهو يعمل تحت ظل ابن عباس في البصرة.
وأخيراً , ربما يكون عليّ قد ارسل لابن عباس , عندما علم
بتركه البصرة , يسترضيه ويستدعيه من الحجاز , فعاد الى الكوفة.
لم ييأس معاوية من مشروعه العراقي. ولكنه أصبح أكثر
واقعيةً هذه المرة حين أرسل , بعد فترةٍ قيّم خلالها ما حصل في البصرة, رجلاً من
قبيلة كلب يدعى زهير بن مكحول إلى السماوة, وهي تقع على الفرات ما بين البصرة
والكوفة, من أجل إخراجها من طاعة عليّ. وبالفعل فإن زهير بن مكحول بدأ في قبض الصدقات
لحساب معاوية. ولا شك أن مندوب معاوية قد استفاد من انشغال عليّ وقواته في الصراع
الداخلي ضد الخوارج بالإضافة إلى السمعة الرهيبة التي اكتسبتها قوات معاوية التي
كانت بدأت بشنّ موجة الغارات الوحشية على المناطق التي هي بطاعة عليّ.
ولمواجهة ذلك أرسل عليّ ثلاثة رجالٍ : جعفر بن عبد الله
الأشجعي, وعروة بن العشبة ( من قبيلة كلب ) والجلاس بن عمير. وخاض هؤلاء معركة ضد
جماعة معاوية في السماوة فخسروها, وقتل منهم جعفر بينما فرّ الجلاس وابن العشبة.
ولما رجع ابن العشبة خائبا إلى عليّ في الكوفة, غضب عليه واتهمه بالجبن وعاقبه
لذلك, مما أدى إلى فرار ابن العشبة من العراق ولحوقه بمعاوية في الشام.
الفصل الرابع : غاراتُ معاوية وسياسة البطش والترهيب[57]!
قرر معاوية أن يستغل ظروف الاضطراب في العراق وأن
يتحول إلى استراتيجية هجومية!
بدأ معاوية في
شن حملةٍ واسعةٍ من الغارات على المناطق الخاضعة لحكم عليّ. وكانت المعالم
الرئيسية لتلك الغارات على النحو التالي :
-
إرسال قوات
عسكرية صغيرة الحجم نسبياً
-
استهداف منطقة
محددة بعينها, وتكون في الغالب بعيدة نسبياً
عن مركز خلافة علي في الكوفة.
-
الهجوم المفاجئ,
المركّز, وغير المسبوق بأي مقدمات.
-
الحرص على
ارتكاب جرائم صارخة, ذات صدى إعلامي واسع,
وممارسات ترويعية بحق الناس الذين هم في طاعة عليّ
-
عدم "
احتلال " المنطقة المستهدفة, والانسحاب منها عقب تنفيذ المهمة.
والنص
التالي لابن ابي الحديد يوضح تماماً فلسفة معاوية من
شن الغارات
:
"...
تحدث الناس بالشام أن علياً
عليه السلام يستنفر الناسَ
بالعراق فلا ينفرون معه, وتذاكروا أن قد اختلفت أهواؤهم , ووقعت الفرقة
بينهم..."
ولذلك
اقترح نفرٌ من الذين أرادوا اغتنامَ الفرصة على الوليد بن عقبة بن أبي معيط
أن يذهب لمعاوية ويكلمه , ففعل :
"
... فمُره أن
فليسِرْ بنا إليهم قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم,
أو يصلح لصاحبهم ما قد فسد عليه من أمره...
فشمّر للحرب , وناهض الأعداء, واهتبل الفرصة,
واغتنم الغرّة,
فإنك لا تدري متى تقدر على عدوك على مثل حالهم التي هم عليها. وأن تسير إلى عدوك
أعز لك من أن يسيروا إليك. واعلم والله أنه لولا تفرق الناس على صاحبك, لقد نهض
إليك"
فأجاب
معاوية :
"
إن هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صاحبهم, واختلاف أهوائهم , لم يبلغ ذلك
عندي بهم أن أكون أطمع في استئصالهم واجتياحهم, وأن أسير إليهم مخاطرا بجندي , لا
أدري عليّ تكون الدائرة أم لي! فإياكم واستبطائي , فإني آخذ بهم في وجهٍ هو أرفق بكم, وأبلغ في هلكتهم.
قد
شننتُ عليهم الغارات من كل جانب : فخَيلي مرّة بالجزيرة , ومرّة بالحجاز. قد فتح الله فيما بين ذلك مصر , فأعز
بفتحها وليّنا,
وأذل به عدونا.
فأشرافُ أهل العراق لما يرون من حُسن صنيع الله لنا, يأتوننا على قلائصهم
في كل أيام. وهذا مما يزيدكم الله به وينقصهم , ويقويكم ويضعفهم, ويعزكم ويذلهم.
فاصبروا
ولا تعجلوا , فإني لو رأيتُ
فرصتي لاهتبلتها"
إذن هي نوعٌ من " حرب الاستنزاف " يشنها معاوية يهدف من
خلالها الى إظهار ضعف عليّ وتراجع نفوذه وهزالة موقفه العسكري. أراد معاوية أن
يبدو امام عامة المسلمين بمظهر الأقوى والمُبادر. وهدفه تشجيع كافة العناصر
التابعة لعليّ , وخاصة في المناطق البعيدة عن معقل عليّ في الكوفة ,على تركه
والانضمام الى معاوية باعتباره الرجل الكاسب في الصراع. لم يرَ معاوية أن الوقت قد
حان لشنّ حرب كبرى كاسحة على عليّ في الكوفة لأن ذلك من شأنه توحيد اهل العراق من
جديد خلف عليّ. فلذلك كانت سياسة القضم التدريجي لمناطق الأطراف هي الحل المناسب
لهذه المرحلة . وكان لا بد , بنظر معاوية, من إظهار قدر كبير من القوة والبطش تجاه
أنصار عليّ في كل مكان , ممن يقررون مقاومة قواته وعدم الاستسلام او الفرار. إنها
سياسة كسْر المعنويات لإيصال رسالة واضحة للجميع : عليّ هو الخاسر , ومن سيبقى معه
سيخسر معه !
وبدأت موجة الغارات !
ووجّه معاوية النعمانَ بن بشير, فأغارَ
على مالك بن كعب الأرحبي, وكان عاملَ
عليّ على مسلحة عين التمر[59],
فأرسل عليّ في أثره عدي بن حاتم الطائي على شاطئ
الفرات.
وأضاف
أن الضحاك بن قيس أغار على القطقطانة[60]
وقتل ابن عميش. فشنّ عليه حجر بن عدي غارة معاكسة حتى تدمر.
وأن
سفيان بن عوف الغامدي أغارَ على الأنبار وقتل أشرس بن حسان البكري. فأتبعه
عليّ بسعيد بن قيس إلى عانات. فانصرف سفيان مولياً
ولم يلحقه.
وأضاف
اليعقوبي أن معاوية ارسل عبد الله بن
مسعدة الفزاري في 1700 رجل باتجاه المدينة ومكة. فبلغ الخبر علياً فوجّه إليه ابن قبيلته , المسيب بن نجبة
الفزاري في ألفي رجل. وحصل القتال بينهم في تيماء, وهُزم
جماعة معاوية فلجأوا إلى حصن . فأحاط بهم المسيب ومَن
معه 3 أيام. فناشد ابن مسعدة المسيب ورجاه الرحمة قائلا له : نحن قومك! فمال
المسيب إلى رابطة الدم وسمح لابن مسعدة ومَن
معه بالمغادرة سالمين إلى الشام. فوصلت القصة إلى عليّ فعاتب المسيب على سلوكه
وعاقبه بالحبس لبضعة أيام ثم عفا عنه.
ويحدثنا
البلاذري عن الغارة التي شنها معاوية
على منطقة الجزيرة [61]
فيقول انه وجّه اليها حملة بقيادة الحارث بن نمر التنوخي وأسفرت عن القائه القبض
على والي عليّ على نصيبين ومعه مجموعة من شيعة علي, ومن ثم حصلت صفقة تبادل اسرى
بين الطرفين عاد بموجبها الوالي الأسير شبيب بن عامر الأزدي ومجموعته الى علي مقابل اطلاق سراح مجموعة من انصار معاوية كانوا
مأسورين لدى جيش العراق. ويضيف البلاذري
ان علياً بعدها أرسل من عنده رجلاً من قبيلة خثعم الى الموصل والجزيرة " لتسكين
الناس " وأنه دخل في صراعات اسفرت عن مقتله. وكانت النتيجة النهائية
تحوّل منطقة الجزيرة الى نوع من الحياد بين طرفي الصراع علي ومعاوية.
وازدادت
وتيرة الغارات والهجمات التي يشنها معاوية على بلاد عليّ حتى وصلت به الجرأة ان
سار بنفسه على رأس قواته وتوغل في العراق حتى اقترب من نهر دجلة ثم رجع[62].
وصايا معاوية لقوّاده ,,, ووصايا عليّ
إن
وصيّته لسفيان بن عوف الغامدي هي نموذج مثالي على توجيهات معاوية وأهدافه:
"
إني باعثك في جيش كثيف, ذي أداة وجلادة. فالزم إلى جانب الفرات, حتى تمرّ بهَيت فتقطعها, فإن وجدتَ بها جنداً فأغِر عليهم, وإلاّ فامضِ حتى تغير على الأنبار, فإن لم تجد بها
جنداً فامضِ حتى توغل في المدائن. ثم أقبل إليّ. واتقِ أن
تقرب الكوفة . واعلم أنك إن أغرتَ على أهل الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرتَ على الكوفة.
إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترعب قلوبهم,
وتفرح كل من له فينا هوى منهم, وتدعو إلينا كل مَن خاف الدوائر.
فاقتل مَن لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك.
وأخرب كل ما مررتَ به من القرى.
وفي المقابل كانت وصايا عليّ لقادته الذين يرسلهم
لصدّ غارات قوات معاوية مختلفة تماماً. وهذا عهدُه لجارية بن قدامة " أوصيك
يا جارية بتقوى الله, فإنها جموع الخير.
وسِرْ على عون
الله فالقَ عدوك الذي وجهتك إليه ولا تقاتل إلاّ مَن قاتلك.
ولا تجهزن
على جريح.
ولا تُسَخّرن
دابّة وإن مشيتَ ومشى أصحابك.
ولا تستأثر على أهل المياه بمياههم, ولا تشربن إلاّ
فضلهم عن طيب نفوسهم.
ولا تشتمن مسلماً ولا مسلمة, فتوجب على نفسك ما لعلك تؤدب غيرك عليه.
ولا تظلمن معاهداً ولا
معاهدة.
واذكر الله ولا تفتر ليلاً ولا نهاراً.
واحملوا رجالتكم وتواسوا في ذات أيديكم.
واجدُد السيرَ
وآجل العدوَ من حيث كان, واقتله مُقبلاً واردُده بغيظه صاغراً.
واسفك الدمَ في الحق , واحقنه في الحق.
ومَن تابَ فاقبل توبته"[64]
ابن كثير يبرر سياسة
الغارات الدموية
كعادته في الدفاع عن معاوية, لجأ العلامة ابن كثير الى محاولة تبرير سياسة الغارات
الدموية فقال في البداية والنهاية عن أحداث سنة 39 للهجرة " فيها جهز
معاوية بن ابي سفيان جيوشاً كثيرة ففرقها في أطراف معاملات علي بن ابي طالب . وذلك
ان معاوية رأى بعد أن ولاه عمرو بن العاص بعد اتفاقه مع ابي موسى على عزل علي,
أن ولايته وقعت الموقع, فهو الذي يجب طاعته فيما يعتقده. ولأن جيوش علي من اهل
العراق لا تطيعه في كثير من الأمر ولا يأتمرون بأمره, فلا يحصل بمباشرته المقصود
من الامارة والحالة هذه. فهو يزعم انه أولى منه إذ كان الأمر كذلك"
وظاهرٌ من النص مدى الجهد الذي بذله ابن كثير في ابتداع
تأويلات لسلوك معاوية الوحشي , وهو العالم بمدى فظاعته وقسوته.
آلامُ عليّ
وكانت
هذه الغارات التي يأمر بشنّها معاوية على نواحي متفرقة من البلاد التي هي في طاعة
علي, وما كان يحصل بها من قتل للأبرياء وتنكيل بالناس وانتهاك للحرمات وسفك للدماء
, تسبب ألماً فظيعاً في نفس علي بن أبي طالب , ممزوجاً بالحزن والغضب.
وأبرز مثال على مشاعر عليّ وهو يسمع أخبار الغارات هي
الخطبة البليغة التي ألقاها الإمام علي
بعد غارة سفيان بن عوف على الأنبار :
"
أما بعد, فإن
الجهادَ بابٌ من أبواب الجنة, فتحَه الله لخاصّة أوليائه. وهو لباسُ التقوى ودرع الله الحصينة, وجنّته الوثيقة. فمَن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوبَ الذلّ وشمله البلاء, ودُيّثَ بالصّغار والقماءة, وضُرب على قلبه بالأسداد, وأديل الحق منه
بتضييع الجهاد. وسيم الخسف ومُنِع النصف.
ألا
وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً, وسراً وإعلانا!
وقلتُ لكم : اغزوهم قبل أن يغزوكم. فوالله
ما غُزي
قومٌ قطّ
في عُقر
دارهم إلاّ ذلّوا !
فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنّت عليكم الغارات ومُلِكت عليكم
الأوطان.
وهذا
أخو غامدٍ وقد
وردت خَيله الأنبار, وقد قتلَ حسان بن حسان البكري, وأزالَ خيلكم عن مسالحها. ولقد بلغني أن الرجل
منهم كان يدخل على المرأة المسلمة, والأخرى المعاهدة, فينتزع حجلها وقلبها
وقلائدها ورعاثها, ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام! ثم انصرفوا وافرين ما
نال رجلاً
منهم كلمٌ ولا
أريق لهم دم.
فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا
أسفاً ما
كان به ملوماً, بل
كان به عندي جديراً.
فيا عجبا! عجباً والله يميت القلبَ ويجلب الهمّ من
اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم, وتفرّقكم عن حقكم!
فقبحاً لكم وترحاً, حين صرتم غرَضاً يُرمى, يُغار عليكم ولا
تغيرون, وتغزون ولا تغزون, ويُعصى الله وترضون.
فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحَرّ قلتم هذه
حمّارة القيظ, أمهلنا يسبّخ عنا الحر! وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم
هذه صبارة القرّ , أمهلنا ينسلخ عنا البرد! كل هذا فراراً من الحر والقرّ . فإذا كنتم من الحر
والقر تفرون , فإذا أنتم والله من السيف أفرّ!
يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال, وعقول ربّات
الحجال.
لوددتُ اني لم أرَكم ولم أعرفكم,
معرفة والله جرّت ندماً,
وأعقبت سدماً!
قاتلكم الله!
لقد ملأتم قلبي قيحا, وشحنتم صدري غيظاً, وجرّعتموني نغب التهمام أنفاساً, وأفسدتم عليّ
رأيي بالعصيان والخذلان, حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب
رجلٌ شجاع, ولكن لا علم له بالحرب.
لله
أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدّ لها مراساً وأقدم فيها مقاما مني؟ لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين, وها أناذا قد ذرّفتُ على الستين. ولكن لا رأي لمن لا يُطاع"[65]
وعندما
حاول انتداب الناس للخروج الى مصر وانقاذها من السقوط بأيدي معاوية , فخرج
وانتظرهم ولم يأتوه " فرجع . فلما كان من العشيّ بعث الى اشراف الناس
فدخلوا عليه القصر وهو حزينٌ كئيب. فقال :
الحمد
لله على ما قضى من أمري وقدّر من فعلي وابتلاني بكم أيتها الفرقة ممن لا يطيع
اذا أمرتُ ولا يجيب اذا دعوت. لا أبا لغيركم ! ما تنتظرون بصبركم والجهاد على
حقكم ؟ الموت والذل لكم في هذه الدنيا على غير الحق. فوالله لئن جاء الموت
,وليأتين, ليفرقن بيني وبينكم وأنا لصحبتكم قالٍ وبكم غير ضنين . لله أنتم ! لا
دين يجمعكم ولا حمية تحميكم اذا انتم سمعتم بعدوكم يرد بلادكم ويشنّ الغارة عليكم
! أوليس عجبا أ معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير عطاء ولا معونة
ويجيبونه في السنة المرتين والثلاث الى أي وجه شاء , وأنا أدعوكم وانتم اولو النهي
وبقية الناس على المعونة وطائفة منكم على العطاء فتقومون عني وتعصونني وتختلفون
عليّ !
"[66]
وهذا نموذج آخر
من كلام عليّ , المؤثر البليغ, قاله عندما بلغه خبر سقوط مصر فقام خطيبا وقال
" ,,, إني والله ما ألوم نفسي على التقصير وإني لمقاساة الحرب لجدّ خبير وإني
لأقدم على الأمر وأعرف وجه الحزم وأقوم فيكم بالرأي المصيب فأستصرخكم معلناً
وأناديكم نداء المستغيث معرباً فلا تسمعون لي قولا ولا تطيعون لي أمرا حتى تصير
بي الأمور الى عواقب المساءة . فأنتم القوم لا يُدركُ بكم الثأرُ ولا ينقض بكم
الأوتار. دعوتكم الى غياث اخوانكم منذ بضع وخمسين ليلة فتجرجرتم جرجرة الجمل
الأشدق وتثاقلتم الى الأرض تثاقل من ليس له نيّة في جهاد العدو ولا اكتساب الأجر .
ثم خرج اليّ منكم جُنيدٌ مُتذانبٌ كثيرة يُساقون الى الموت وهم ينظرون . فأُفٍّ
لكم"[67]
وروى الطبري ايضا ان عليا خطب قائلا "يا اهل
الكوفة , كلما سمعتم بمنسرٍ من مناسر أهل الشام أظلّكم انجحر كل امرئٍ منكم في
بيته وأغلق بابه انجحارَ الضبّ في جُحْره والضبع في وجارها. المغرورُ مّن
غررتموه , ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب! لا أحرارَ عند النداء ولا اخوان تقةٍ
عند النجاء . إنا لله وانا اليه راجعون.ماذا منيتُ به منكم ! عُميٌ لا تبصرون
وبكمٌ لا تنطقون وصمّ لا تستمعون "[68]
وهذا نموذج آخر
من كلام عليّ يعبّر به عن غضبه البالغ,
ليس على معاوية ومَن معه فقط, بل
على أصحابه أيضاً , الذين اعتبرهم متقاعسين متخاذلين
حتى تمنى لو أن له جنوداً مطيعين مثل معاوية! فقال :
" أيها
الشاهدة أبدانهم, الغائبة عنهم عقولهم, المختلفة أهواؤهم, المُبتلى بهم أمراؤهم!
صاحبكم يطيع
الله وأنتم تعصونه, وصاحِبُ أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه!
لوددتُ والله أن معاوية صارَفني بكم صرفَ الدينار بالدرهم, فأخذ منّي عشرةً منكم
وأعطاني رجلاً منهم!
يا أهل الكوفة :
مُنيتُ
بكم بثلاثٍ واثنتين : صمّ ذوو أسماع, وبكمٌ ذوو كلام, وعميٌ ذوو أبصار. لا أحرار
صدقٍ عند اللقاء, ولا إخوان ثقةٍ عند البلاء. ترِبت أيديكم.
وفي رواية ابن قتيبة ان عليا خاطب اهل الكوفة قائلا "
ايها الناس المجتمعة ابدانهم المختلفة اهواؤهم, ما عزّت دعوة من دعاكم ,
ولا استراح قلب من قاساكم , كلامكم يوهي الصم , وفعلكم يطمع فيكم عدوكم . اذا
أمرتكم بالمسير قلتم كيت وكيت, أعاليلَ بأضاليلَ , هيهات ! لا يُدركُ الحق الّا
بالجد والصبر. أي دار بعد داركم تمنعون , ومع اي امام بعدي تقاتلون ؟ المغرور
والله من غررتموه ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب. أصبحتُ لا أطمع في نصرتكم ولا
أصدق قولكم ! فرّق الله بيني وبينكم وأعقبني بكم من هو خير لي وأعقبكم بعدي من هو
شر لكم مني "[70]
استباحة المدينة المنورة[71]
وأرسل
معاوية رجله المتوحش بسر بن أرطأة,
وهو قرشيّ من بني عامر بن لؤي, لإرهاب وترويع كل من هو في طاعة عليّ في كل مكان. فكان جلاّداً
متجوّلاً
يهدف إلى إخضاع الناس لسلطة معاوية عن طريق القتل والدم والقوة الغاشمة. قال ابن عساكر:
" بعث معاوية بسرَ بن أرطاة إلى مكة والمدينة واليمن, يستعرض
الناسَ ,
فيقتل مَن
كان في طاعة عليّ بن أبي طالب. فأقام في المدينة شهراً فما قيل له في
احد ان هذا ممن اعان على عثمان إلا قتله. وقتل قوماً من بني كعب على مالهم فيما بين مكة
والمدينة وألقاهم في البئر" .
وواصل
ابن عساكر حديثه عن فظاعات بسر بن
ارطأة في المدينة المنورة التي احتلّها شهراً
وارتكب فيها جرائم بحق الأنصار وأبنائهم :
"..
.. هرب منه أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي(ص) إلى عليّ بالكوفة. فصعد بسر منبر
المدينة ولم يقاتله بها احد فجعل ينادي: يا دينار يا زريق يا نجار[72] !
شيخٌ سمحٌ عهدته ها هنا بالامس , يعني عثمان رضي الله عنه. وجعل يقول يا اهل المدينة
والله لولا ما عهد الي امير المؤمنين ما تركت بها محتلما الا قتلته! وبايع اهل
المدينة لمعاوية.
وأرسل
إلى بني سلمة , فقال : والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن
عبد الله صاحب النبي.
فخرج جابر بن عبد الله حتى دخل على أم سلمة خفياً فقال لها : يا أمة إني خشيتُ على ديني وهذه بيعة ضلالة[73].
فقالت له : أرى أن تبايع. فقد أمرتُ ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع.
فخرج جابر بن عبد الله فبايعَ بسرَ بن أرطأة
لمعاوية .
وهدم بسرُ بيوتاً كثيرة بالمدينة........."
وكان
بسر بن أرطأة لمّا دخل المدينة المنورة استهل خطبته للأنصار بوابل من الشتائم
والتهديدات. روى اليعقوبي انه صعد
المنبر وقال:
" يا
أهل المدينة: مثل السوء لكم قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان, فكفرت بأنعم الله, فأذاقها
الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. ألا وإن الله قد أوقع بكم هذا المثل
وجعلكم أهله! شاهت الوجوه. فما زال يشتمهم حتى نزل"
إذن
ظهر في هذه الغارة إلى العلن ما يكنّه القرشيون وزعيمهم معاوية , ممثلين بشخص بسر
بن ارطأة, من حقد شديد على المدينة المنورة واهلها من الانصار. وعلى غير عادته لم
يكن معاوية هنا حليماً ولا حكيماً , بل تصرف ببساطة كسفاحٍ مجرم! كان
معاوية يعرف تماماً
ماذا يفعل قائد جيشه . فلا شك أنها كانت سياسة مدروسة من القائد الأموي. وهو
يتحمّل وزرها كاملاً.
ولا يمكن تبرير تلك الجرائم بضرورات السياسة [74],
فهي أقرب إلى منهج الانتقام من الرسول(ص) وأنصاره.[75]
وأسفرت
جهود عليّ المركّزة عن نجاحه في إرسال جيشٍ من الكوفة , انطلق ليطارد بسر بن ارطأة
في أنحاء الحجاز واليمن, ويتتبع أثره. ولكنّ بسراً, الذي حقق هدفه المحدد له من
قبل معاوية, فرّ من وجهه وتفاداه وعاد سالماً إلى الشام.
وقد روى ابن أبي الحديد
بالتفصيل الفظاعات التي ارتكبها بسر في المدينة نقلاً عن كتاب " الغارات
" لابراهيم بن هلال الثقفي , واضاف انه بعدها توجه إلى مكة فهرب منها عامل
عليّ, قثم بن العباس, وقام بسر بتوليته شيبة بن عثمان عليها بعد أن أخذ بيعة اهلها
لمعاوية. ومن ثم توجه إلى الطائف, فتلقاه هناك المغيرة بن شعبة بالقول الحسن. وذكر
ايضا انه مر بنجران وقام بشتم أهلها – الذين وصفهم بالنصارى واخوة القرود –
وتهديدهم.
هل استخلف بسرُ بن أرطأة أبا هريرة على المدينة [76]؟!
قال ابن اعثم انه بعد أن انتهى
بسر بن أرطأة من جرائمه, وأجبر كل مَن بقي في المدينة على البيعة لمعاوية,
ودّع أهلها بخطبة أخرى , عيّن فيها والياً جديداً لمعاوية :
" يا أهل المدينة : إني قد صفحتُ عنكم , وما أنتم لذلك أهل, لأنه
ما من قوم قتل إمامُهم بين أظهرهم ولم يدفعوا عنه, بأهل أن يُعفى عنهم. وإن نالتكم
العقوبة في الدنيا , فإني أرجو أن لا تنالكم رحمة الله عز وجل في الآخرة.
ألا وإني استخلفتُ عليكم أبا هريرة فاسمعوا له وأطيعوا , وإياكم والخلاف , فوالله لئن عدتم لمعصية لأعودنّ
عليكم بالهلاك وقطع النسل"[77]
وقال البلاذري انه بعد أن فرّ
عامل عليّ على المدينة, أبو ايوب الانصاري " أمر بسرُ أبا هريرة أن يصلّي
بالناس"
وفي البداية والنهاية لم يذكر ابن كثير صراحة تعيين أبي هريرة من قبل بسر ,
ولكنه روى ما يؤكد ذلك . فقد ذكر ان جارية بن قدامة الذي ارسله عليّ لمواجهة هجوم
بسر " سار حتى أتى المدينة , وابو هريرة يصلي بهم. فهرب منه . فقال
جارية : والله لو أخذت ابا سنّور لضربتُ عنقه "
هذه الروايات التي تخبرنا ان ابا هريرة تم تعيينه من قبل رجل معاوية كوالٍ
على المدينة , رغم الطابع المؤقت والمرحلي للتعيين , يمكن قبولها. فهي مدعومة بما
استفاض من أخبار عن الفترة اللاحقة من حياة ابي هريرة – ايام خلافة معاوية. ويمكن
القول ان ابا هريرة لعب دورا ايجابيا لصالح معاوية ومشروعه. ففي الوقت الذي كان
فيه علي بن أبي طالب في أمس الحاجة إلى دعم كل المسلمين له في صراعه ضد تحالف
طلقاء قريش, جاء أبو هريرة برواياتٍ واحاديث لتثبيط عموم الناس عن نصرة الجانب
الذي على الحق, وهو عليّ كما لا يخفى. فقد
صوّرَ أبو هريرة للناس أن الجانبين متساويان في سعيهما للحق وأن اقتتالهما قدرٌ
إلهيٌ . روى البخاري في صحيحه :
عن أبي هريرة
" قال رسول الله(ص):
ستكون فتنٌ
القاعد فيها خيرٌ من
القائم, والقائم فيها خيرٌ من
الماشي, والماشي فيها خيرٌ من
الساعي, ومَن
يشرف لها تستشرفه ومَن وجد ملجأ أو معاذاً فليعُذ به"
وايضا عن أبي
هريرة " لا تقوم الساعة حتى يقتتل فتيان , فيكون بينهما مقتلة عظيمة, دعواهما
واحدة....."
ورغم أن أبا هريرة لم يشارك مباشرة في
القتال إلى جانب معاوية, إلاّ أنه مارسَ دورَ المحدّث الرسمي
لدولة معاوية, وساهمَ
بقدر طاقته في إضفاء الشرعية على فلسفة معاوية وسياسته. فكان أبو هريرة على انسجام تام مع معاوية في حملته الدعائية الهائلة. ومن
ذلك ما رواه في رفع ذكر عثمان ومحاولة الحط من قدر عليّ :
قال
أبو هريرة : " كنا معاشر أصحاب رسول الله(ص), ونحن متوافرون, نقول :
أفضل هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان, ثم نسكت"[78]
وقد جنى أبو هريرة ثمار مواقفه تلك عندما انفردَ معاوية
بالحكم. فلم يكتفِ معاوية بتعيينه محدثاً رسمياً للدولة , واعتماده مفتياً, وجمع
الناس عليه بعد رفع ذكره الذي كان خاملاً , بل أدخله في السلطة التنفيذية عن طريق
تعيينه والياً على المدينة المنورة[80]!
ولا عجبَ بعد هذا التحالف المبني على المصلحة والمنفعة
بين معاوية وأبي هريرة, أن تنهال العطايا والنعم من الحاكم على الراوية:
فقد جاء في صحيح البخاري
بشأن أبي هريرة " كنّا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من
كتان. فتمخّط. فقال : بخ بخ! أبو هريرة يتمخّط في الكتان!"
نصّبَ معاوية نفسَه عَلَماً مرفوعاً وعنواناً معروفاً
لكلّ إنسانٍ لديه مشكلة مع شخص عليّ أو سياسة عليّ أو حكم عليّ! بل واتبعَ معاوية
سياسة موجهة إلى عمّال عليّ في كل مكان محاولاً استمالتهم إلى جانبه عن طريق بذل
الوعود لهم بالمال الوفير والمناصب العالية لديه! ولم يكن معاوية لينسى أن يُذكّر
هؤلاء الولاة وزعماء القبائل بأنهم لن يتمكنوا من جني الفوائد وكنز الغنائم في ظل
عليّ الذي لن يسمح لهم بذلك وسيحاسبهم بكل شدّة على أي تجاوزٍ على الرعية أو
انحراف في الحكم.
فانهمكَ معاوية في حملة مراسلاتٍ مع القيادات المنضوية
تحت حكم عليّ. وكان عليّ يعلم بذلك عن
طريق بعض ولاته المخلصين الذين كانوا يطلعونه على ما يكتبه لهم معاوية.
ونجح معاوية في إغراء بعض القيادات القبلية والإدارية
التي كانت فاسدة أصلاً أو ارتكبت تجاوزاتٍ وأعمال فسادٍ وخشيت من ردّ فعل
عليّ.
فمثلاً , كان مصقلة بن هبيرة الشيباني عاملاً لعليّ على
أردشير خرة في ايران. وقد اتفق مع معقل بن قيس على أن يشتري منه السبي الذي معه من
الموالي والنصارى وبني ناجية, وهم خمسمائة,
بعد أن انتصر على الخريت وتمرّده. وقام مصقلة بدفع جزء من الثمن المتفق
عليه لبيت المال, على أن يستكمل دفع الباقي فيما بعد. وأبلغ معقل أميرَ المؤمنين
عليّ بذلك.
ورغم انهماكه الشديد في حرب معاوية والخوارج, إلاّ أن
علياً لم ينسَ مصقلة وأمواله المستحقة لبيت المال. فلما لاحظ تأخر مصقلة بالسداد
كتب له :
" أما بعد : فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة,
وأعظم الغشّ على أهل المصر غشّ الإمام. وعندك من حق المسلمين خمسمائة ألف,
فابعث بها إليّ ساعة يأتيكَ رسولي, وإلاّ فأقبل حين تنظر في كتابي. فإني قد
تقدمت إلى رسولي إليكَ لا يدعكَ أن تقيمَ ساعة واحدة بعد قدومه عليك إلاّ أن تبعث
بالمال. والسلام عليك"
وأمام طلب الخليفة القاطع, لم يجد مصقلة بداً من الترحّم
على أيام عثمان بن عفان الذي لو كان حياً لما طالبه بدفع ما يستحق عليه لبيت
المال! فقال لمندوب عليّ :
" أما والله لو أن ابن هندٍ هو طالبني بها أو
ابن عفان لتركها لي! ألم ترَ إلى ابن عفان حين أطعمَ الأشعثَ من خراج
آذربيجان مائة ألف في كل سنة! "
وكانت النتيجة أن هرب مصقلة إلى عدو عليّ في الشام :
معاوية. ولم يكتفِ بذلك بل اخذ يكتب لأخيه الرسائل يدعوه فيها إلى ترك عليّ
والانضمام إلى معاوية الذي أجزل لهما الوعود!
وكان رد فعل عليّ :
" ما له ترّحَه الله؟ فَعلَ فِعلَ السيد وفرّ
فرار العبد, وخان خيانة الفاجر؟! أما والله لو أنه أقامَ فعجزَ ما زدنا على
حبسه, فإن وجدنا له شيئاً أخذناه, وإن لم نقدر على مالٍ تركناه"[82]
وبلغ علياً أن واليه على البحرين, النعمان بن العجلان,
قد اغتصبَ من أموال الخراج, فكتبَ إليه يحذره من الخيانة, فما كان من الوالي
إلاّ أن حمل الأموال ولحقَ بمعاوية![83]
وتعرّض عليّ إلى خيانةٍ أخرى من واليه على الري, يزيد بن
حجية, الذي نهبَ بيت المال وفر إلى معاوية![84]
رد فعل عليّ
ورغم أن علياً كان يعرف أن معاوية منهمكٌ في محاولاته لرشوة
ولاة عليّ وقادة جيوشه وزعماء القبائل ووجهاء الأمصار واستقطابهم لصفّه, إلاّ أنه لم يغيّر سياسته ورفض أن يسلك نفس المنهج تجاه قيادات معاوية
ورجاله. وقد
كان عليّ أيضاً يراسل رجال معاوية, ولكن ليس ليرشيهم أو
يطمعهم ويغريهم, بل ليكشف لهم حقيقتهم أمام ضمائرهم وأمام الناس! فليس لدى عليّ ما
يطمع به هؤلاء. فمثلاً هو كتب
إلى عمرو بن العاص : " فانّكَ جعلتَ دينكَ تبعاً لدنيا امرئ ظاهر غيّه مهتوكٍ ستره, يشين الكريمَ بمجلسه , ويسفّه الحليمَ بخلطته , فاتّبعتَ أثرَه وطلبتَ فضله , اتّباعَ الكلب للضرغام , يلوذ الى مخالبه , وينتظر ما يلقى
إليه من فضل فريسته , فأذهبتَ دنياك وآخرتك ,
ولو بالحقّ أخذتَ
أدركتَ ما طلبتَ . فإن يمكنّي الله منك ومن ابن أبي سفيان أجزكما بما
قدّمتما, وإن
تعجزا وتبقيا, فما
أمامكما شرّ لكما"[85]
ولم يغير عليٌ سياسته تجاه عماله قيد انملة, رغم حاجته الموضوعية
إلى استرضائهم لضمان استمرار ولائهم. كان عليٌ شديد المراقبة لولاته, يشدد عليهم
في الحساب , وفي استيفاء ما عليهم من حقوق الناس , ويشدد عليهم في سيرتهم العامة
والخاصة فيعطي كل واحد منهم عهداً يقرؤه على الناس حين يتولى أمرهم ليكون عقداً
بين الناس وبين حاكمهم, لا يجوز لهم ولا له أن ينحرفوا عنه وإلاّ وجبت عليهم
العقوبة وأنفذ الحاكم في المخالفين هذه العقوبة . وإن انحرف الحاكم وجبت عليه
العقوبة وأنفذها فيه الإمام نفسه.
ثم كان عليٌ يرسل الأرصاد والرقباء ليطلعوه على سيرة العمال. وكان كل رجل
من أهل الأقاليم رصداً ورقيباً على حاكمه , يستطيع أن يشكوه إلى الإمام كلما انحرف
عن العهد الذي أخذ عليه.
فكذلك كانت سيرة عليّ في عماله, سيرة حزم وعدل. يشجع المحسن منهم ويشتد على
المسيء , لا يحابي في شيئ من ذلك, ولا يعرف مداورة ولا مجاراة, وإنما هو النصح
للمسلمين والعدل في الرعية وإقامة الحق في أولئك وهؤلاء.
وطبعاً كانت هذه السيرة المثالية فرصة سانحة استغلها معاوية إلى أقصى حد
في استقطاب كل مَن لا تطيب نفسه بها من الولاة والرؤساء.
*****
وأخيراً قرر معاوية أن يعلن تحدّيه لآخر رمزٍ لشرعية عليّ كخليفةٍ
للمسلمين, وهو إقامة شعائر الحج للناس[86]!
ففي أواخر عام 39 للهجرة , أرسل معاوية مندوباً له يدعى يزيد بن شجرة الرهاوي, على
رأس قوةٍ عسكرية, إلى المدينة ومكة, وأمره بتحدي والي عليّ في مكة ومندوبه على
الحج , قثم بن العباس.
وفعلاً وصل ابن شجرة وقواته إلى الأماكن المقدسة في موسم الحج, معلناً أنه
جاء لإقامة الصلاة بالناس كمندوبٍ عن معاوية. وبعد أخذٍ وردَ , ووساطاتٍ من قِبل
الكثير من المسلمين الذين كرهوا حصول قتالٍ وسفك دماء في بيت الله ومسجد رسوله ,
انتهت الأمور إلى حلّ وسطٍ وهو قيام طرفٍ ثالثٍ بمهمة الصلاة بالناس! وفعلاً تولى
شيبة بن عثمان بن ابي طلحة تلك المسؤولية بعد أن تراضى الناس عليه , نظراً لأن
عائلته , عبد الدار, هي التي تملك مفاتيح الكعبة منذ زمن الجاهلية, وأقرهم
الرسول(ص) على ذلك.
وأن هذا الترتيب لم يرضِ عليّا على الإطلاق, فأرسل جيشاً من 1900 رجل
بقيادة معقل بن قيس الذي وصل متأخراً, فلم
يستطع اللحاق سوى بنفرٍ قليل ممن تخلف من قوات ابن شجرة, الذي تابع مسيره حتى وصل
إلى معاوية في الشام وبشره بنجاحه في تحدي سلطان عليّ في أهم رمزٍ لوحدة أمة
الإسلام : الحج.
عرضُ
معاوية الجديد
وبعد تلك
السلسلة من الغارات الوحشية التي شنّها معاوية, وبعد أن بدأ يزاحم علياً في شعائر الحج في الحجاز, قرر معاوية أن يحاول جني الثمار , سياسياً, من ذلك كله. فكتب إلى عليّ عام 40 للهجرة :
"
أمّا إذا شئتَ,
فلكَ العراق وليَ الشام.
وهكذا
فإن معاوية يهدف إلى رفع سقف مطالباته. فهو الآن يرى نفسه أصبح في وضع يتيح له أن
يسامي علياً, بشكل علني, ليغيّر وضعه من مجرد
"والي متمردّ" ضد "خليفة المسلمين", ويصبح هو وعليّ على قدم
المساواة في ادّعائهما للخلافة.
وكان
معاوية جدّياً في عرضه. ولو أبدى عليّ قبولاً لكان يمكن لمعاوية أن يلتزم تماماً باتفاق لتقاسم العالم الإسلامي, بحيث
تكون من نصيبه الشام ومصر, على الأقل.
وكان جواب علي : الرفض المطلق
" فأمّا طلبك إليّ الشامَ, فإني لم أكن
لأعطيك اليوم ما منعتكَ أمس. وأما قولك إن الحرب قد أكلت العرب إلاّ حشاشات
أنفس بقيت, ألا ومَن أكله الحق فإلى الجنة ومَن أكله الباطل فإلى النار. وأما
استواؤنا في الحرب والرجال, فلستَ بأمضى على الشك منّي على اليقين..."[88]
رغم كل الأهوال : عزمُ عليّ لا يلين
قال طه حسين :
" وقد انتهت كل هذه الأمور بعليّ إلى عزيمة أتمها
الله له, فيها كثير من اليأس وفيها كثير من المغامرة . ولكنها كادت أن تبلغه مأربه
لولا أن الناس يدبرون وأمر الله غالب, والكلمة الأخيرة للقضاء المحتوم لا لما
يدبرون.
فقد خطب عليّ أصحابه داعياً لهم أن يتجهزوا لقتال أهل
الشام محرضاً لهم على ذلك أشد التحريض, كما تعود أن يفعل. فسمعوا منه وانصرفوا عنه
ولم يصنعوا شيئاً, كما تعودوا أن يفعلوا.
فلما استيأس منهم دعا إليه رؤساءهم وقادتهم وأولي الرأي
فيهم. وتحدث إليهم حديثاً صريحاً لا لبس فيه. وجعل تبعاتهم أمامهم يرونها بأعينهم
ويلمسونها بأيديهم , إن أمكن أن ترى التبعات بالعيون وتلمس بالأيدي. بيّن لهم أنهم
أرادوه على الخلافة دون ان يطلبها إليهم, وعرضوا عليه بيعتهم دون أن يعرض عليهم
نفسه, ثم هم الآن يظهرون طاعة ويضمرون نكثاً. وقد طاولهم حتى سئم المطاولة ,
وانتظر نشاطهم لما يدعوهم إليه حتى ملّ الانتظار. وعَظهم في غير طائل, وحرّضهم في
غير غناء, وقد أزمع أن يمضي لحرب خصمه في الشام مع من تبعه من أهله ومن قومه, فإن
لم يتبعه منهم أحد مضى وحيداً فقاتل حتى يُبلى في سبيل الله ويلقى الموت في ذات الحق.
ولست أرى بدّاً من أن أثبت هنا نص حديثه إليهم كما رواه
البلاذري , ففيه الحجة البالغة على هؤلاء الذين أفسدوا عليه رأيه بالعصيان حتى ظنت
قريش به الظنون, وقالت فيه الأقاويل, وحتى عُصي الله وهم ينظرون لا يغضبون لحق ولا
دين. قال:
( أما بعد : أيها الناس , فإنكم دعوتموني إلى هذه
البيعة فلم أردّكم عنها. ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها . فتوثبَ عليّ
متوثبون كفى الله مؤونتهم وصَرَعَهم لخدودهم وأتعس جدودهم وجعل دائرة السوء عليهم.
وبقيت طائفة تحدث في الإسلام احداثاً. تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق, ليست بأهل لما
ادّعت. وهم إذا قيل لهم تقدّموا قُدماً تقدموا. وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق
كمعرفتهم الباطل, ولا يبطلون الباطل كإبطالهم الحق. أما إني قد سئمتُ من عتابكم
وخطابكم فبينوا لي ما أنتم فاعلون. فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما
أحب, وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرَ رأيي. فوالله لئن لم تخرجوا
معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم, وهو خير الحاكمين,
لأدعونّ الله عليكم ثم لأسيرنّ إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلاّ عشرة. أأجلافُ
أهل الشام وأغرّاؤها أصبرُ على نصرة الضلال وأشدّ اجتماعاً على الباطل منكم على
هداكم وحقكم؟ ما بالكم وما دواؤكم؟ إن القوم أمثالكم لا يُنشرون إن قتلوا إلى يوم
القيامة)
وكان الرؤساء والقادة قد استحوا من عليّ , واستخزوا في
أنفسهم, وأشفقوا أن ينفذ ما صمّم عليه فيمضي وحده أو في قلة من الناس لقتال أهل
الشام , فيلحقهم بذلك عارٌ أيّ عار,
وتصيبهم المحنة في دينهم وفي نفوسهم وفي أمورهم كلها. فقام خطباؤهم إلى عليّ
فأحسنوا إليه القول وأخلصوا له النصح, ثم تفرقوا عنه فتلاوموا , ومضوا لإنجاز ما
وعدوا به علياً.
فجمع كل رئيس قومه فوعظهم وحرّضهم, حتى اجتمع لعليّ جيشٌ
صالحٌ قد تعاقد الجند فيه على الموت. ثم أرسل عليٌ معقل بن قيس يعبّئ له أهلَ
السواد ليضمهم إلى من اجتمع له في الكوفة. وأخذ يرسل إلى عماله فيما وراء العراق
من شرق الدولة يدعوهم إلى النهوض إليه ليكونوا معه في حربه . وأرسل زيادَ بن خصفة
في جماعة من أصحابه طليعة بين يديه, وأمره أن يُغيرَ على اطراف الشام ليروّع أهلها
.
وإن علياً لفي هذا الاستعداد وقد تراءت له غايته , إذا
القضاءُ يقول كلمته , فينقضُ عليه وعلى أهل العراق كل تدبير"[89]
وبالفعل فإن عليّا تمكّن في الفترة الاخيرة التي سبقت
مقتله من حشد جيشٍ لا يستهان به من أهل العراق يتراوح ما بين 40 الى 50 الف مقاتل
عربيّ[90],
ويتبعهم ربما 10 او 15 الفاً آخرين من مواليهم , وبدأ الاستعداد الجدي لغزو الشام
من جديد. كان ذلك نوعا من التعبئة العامة أطلقها عليّ في صفوف اهل العراق الذين
ربما بدأوا يشعرون بضرورة الاستجابة لعليّ من أجل وقف تهديد معاوية لهم في معقلهم
وبلدهم , خصوصاً بعدما ظهر منه ومن قواته من بطش وقسوةٍ تجاههم.
وجديرٌ بالذكر أن علياً , بمجهوده الجبار واعتماداً على
شخصيته الفذة , نجح في تكوين جيلٍ جديد من القادة من ضمن اهل العراق , ليحلّ
مكان الجيل الاول الذي مضى , جيل الاشتر وعمار بن ياسر و محمد بن ابي بكر
وعثمان بن حنيف, ومكان اقرباء عليّ من بني العباس . ويُلاحظ في المصادر نشاطٌ كبير
لقادة عسكريين كفؤين وشبان بدأوا في البروز وتولي القيادة العسكرية والادارية في
معسكر عليّ . ومن أهم هؤلاء كان جارية بن قدامة السعدي (من قبيلة تميم) , و
معقل بن قيس الرياحي (من تميم ايضا) , وسعيد بن قيس (من قبيلة
همدان) , والمسيب بن نجبة (من
فزارة), ومالك بن كعب (من همدان), وحجر بن عدي (من كندة) , بالاضافة
الى قيس بن سعد الانصاري وسعد بن مسعود (الثقفي), ومعهم زياد بن
ابيه في البصرة وفارس.
وهؤلاء بدأوا باظهار كفاءتهم وقدراتهم الحربية , وخصوصا
في التصدي لغارات معاوية ومطاردة قواته واستعادة السيطرة على المناطق التي تعرضت
للهجوم. وتميز هذا الجيل الجديد من القادة بالولاء الشديد لعليّ , ونجح في إزاحة
ظل الاشراف القبليين التقليديين جانبا (وخصوصا الاشعث بن قيس). وكانوا جديين
تماماً في مشروع اعادة غزو الشام , لولا ان الوقت لم يسعفهم.
[1] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف للبلاذري (ج3
ص161), تاريخ الطبري (ج3 ص549), تاريخ اليعقوبي , تاريخ دمشق لابن عساكر (ج52 ص269-273), البداية والنهاية لابن كثير (ج7 ص349), الاستيعاب لابن عبد البر( ص644), الاصابة لابن حجر ( ج6 ص9-11 ) , أسد الغابة لابن الاثير (ج4 ص316).
[2] وفي رواية ابي مخنف لدى الطبري ان
ابن ابي حذيفة " وثب " على ابن ابي السرح وهو بمصر " فطرده منها
".
[3] وفي رواية اخرى لابن حجر
عن يزيد بن ابي حبيب أن معاوية قد سار بنفسه
في جيش كثيف الى مصر قبيل معركة صفين!
" ثم
كان من مسير معاوية بن ابي سفيان الى مصر , لما أراد المسير الى صفين فرأى ألاّ
يترك أهل مصر مع ابن ابي حذيفة خلفه, فسار اليهم في عسكر كثيف فخرج اليهم ابن ابي
حذيفة في اهل مصر فمنعوه من دخول الفسطاط . فأرسل اليهم : إنا لا نريد قتال أحد
وإنما نطلب قتلة عثمان. فدار الكلام بينهم في الموادعة ".
[4] من الواضح ان هناك ضعفاً في الشكل في هذه الرواية : فهي
تذكر اسم كنانة بن بشر ضمن من أسرهم وقتلهم معاوية, بينما من المؤكد أن كنانة بن
بشر كان حياً يرزق الى ما بعد معركة صفين بفترة طويلة. فهو كان مع محمد بن ابي بكر
وتولى الدور الأبرز في القتال الذي دار مع قوات عمرو بن العاص التي أرسلها معاوية
للسيطرة على مصر بعد حرب صفين, وقتل في تلك المعركة .
[5] وأخطأ ابن عبد البر
في ترجمته لمحمد بن ابي حذيفة حين قال : "فلما قتل عثمان هرب الى الشام ,
فوجده رشدين مولى معاوية فقتله". لأن محمد لا يمكن ان يهرب للشام بعد قتل
عثمان.
[6] مصادر هذا البحث : أنساب الأشراف للبلاذري
(ج3 ص162-163), صحيح البخاري باب ما
قيل في لواء النبي( ج4 ص64), تاريخ الطبري (ج3
ص551-555), سير أعلام النبلاء
للذهبي (ج3 ص109 ), البيان
والتبيين للجاحظ (ج2 ص56).
[9]وروى الجاحظ
في
البيان والتبيين ان معاوية كتب لقيس " أما بعد :
فإنك يهوديٌ وابنُ يهوديّ! إن ظفرَ أحب الفريقين إليك عزلك واستبدل بك, وإن
ظفِر أبغضهما إليك قتلك ونكّلَ بكَ" وأن قيساً أجابه بأنه " وثنٌ
وابنُ وثن"
[11] وفي رواية البلاذري أن
قيساً كتب لعليّ " اني قد عجبتُ من سرعتك الى محاربة من أمرتني بمحاربته
من عدوك. ومتى فعلت ذلك لم آمن أن يتساعد اعداؤك ويترافدوا ويجتمعوا من كل مكان
فيغلظ الأمر وتشتدّ الشوكة "
[12] وكان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه. وربما ذلك هو السبب في حماسته له ومحاولته دفع عمه
عليّ لتعيينه.
[13] ومما يجب أن يسجّل لقيس بن سعد وفاؤه المستمر والمتواصل لإمامه
عليّ على الرغم من قرار العزل. فهو عاد إليه وانضم إلى صفوفه وكان له دور بارز
في صفين وما بعدها.
[14] مصادر هذا البحث : أنساب
الأشراف للبلاذري (ج3 ص167), شرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد (ج6 ص82),
تاريخ اليعقوبي (ج2 ص194), البداية والنهاية لابن
كثير(ج7 ص350).
[16] تاريخ اليعقوبي
[17] ويشتهر في المصادر ما يُعرف بـعهد الامام عليّ لمالك الاشتر حين
ولّاه مصر, وهو رسالة طويلة عظيمة ومُبهرة في روعتها وكمالها . وقد رأيتُ أن أثبت
هذا الخطاب , أو كتاب التكليف, كما ورد في نهج البلاغة , لما به من فائدة ولفرادته
وتميّزه , وجعلته كملحق في نهاية هذا الكتاب.
[19] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري
(ج4 ص71-72), كتاب الثقات لابن حبان
(ج2 ص298),
أنساب الأشراف للبلاذري (ج3 ص168), شرح
نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج6 ص74-76) ,تاريخ اليعقوبي (ج2 ص194), البداية والنهاية لابن كثير(ج
7 ص347), تاريخ ابن خلدون (ج2 ق2
ص181).
[24] مصادر هذا البحث : البداية
والنهاية لابن كثير (ج7 ص348), انساب
الاشراف للبلاذري (ج3 ص170),
تاريخ اليعقوبي (ج2 ص194), لكامل في التاريخ لابن
الاثير (ص450).
[25] ذكر ابن الاثير في
الكامل اسماءهم : عمرو بن العاص / حبيب بن مسلمة / بسر بن أرطأة / الضحاك بن قيس /
عبد الرحمن بن خالد بن الوليد / أبو الاعور السلمي / شرحبيل بن السمط الكندي.
[26]
وبسبب حرصه على عدم السماح برواية ما يسيء الى معاوية , تجنب ابن كثير, الأمويّ الهوى, ذكر جواب محمد بن ابي
بكر لكتابي عمرو ومعاوية فقال " وكتب محمد بن ابي بكر الى معاوية في جواب
ما قال , وفيه غلظة. وكذلك كتب الى عمرو بن العاص , وفيه كلام غليظ"
[27] انساب الاشراف للبلاذري . ويضيف البلاذري
ان علياً ارسل جيشا صغيرا بقيادة كعب بن مالك الهمذاني الى مصر ولكنه ردّهم من
الطريق بعد أن بلغته اخبار مقتل ابن ابي بكر.
[28] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري
(ج4 ص79 و ص82). التاريخ الصغير للامام البخاري
( ج1 ص104). كتاب الثقات لابن حبان
(ج2 ص297), تاريخ الاسلام للذهبي (ج3
ص601) , تاريخ ابن خلدون (ج2 ق2 ص182) ,
البداية والنهاية لابن كثير(ج7 ص349)
الاستيعاب لابن عبد البر (ص 647), نهج البلاغة, بشرح محمد
عبده ( ج3
ص350 و ج1 ص89), تاريخ اليعقوبي (ج2
ص94).
[29] رغم ان هناك رواية ثانية تقول انه تم أسر محمد بن ابي بكر وإرساله
الى عمرو بن العاص الذي أمر بإعدامه (قتله صبرا) . مثلاً وروى ابن عبد البر في الاستيعاب "ويقال : انه
أتي به عمرو بن العاص , فقتله صبراً. روى شعبة وابن عيينة عن عمرو بن دينار قال :
أتي عمرو بن العاص بمحمد بن ابي بكر أسيراً فقال : هل معك عهد ؟ هل معك عقد من
أحد؟ قال : لا. فأمر به فقتل"
[33] مصادر هذا البحث : شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد (ج2 ص5 وص8-16), انساب الاشراف للبلاذري
(ج3 ص211), تاريخ دمشق لابن
عساكر (ج 10 ص153 ), الكامل
في التاريخ لابن الاثير (ص459).
[34] ولاحقاً اعتذر سعيد بن نمران
, الذي كان قائد الجند حينذاك , من الامام علي على موقفه ولامَ عبيد الله بن
العباس فيما حصل. فقد روى ابن أبي الحديد
نص حوار بين الإمام علي وسعيد بن نمران اعتذر فيه الأخير عندما وبّخه عليّ قائلاً
" قد والله قاتلتُ , ولكن ابن عباس خذلني وأبى أن يقاتل ولقد خلوتُ
به حين دنا منا بسر فقلتُ ان ابن عمك لا يرضى مني ومنك بدون الجد في قتالهم. قال
: لا والله ما لنا بهم طاقة ولا يدان. فقمتُ بالناس فحمدتُ الله ثم قلتُ : يا
أهل اليمن مَن كان في طاعتنا وعلى بيعة أمير المؤمنين عليه السلام فإلى إليّ .
فأجابني منهم عصابة فاستقدمتُ بهم فقاتلتُ قتالاً ضعيفاً وتفرق الناس عني وانصرفت".
[35] ابيات الشعر هذه في رثاء الولدين مشهورة للغاية ومذكورة في كثير من
المصادر , باختلافات طفيفة. ومنها الكامل لابن
الاثير الذي عقّب " فلما سمع أمير المؤمنين بقتلهما جزع جزعا
شديدا ودعا على بسر".
[37] مصادر هذا البحث : انساب الاشراف للبلاذري(ج3
ص213 وص216) , كتاب الثقات لابن حبان(ج2 ص300) , تاريخ اليعقوبي
( ج2 ص199), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج2 ص5 وص8-16), تاريخ دمشق لابن عساكر(ج37
ص479 وج 10 ص153 ), التاريخ الصغير للبخاري
(ج1 ص11), البداية والنهاية لابن كثير( ج7 ص356 ), اسد الغابة لابن الاثير (ج3 ص340).
[38] من المصدار التي ذكرت ان الغُلامين المقتولين هما ابنا عبيد الله
بن العباس : اليعقوبي وابن عساكر وابن
حبان والبلاذري والبخاري وابن الاثير
وغيرهم الكثير. و الروايات تقول ان اسم الغلامين : عبد الرحمن وقثم.
[40] ابن كثير يذكر الاسم على النحو التالي "عبد الله بن عبد الله بن المدان الحاوي". وأشار ابن كثير إلى تشككه في خبر قتل الغلامين
المشهور " في صحته عندي نظر والله تعالى أعلم ", ولكنه لم يوضح
سبب شكه. والسبب واضح عندي وهو ان ابن كثير يميل دائماً الى التهوين من جرائم
الأمويين ويهمّه تبييض صفحة معاوية قدر الامكان.
[41] ذكر ذلك كل من اليعقوبي
في تاريخه والبلاذري في انساب الاشراف,
وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة.
[43] وقال اليعقوبي ان
بسراً قتل معهما رجلاً كنانياً أصر على الدفاع عنهما. وقال البلاذري ان بسرا كان
حبسهما أياما عند قوم امهما من أجل أن يأتيه أبوهما قبل أن يذبحهما. وفي رواية لابن ابي الحديد ان ذلك حصل عند مرور بسر على
بني كنانة قرب الطائف, قبل وصوله الى صنعاء.
[44] وأستبعد الاسم الثاني , عمرو بن اراكة الثقفي, لأن قبيلة ثقيف
متحالفة تاريخيا مع قريش , ومع الأمويين بالتحديد. ومن النادر وجود ثقفيين موالين
لعلي بن ابي طالب ومتحمسين لأجل قضيته كما هو في الرواية.
[45] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري
(ج4 ص85) , انساب
الاشراف للبلاذري (ج3 ص188 و ص195), شرح نهج البلاغة لابن
ابي الحديد (ج4 ص42), تاريخ خليفة بن خياط ( ص148),
سيرة رسول الله للمباركفوري (ص237),
وكتاب المغازي للواقدي (ج1 ص65).
[46] وأبوه كان حليفاً لجدّ
معاوية عتبة بن ربيعة. وقد لعب أبوه عامر بن الحضرمي دوراً مميزاً في تحريض قريش
على قتال المسلمين يوم بدر حين قام في جيشها يصرخ مطالباً بالثأر لدم أخيه عمرو
الذي قتله المسلمون قبيل معركية بدر , وبلغ حماسه إلى درجة أنه " ...
كشَفَ عن إستِهِ , وصَرَخَ : واعمراه واعمراه ! فحمي القومُ ... " كما
روى المباركفوري في " الرحيق
المختوم" , وأيضاً كتاب المغازي للواقدي
. وهو ايضاً كان ابن خالة عثمان بن عفان كما ذكر البلاذري
.
[47] ولكن البلاذري في
انساب الاشراف يقول ان ابن عباس حينها كان موجودا في مكة بعد أن انشق عن عليّ , او
حسب تعبيره " حين شخص الى مكة مغاضباً لعليّ "
[48] البلاذري في انساب الاشراف يذكر احتمالين لقتل اعين بن ضبيعة : أن ابن الحضرمي
دسّ له من قتله وهو نائم , أو أن جماعة من الخوارج الحرورية قتلوه.
[49] وذكر خليفة بن خياط
في تاريخه هذه القصة باختصار , ضمن أحداث سنة 38 , ولكن الارجح ان تكون الاحداث
جرت بعد سنة 38.
[50] وفي رواية البلاذري ان
" جماعة من العثمانية يهنونه بفتح مصر وقتل محمد بن ابي
بكر, ويسألونه أن يوجه الى البصرة رجلا يطلب بدم عثمان ليسمعوا له ويطيعوا"
[51] مصادر هذا البحث : أنساب الأشراف للبلاذري بتحقيق سهيل زكار و رياض زركلي (ج4 ص 55-56) و (ج3
ص188), أنساب الأشراف للبلاذري بتحقيق
محمد باقر المحمودي(ص 169-175 من ترجمة علي بن ابي طالب), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ( ج20 ص130), العقد الفريد لابن عبد ربه
(ج3 ص98-102), تاريخ الطبري (ج4
ص108-109), كشف الغمة لابن ابي الفتح الاربلي (ج2 ص161), كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي (ج4 ص241-242), الطبقات الكبرى
لابن سعد (ج7 ص99), تاريخ ابن خلدون (ج2 ق2 ص184).
[52] رغم انه في الجزء الثالث يذكر – عَرَضاً – ان ابن عباس كان قد ذهب
الى مكة " مغاضباً لعليّ " وأن ابا الاسود الدؤلي "كان
كتب فيه الى عليّ ".
[54] والمصادر الشيعية كما هو معروف حساسة جدا تجاه كل من خالف أو
اختلف مع علي بن ابي طالب , وشديدة القسوة عليه. وكلامها الايجابي عن ابن عباس
مؤشرٌ على تزكيته وتبرئته.
[57] مصادر هذا البحث : شرح نهج البلاغة لابن
أبي الحديد (ج2 ص7 وص82), تاريخ
اليعقوبي (ج 2 ص 195-197 وص200), أنساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص227), تاريخ الطبري
(ج4 ص104), البداية والنهاية لابن كثير
(ج7 ص354).
[60] منطقة في غرب العراق , قريبة
من حدود السعودية الحالية. وقد روى الطبري
مزيدا من التفاصيل عما جرى "وجه معاوية الضحاك بن قيس وأمره أن يمر بأسفل
واقصة وأن يغير على كل من مر به ممن هو في طاعة عليّ من الاعراب ووجه معه ثلاثة
الاف رجل. فسار فأخذ أموال الناس وقتل من لقي من الاعراب ومرّ بالثعلبية فأغار على
مسالح عليّ وأخذ أمتعتهم ومضى حتى انتهى الى القطقطانة"
[61]الجزيرة
هي المنطقة الواسعة ما بين العراق والشام , وتشمل مدن الرقة ودير الزور والحسكة في
شرق سورية الحالية وحتى الموصل في شمال العراق.
[71] مصادر هذا البحث : تاريخ
دمشق لابن
عساكر
(ج10 ص 152), التاريخ الصغير للبخاري
(ج1 ص141), كتاب الثقات لابن حبان
(ج2 ص300),
تاريخ اليعقوبي (ج2 ص197), الكامل في
التاريخ لابن الاثير (ص458), شرح نهج البلاغة لابن
ابي الحديد (ج2 ص8-16).
[72] وقد وضّح ابن الاثير
معنى ندائه هذا ( يا دينار يا زريق يا نجار) فقال ان هذه بطونٌ من الانصار.
اضاف ابن الاثير ان بسراً قال ايضا
"شيخي شيخي , عهدته ههنا بالامس فأين هو ؟ يعني عثمان "
[73] وقد روى الإمام البخاري
في التاريخ الصغير موقف جابر هذا وقول أم سلمة له : أنا أعلم أنها بيعة ضلالة. وأيضاً رواه ابن حبان
في كتاب "الثقات"
[75] وسوف يكرر يزيد بن معاوية, بعد هذه الحادثة بعشرين عاما, ارتكاب
نفس الجرائم بحق مدينة رسول الله(ص) وأنصاره , وعلى نحو أشدّ فظاعة في وقعة الحَرّة,
ليثبت أن الحقد الأموي تتوارثه الأجيال.
[76] مصادر هذا البحث : كتاب الفتوح لابن
اعثم الكوفي (ج4 ص232), البداية والنهاية لابن
كثير (ج7 ص357), شرح نهج
البلاغة لابن ابي الحديد (ج2 ص11) ,
انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص212), تاريخ
دمشق لابن عساكر (ج39 ص169 وص105), صحيح البخاري باب ما ذكر النبي(ص) وحضّ على
اتفاق أهل العلم (ج9 ص128) و باب
علامات النبوة (ج4 ص 241 و ص243).
[80] وهناك المزيد من التفاصيل
حول العلاقة التي ربطت أبا هريرة بالأمويين , وقد استفاض في ذكرها واستعراضها
الشيخ المصري ابو رية في كتابه " اضواء على السنة المحمدية ".
[81] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص100 و ص107) تاريخ اليعقوبي (ج2 ص201), أنساب الأشراف للبلاذري (ج3 ص219), كتاب "الثقات" لابن حبان (ج2
ص299-301), تاريخ خليفة بن خياط
(ص150), نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج3
ص 324).
[86] وهذا الخبر عن ابن شجرة من
أنساب الأشراف للبلاذري, وأيضاً من
كتاب "الثقات" لابن حبان
ولكن رواية ابن حبان تذكر ان الذي كان على الحج من طرف عليّ هو عبد الله بن العباس
وليس قثم. وهذا خطأ . وقد ذكر خليفة بن خياط
في تاريخه خبر ابن شجرة مختصراً وضمن أحداث سنة 39.
[87] تاريخ الطبري (ج4 ص107). والطبري
يكمل هذه الرواية ويقول فيها ان عليا
وافق على عرض معاوية فتراضيا على ذلك. ولكن من المؤكد ان هذا الجزء من الرواية غير
صحيح, لأن عليا استمر حتى آخر يوم في حياته وهو يعدّ لغزو الشام, ولم يوافق
أبدا على فكرة التقاسم.
[89] الفتنة الكبرى – علي وبنوه
(ص142-143). والنص الذي اورده طه حسين موجود في انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص235-236).
[90] يقول لنا ابن كثير (البداية
والنهاية ج8 ص16) انه قبيل اغتيال عليّ كان تحت إمرة قيس بن سعد 40 الف مقاتل
" بايعوا علياً على الموت"!