الجزء الثاني عشر : معاوية خليفةً



الفصل الاول : مقتلُ عليٌ

الخلفيات : عقيدة الخوارج [1]

سبق وتحدثنا عن ظروف نشأة الخوارج كفرقة سياسية مسلحة في اثناء معركة صفين وما بعدها. وقد تطورت معتقدات الخوراج بالتدريج, ومع تطوّر الظروف الهائجة في العراق. فشعارهم الأول " لا حكم إلاّ لله" أصبح يعني بالفعل رفضاً لشرعية خلافة علي بن أبي طالب, الذي ضلّ وكفرَ بنظرهم حين قبلَ التحكيم. ومع مرور الزمن أصبح للخوارج نظريتهم الخاصة حول نظام الحكم الإسلامي. فخلافاً للفكر الشيعي الذي يحصر حق الخلافة في آل بيت النبي(ص), وخلافاً للفكر السني الرسمي, الذي روّجت له الدولة الأموية, الذي يحصر الخلافة في "قريش", تبنّى الخوارج النظرية القائلة بأن الخلافة في دولة الإسلام تجوز لكل المسلمين, الذين هم سواسية كأسنان المشط. وكانت بداية تعبير الخوارج الأولين عن هذه الأفكار باختيارهم رجلاً غير قرشي, وهو عبد الله بن وهب الراسبي , " أميرا ً " وقيامهم بمبايعته.
إذن قرر الخوارج رفض " الهيمنة " القرشية على إطلاقها. وهم بذلك يرفضون الفكرة القائلة إن قبيلة الرسول(ص) يمكن أن يكون لها أي فضل, لمجرّد كونه منها. فالمؤمنون أخوة, ولا فرق بين عربي ولا أعجمي إلاّ بالتقوى. وإذا أراد القرشيون التميّز, فالإيمان هو المعيار , لا النسَب.
اعترف الخوارج بصحة خلافة أبي بكر وعمر واعتبروا سيرتهما صالحة لأنهما كانا قد احترما كتاب الله. وقد روى ابن قتيبة حواراً بين علي بن أبي طالب ورجلٍ ممن أصبحوا خوارج, أصرّ فيه الرجل على إدخال " سنة أبي بكر وعمر" كشرطٍ للبيعة :
" فقال له الإمام علي: تبايع على كتاب الله وسنة نبيّه؟
قال : لا ! ولكن أبايعك على كتاب الله وسنة نبيّه وسنة أبي بكر وعمر.
فقال علي : وما يُدخِل سنة أبي بكر وعمر مع كتاب الله وسنة نبيّه؟! إنما كانا عاملين بالحق حيث عملا.
فأبى الخثعميّ إلاّ سنة أبي بكر وعمر. وأبى عليّ أن يبايعه إلاّ على كتاب الله وسنة نبيّه(ص)"
وروى الطبري أن قيس بن سعد بن عبادة , حين كان يدعو نواة الخوارج الأولين إلى طاعة عليّ والخروج معه لحرب أهل الشام , واجهه رجلٌ منهم بطلبٍ غريب : إمامٌ كعمر بن الخطاب !
" فقال عبد الله بن شجرة السلمي : إن الحق قد أضاء لنا فلسنا نتابعكم أو تأتونا بمثل عمر !
فقال : ما نعلمه فينا غير صاحبنا! فهل تعلمونه فيكم؟...."

وهناك رواياتٌ تفيد بأنهم اعترفوا بصحة خلافة عثمان خلال السنوات الست الأولى من حكمه, أما بعد ذلك فلم يعترفوا بإمامته, وأنكروا أعماله باعتباره انتهك الكتاب.
 واعترفوا بخلافة علي, حتى التحكيم[2], ثم تبرّأوا منه بعد ذلك, واتهموه بالكفر وطالبوه بالتوبة, ولم يعترفوا بأحقيته بالخلافة اعتماداً على قرابته للنبي(ص).

واعتقد الخوارج أنهم أهل الحق والعدل, وأن غيرهم أهل الباطل والظلم. وأنهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر. ولذلك ذمّوا الدنيا ورفضوها وأنكروا البدع. ومن هذا المنطلق ظهرت بينهم فكرة الخروج من القرية الظالم أهلها, لإحقاق الحق ونشر العدل. ولعلّهم أرادوا داراً للهجرة – حسب المفهوم الإسلامي الأول – متشبّهين بهجرة النبي(ص) من مكة للمدينة. ويبدو أن الخوارج فكروا منذ البداية ببلدةٍ خاصةٍ بهم: قال عبد الله بن وهب الراسبي, أول زعيم للخوارج لأتباعه " ....فاخرجوا بنا , إخواننا, من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدع المضلة.... اشخصوا بنا إلى بلدةٍ نجتمع فيها لإنفاذ حكم الله, فإنكم أهل الحق..."[3]

وأجاز الخوارج قتلَ كلّ مسلم لا يرى رأيهم, وقتلوا بالفعل عدداً من المسلمين بحجة مخالفة آرائهم, بينما عفوا عن أهل الذمة حفظا لذمة رسول الله(ص)!

قال هشام جعيط إن " رفضهم للتحكيم قد صار بنظرهم بمثابة عقيدة تفصل "المؤمنين الحقيقيين" عن كل المسلمين الآخرين , المطروحين الآن بوصفهم كفّارا مارقين. إن مصير الأمة يجب أن يكون بين يدي الله وحده, أي النص (القرآن), ولكنه نصٌ قد انتحلوا لأنفسهم الحق بأن يكونوا مفسّريه الوحيدين.
كانت الحركة(الخوارج) ترغب في مصادرة كل معنى الإسلام لصالحها, وفي أن تجعل من نفسها مفسّرته, وأن تفرض ديكتاتورية تفسيرها على الجميع, ديكتاتورية أقلية مغترّة بحقّها وحقيقتها.
وكانوا يعتبرون كل أولئك الذين لا يشاطرونهم الرأي كفّارا, وبالتالي يعلنون أن دمهم حلال : عليّ, مواطنوهم في الكوفة والبصرة وكل المسلمين الآخرين. لاحقاً , سيسمّون أنفسهم ب " المسلمين" , أي أنهم وحدهم المسلمون. وكانوا يتميزون, منذ تلك المرحلة الأولى, بأسلوب في العمل والاعتقاد , قائم على التوبة, والتكفير ( إذ كانوا يكفّرون كل شخص سواهم ) , والسعي وراء الشهادة وواجب إراقة دم الآخرين, سواء في المعركة, أم بالاغتيال الفردي – الاستعراض"[4].

وكانت أفكار الخوارج تعتبر غلوّا وشططا في الدين. وكانت أيضا تفسيراً سطحياً, أو قشرياً لنصوص القرآن. وقد كان عليّ بن أبي طالب يميّز بين أعدائه الجدد من الخوارج, وأعدائه القدامى من جماعة معاوية. فقد قال ببلاغته الفريدة  : " ليس مَن طلبَ الحقَ فأخطأه, كمن طلبَ الباطلَ فأصابه"

كانت مشاعر الثأر والانتقام للقتلى, أو للشهداء كما اعتبروهم, تحرّك الكثيرين وتدفعهم للحاق بركب الخوارج. وهذه مشاعر ضاربة الجذور في أعماق الشخصية العربية. فكان لكل قتيلٍ من الخوارج مَن يرثيه ويرغب بالأخذ بثأره  ممن قتله. وبنظرهم, كان المسؤول الأول عن كل قتلاهم هو عليّ.
لقد قدّر لعليّ بن أبي طالب أن يواجه حقداً قرشياً لا يزول, ولا تمحوه الأيام, لأنه بنظر قريش " القاتل السفّاك" الذي وَترَها وأباد شيوخها. ولم يستطع رسول الله(ص), برغم سياسته المتسامحة تجاه القرشيين يوم الفتح, وبرغم عفوه عن صناديد الكفر الذين كانوا يؤذونه, وبرغم سياسة "المؤلفة قلوبهم" التي اتبعها, أن يمحو ذلك الحقد القرشي الأسود نحوه, والذي أخذ ترجمته العملية في معاداة علي بن أبي طالب.
وها هو علي بن أبي طالب يجد نفسه, في العراق هذه المرة, يواجه فئة تأصّل الحقد والكره في نفوس أبنائها تجاهه, تراه أيضا " القاتل السفّاك" الذي أباد الالآف منهم بلا رحمة! وبالتالي قدّر على عليّ أن يواجه جيشاً آخر من الموتورين المستعدّين للسير في طريق العداء إلى نهايته.


سيناريوهات عملية الاغتيال

وردت عدة روايات, فيها الكثير من الخيال , حول تفاصيل حادث اغتيال الإمام عليّ.
-         رواية تقول إن الخوارج نسجوا خيوط مؤآمرة ثلاثية محكمة, عندما اجتمعوا في مكة أثناء الحج عام 39. وتمضي الرواية فتقول إن الخوارج تدارسوا أوضاع الأمة وعابوا كلاّ مِن عليّ ومعاوية "  الذين أفسدا في الأرض, واستحلا حرمة هذا البيت" , وذكروا إخوانهم الذين قتلوا في النهروان وترحموا عليهم, وفي النهاية قرروا التخلّص من كل المسؤولين, فاتفقوا على مؤآمرة ثلاثية الأبعاد. بحيث يقوم أحدهم , وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي, بقتل عليّ في الكوفة, ويقوم ثانٍ, وهو البرك بن عبد الله الصريمي, بقتل معاوية في الشام, ويقوم الثالث, وهو عمرو بن بكر التميمي[5], بقتل عمرو بن العاص في مصر. واتفقوا على أن ينفذوا عمليتهم في نفس اليوم وهو 17 رمضان عام 40.
وحسب هذه الرواية فإن ابن ملجم نجح في مهمته, بينما فشل زميلاه الآخران. فالثاني طعن معاوية ولكن الطعنة أتت في إليته[6], بسبب الحراس الذين تدخلوا. وأما الثالث ففشل أيضا لأن عمرو بن العاص كان معتلاّ ذلك اليوم ولم يذهب للصلاة, فقام الخارجيّ بقتل المندوب الذي بعثه ابن العاص ليؤمّ الناس نيابة عنه[7], عن طريق الخطأ!
-         وهناك رواية أخرى تتحدث عن حبكةٍ يدخل فيها الثأر والحقد والعشق لتشكّل عناصر الاغتيال! وتتلخّص هذه الرواية في أن عبد الرحمن بن ملجم, حين قدم الكوفة تمهيداً لاغتيال عليّ, تعرّفَ على امرأة فائقة الجمال, تدعى قطام بنت علقمة, كان أبوها وأخوها قد قتلا في النهروان مع الخوارج, فأحبها وطلب منها الزواج. ولكنها , دون أن تعرف شيئا عن نوايا ابن ملجم, طلبت منه مهراً غالياً : رأس عليّ! وعند ذلك صارحها ابن ملجم أنه قدم الكوفة لأجل ذلك الهدف بالتحديد! وكمثال عليها نورد ما ذكره ابن حبان في كتاب الثقات عن مقتل علي " ... وكان السبب في ذلك ان عبد الرحمن بن ملجم المرادي أبصر امرأة من بني تيم الرباب يقال لها قطام وكانت من اجمل اهل زمانها وكانت ترى رأي الخوارج. فولع بها . فقالت : لا اتزوج بك إلاّ على ثلاثة آلاف وقتل علي بن أبي طالب. فقال لها : لك ذلك. فتزوجها وبنى بها فقالت له : يا هذا قد عرفت الشرط . فخرج عبد الرحمن بن ملجم ومعه سيف مسلول ...."[8]
-         والرواية الثالثة تتحدث عن مؤآمرة فيها الأشعث بن قيس الذي, حسب هذه الحبكة, قدّم لعبد الرحمن بن ملجم الدعم اللوجستيّ الذي احتاجه لتنفيذ عملية الاغتيال, فكان مقيماً عنده, وبات يناجيه ليلة أقدم على الجريمة. قال البلاذري في انساب الاشراف " لم يزل ابن ملجم تلك الليلة عند الاشعث بن قيس يناجيه حتى قال له الاشعث : قم فقد فضحك الصبح. وسمع ذلك من قوله حجر بن عدي الكندي فلما قتل عليّ قال له حجر: يا اعور انت قتلته"[9]

وهذه الروايات لا تخلو من عنصر إثارةٍ وتشويق ظاهرٍ لدى رواتها, وممكن رفضها بكل تأكيد. وأحيانا تتداخل الروايات الثلاثة بعضها ببعض بحيث يصبح القتل نتيجة مؤآمرة ثلاثية[10] من الخوارج في مكة , تصادفت مع مؤآمرة قطام في الكوفة وتصادفت مع تآمر الاشعث بن قيس وتحريضه!

وأما الذي حصل فعلا فهو أن الخوارج قرروا الثأر لقتلاهم فأرسلوا أحد فدائييهم فكمَنَ لعليّ وهو في طريقه إلى المسجد لصلاة الفجر, فضربه بالسيف المسموم على رأسه وهو يصرخ " الحكم لله لا لكَ يا عليّ ".
وهناك احتمالٌ أن تكون عملية الاغتيال عملاً فردياً من القاتل, عبد الرحمن بن ملجم, وليس بناءً على تخطيطٍ من قيادة الخوارج.

يدُ الشيطان تغتالُ إمامَ الزمان [11]
وفي تفاصيل العملية : رغم ان المشهور والذائع ان القاتل هو عبد الرحمن بن ملجم , إلا أن كثيرا من المصادر تتحدث عن شريكٍ له في التنفيذ : شبيب بن بجرة الأشجعي. فيُقال انه شاركه في الهجوم بالسيف على عليّ ولكن ضربته أخطأته في حين أصابه ابن ملجم. وتقول الروايات ان ابن بجرة هذا قتل مباشرة بعد العملية على يد بعض الناس , خلافاً لابن ملجم الذي أُسِر وبقي حياً الى حين إعدامه بعد وفاة عليّ. وقد وصف ابن ملجم ذاته قوة ضربته التي وجهها بالسيف الى رأس عليّ " والله لقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الارض لأهلكتهم "[12]. وعندما أتاه الطبيب وعاين إصابته ورأى جرحه قال له " يا امير المؤمنين اعهدْ عهدك! فإن عدو الله قد وصلت ضربته الى أم رأسك".
لم يعش عليّ كثيراً بعدها. لم يتم ثلاثة ايام وتوفي مساء يوم الاحد التاسع عشر من رمضان سنة 40 للهجرة. ولكنها كانت كافية لكي يعرف من طعنه وليترك وصيته بشأنه: فقد حرِصَ وهو يجود بأنفاسه الأخيرة على أن يوصي بنيه بحُسن معاملة قاتله حين قبضوا عليه!
"... أطيبوا طعامه وألينوا فراشه. فإن أعِش فأنا وليّ دمي فإما عفوتُ وإما اقتصصتُ. وإن أمُت فألحقوه  بي, ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين "[13]
" ولما ضُرب عليٌ دعا أولادَه وقال لهم : عليكم بتقوى الله وطاعته, وألاّ تأسوا على ما صُرف عنكم منها. وانهضوا إلى عبادة ربكم, وشمّروا عن ساق الجد, ولا تثاقلوا إلى الأرض, وتقروا بالخَسف, وتبوؤوا بالذل.
اللهم ! اجمعنا وإياهم على الهُدى, وزهّدنا وإياهم في الدنيا, واجعل الآخرة خيراً لنا ولهم من الأولى. والسلام"[14]
وتولى غسله ابناه الحسن والحسين, ومعهما ابن عمهما عبد الله بن جعفر , وكفنوه بثلاثة أثوابٍ , ودفنوه , وصلى عليه الحسن.

مكان دفنه المجهول
قال الدينوري في الاخبار الطوال " فلا يعلم أحد اين دفن "
وروى البلاذري  " قالوا : ودفن علي بالكوفة عند مسجد الجماعة في الرحبة مما يلي ابواب كندة , قبل انصراف الناس من صلاة الفجر. ويقال : دفن في الغري, ويقال في الكناسة ,ويقال بالسدة. وغمّي قبره مخافة ان ينبشه الخوارج فلم يعرف"

خطبة ابنه الحسن[15] :
" أيها الناس , من عرفني فقد عرفني , ومن جهلني أنبأته باسمي على أن الناس بي عارفون.
أيها الناس , قد دفن في هذه الليلة رجلٌ لم يدركه الأولون بعلم, ولا الآخرون بحلم.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدّمه للحرب فجبريلُ عن يمينه وميكائيل عن يساره, فما يلبث أن يفتح الله على يديه.
أيها الناس , إنه ما خلف صفراء ولا بيضاء إلّا سبعمائة درهم قد كان أراد أن يبتاع بها لأختي أم كلثوم خادماً , وقد أمرني أن أردها الى بيت المال".

اعدام ابن ملجم
لقد اورد البلاذري في انساب الاشراف تفاصيل بشعة عن طريقة إعدام ابن ملجم وقتله بشكل شنيع على يد آل عليّ وانصاره. والرواية تخبرنا ان عبد الله بن جعفر بن ابي طالب هو بطل تلك الفعلة الشنيعة " ... ثم بدر عبد الله بن جعفر فقطع يديه ورجليه , وهو ساكتٌ لا يتكلم, ثم عمد الى مسمارٍ محميّ فكحّل به عينيه , فلم يجزع وجعل يقول : كحّلتُ عمك بملمولٍ له مض. ثم قرأ (اقرأ باسم ربك الذي خلق ) حتى فرغ منها وعيناه تسيلان . ثم عولج عن لسانه ليقطع , فجزع ومانعهم ! فقيل له : أجزعت ؟ قال : لا , ولكتي كرهتُ أن أبقى وقتاً لا أذكر الله فيه بلساني ! فقطعوا لسانه . ثم انهم جعلوه في قوصرة كبيرة , ويقال في بواري , وأحرق بالنار ".
وهذه البشاعة من الصعب جدا تصديقها. فهي أقرب ما تكون الى السادية والامراض النفسية , وهي بعيدة تماما عن اخلاق الامام علي وتربيته. ولا ننسى أن عددا من الروايات تقول ان علياً قد شدد في وصيتّه قبل موته على ضرورة عدم التمثيل بقاتله . روى ابن الاثير في الكامل ان عليا قال " انظر يا حسن إن أنا متّ من ضربتي هذه فاضربه ضربة بضربة ولا تمثلنّ بالرجل, فإني سمعت رسول الله (ص) يقول : إياكم والمثلة , ولو بالكلب العقور   "
كما ان البلاذري ذاته وبعد ختم روايته تلك بشأن الطريقة الشنيعة لقتل ابن ملجم , أتبعها بالقول " ويقال ان الحسن ضرب عنقه وقال : لا أمثل به " وهذا أصح.

*****
وقد أصبح القاتل " بطل " الخوارج الذي يمتدحونه بالأشعار, فقال قائلهم عمران بن حطان في شعرٍ مشهور:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها                        إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره  يوماً فأحسبه                              أوفى البرية عند الله ميزانا
*****
وهكذا انتهت حياة الإمام الذي وصفه ضرار بن ضمرة لعدوّه معاوية بقوله :
" فأشهدُ لقد رأيته في بعض مواقفه , وقد أرخى الليلُ سدوله, وهو قائمٌ في محرابه , قابضٌ على لحيته,  يتململُ  تململَ السليم, ويبكي بكاءَ الحزين, وهو يقول :
يا دنيا يا دنيا, إليكِ عنّي. أبي تعرّضتِ؟ أم إليّ تشوّفتِ؟ لا حانَ حينكِ. هيهات! غُرّي غَيري , لا حاجة لي فيك! قد طلقتكِ ثلاثاً, لا رجعة فيها . فعيشكِ قصير , وخطرُكِ يسير, وأمَلكِ حقير.
آهِ من قلة الزاد, وطول الطريق, وبُعد السفر, وعظيم المورد! "[16]

وقال أبو الأسود الدؤلي يرثي علياً[17] :
ألا أبلغ معاوية بن صخر                   فلا قرّت عيون الشامتينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا                 بخير الناس طرّا أجمعينا
قتلتم خيرَ مَن ركبَ المطايا               ورحّلها ومَن ركِب السفينا
ومَن لبسَ النعالَ ومَن حذاها                  ومَن قرأ المثاني والمبينا
إذا استقبلتَ وجه أبي حسين             رأيتَ البدرَ راعَ الناظرينا
لقد علمت قريشٌ حيث كانت           بأنك خيرها حَسَباً ودينا

وفي أنساب الأشراف أن ام العريان بنت الهيثم قالت :
وكنّا قبل مقـتـلـهِ بخيـرٍ                     نرى مولى رسول الله فينا
يقيم الحدّ لا يرتابُ فيه                بعدلٍ في البعيد والاقربينا

  
الفصل الثاني : انهيارٌ ماديٌ ومعنويّ . الحَسَن يقرر السلام

بيعة حفيد الرسول[18]

هل أوصى الإمام علي لابنه الحسن بالخلافة؟ أم أن بيعة الحسن كانت عن توافق من أصحاب عليّ عليه, دون نص صريح على ذلك؟
الجواب أن هناك بعداً جدلياً كلامياً لهذه المسألة , مما يجعلها تخرج عن نطاق التحقيق التاريخي الصرف والبحث في الروايات .
 فالشيعة لديهم إجماع بلا خلاف أن علياً قد أوصى للحسن من بعده. وهذه قضية عقائدية لدى الشيعة. والمصادر الشيعية تذكر أن عليا في معرض وصيته قد حدد ترتيب الأئمة من اهل البيت. فمثلا روى ابن ابي الفتح الاربلي في كشف الغمة عن سليم بن قيس الهلالي " شهدتُ أمير المؤمنين عليه السلام حين أوصى الى ابنه الحسن وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته, ثم دفع اليه الكتاب والسلاح وقال له: يا بني أمرني رسول الله(ص) أن أوصي إليك وأدفع اليك كتبي وسلاحي , كما أوصى إليّ ودفع إليّ كتبه وسلاحه. وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين . ثم أقبل على الحسين عليه السلام فقال : وأمرك رسول الله(ص) أن تدفعها الى ابنك هذا, ثم أخذ بيد علي بن الحسين وقال : وأمرك رسول الله(ص) أن تدفعها الى ابنك محمد فاقرأه من رسول الله (ص) ومني السلام"
وأما المصادر غير الشيعية , مصادر التاريخ عموما, فلا ترد فيها الوصية المباشرة من علي باستخلاف ابنه الحسن, بل هي تتحدث ان الناس اجتمعوا وبايعوا الحسن دون الاشارة الى ان ذلك تم بناء على وصية : قال اليعقوبي " واجتمع الناس فبايعوا الحسن بن علي ,,," وقال ابن اعثم الكوفي " فلما مضى علي بن ابي طالب رضي الله عنه الى سبيل الله اجتمع الناس الى ابنه الحسن فبايعوه " وقال ابو حنيفة الدينوري" ولما توفي علي رضي الله عنه خرج الحسن الى المسجد الاعظم , فاجتمع الناس اليه فبايعوه "
بل ان اهم المصادر تذكر رواية تنفي فيها صراحة فكرة أن علياً اوصى لابنه : فقد قال الطبري وابن الاثير وابن خلدون ان شخصا اسمه جندب بن عبد الله دخل على عليّ حين طُعن فقال " يا امير المؤمنين إن فقدناك , ولا نفقدك, فنبايع الحسن ؟ فقال : ما آمركم ولا أنهاكم. أنتم أبصر ". والبلاذري روى نفس الخبر تقريبا ولكن اسم السائل فيه كان : عبد الرحمن بن جندب.
وابن كثير في البداية والنهاية أخرج رواية " مذهبية سنية " بامتياز يقول فيها "ان عليا رضي الله عنه لما ضربه ابن ملجم قالوا له : استخلف يا امير المؤمنين . فقال : لا , ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله (ص) , يعني بدون استخلاف. فإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله (ص) "

وأما ما حصل تاريخيا بالفعل فهو أن الحسن قد بويع. بايع أهل العراق الحسنَ بن عليّ بالخلافة, عقب وفاة والده مباشرة, ودون أي خلافٍ يُذكر. روى البلاذري نقلا عن صالح بن كيسان " قام قيس بن سعد بن عبادة الانصاري فخطب وحمد الله وأثنى عليه , ثم وصف فضل عليّ وسابقته وقرابته والذي كان عليه في هديه وعدله وزهده , وقرّظ الحسن ووصف حاله ومكانه من رسول الله(ص) والذي هو أهله في هديه وحلمه واستحقاقه الأمر بعد أبيه , ورغّبهم في بيعته ودعاهم الى طاعته . وكان قيس اول من بايعه ثم ابتدر الناس بيعته[19] ".
 كان الشعور الجماعي بحجم الخسارة التي نتجت عن فقدان عليّ , وضرورة الاجتماع بسرعة, على قطبٍ موحّدٍ جديد , لقيادتهم, يدفعهم إلى سرعة مبايعة الحسن بالخلافة, وتجنب أي نزاع. كان الحسن هو الخيار الطبيعي والعفوي لأهل العراق, ليخلف والده. لم يكن الأمر يتعلق بعملية وراثة عادية, ملكية, للحكم. كانت ردّة فعل جماهيرية عامة على حادث الاغتيال الأليم. كان إحساس أهل العراق بالخوف على مستقبلهم, ومصيرهم, وقضيتهم, هو الذي يدفعهم إلى مبايعة الحسن بن عليّ بالخلافة أولاً, ثم الخروج معه لمواجهة الغزو القادم من الشام , بعد فترة وجيزة, ثانياً.
 وعلى الرغم من أن بيعته كانت بإجماع كل أتباع أبيه, إلاّ أنّ الدلائل كانت تشير إلى أن الأمور لا تسير كما يشتهي الخليفة الجديد.
فالصعوبات الهائلة التي واجهها والده في آخر سنتين من حكمه, كانت مرشّحة للتفاقم والتصاعد. ولم يكن ليغيب عن ذهن الحسن أن أباه, بكل ما له من تاريخ وثقل لا نظير له في الإسلام, لم يستطع أن يضبط شؤون أهل العراق, ويجمع شملهم على نحوٍ يؤهله لتحقيق هدفه الجوهري في إلحاق الهزيمة بمعاوية ومَن معه من أهل الشام.
فالحرب الأهلية التي حصلت داخل البيت العراقي, قتال الخوارج, أضعفت كثيراً معسكر علي بن أبي طالب. ورغم هزيمتها الكبيرة في النهروان, إلاّ أن الحركة الخارجية غدت أخيراً في طريقها إلى التأطّر والانتظام في سياق تنظيمي وفكري محدد. ورغم أنهم استمرّوا في كونهم أقلية ضمن أهل العراق, إلاّ أنه أصبح للخوارج, تدريجياً , قاعدة اجتماعية تدعم حركتهم وتمدّهم بالرجال.
وهكذا وجد الحسن بن علي نفسه في وضع لا يُحسد عليه. فمن جهة, كانت جبهته الداخلية تعاني من الفرقة والتشتت, وقد نخَرَ فيها الصراع الداخلي الذي تفجّر بين أبيه وبين الخوارج حتى أثر على عموم جيشه ومقاتليه, ومعنوياتهم وتصميمهم. وهذا العدو الداخلي لا يكلّ ولا يملّ, وقد نجح في اغتيال القائد الأعلى , علي, ولم تكن هناك إشارات على نيته التراجع عن أفكاره ونهجه.
 ومن جهة أخرى, كان عدوه الرئيسي, معاوية ومَن معه, قد ازداد شراسة وجرأة, بعد أن نجح في الصمود بصفين, وفي الهيمنة على مصر. وكانت سياسة الغارات التي شنّها معاوية في السنة الأخيرة قد أظهرت أنه لن يتورّع عن أي سلوك لنشر نفوذه وسلطانه, حتى لو كان الإجرام العاري عن أي غطاء.
وقد انعكست هذه الاوضاع على الطريقة التي قبل بها الحسن البيعة . فيحدثنا المؤرخون أن النوايا السلمية للحسن ظهرت من اللحظة الاولى لتوليه , او حتى قبل توليه , في صيغة البيعة ذاتها , مما أحدث اشكالاً !
قال البلاذري " كانت بيعته التي اخذ على الناس : ان يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم. فقال بعض من حضر : والله ما ذكر السلم إلّا ومن رأيه أن يصالح معاوية "
وروى الطبري نقلا عن الزهري " بايع اهل العراق الحسن بن علي بالخلافة , فطفق يشترط عليهم الحسن : أنكم سامعون مطيعون , تسالمون من سالمت وتحاربون من حاربت. فارتاب اهل العراق في امرهم حين اشترط عليهم هذا الشرط وقالوا : ما هذا لكم بصاحب , وما يريد هذا القتال " . وقال الطبري ايضا " وقيل : ان اول من بايعه قيس بن سعد , قال له : ابسط يدك ابايعك على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه وقتال المُحلّين . فقال له الحسن رضي الله عنه : كتاب الله وسنة نبيه فإن ذلك يأتي من وراء كل شرط. فبايعه وسكت . وبايعه الناس"
اذن رفض الحسن عبارة " وقتال المحلين" التي يقصد بها قيس الاستمرار في قتال اهل الشام , في صيغة البيعة , ووضح له ان كتاب الله وسنة نبيه تكفي .

ولكني اعتقد ان هناك مبالغة من قبل الرواة في ابراز التوجهات السلمية للحسن, وخصوصا في تلك الفترة المبكرة وبعد موت عليّ مباشرة. لقد توجه الحسن للسلم , صحيح, ولكن بسبب الظروف الموضوعية التي اضطرته لذلك وبعد ان رأى تدهور جبهته , كما سنرى. ومما يدعم فكرتي تلك الروايات التي تقول ان اول شيء قام به الحسن بعد توليه :أن زاد رواتب المقاتلين مائة مائة[20] , وهذا طبعاً يُشكل على فكرة المبالغة في النوايا السلمية لأنه يظهر اهتمام الحسن بالجيش والجنود وحرصه على رضاهم.


معاوية يبدأ التحرك[21]

وبدأ معاوية العمل على الفور لاستغلال الفرصة الذهبية التي نتجت عن صدمة غياب علي المفاجئ, فأعلن النفير العام في صفوف قواته:
" ثم كتب إلى عماله على النواحي بنسخة واحدة :
من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ومَن قِبله من المسلمين . سلامٌ عليكم. فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو . أما بعد فأحمدُ لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم وقتل خليفتكم. إن الله بلطفه وحُسن صنعه أتاح لعليّ بن أبي طالب رجلاً من عباده, فاغتاله فقتله. فترك أصحابه متفرقين مختلفين. وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم. فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحُسن عدتكم. فقد أصبتم بحمد الله الثأر, وبلغتم الأمل, وأهلك الله أهل البغي والعدوان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"[22] 

وبعد أن حَشد كل جيوش الشام, سار معاوية الى العراق , لاظهار قوته وتفوّقه.

ورغم أن القوة هي الأساس في سياستة وتحركاته, إلاّ أن معاوية كان أيضاً حريصاً على تقديم خطابٍ ليّن للخليفة الجديد في العراق من أجل تشجيعه على التسليم بلا حربٍ جديدة وقتال . فإن أمكن تحقيق هدفه سلماً والوصول الى غايته بدون خسائر جديدة في صفوف جيشه وقواته فذاك أفضل بنظر معاوية, ولا بأس أن يبذل من الوعود والعهود ما تقتضيه المصلحة , ولا بأس أن يجامل الحسن بالكلام , فيسهّل عليه القرار الصعب !

وبعض المصادر[23] تقول ان الحسن كان قد أرسل , لمّا تولّى , كتاباً إلى معاوية يدعوه فيه إلى الطاعة[24]. فأجابه معاوية :
" ... إن الأمة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشاً أخلقها به. فرأت قريشٌ والأنصار وذوو الفضل والدين من المسلمين أن يولوا من قريش أعلمها بالله وأخشاها له وأقواها على الأمر , فاختاروا أبا بكر ولم يألوا. ولو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه ويذب عن حرم الإسلام ذبّه ما عدلوا بالأمر إلى أبي بكر.
والحال بيني وبينك على ما كانوا عليه.
فلو علمتُ أنك أضبط لأمر الرعية , وأحوط على هذه الأمة وأحسن سياسة وأكيد للعدو وأقوى على جمع الفيئ , لسلمتُ لك الأمر...."[25]
وفي رواية اخرى لابن أبي الحديد أنه كتب للحسن:
 " .... إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين , ولا المسيئ , ولا اللئيم....
والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي(ص)...
إني أطول منك ولاية , وأقدم منك بهذه الأمة تجربة , وأكبر منك سناً . فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني ...."
وهكذا فإن معاوية الآن يبرر للحسن أسباب رفضه لخلافته على أساس الخبرة والقدرة والمصلحة العامة. وهو يقول للحسن بكل وضوح إن عليه أن يُضحي بالخلافة من أجل صالح المسلمين كما ضحى أبوه ( أو اضطر للتضحية) من قبلُ لصالح أبي بكر,  الذي تولى الحكمَ استناداً لنفس الأسباب التي يشير إليها معاوية : أقواهم على الأمر[26].

*****

وتجمع الروايات على أن الحسن بن علي لما علم بمسير معاوية وجيوشه , حثّ الناسَ على الجهاد وبذل جهده لحشدهم من أجل الخروج لمواجة أهل الشام. ولكن التفاصيل تختلف. فاليعقوبي مثلا يحدثنا أن الحسن سار من الكوفة على رأس جيش من 50 ألف مقاتل, حتى وصل ساباط المدائن. فأرسل منهم جيشاً من اثني عشر ألفاً لمواجهة جيش الشام[27], بقيادة ابن عمه عبيد الله بن العباس, وجعل معه قيس بن سعد بن عبادة, وذلك من أجل منع تقدم معاوية داخل العراق. ويبدو رقم ال 50 ألفا , الذي أورده اليعقوبي , كعدد للمقاتلين الذين حشدهم الحسن وساروا معه إلى المدائن, مبالغاً فيه . ولكن لو سلّمنا أن عددا كبيراً من مقاتلي الكوفة قد خرجوا بالفعل معه, فإن السبب في هذا النجاح للحسن هو بالتأكيد الشعور الذي ساد بين أهل العراق بأنهم مُهددون, ويتعرّضون للغزو من أهل الشام. فالحالة هنا مختلفة عما كانت عليه عندما كان عليّ ينتدبهم لغزو الشام. هنا الأمر دفاعيّ . والهجوم الذي يتعرضون له كلّي , وليس غارة محدودة . فلا بد من الخروج. ولا ننسى أن علياً في اواخر ايامه كان قد نجح في حشد 40 الف مقاتل تجهزوا وبايعوه على الموت[28] واستعدوا للخروج معه لغزو الشام. فربما استجاب عدد كبير منهم للحسن.
ويبالغ مؤرخو المذهبية السنية , ومنهم ابن كثير , في تقدير حجم وقوة جيوش الحسن بن علي, وذلك بهدف اظهار ان تسليمه الأمر لمعاوية كان طوعيا واستجابة لحديث ونبوءة من الرسول (ص). يقول في البداية والنهاية " فاجتمعوا اجتماعا عظيما لم يسمع بمثله . فأمّر الحسن قيس بن سعد بن عبادة على المقدمة في اثني عشر الفا بين يديه , وسار هو بالجيوش في أثره قاصدا بلاد الشام ليقاتل معاوية "[29]

ولكن هناك روايات , وهي الارجح عندي, تقول لنا ان العدد الذي نجح الحسن في حشده كان أقل بكثير, كان 12 الفاً فقط. ومنها رواية عن أبي الحسن المدائني ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة وتقول أن معاوية سار إلى العراق في جيش من ستين ألفاً بينما الحسن مقيمٌ بالكوفة لم يشخص حتى عبر معاوية جسر منبج. فعقد الحسن لقيس بن سعد على اثني عشر ألفاً وودّعهم فساروا على الفرات وقرى الفلوجة ووصل قيس إلى مسكن ثم اتى الأخنونية (وهي من نواحي بغداد الحالية ) فنزلها فجاءه معاوية هناك. وقدم معاوية قواته بقيادة بسر بن أرطاة فحصلت مناوشات بينهم إلى أن انتهى الأمر كله.
ويلاحظ على هذه الرواية أنها لم تذكر تعيين عبيد الله بن عباس كقائد للجيش بل قيس بن سعد , ولم تذكر ان جيش قيس المكون من اثني عشر ألفاً كان طليعة لقوات أكبر حرّكها الحسن, بل لم تذكر أن الحسن خرج من الكوفة اصلا.

اذن توجه الجيش الذي ارسله الحسن , الصغير بالقياس الى جيش الشام , للقاء معاوية. وهناك اضطراب في الروايات بشأن المكان الذي تواجه فيه الجيشان حيث تتحدث بعضها عن الموصل[30] ! وبعضها عن مناطق في الانبار / غرب العراق وبعضها عن منطقة المدائن[31] (بغداد الحالية). وانا استبعد ان تكون قوات الحسن قد توجهت الى الموصل في اقصى شمال العراق , فالعادة كانت ان الجيوش الشامية والعراقية تسير وتتحرك على مسار نهر الفرات , وليس دجلة الذي تقع عليه الموصل.
ولما تقابل الجيشان , سواء قرب المدائن او في الانبار, شنّ معاوية حملة نفسية مركّزة موجهة إلى عموم الجيش العراقي وقيادته. وعرض معاوية الرشوة بمبالغ كبيرة على كل من عبيد الله بن العباس , وقيس بن سعد من أجل الإنشقاق والانضمام إليه, وصلت إلى ألف ألف درهم!  وتدفّق سيلٌ كبيرٌ من الإشاعات إلى العسكر العراقي بأن الحسن بن عليّ قد صالح معاوية وبايعه! وبالتالي لا فائدة من المقاومة والعناد. وفي ذات الوقت كانت إشاعات معاوية تملأ الكوفة أيضا وتصل الحسنَ بأن قيادة جيشه قد خانته وانضمّت إلى معاوية!

إذن نجح معاوية في خلق حالة من الإرباك الشديد في العراق. ولم يعد أحد يدري ما الذي يجري؟ فلا الحسن يثق بجنوده, ولا قيادته تثق به, ولا العامة تدري إلى متى ستستمرّ حالة الحرب.
وأسفرت تلك الأجواء عن نجاح كبير لمعاوية , تمثّل بخيانة تعرّض لها الحسن من حيث لا يتوقع: ابن عمه عبيد الله بن العباس! يبدو أن معاوية قد نجح في إقناع عبيد الله أنه يخوض حرباً خاسرة , وأن إمامه وقائده على وشك الاستسلام وبالتالي يكون من الأفضل لعبيد الله أن يستبق الأحداث ويبادر إلى الاستفادة من عروض معاوية , قبل أن تصبح عديمة القيمة إذا ما حصل فعلاً وسلّم الحسن. وربما أقنع عبيد الله نفسه أنه لا يجوز له أن يبقى على هامش الأحداث منتظراً قدره بينما الحسن يفاوض معاوية على الصلح!


استطراد بشأن خيانة عبيد الله بن عباس[32] :
الاخبار الواردة في المصادر بشأن خيانة عبيد الله بن العباس لابن عمه الخليفة الجديد الحسن بن عليّ وانضمامه الى معاوية ليست حاسمة بما يكفي لتكوين رأي قطعيّ حول هذا الامر بل هي تبعث لدى الباحث نوعاً من الحيرة والشك. ومن المؤكد أن الحسن بن عليّ تعرض لخياناتٍ في تلك الفترة العصيبة التي سبقت تسليمه لمعاوية من قبل قياداته السياسية والعسكرية. ذلك لا شك فيه. ولكن السؤال المطروح هنا هو بشأن عبيد الله بن عباس بالتحديد , هل خان ؟؟
فيما يلي عرض لأهم المصادر التي تثبت خيانة عبيد الله وتروي تفاصيلها :
1-   قال  ابن أبي الحديدأرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس أن الحسن قد راسلني في الصلح, وهو مسلمٌ الأمرَ إليّ . فإن دخلتَ في طاعتي الآن كنتَ متبوعاً , وإلاّ دخلتَ وأنت تابع. ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجل لك في هذا الوقت نصفها واذا دخلت الكوفة النصف الاخر. فانسلّ عبيد الله اليه ليلا فدخل عسكر معاوية فوفى له بما وعده واصبح الناس ينتظرون عبيد الله ان يخرج فيصلي بهم فلم يخرج حتى اصبحوا فطلبوه فلم يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة"
2-   قال البلاذري في " ثم بعث معاوية بعد ذلك عبد الرحمن بن سمرة الى عبيد الله فخلا به وحلف له أن الحسن قد سأل معاوية الصلح , وجعل لعبيد الله الف الف درهم إن سار اليه. فلما علم عبيد الله رأي الحسن وأنه انما يقصد قصد الصلح وحقن الدماء , صار الى معاوية فأكرمه وبرّه وحفظ له مسارعته اليه. وقام بأمر الناس بعد عبيد الله قيس بن سعد , وقال في عبيد الله قولا قبيحا وذكر أخاه وما كان بينه وبين علي ونسب عبيد الله الى الخيانة والغدر والضعف والجبن"
3-   قال اليعقوبي في تاريخه " وأقام الحسن بن علي بعد أبيه شهرين, وقيل اربعة أشهر, ووجه بعبيد الله بن العباس في اثني عشر ألفاً لقتال معاوية, ومعه قيس بن سعد بن عبادة الانصاري. وأمر عبيد الله أن يعمل بأمر قيس بن سعد ورأيه. فسار الى ناحية الجزيرة, وأقبل معاوية لما انتهى اليه الخبر بقتل علي, فسار الى الموصل بعد قتل علي بثمانية عشر يوماً . والتقى العسكران, فوجه معاوية الى قيس بن سعد يبذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه. فأرسل اليه بالمال وقال له : تخدعني عن ديني! فيقال انه أرسل الى عبيد الله بن عباس وجعل له ألف ألف درهم, فصار اليه في ثمانية آلاف من أصحابه. وأقام قيس على محاربته"
4-   قال ابن خلدون في تاريخه " وكان معاوية قد بعث عبدالله بن عامر في جيش الى عبيد الله بن عباس لما كتب اليه في الامان بنفسه, فلقيه ليلاً وأمّنه وسار معه الى معاوية. فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد"
5-   ومن جهة المصادر الشيعية, فإن ابن ابي الفتح الاربلي في كشف الغمة يؤكد الرواية القائلة بأن عبيد الله بن العباس قد خان الامام الحسن وانسلّ ليلاً هو وخاصته الى معاوية مقابل وعده بإعطائه ألف ألف درهم, نصفها معجل ونصفها مؤجل, وأن قيس بن سعد استلم القيادة مكانه وكتب للحسن بذلك. وايضاً روى ابو الفرج الاصفهاني مثل ذلك في مقاتل الطالبيين.

ولكن في المقابل هناك ما يشكل على قصة خيانة عبيد الله. ومن ذلك أن غالبية كتب التراجم وأخبار الصحابة المشهورة لم تذكر خبر الخيانة!  فترجمة عبيد الله بن عباس في تاريخ دمشق لابن عساكر ليس فيها ذكر لخيانته وهو على جيش الحسن ولحوقه بمعاوية. ولم يذكر هذه الخيانة ابن الأثير في أسد الغابة , ولا ابن حجر في الاصابة , ولا الذهبي في سير أعلام النبلاء , ولا ابن عبد البر في الاستيعاب .
كما ان عددا من كتب التاريخ المهمة لم تشر الى خبر الخيانة هذا في معرض كلامها عن صلح الحسن ومعاوية. فلم يذكر ذلك الدينوري في الاخبار الطوال ولا ابن كثير في البداية والنهاية ولا ابن اعثم الكوفي في كتاب الفتوح, ولا الذهبي في كتابه تاريخ الاسلام .

وكذلك فإن ما رواه الطبري في تاريخه يمثل إشكالية اضافية للباحث! فالطبري لا يذكر عبيد الله بن عباس على الإطلاق , بل يتحدث عن عبد الله بن عباس! فقد روى عن الزهري أن الحسن كان قد نزع قيس بن سعد عن قيادة الجيش وعيّن عبد الله بن عباس مكانه بسبب نواياه السلمية التي لا يوافقه عليها قيس. ولما نما الى علم عبد الله بن عباس  نية الحسن مسالمة معاوية , كتب "الى معاوية يسأله الأمان, ويشترط لنفسه على الأموال التي أصابها. فشرط ذلك له معاوية.
وبعث اليه معاوية ابنَ عامر في خيل عظيمة, فخرج اليهم عبد الله ليلا حتى لحق بهم. ونزل وترك جنده الذي هو عليه لاأمير لهم فيهم قيس بن سعد"
اذن الطبري يثبت حصول الخيانة , ولكنه ينسبها الى شقيق عبيدالله , عبد الله . فهل حصل خلط بين اسمي الأخوين ابنيّ العباس؟ ذلك أمر غريب جدا من قبل شيخ المؤرخين وعملاقهم! فلا يعقل أن يكون الامام الطبري غير مدرك لمكانة عبد الله بن عباس الرفيعة في مجال رواية الحديث النبوي والفتوى الشرعية حتى أطلقوا عليه (حبر الأمة) حتى ينجر الى تلطيخ سمعته بهذه الطريقة عن طريق إظهار خيانته بذلك الشكل الرخيص. أم أن عبد الله بن عباس هو بالفعل من ارتكب الخيانة[33] , وليس أخوه؟!
وعلى كل حال, فقد روى الطبري رواية أخرى عن عوانة بشأن صلح الحسن, وفيها أن قيس بن سعد كان على الجيش لما صالح الحسنُ معاوية , فتلقى أمر الحسن بأن يكف فشاورَ الناسَ حول الدخول بطاعة أمير ضلالة أو أن يبقوا بلا إمام فاختاروا الأمر الأول. وليس في هذه الرواية أي ذكر لا  لعبد الله ولا لعبيد الله ابني العباس!

ومما يزيد المسألة تعقيدا ما رواه  الحاكم النيسابوري (وهو من اهل الحديث) في المستدرك على الصحيحين من أن الخائن كان شخصاً ثالثاً , وهو عبد الله بن جعفر بن ابي طالب !! فقد ذكر عن ابي مخنف" لما وقعت البيعة للحسن بن علي جدّ في مكاشفة معاوية والتوجه نحوه. فجعل على مقدمته عبد الله ابن جعفر الطيار في عشرة آلاف, ثم أتبعه بقيس بن سعد في جيش عظيم. فراسلَ معاوية عبدَالله بن جعفر, وضمن له ألف ألف درهم اذا صار الى الحجاز. فأجابه الى ذلك , وخلى مسيرة وتوجه الى معاوية فوفى له.
وتفرق العسكر, وأقام قيس بن سعد على حدة, وانضم اليه كثير.."

وخلاصة رأينا وما نعتقده بشأن قصة خيانة عبيد الله بن العباس : إنه قد خان بالفعل , وذهب مستسلماً الى معسكر معاوية في ذلك الوقت العصيب, طالباً الامان لنفسه. ولكن ذلك كان عملا فردياً منه , فلم يأخذ معه ثمانية الاف مقاتل كما تقول رواية اليعقوبي. فهو لم يكن شخصاً مؤثراً ولا قيادياً مرموقاً . هو فقط رأى الأمور تسير في غير صالح الحسن بن عليّ وأن معاوية سيكسب لا محالة فقرر ان يستبق الحدث لعل ذلك ينفعه لدى معاوية في قادم الايام. وليس ذلك مستغرباً منه , فالأحداث أثبتت ان ابناء العباس الثلاثة : عبد الله , عبيد الله وقثم , كانوا فاشلين وعديمي الكفاءة من ناحية القيادة والإدارة , ولم يكونوا بمستوى المناصب التي أسندها اليهم ابن عمهم عليّ[34] , ومن بعده الحسن.

الحسن يفقد السيطرة [35]

قال اليعقوبي " كان معاوية يدسّ الى معسكر الحسن من يتحدث ان قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه. ويوجّه الى عسكر قيس من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية وأجابه"

ومن ثم أرسل معاوية إلى الحسن وفداً رفيعَ المستوى , من خلصائه وأقربائه. ووصل الوفدُ الشامي المؤلف من عبد الله بن عامر بن كريز, وعبد الرحمن بن سمرة[36] إلى المدائن. ويبدو ان وفد معاوية قد جاء حسب خطة مدروسة لاستغلال ظروف الاضطراب في معسكر الحسن. وقد نجح رجال معاوية في مفاقمة مشاكل الحسن إلى الحد الأقصى :
فهم أولاً قد أحضروا معهم مجموعة من الرسائل والكتب التي أرسلها بعض الزعماء القبائليين من العراق إلى معاوية يعلنون فيها ولاءهم له ويدعونه للقدوم إليهم!
وهم حرصوا , وهم خارجون من مضارب الحسن , على أن يرفعوا أصواتهم حتى يسمعهم أفراد الجيش العراقي المترقبين لما يجري " إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماءَ, وسكّنَ به الفتنة, وأجابَ إلى الصلح"[37]
وقال الدينوري ان عبد الله بن عامر كان قد خاطب الناسَ بصوتٍ عالٍ " يا اهل العراق , إني لم أرَ القتال , وانما انا مقدمة معاوية, وقد وافى الانبارَ في جموع اهل الشام . فأقرؤوا أبا محمد – يعني الحسن – مني السلام , وقولوا له : أنشدك الله في نفسك وأنفس هذه الجماعة التي معك"
وأدى كل ذلك إلى خلق جو مأساويّ لاهبٍ من الفتنة في المعسكر العراقي , إلى درجة أن عناصر منفلتة قامت بالهجوم على مضارب الحسن بن عليّ وانتهبت متاعَه.

وقد ساءت أحوال الحسن وتفاقمت , عندما تعرض إلى محاولة اغتيال خطيرة كادت تودي بحياته. فقد طعنه أحدهم, ولكن الضربة جاءت في فخذه, فوصلت العظم. ونجا الحسن من الموت بعد علاجه . قال اليعقوبي " وحُمل الحسن الى المدائن وقد نزف نزفا شديدا , واشتدّت به العلّة , فافترق عنه الناس ". والأرجح أن يكون الخوارج هم أيضاً مَن نفّذوا تلك العملية, رغم وجود احتمال بأن يكون عميلٌ لمعاوية هو الذي قام بها. قال الدينوري في الاخبار الطوال " فكمن له رجل ممن يرى رأي الخوارج , يسمى الجراح بن قبيصة[38] من بني اسد بمظلم ساباط[39] , فلما حاذاه الحسن قام اليه بمغولٍ فطعنه في فخذه . وحمل على الاسدي عبد الله بن خطل وعبد الله بن ظبيان فقتلاه. ومضى الحسن رضي الله عنه مثخناً حتى دخل المدائن"
ويبدو أن تلك المحاولة الفاشلة, كانت هي القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للحسن. فهو شعر أن كل شيء ينهار, وأنه حتى حياته هو شخصياً معرّضة للخطر على يد أناسٍ يحيطون به, لا يدري أيّهم معه وأيّهم عليه!

وقد أخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء رواية عن عوانة بن الحكم تصف اضطراب معسكر الحسن " سار الحسن حتى نزل المدائن , وبعث على المقدمة قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً . فبينا الحسن بالمدائن إذ صاح صائح: ألا ان قيساً قد قتل ! فاختبط الناسُ[40]. وانتهب الغوغاء سرادق الحسن, حتى نازعوه بساطاً تحته. وطعنه خارجيٌ من بني أسد بخنجر. .."
وقال البلاذري " وقد رقّ أمر الحسن, وتواكل فيه اهل العراق , فوثبوا عليه فانتُزع رداؤه عن ظهره , وأخذ بساطه من تحته , وخُرق سرادقه"
وقد بلغ تهلهل وضع الحسن وانهيار جبهته حداً دفع البعض الى طرح فكرة تسليمه بشخصه الى معاوية طمعاً في الحظوة عنده ! روى الطبري أن المختار بن ابي عبيد الثقفي , وهو يومئذ شاب, قدّم اقتراحا الى عمه سعد بن مسعود , وهو كان والي عليّ على المدائن, حين كان الحسن يتعالج عنده من أثر طعنة الخنجر  " فقال له المختار , وهو غلامٌ شاب, هل لك في الغنى والشرف؟ قال : وما ذاك ؟ قال : توثق الحسن وتستأمن به الى معاوية ! فقال له سعد : عليك لعنة الله , أثبُ على ابن بنت رسول الله(ص) فأوثقه ! بئس الرجل انت"[41]
ولافتة للنظر تلك العبارة التي استعملها الحسن مرة في خطابه لأهل الكوفة : نحن ضيوفٌ عليكم ! وهنا النص كما اورده البلاذري " اتقوا الله ايها الناس حق تقاته , فإنّا أمراؤكم وأضيافكم , ونحن اهل البيت الذين قال الله (ليُذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا)[42] ". ان هذا الكلام العاطفيّ , الذي يخاطب به الحسن الناسَ , ليس كلام رئيس لمرؤوسين , كما هو واضح.


الحسن يقرر التسليم لمعاوية[43]

قرر الحسن التضحية بالخلافة والجنوح إلى مسالمة معاوية.
وفيما يلي مجموعة من النصوص في المصادر توضح أسباب الحسن:
روى ابن الأثير أن الحسن قال لأتباعه من العراقيين:
" إنا والله ما ثنانا عن أهل الشام شكٌ ولا ندم. وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر. فسُلبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع.
وكنتم في منتدبكم إلى صِفين ودينكم أمام دنياكم, فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم.
ألا وإنا لكم كما كنا, ولستم لنا كما كنتم.
ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له, وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره.
فأما الباقي فخاذل, وأما الباكي فثائر.
ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عزٌ ولا نصفة.
فإن أردتم الموتَ ردَدناه عليه, وحاكمناه إلى الله عز وجل بظباء السيوف. وإن أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضاء.
فناداه القوم من كل جانب : البقية البقية!
فلما افردوه أمضى الصلح"[44]

وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء " قال الحسن بن علي: يا اهل الكوفة ! لو لم تذهل نفسي عليكم إلاّ لثلاث لذهلت : لقتلكم ابي, وطعنكم في فخذي, وانتهابكم ثقلي"

وقال ابن اعثم الكوفي في كتاب الفتوح ان الحسن قال" يا اهل العراق ! ما أصنع بجماعتكم معي وهذا كتاب قيس بن سعد يخبرني بـأن أهل الشرف منكم قد صاروا الى معاوية ! أما والله ما هذا بمنكر منكم لأنكم انتم الذين أكرهتم أبي يوم صفين على الحكمين فلما أمضى الحكومة وقبل منكم اختلفتم . ثم دعاكم الى قتال معاوية ثانية فتوانيتم . ثم صار الى ما صار اليه من كرامة الله اياه. ثم انكم بايعتموني طائعين غير مكرهين , فأخذتُ بيعتكم وخرجتُ في وجهي هذا والله يعلم ما نويتُ فيه . فكان منكم إليّ ما كان يا أهل العراق ! فحسبي منكم لا تغروني في ديني , فإني مسلمٌ هذا الأمر الى معاوية "

وفي رواية أخرى عبّرَ الحسن بكل وضوح عن إحباطه الشديد من الكوفة وأهلها والذي كان السبب الرئيس لقراره " ...ورأيتُ أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد إلاّ غُلِب. ليس أحدٌ منهم يوافق الآخر في رأي ولا هوى, مختلفين, ولا نية لهم في خير ولا شر. لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً..."[45]

ووصف ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة كيف كان الحسن يحاول , بلا جدى , حشد الناس من خلفه للتصدي لزحف جيوش معاوية , فقال انه لما بلغه ان معاوية وصل العراق وقطع جسر منبج ألقى خطبة في الناس قال فيها " اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا .
قال : وانه في كلامه ليتخوّف خذلان الناس له .
قال : فسكتوا فما تكلم منهم أحد , ولا أجابه بحرف!
فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال: انا ابن حاتم! سبحان الله , ما أقبح هذا المقام ! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم ,,,,"

وروى ابن ابي الحديد ايضا ان الحسن " خطب الناسَ ووبخهم وقال : خالفتم أبي حتى حكم وهو كاره , ثم دعاكم الى قتال اهل الشام بعد التحكيم فأبيتم , حتى صار الى كرامة الله . ثم بايعتموني على ان تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني . وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه. فحسبي منكم ! لا تغروني من ديني ونفسي"

وقال اليعقوبي " وقدم معاوية العراق , فغلب على الأمر . والحسنُ عليلٌ شديد العلّة , فلما رأى الحسن أن لا قوة به , وأن أصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له صالح معاوية "

وقد أجاد ابن ابي الفتح الاربلي في كشف الغمة وصف الذين كان يقودهم الحسن " واستنفر الناسَ للجهاد, فتثاقلوا عنه ثم خفوا ومعه أخلاطٌ من الناس:
-         بعضهم من شيعته وشيعة أبيه عليه السلام
-         وبعضهم محكّمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة
-          وبعضهم أصحاب طمع في الغنايم
-         وبعضهم شكاك
-         وبعضهم أصحاب عصبيةٍ اتبعوا رؤساء قبائلهم, لا يرجعون الى دين"

وكانت فترة خلافة الحسن بحدود الـستة أشهر حسب اغلب الروايات. وتم الصلح في جمادى الأولى سنة41  [46].
كان القرار الصعب الذي اتخذه الحسن تعبيراً عن إدراكه لحقيقة موازين القوى المادية التي صارت تميل لصالح عدوّه. لقد قدّر الحسن أنه ليس بمقدوره إصلاح الخراب الذي اجتاح الجبهة العراقية. اختار الحسن تجنب مواجهة كبيرة وطاحنة مع جيش الشام ليس هناك أي أمل في الانتصار بها, لأنه لم يُرد أن يفرض توجهاً انتحارياً على أنصاره المخلصين. وليس صحيحا ابداً أن ما جرى كان طواعية او برغبةٍ من الحسن .

شروط الصلح : الروايات الظالمة للحسن[47]
هناك عدد كبير من الروايات حول هذا الأمر. وبعضها تذكر تفاصيل أو مطالب غريبة يمكن الشك فيها ورفضها. ومجموعة كبيرة منها تذكر متطلبات مالية شخصية للحسن واشتراطات بمبالغ ضخمة له ولأخيه الحسين! وأنه طلب من معاوية أن يفضّل بني هاشم في العطاء على بني عبد شمس !
وفيما يلي بعض هذه الروايات التي تظهر الحسن بصورة الفاقد لأي إحساس بالمسؤولية القيادية تجاه أهل العراق وتراث ابيه , وكأنه لا هم له سوى نفسه وراحته الشخصية !

روى الطبري في تاريخه :
-         عن اسماعيل بن راشد أن مندوبي معاوية صالحا الحسن" على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها" وأضاف في موقع آخر " وقد كان صالحَ الحسنُ معاوية على أن جعل له ما في بيت ماله, وخراج دارابجرد, على أن لا يشتم علي وهو يسمع. فأخذ ما في بيت ماله بالكوفة وكان فيه خمسة آلاف ألف"
-         وعن الزهري في رواية قصيرة انه بعد مقتل عليّ " كان الحسن لا يرى القتال ولكنه يريد أن يأخذ لنفسه ما استطاع من معاوية ثم يدخل في الجماعة"
-         وتوجد رواية طويلة وسخيفة عن الزهري تجعل موضوع الصلح عبارة عن مناورات وفذلكات متبادلة بين الحسن ومعاوية . فتقول ان الحسن كان ارسل لمعاوية كتابا به شروط للصلح , في ذات الوقت الذي كان معاوية ارسل للحسن كتابا فارغا مختوماً بتوقيعه ويطلب من الحسن أن يكتب فيه ما شاء من الشروط! فلما وصلت صحيفة معاوية المختومة كتب بها الحسن أضعاف الشروط والمطالبات التي كان ارسلها لمعاوية اصلا. ولكن معاوية في النهاية , عندما قابل الحسن فيما بعد , رفض الاعتراف بالشروط التي كتبها الحسن في الصحيفة المختومة وقال له انه يلبي فقط الشروط التي طلبها الحسن في الاول , قبل استلامه صحيفة معاوية . فاختلفا , ومن ثم لم ينفذ للحسن شيئا من الشروط ! ويلاحظ انه ليس في الرواية الطويلة ذكر لتلك الشروط بالتحديد!
ولكن اذا جمعنا روايتي الزهري القصيرة والطويلة لبعضهما سيظهر لنا ان شروط الحسن كلها مادية وشخصية.
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق ان الحسن كتب لمعاوية بالصلح على ثلاثة شروط:
-         "يسلم له بيت المال فيقضي منه دينه ومواعيده التي عليه ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده واهل بيته.
-         ولا يسبّ عليٌ وهو يسمع
-         وأن يحمل اليه خراج فسا ودارابجرد من أرض فارس كل عام الى المدينة ما بقي.
فأجابه معاوية الى ذلك وأعطاه ما سأل"
وروى الذهبي في سير اعلام النبلاء عن ابن سعد عن الشعبي" ثم كاتب معاوية في الصلح على ان يسلم له ثلاث خصال :
-         يسلم له بيت المال فيقضي منه دينه ومواعيده ويتحمل منه هو وآله
-         ولا يُسب علي وهو يسمع
-         وأن يحمل اليه خراج فسا ودرابجرد كل سنة الى المدينة
فأجابه معاوية وأعطاه ما سأل"
وذكر البلاذري في رواية عن صالح بن كيسان " ولم يزل معاوية بالحسن حتى بايعه وأعطاه كل ما ابتغى , حتى قيل انه اعطاه عيرا أولها بالمدينة وآخرها بالشام
وروى ابن حجر في فتح الباري عن طريق عوانة بن الحكم " وكان الحسن صالح معاوية على ان يجعل له ما في بيت مال الكوفة, وان يكون له خراج دار ابجرد"

وجديرٌ بالذكر ان كثيرا من الروايات المسيئة للحسن والتي تتحدث عن متطلبات مالية شخصية للحسن واشتراطات بمبالغ ضخمة له ولأخيه الحسين! وأن يفضّل معاوية بني هاشم في العطاء,,,, انما مصدرها ابن شهاب الزهري , وقد اعتمدها ونشرها الطبري في تاريخه. والزهري رغم كونه من كبار رجال الحديث الموثقين عند اهل السنة ( مثلا : صحيح البخاري) إلا انه كان أموي الهوى والتوجه , وكان شديد القرب والارتباط بعبد الملك بن مروان وابنائه وتقلّد مناصب رفيعة في دولتهم. 

واما مؤرخ المذهبية السنية , ابن كثير , فنرى في روايته أكبر قدر من الاحتقار للحسن وتفاوضه وشروطه ! فهو يؤكد ان الحسن هو الذي بادر الى الاتصال بمعاوية الذي ارسل له مندوبين فدارت بينهم مفاوضات تكاد تكون مالية بحتة "فقدما عليه الكوفة , فبذلا له ما اراد من الاموال . فاشترط ان يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة الاف الف درهم , وأن يكون خراج دار ابجرد له وأن لا يُسبّ عليّ وهو يسمع . فاذا فعل ذلك نزل عن الإمرة لمعاوية" . وقال ابن كثير في البداية والنهاية نقلا عن البخاري في كتاب الصلح أن الحسن قال لمندوبي معاوية , عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر الذين قدما اليه ليعرفا شروطه للصلح " إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال, وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها . قالا : فإنه يعرض عليك كذا وكذا, ويطلب اليك ويسالمك. قال : فمن لي بهذا؟ قالا : نحن لك به. فما سألهما شيئاً إلاّ قالا له : نحن لك به. فصالحه".
وفقرة أن الحسن اشترط " أن لا يُسب عليّ وهو يسمع" فيها قدر من الاهانة يهبط بحفيد رسول الله الى مستوى لا يمكن قبوله ابدا من الوضاعة والدناوة. لأنها تعني , بكل بساطة , أنه لا يمانع أن يُسب عليّ ما دام هو لا يسمع! وليس هناك من بأس عند ابن كثير أن يكون "بنو عبد المطلب " , وعلى لسان الحسن , قد "اصابوا من هذا المال " ! و"أصابوا من هذا المال " تعني سرقوه . لا بأس عند مؤرخ المذهبية السنية أن تكون العائلة النبوية قد نهبت الاموال , حالها كحال بني أمية , فالكل سواء ! عدا عن موضوع انها عاثت في دماء الأمة ,,,,

وكذلك كان ابن عبد البر في الاستيعاب ملتزماً بالنظرية المذهبية السنية في تناوله لموضوع صلح الحسن لمعاوية. فقد امتدح الحسنَ بن علي بسبب جنوحه للسلم وقال عنه " وكان رضي الله عنه حليما ورعا فاضلا, دعاه ورعه وفضله الى أن ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله . وقال : والله ما احببتُ منذ علمتُ ما ينفعني وما يضرني أن أليَ أمرَ أمة محمد(ص) على ان يهراق في ذلك محجمة دم"  وهذا الكلام الذي ظاهره المديح يحمل في طياته قدحاً في الامام علي , وخاصة عند كلامه عن"ترك الملك والدنيا رغبة فيما عند الله" , فهل كان الامام علي راغبا في الملك والدنيا ولذلك لم يسلم لمعاوية؟
واستكمالاً لهذه النظرة يروي ابن عبد البر أن الحسن ردّ على من اتهمه بإذلال المؤمنين بسبب تنازله لمعاوية " ... فإني لم أذلّ المؤمنين , ولكني كرهتُ أن أقتلهم في طلب الملك" فهذه الرواية فيها ايضا طعنٌ من الحسن بأبيه!
ويتابع ابن عبد البر , انسجاماً مع هذا السياق , فيقول ان الحسن سار بجيش العراق (وقد بايعه أكثر من أربعين ألفاً), وسار معاوية بجيشه , حتى التقى الجمعان في مسكن من ناحية الانبار, وعندها قدر الحسن انه لن تغلب إحدى الفئتين حتى تبيد أكثر الفئة الأخرى , فبادر الى طلب الصلح[48] .
***
وعدا عن الروايات المسيئة للحسن التي استعرضنا جانباً منها , هناك طائفة من الروايات تخلط في طياتها ما بين شروطٍ شخصيةٍ ومالية للحسن وبين شروطٍ لها علاقة بالمسؤولية القيادية والاخلاقية له . ومن هذه الطائفة :
ما رواه الدينوري في الاخبار الطوال . فقد ذكر أن الحسن ارسل شروطه للصلح مع مندوب معاوية , عبد الله بن عامر, فوافق عليها فوراً وبذل عليه العهود والايمان وأشهد هليها الناس .
 " وكانت الشرائط :
ألا يأخذ أحداً من أهل العراق بإحنة
وأن يؤمن الأسود والاحمر, ويحتمل ما يكون من هفواتهم
ويحمل له خراج الأهواز مسلماً في كل عام
ويحمل الى أخيه الحسين بن علي في كل عام ألفي ألف
ويفضل بني هاشم في الصلات على بني عبد شمس"
ومنها ايضا ما رواه السيوطي في تاريخ الخلفاء " ... فأرسل اليه الحسن يبذل له تسليم الأمر اليه
-         على ان تكون له الخلافة من بعده
-         وعلى ان لا يطالب أحداً من اهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان ايام ابيه
-         وعلى ان يقضي عنه ديونه
فأجابه معاوية الى ما طلب فاصطلحا على ذلك[49]"
***
وخلافاً للروايات المسيئة للحسن , التي تجعل تفاوضه مع معاوية متمحوراً حول مطالبات مالية , نجد الرواية التالية في كتاب الفتوح لابن اعثم , وفيها رفضٌ مباشرٌ من الحسن لكل المزايا المالية التي عرضها عليه معاوية . تقول الرواية " ثم دعا الحسن بن علي بعبدالله بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم , وهو ابن اخت معاوية , فقال له : صِرْ  الى معاوية فقل له عني :انك إنْ آمنتَ الناسَ على انفسهم وامواهم واولادهم ونسائهم بايعتك, وإنْ لم تؤمنهم لم أبايعك ". وهكذا فإن همّ الحسن الاساسي كان تأمين أهل العراق جميعا , بعيدا عن أي شؤون مالية. ثم نتابع مع الرواية لنرى ان مندوب الحسن , من تلقاء ذاته على ما يبدو , قد عرض مطالبات مالية على معاوية بالاضافة الى شرط الحسن الاساسي (والوحيد) بشأن الأمان لكل الناس " فقدم عبد الله بن نوفل بن الحارث على معاوية فخبره بمقالة الحسن . فقال له معاوية : سلْ ما أحببت! فقال له : أمرني أن أشرط عليك شروطا. فقال معاوية : وما هذه الشروط؟ فقال : انه مسلّمٌ اليك هذا الامر على أن له ولاية الامر من بعدك, وله في كل سنة خمسة آلاف الف درهم من بيت المال , وله خراج دار ابجرد من ارض فارس, والناس كلهم آمنون بعضهم من بعض. فقال معاوية : قد فعلت ذلك.
فدعا معاوية بصحيفة بيضاء فوضع عليها طينة وختمها بخاتمه ثم قال : خذ هذه الصحيفة فانطلق بها الى الحسن وقل له : فليكتب فيها ما شاء وأحب, ويشهد اصحابه على ذلك. وهذا خاتمي باقراري.
فأخذ عبد الله بن نوفل الصحيفة وأقبل الى الحسن ومعه نفر من اصحابه من اشراف قريش منهم عبد الله بن عامر بن كريز وعبد الرحمن بن سمرة ومن اشبههما من اهل الشام. فدخلوا فسلموا على الحسن ثم قالوا : أبا محمد ! ان معاوية قد أجابك الى جميع ما أحببت. فاكتب الذي تحب.
فقال الحسن : أما ولاية الأمر من بعده فما أنا بالراغب في ذلك, ولو أردت هذا الامر لم أسلمه اليه. وأما المال , فليس لمعاوية ان يشرط لي في المسلمين .ولكن أكتبُ غير هذا . وهذا كتاب الصلح.
ثم دعا الحسن بن علي بكاتبه فكتب : هذا ما اصطلح عليه الحسن بن علي بن ابي طالب ومعاوية بن ابي سفيان. صالحه على :
|اولا| أن يسلم اليه ولاية امير المؤمنين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنة نبيه (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين.
|ثانيا|وليس لمعاوية بن ابي سفيان أن يعهد لأحد من بعده عهدا بل يكون الامر من بعده شورى بين المسلمين.
|ثالثا| وعلى ان الناسَ آمنون حيث كانوا في ارض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.
|رابعا| وعلى أن اصحاب عليّ وشيعته آمنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم. وعلى معاوية بن ابي سفيان في ذلك عهد الله وميثاقه وما أخذ الله على احد من خلقه بالوفاء بما اعطى الله من نفسه.
|خامسا| وعلى انه لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحدٍ من اهل بيت النبي (ص) غائلة سراً وعلانية, ولا يخيف احدا منهم في أفق من الآفاق.
شهد على ذلك عبد الله بن نوفل بن الحارث وعمر بن ابي سلمة وفلان وفلان
ثم رد الحسن بن علي هذا الكتاب الى معاوية مع رسل من قبله ليشهدوا عليه بما في هذا الكتاب"
وقد أثبتّ هذا النص الطويل نظرا لأهميته , ولأنه يوضح كيف كان موقف الحسن واهتماماته الأساسية الحقيقية , وليس المزعومة المقصود منها تلطيخ السمعة عن طريق التركيز على النواحي الشخصية واظهار الحسن كلامبالي بشيعته وشيعة ابيه وانصارهم الذين نصروهم وقاتلوا معهم.

ومن الروايات المنصفة للحسن تلك التي اوردها البلاذري بصيغة الجمع " قالوا " وفيها أن الحسن كتب "   هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن ابي سفيان . صالحه على أن يسلم اليه ولاية أمر المسلمين , على أن يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين , وعلى أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده وأن يكون الأمر شورى , والناسُ آمنون حيث كانوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم . وعلى أن لا يبغي الحسنَ بن عليّ غائلة سرا ولا علانية , ولا يخيفُ أحدا من اصحابه "

ويمكن ادراج ما راوه ابن عبد البر في الاستيعاب في باب الروايات المنصفة نوعا ما للحسن " فكتب الى معاوية يخبره أن يصيّر الأمرَ اليه على أن يشترط عليه ألاّ يطلب احداً من أهل المدينة والحجاز ولا أهل العراق بشيء كان في أيام أبيه.
فأجابه معاوية , وكاد يطير فرحاً , إلاّ انه قال : أما عشرة أنفس فلا أؤمنهم !
فراجعه الحسن فيهم. فكتب اليه يقول : اني قد آليتُ أني متى ظفرتُ بقيس بن سعد أن أقطع لسانه ويده. فراجعه الحسن : اني لا أبايعك أبداً وأنت تطلب قيساً أو غيره بتبعة قلّت أو كثرت.
فبعث اليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال : أكتب ما شئتَ  فيه وانا ألتزمه.
فاصطلحا على ذلك. واشترط عليه الحسن أن يكون له الأمر من بعده"

ومن الطبيعي والمتوقع ان تكون المصادر الشيعية منصفة للحسن , فلا تتحدث بتلك الطريقة المهينة عن مطالبات ومساومات مالية ,,, بل تذكر مضامين مهمة أصر عليها الحسن في مفاوضاته مع معاوية.  ذكر ابن ابي الفتح الاربلي في كشف الغمة أن الحسن اشترط على معاوية :
-         " ترك سب أمير المؤمنين عليه السلام والعدول عن القنوت عليه في الصلاة
-         وأن يؤمن شيعته رضي الله عنهم ولا يتعرض لأحد منهم بسوء
-         ويوصل الى كل ذي حق حقه
فأجابه معاوية الى ذلك وعاهده عليه وحلف له بالوفاء"
***
وهناك شرط يتردد ذكره في العديد من المصادر : أن يكون للحسن بن علي الخلافة من بعد معاوية.
فمثلا روى ابن حجر في فتح الباري :
" عن محمد بن قدامة ان الحسن بن علي قال " اني اشترطتُ على معاوية لنفسي الخلافة بعده"
وروى ايضا عن طريق ابن ابي خيثمة ان الحسن بايع معاوية " على ان يجعل العهد للحسن من بعده"
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن عمرو بن دينار " وأعطاه معاوية عهداً إن حدث به حدثٌ والحسن حي ليسمينّه وليجعلنّ هذا الأمر إليه"
ولم يذكر ابن قتيبة في الامامة والسياسة من شروط الصلح سوى أن الامامة تكون لمعاوية ما دام حياً فإذا مات فالأمر للحسن من بعده.

ولا اعتقد أن هذا الشرط حقيقي , لأنه بلا معنى ولا قيمة , ولا يخفى ذلك على الحسن. ربما يكون اشتراط "العمل بكتاب الله وسنة نبيه " أقرب الى منطق الحسن وخلفيته من اشتراط ولاية العهد[50].

***
اذن يمكن تلخيص الشروط الأساسية التي وضعها الحسن بن عليّ أمام معاوية مقابل تسليم الأمر إليه كما يلي :
1-   أن لا يأخذ أحداً من أهل العراق بإحنة, فلا يُحاسبون على ما مضى من مواقف لهم ضد معاوية , وأن يكون الناس آمنون حيث كانوا. وعلى معاوية عهد الله وميثاقه أن أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم ودمائهم. 
2-   ليس لمعاوية أن يعهد لأحدٍ من بعده عهداً , بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.
3-   وعدٌ من معاوية أن يُحسن في سياسته في الحكم وأن يلتزم بما جاء في كتاب الله وسنة النبي(ص).

ولكن ماذا عن الأموال التي دفعها معاوية للحسن , أو التي وعد بدفعها ؟! هل يمكن انكار كل تلك الروايات التي تتحدث عنها ؟! الجواب عندي أنه من الصعب ردها جملة وتفصيلا وتجاهلها كأنها لم تكن. ولكن الأرجح أن موضوع الاموال والمبالغ التي دفعت وخراج دارابجرد ,,, الخ كان بمبادرة من معاوية . أي أن معاوية كان يعرض على الحسن كل ذلك[51] لاظهار حسن نيته ولطمئنته على وضعه ومعيشة عائلته والمقربين منه . وليس ذلك ببعيد عن معاوية , بل كان من مميزاته وسيماه : اللجوء الى الدفع , او الوعود بالدفع , لتيسير شؤونه والحصول على مبتغاه بأقل الخسائر.

ومن المشروع التساؤل: هل كان الحسن ساذجاً إلى درجة أن يعتقد أن معاوية سيلتزم فعلاً بشروط الصلح؟ وما هي الضمانات لتنفيذ هذه التعهدات؟ هل كان الحسن يظن أن معاوية , بعد أن ينفرد بالحكم ويضم العراقَ إلى مُلكه, سيحترم وعودَه التي قطعها لعدوّه؟
والجواب هو بالنفي. فالحسن كان يعرف أن معاوية رجلٌ لا تسيّره المبادئ ولا الأخلاق, بل المصالح المجردة . ولم يكن معاوية ليرتدع عن فعل أي شيئ في سبيل تمكين دعائم سلطانه ومُلكِه ودولته. ولكن الصلح الذي أبرمه الحسن هو انعكاسٌ لما هو قائم على الأرض من اختلال في موازين القوى المادية بين الطرفين. ومن المؤكد أن الحسن كان لا يمكن أن يُسلم لعدوّه لو كان هناك أي أمل واقعي , ولو ضئيل, في كسب المواجهة, أو حتى الصمود فيها. وفي حقيقة الأمر , كان صُلحُ الحسن مَخرَجاً سِلمياً لإعلان هزيمة الجانب العراقي من الصراع. لقد هُزم مشروع عليّ بن أبي طالب , وسياساته وبرنامجه, وانتصر معاوية ونظامُه, وقريشٌ وطلقاؤها.
تلك هي الحقيقة المجرّدة, ومن الظلم تحميل الحسن المسؤولية التاريخية عن سيطرة معاوية على العراق أو اتهامه بالتقاعس والتخاذل. وكان من سوء حظ الحسن أن الإعلان الرسمي عن هزيمة أبيه في ذلك الصراع الطويل كان لا بد أن يحصل على يديه هو.
***
وقبل الانتهاء من موضوع شروط الصلح لا بد من الاشارة الى روايةٍ تتكرر في كثير من المصادر , خلاصتها ان معاوية , بعد أن بويع وتم له الأمر , أعلن تنكره لكل الشروط والتعهدات التي كان أعلنها ووقع عليها وأشهد عليها الناس! وهذا النص من انساب الاشراف للبلاذري :
" ثم قام معاوية فخطب الناس , فقال في خطبته : ألا إني شرطتُ في الفتنة شروطا أردتُ بها الألفة ووضع الحرب , ألا وإنها تحت قدمي " .
وهذه الرواية لا يمكن تصديقها , وهي بعيدة عن الواقع تماما. فهي تتعارض مع شخصية معاوية وطريقة تفكيره وحكمه وإدارته. فهو رجل مصلحة وسياسة, وحتى لو أراد بالفعل نقض بنود الصلح والتحلل من التزاماته وتعهداته ,,, فلن يفعل ذلك علنا وعلى رؤوس الاشهاد. كما ان هذه الحركات المستفزة للجمهور , المتحدّية والمُهينة , لم تكن مما يمتاز به معاوية ولا من خصاله.

***
وهناك من الروايات ما يُظهرُ أن الحسن كان يريد وقفاً مرحلياً للصراع ضد بني أمية, وكان يأمل أن يتم استئناف المواجهة في مستقبل الأيام إن سمحت الظروف بذلك. وهذا بيّنٌ في خطبته العلنية في الكوفة بعد الصلح , وبحضور معاوية شخصياً.
قال ابن كثير في البداية والنهاية نقلا عن ابن جرير " ان عمرو بن العاص أشار على معاوية أن يأمر الحسن بن علي أن يخطب الناسَ ويعلمهم بنزوله عن الأمر لمعاوية. فأمر معاوية الحسنَ فقام في الناس خطيباً  فقال في خطبته بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله (ص) : أما بعد أيها الناس ! فإن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا. وإن لهذا الأمر مدة, والدنيا دول, وإن الله تعالى قال لنبيه (ص) (وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين).
فلما قالها غضب معاوية وأمره بالجلوس, وعتب على عمرو بن العاص في إشارته بذلك"
وذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري عن ابن منصور والبيهقي بسندهما الى الشعبي قال " لما صالح الحسن بن علي معاوية قال له معاوية : قم فتكلم.
فقام فحمد الله واثنى عليه ثم قال : أما بعد, فإن أكيس الكيس التقى وإن أعجز العجز الفجور . ألا  وإن هذا الأمر الذي اختلفتُ فيه أنا ومعاوية حق لامرئ كان أحق به مني أو حق لي تركته لإرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم . وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاعٌ الى حين . ثم استغفر ونزل"

وقد وردت هاتان الروايتان في الاستيعاب لابن عبد البر نقلاً عن الزهري والشعبي .


استطراد بشأن حديث نبوي : ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين![52]
روى البخاري في صحيحه عن ابي بكرة قال" بينا النبي(ص) يخطب جاء الحسنُ فقال النبي(ص) : ابني هذا سيدٌ ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين"
يمكن القول ان هناك جملة من المآرب والاهداف يرمي لها هذا الحديث المنسوب للنبي(ص), ألخّصها كما يلي :
اولا : تصوير ما جرى من حرب اهلية فظيعة بين المسلمين بأنه مجرد خلاف بين مجموعتين متكافئتين المسلمين: فئة عليّ وفئة معاوية , وكلاهما على خير, ولا امتياز اخلاقيا لاحداهما على الاخرى.
ثانيا: تزكية معاوية وإظهار أن غلبته على الخلافة أمرٌ جيدٌ لأمة محمد(ص).
ثالثا : اظهار أن الحسن بن علي إنما كان ينفذ تعليمات جده له , و إن تسليم الحسن الأمرَ لمعاوية لم يكن اضطراراً وقهراً, ولكن حباً وطواعية!
وكدليل على ما قلناه , وعلى خطورة حديث ابي بكرة هذا لا بأس من استعراض الاستنتاجات التي استخلصها ابن حجر العسقلاني منه . فقد قال في فتح الباري :
" وفي هذه القصة من الفوائد علم من اعلام النبوة ومنقبة للحسن بن علي , فإنه ترك الملكَ لا لقلةٍ ولا لذلةٍ ولا لعلةٍ , بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين . فراعى أمرَ الدين ومصلحة الأمة.
وفيها ردٌ على الخوارج الذين كانوا يكفرون علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي(ص) للطائفتين بأنهم من المسلمين .....
واستدلّ به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي , وإن كان علي أحق بالخلافة وأقرب الى الحق, وهو قول سعد بن ابي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسائر من اعتزل تلك الحروب. وذهب جمهور اهل السنة الى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا - الآية) ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية, وقد ثبت ان من قاتل علياً كانوا بغاة, وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على انه لا يذمّ واحد من هؤلاء بل يقولون اجتهدوا فأخطأوا. وذهب طائفة قليلة من اهل السنة وهو قول كثير من المعتزلة الى ان كلا من الطائفتين مصيب, وطائفة الى ان المصيب طائفة لا بعينها"  .

وأما صاحب الحديث , وراويه الأبرز , فهو الصحابي أبو بكرة بن مسروق. فمن هو ابو بكرة وما هي مكانته في ميزان الصحابة؟
هو من عبيد قبيلة ثقيف. وهو ابن سمية , البغيّ المشهورة التي أنجبت زياد بن أبيه , فهو أخوه لأمه. وبالتالي كان مجهول النسب[53] رغم ان كثيرا من الناس ينسبونه الى قبيلة ثقيف بحكم ولادته بها , فيقول بعضهم " ابو بكرة الثقفي". وقد حاصر رسول الله(ص) ثقيفاً في الطائف بعد فتح مكة ومعركة هوازن في السنة الثامنة للهجرة. وصمدت ثقيف في حصنها وامتنعت عن الاستسلام رغم وطأة الحصار. وفي محاولة لزعزعة صمودها أعلن رسول الله(ص) ان مَن نزل الحصن من ثقيف فهو آمن وان مَن هرب من عبيدها فهو طليق. فكان أبو بكرة ممن هرب من الحصن فأعتقه رسول الله(ص). قال ابن سعد في الطبقات الكبرى عنه " واسمه نفيع بن مسروق, وفي بعض الحديث اسمه مسروح . وأمه سمية, وهو أخو زياد بن ابي سفيان لأمه. وكان عبداً بالطائف. فلما حاصر رسول الله(ص) أهلَ الطائف قال : ايما حرّ نزل إلينا فهو آمن, وايما عبد نزل إلينا فهو حر. فنزل اليه عدة من عبيد أهل الطائف فيهم أبو بكرة, فكنوه أبا بكرة. فكان يقول : أنا مولى رسول الله(ص)".
أي أنه في ميزان الصحابة :هامشيّ بلا قيمة حقيقية ولا مكانة تذكر. فلا هو من المهاجرين ولا الانصار , ولا اهل بدر او أحد , ولا ممن يُذكر لهم أي دور او تميز . فقط هو من عامة الذين أسلموا في أواخر ايام النبي (ص) بعد انتصاره على قريش. ورغم ذلك فإن المتتبع لشأنه يلاحظ عنده نزعة  لإبراز مدى "علاقته" برسول الله(ص) الى حد أن كثيرا من الأحداث التي شهدها بعد ثلاثين عاماً من وفاة النبي(ص) كان قد حدثه عنها مسبقاً !  
فبالاضافة الى حديث (ابني هذا سيد) كان هو ايضا صاحب حديث (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) الذي قاله بمناسبة حرب الجمل . وحديث " ما أفلح قوم ولوا أمرهم امراة " يندرج في سياق " النبوءات النبوية " التي تخصص بها ابو بكرة. فقد روى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين رواية "عن ابي بكرة رضي الله عنه قال: عصمني الله بشيء سمعته من رسول الله(ص) لما هلك كسرى. قال : من استخلفوا ؟ قالوا : ابنته. فقال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. قال : فلما قدمت عائشة ذكرتُ قول رسول الله(ص) فعصمني الله به"
اذن كان أبو بكرة يمتاز بتخصصه في ربط الأحداث التاريخية بأحاديث نبوية ينسبها للرسول(ص) , وبشكل فوري ساعة الحدث.
ومن ذلك ايضا: أن الاحنف بن قيس لما ذهب يريد أن يقاتل مع عليّ قبيل معركة الجمل لقيه ابو بكرة وثبّطه عنه بحديث نسبه الى الرسول(ص) . ورد في سنن ابي داود " عن الاحنف بن قيس قال : خرجتُ وأنا أريد , يعني في القتال, فلقيني ابو بكرة. فقال : ارجع . فإني سمعتُ رسول الله (ص) يقول : إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار. قال : يا رسول الله , هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه". وذكر البخاري في صحيحه أن الاحنف بن قيس لما خرج بسلاحه يريد نصرة عليّ لقيه أبو بكرة وقال له هذا الحديث على لسان النبي(ص).
وروايات نبوءات ابي بكرة ليست حيادية بل كانت دائما تصب في الخط المعادي لعليّ بن ابي طالب. فقد أخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء الرواية الاخيرة التي ذكرناها بصورة فيها قدح مباشر من ابي بكرة في شخص علي بن ابي طالب , حيث يجعله مجرّد طالبٍ للدنيا! قال الذهبي " عن الاحنف قال : بايعتُ علياً , فرآني ابو بكرة وانا متقلد السيف . فقال ما هذا يا ابن أخي؟ قلتُ : بايعتُ علياً . قال: لا تفعل. انهم يقتتلون على الدنيا. وانما أخذوها بغير مشورة"
وكذلك دافع عن والي عثمان , عبد الله بن عامر, بحديث نبوي أيضا ! فكأنّ احاديث ابي بكرة كانت تفصّل فوراً على مقاس الحاكمين من اجل إسكات كل منتقديهم على أساس أن تلك هي إرادة الله ورسوله. فعندما انتقد الناس والي عثمان بن عفان على البصرة وعابوا عليه لبسه ما رقّ ولانَ من الثياب, خلافاً لرعيته, انبرى أتباع الوالي للردّ عليهم, ممثلين بأبي بكرة, على النحو التالي :
" ... كنتُ مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثيابٌ رقاق.
 فقال أبو بلال : أنظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفسّاق!
 فقال أبو بكرة : أسكت ! سمعتُ رسول الله(ص) يقول : مَن أهانَ سلطانَ الله في الأرض أهانه الله[54]"
فحسب كلام ابي بكرة يكون ابن عامر هنا هو سلطان الله على الأرض, ولا تجوز إهانته أو انتقاده.


اذن لدينا اربعة احاديث لأبي بكرة " ما افلح قوم " و " ابني هذا سيد " و " اذا التقى المسلمان بسيفيهما" و " من اهان سلطان الله في الارض" . وبالتأمل في هذه الاحاديث الأربعة , يظهر لنا ما يلي :
رأى أبو بكرة الناسَ ينتقدون والي عثمان على البصرة , فأسكتهم على الفور بحديث نبوي يدافع عن الحاكم.  ورأى عائشة وقد تزعمت الجيوشَ فهُزِمَ أتباعها فأعلن ان ذلك مذكور على لسان النبي(ص). ورأى الأحنف بن قيس وهو يهبّ لنصرة علي بن أبي طالب فأراد تثبيطه عن طريق أمر نبوي مباشر. وأخيراً رأى الحسنَ بن علي وقد صالح معاوية وسلم الأمر له فأكّد أن ذلك أيضاً إرادة النبي(ص) نفسه.
وذلك كله يدعونا للشك في مصداقية أحاديث ابي بكرة . خاصة وأن أحاديثه تلك تتضمن أحكاماً دينية في غاية الأهمية , مثل الموقف السلبي من المرأة, وطاعة الحكام الفاسدين, والقعود عن نصرة الحق, والتسليم بحكم الغصب والقهر. وحتى سيرة ابي بكرة ايام حكم الأمويين تثير الشبهة ايضا. فعلى الرغم من ان خلافاً حصل بين أبي بكرة وبين أخيه زياد بن أبيه لما شهد ابو بكرة على المغيرة بن شعبة بالزنا بينما امتنع زياد عن تأكيد ذلك أمام عمر بن الخطاب, مما دفع عمر الى جلد ابي بكرة بتهمة القذف, إلاّ أنه سرعان ما زال الخلاف بين الأخوين. فتوسّط أبو بكرة عند معاوية حينما كان زياد متحصناً بفارس معارضاً له من أجل ردع بسر بن أرطأة عن إيقاع الأذى بأولاد زياد الذين كانوا بالبصرة. فلما ولّى معاوية زياداً, بعد أن ادّعاه , ردّ هذا الأخير معروف أخيه . قال ابن سعد " وكان زياد قد قرّب ولد أبي بكرة وشرفهم وأقطعهم وولاهم الولايات , فصاروا الى دنيا عظيمة وادعوا أنهم من العرب, وأنهم من ولد نفيع بن الحارث الثقفي"

وبالعودة الى حديث "ابني هذا سيد" الذي بدأنا به : لقد تطرق العلامة ابن كثير في البداية والنهاية الى إخراج هذا الحديث عن ابي بكرة من مصادر الحديث . فقال ان الحديث رواه البخاري في كتاب الفتن, ورواه أحمد وابن ابي شيبة. وكذلك ابو داود والنسائي والترمذي وابن عساكر. وتناول تفصيل إسناده الذي به دائماً الحسن البصري. ويمكن القول ان هذا الحديث هو حصرياً لأبي بكرة , وبامتياز[55]


معارضة الصلح في المعسكر العراقي[56]
لقد تجرّع الكثيرون مُرّ العلقم. فلا شك أن القرار الذي الذي اتخذه الحسن بن علي كان قاسياً وصعباً جداً على أنصار علي وشيعته, وخاصة القاعدة الصلبة منهم الذين كان وقعه عليهم كالصاعقة, وعلى معسكر اهل العراق برمته.
كانت القاعدة الصلبة لأنصار عليّ بن أبي طالب في العراق مستعدة للمضيّ في المواجهة إلى النهاية, حتى لو كانت موازين القوى المادية تميل لصالح العدو, وحتى لو كان الموت هو المصير المحتوم الذي ينتج عن صراع غير متكافئ مع عدو منظم ومصمم.
فالتسليم لمعاوية بن أبي سفيان بقيادة أمة محمد(ص) كان أمراً لا تحتمله نفوس عامة المسلمين, وبالأخص في العراق. كان الذين عايشوا علياً واتبعوه وساروا في ركابه وشاركوا في جهاده وآمنوا بسموّ رسالته ورفعة نواياه, كمن يتجرّع مرّ العلقم وهم يرون الأمور تؤول إلى معاوية.
كانت المقارنة بين معاوية , بتاريخه الملطّخ في الإسلام, والملتفّين حوله من بقايا طلقاء قريش وأبنائهم,  وبين عليّ بن أبي طالب وآل بيته, ساطعة صارخة تفرض نفسها على العراقيين في كل حين.

روى الدينوري :
" وكان أول مَن لقي الحسن بن علي رضي الله عنه, فندّمَه على ما صنع, ودعاه إلى رد الحرب حجر بن عدي[57].
فقال له : يا ابن رسول الله: لوددتُ أني متّ قبل ما رأيت! أخرجتنا من العدل إلى الجور, فتركنا الحق الذي كنا عليه, ودخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه! وأعطينا الدنية من أنفسنا, وقبلنا الخسيسة التي لم تلق بنا.
فاشتد على الحسن رضي الله عنه كلام حجر.
فقال له : إني رأيتُ هوى معظم الناس في الصلح, وكرهوا الحرب. فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون. فصالحتُ بقياً على شيعتنا خاصة من القتل. فرأيتُ دفعَ هذه الحروب إلى يومٍ ما, فإن الله كل يوم هو في شأن.
فخرج من عنده ودخل على الحسين رضي الله عنه, مع عبيدة بن عمرو
فقالا : أبا عبد الله! شريتم الذل بالعز! وقبلتم القليل وتركتم الكثير! أطعنا اليوم واعصِنا الدهر: دع الحسن وما رأى من هذا الصلح, واجمع إليك شيعتك من أهل الكوفة وغيرها, وولني وصاحبي هذه المقدمة فلا يشعر ابن هندٍ إلاّ ونحن نقارعه بالسيوف!
فقال الحسين : إنا قد بايعنا وعاهدنا, ولا سبيل إلى نقض بيعتنا"

واضطر الحسن إلى سماع المزيد من العبارات الغاضبة, المليئة بالاتهامات القاسية, من أتباعه المحبطين. وبذل جهده ليوضح لهم أنه أقدم على الصلح, مكرهاً , حفاظاً على حياتهم هم بالذات, ومن أجل مصلحة دين جده رسول الله :
قال له مالك بن ضمرة " السلام عليك يا مُسخم وجوه المؤمنين !
قال : يا مالك لا تقل ذلك. إني لما رأيتُ الناسَ تركوا ذلك إلاّ أهله , خشيتُ أن تجتثوا عن وجه الأرض. فأردتُ أن يكون للدين في الأرض ناعي"[58]
وروى البلاذري " وقام سفيان بن ليل الى الحسن فقال له : يا مُذلّ المؤمنين ! وعاتبه حجر بن عدي الكندي وقال : سوّدتَ وجوه المؤمنين !
فقال له الحسن : ما كل أحدٍ يحب ما تحب , ولا رأيه كرأيك . وإنما فعلتُ ما فعلتُ إبقاءً عليكم "

وكذلك كان وقع الصلح قاسياً على قيس بن سعد الذي كان لا يزال في قيادة جيش العراق . قال الطبري:
" وكتب إلى قيس بن سعد بالصلح, ويأمره بتسليم الأمر إلى معاوية والانصراف إلى المدائن"
ولكن قيس بن سعد , ومعه قواته, لم يقبل ذلك الأمر الوارد إليه في البداية, وبقي مصرا على عدم التسليم لمعاوية وعبر عن استعداده وجيشه للقتال حتى النهاية[59]!
 فتشاور معاوية وعمرو بن العاص بشأن هذه المعضلة وكيفية التصرف السليم. واستقر رأيهما على ضرورة تجنب القتال بأي وسيلة ممكنة. يضيف الطبري :
 " قال معاوية : إنا لا نخلص إلى قتل هؤلاء حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشام. فما خير العيش بعد ذلك؟ وإني والله لا أقاتله أبداً حتى لا أجد من قتاله بُدا"
وحاول معاوية أسلوب الإقناع . نتابع مع الطبري :
" وأرسل معاوية إلى قيس بن سعد, يذكره الله, ويقول : على طاعة مَن تقاتل؟! وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك!
فأبى قيس أن يلين له"
وأخيراً اضطر معاوية إلى أن يكتب تعهدات وضمانات إضافية خاصة بقيس بن سعد ومَن معه [60] تتضمن" الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال" وأرسلها لسعد في سجلّ مختوم.
وبعد ذلك فقط لم يعد أمام قيس ومَن معه سوى القبول بالأمر الواقع, فقام قيس بن سعد :
"فقال : أيها الناس : اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة أو القتال مع غير إمام!
فقالوا : لا. بل نختار أن ندخل في طاعة إمام ضلالة"[61]
وكان تسليم قيس بن سعد آخر عقبة أمام سيطرة معاوية الرسمية على العراق.

قال عباس محمود العقاد : " وليس أضل ضلالاً, ولا أجهل جهلاً, من المؤرخين الذين سمّوا سنة 41 هجرية بعام الجماعة, لأنها السنة التي استأثر فيها معاوية بالخلافة فلم يشاركه أحدٌ فيها. لأن صدر الإسلام لم يعرف سنة تفرقت فيها الأمة كما تفرقت في تلك السنة, ووقع فيها الشتات بين كل فئة من فئاتها , كما وقع فيها "


الفصل الثالث : معاوية يكمل السيطرة على امبراطورية الاسلام

زياد بن أبيه يرفض الانصياع لمعاوية [62]

لم يبقَ أمام معاوية سوى مدّ نفوذه إلى ولاية فارس حتى تكتمل سيطرته على الامبراطورية الإسلامية.
ولكن كانت هناك مشكلة صعبة تواجهه : إنها والي عليّ القويّ زياد بن أبيه !

تصلح قصة زياد بن ابيه أن تكون نموذجا للجحود ونكران الفضل. فهو من أصل دنيء بمعايير العرب : ابنً بغيّ مشهورةٍ عند قبيلة ثقيف في الجاهلية , سميّة . وقد أنجبت ابنها الذي أسمته زياداً ولم يُعرف له أبٌ فسُمّي "ابن أبيه". وكان أحياناً يُنسب إلى زوج أمه, الذي كان يمارس دور القواد, واسمه عبيد, وهو من أصل رومي, وكان غلاماً للحارث بن كلدة الثقفي, فيقال له " زياد بن عبيد". وكان أيضاً يعرف ب "زياد بن سمية".
 وقد شاءت إرادة الله أن يكون هذا الشاب على قدر عالٍ من الذكاء والنشاط والقوة. ولكن طبعاً في المجتمع العربي – حيث تسود قيم العشائرية والشرف – تبقى دناوة الاصل عائقاً صلبا أمام فرص الصعود والتقدم .
وكان الأمر بحاجة الى شخصية من المدرسة النبوية حتى يمكن لهذا الشخص أن يأخذ فرصة لاظهار قدراته, وهنا دور الإمام علي الذي لم ينظر الى وضاعة أصله ولا الى نسَبه المجهول , وعامله كإنسان مسلم متساوي الحقوق مع غيره من العرب الأصلاء . ولم ينظر الإمام علي اليه الاّ كشابٍ مسلم طموح وذكي, فاعتمدَه كنائبٍ لعبد الله ابن عباس : واليه على البصرة.
 وهكذا أتيحت الفرصة لهذا الشخص أن يُظهر قدراته الإدارية والقيادية الفذّة , والتي تجلّت أثناء مشكلة البصرة , حينما حاول معاوية أن يستولي عليها عن طريق عملائه أثناء غياب واليها ابن عباس عنها. عندها أظهر زياد بن أبيه رباطة جأش نادرة ونجح في منع سقوط البصرة بأيدي رجال معاوية, وتثبيتها تحت سلطة أمير المؤمنين عليّ.
 وقدّر الإمام عليّ ذلك فولاّه فيما بعد حكم إمارة فارس الشاسعة والغنية. فقد بلغَ أهلَ فارس ما هو حاصلٌ بين العرب في الشام والعراق من حربٍ أهليةٍ طاحنة استنزفت قواهم, فبدت لهم الظروف مواتية للتمرد على السلطة العربية في بلادهم. وجاءت الأخبار علياً أن مناطق عديدة في ايران قد أخذت في الامتناع عن دفع الجزية والخراج, بل إن بعضها قامت بطرد الوالي العربي منها. فكان لا بد له من إرسال والٍ قويٍ قدير يعيد فرض الأمن والنظام.
وكان زياد عند حُسن ظنّ الإمام عليّ. وقد وصف الطبري ما فعله زياد فقال :
" ... ولما قدِم زيادٌ فارسَ, بعث إلى رؤسائها, فوعدَ مَن نصَرَه ومَنّاه, وخوّفَ قوماً وتوعّدهم, وضربَ بعضَهم ببعض, ودلّ بعضَهم على عورة بعض.
وهربت طائفة , وأقامت طائفة. فقتلَ بعضهم بعضاً. وصَفَت له فارس , فلم يلقَ فيها جمعاً ولا حرباً.
وفعل مثل ذلك بكرمان.
ثم رجع إلى فارس فسارَ في كورِها, ومَنّاهم, فسكنَ الناس إلى ذلك. فاستقامت له البلاد.
وأتى اصطخر , فنزلها وحصّنَ قلعةً بها, ما بين بيضاء اصطخر واصطخر فكانت تسمى قلعة زياد, فحمل إليها الأموال ثم تحصّن فيها بعد ذلك.
....وكان أهل فارس يقولون : ما رأينا سيرة أشبه بسيرة كسرى أنو شروان من سيرة هذا العربي في اللين والمداراة والعلم بما يأتي.."

المفاوضات بين عقلين متشابهين : حينما اغتيل عليّ وتولّى ابنه الحسن القيادة, كثّف معاوية من جهوده لاستقطاب زياد وإحكام الطوق على الإمام الجديد. ولكن زياداً أظهر نفوراً شديداً وأصرّ على موقفه المعادي لمعاوية. يقول الطبري:
" كتب معاوية حين قتل عليّ عليه السلام إلى زياد يتهدده.
فقام خطيباً فقال : العجب من ابن آكلة الأكباد, وكهف النفاق ورئيس الأحزاب!
كتب إليّ يتهددني وبيني وبينه ابنا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, يعني ابن عباس والحسن بن علي, في تسعين ألفاً واضعي سيوفهم على عواتقهم لا ينثنون!
 لئن خلص إلى الأمر ليجدني أحمز ضراباً بالسيف"

ولكن الأمور تغيرت بعد الصلح الذي أبرمه الحسن مع معاوية. فقد امتدت سيطرة معاوية الآن إلى العراق, ولم يبقَ أمامه سوى إخضاع إقليم فارس حتى يجلس متوجاً على عرشه. ولكن مشكلة معاوية أن زياداً لم يلِن , ولم يُظهر رغبة في الدخول في طاعته, رغم أنه لم يعُد لديه قائدٌ يتبعه!

فتبادل معاوية وزياد المزيد من الرسائل[63] المليئة بالشتائم والتهديدات :
" من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد . أما بعد :
فإنك عبدٌ قد كفرتَ النعمة, واستدعيتَ النقمة. ولقد كان الشكر أولى بك من الكفر . وإن الشجرة لتضرب بعرقها وتتفرع من أصلها.
إنك – لا أم لك بل لا أبا لك – قد هلكتَ وأهلكتَ, وظننتَ انك تخرج من قبضتي , ولا ينالك سلطاني.
هيهات! ما كل ذي لبٍ يصيب رأيه, ولا كل ذي رأي ينصح في مشورته.
أمسُ عبد, واليوم أمير! خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية.
وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة, وأسرع الإجابة. فإنك إن تفعل فدمكَ حقنتَ, ونفسكَ تداركتَ. وإلاّ اختطفتك بأضعف ريش ونلتك بأهون سعي.
وأقسم قسماً مبروراً ألاّ أوتى بك إلاّ في زمارة تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام, حتى أقيمك في السوق, وأبيعك عبداً وأردك إلى حيث كنتَ فيه وخرجتَ منه. والسلام"
فغضب زياد بشدة وأجابه :
" أما بعد. فقد وصل إليّ كتابك يا معاوية وفهمتُ ما فيه. فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبّث بالطحلب ويتعلق بأرجل الضفادع, طمعاً في الحياة.
إنما يكفر النعم ويستدعي النقم , مَن حادّ الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً.
فأما سبّكَ لي : فلولا حلمٌ ينهاني عنك , وخوفي أن أدعى سفيهاً , لأثرتُ لك مخازي لا يغسلها الماء.
وأما تعييركَ لي بسمية, فإن كنتُ ابن سمية فأنت ابن جماعة.
وأما زعمكَ أنك تخطفني بأضعف ريش, وتتناولني بأهون سعي, فهل رأيتَ بازياً يُفزِعُه صغيرُ القنابر, أم هل سمعتَ بذئبٍ أكله خروف؟!
فامضِ الآن لطيتك, واجتهد جهدك, فلستُ أنزل إلاّ بحيث تكره, ولا أجتهد إلاّ فيما يسوءك. وستعلم أينا الخاضع لصاحبه, الطالع إليه. والسلام"

وطفح الكيل بمعاوية, فلجأ حين ذاك إلى أسلوب آخر, لينفّذه سفّاحه المشهور بسر بن أرطأة. فقد كانت عائلة زياد لا زالت تقيم في البصرة, فوجّه معاوية بسراً إلى البصرة وأمره بإلقاء القبض على أبناء زياد ! قال الطبري :
كتب بسرُ إلى زياد : لئن لم تقدم لأصلبنّ بنيك!"
ورغم هذا الوعيد الرهيب, إلاّ أن زياداً صمد وقاوم :
"فكتب إليه : فإن تفعل فأهل ذاك انتَ. إنما بعث بك ابن آكلة الأكباد"
فكان بسر بن أرطأة على وشك تنفيذ تهديده وقتل أبناء زياد, لولا أن أبا بكرة, أخا زياد, ذهب إلى معاوية ورجاه أن يأمر بسراً بعدم قتلهم, متعهداً له أن يساعده في إقناع زياد بتغيير موقفه, فاستجاب له معاوية.
ولما تأكد معاوية أن أسلوب التهديد لن يجدي نفعاً مع زياد, كان عليه أن يفكر بطريقة أخرى. لجأ معاوية إلى مستشاره المخلص : المغيرة بن شعبة , طالباً نصحه . روى ابن ابي الحديد ان معاوية استدعاه وقال له :
" يا مغيرة اني اريد مشاورتك في أمر أهمني , فانصحني فيه وأشر عليّ برأي المجتهد , وكُنْ لي أكُنْ لك...
 إن زياداً قد أقام بفارس, يكشّ لنا كشيشَ الأفاعي. وهو رجلٌ ثاقب الرأي, ماضي العزيمة, جوال الفكر. مصيبٌ إذا رمى.
وقد خفتُ منه الآن ما كنتُ آمنه إذ كان صاحبه حياً. وأخشى ممالاته حسنا.
فكيف السبيل إليه؟ وما الحيلة في إصلاح رأيه؟
قال المغيرة : أنا له إن لم أمت. إن زياداً رجلٌ يحب الشرفَ والذكرَ وصعودَ المنابر. فلو لاطفته المسألة , وألنتَ له الكتاب, لكان لك أميلَ, وبكَ أوثق. فاكتب إليه وأنا الرسول"

وليس غريباً أن يلجأ معاوية إلى المغيرة بن شعبة ليعينه في شأن زياد, فمعاوية كان ولا شك يعرف أن الصلة وثيقة بين الرجلين منذ أن قام زيادٌ بإنقاذ حياة المغيرة من حد الموت رجماً في عهد عمر بن الخطاب بعد أن شهد ثلاثة رجالٍ على المغيرة بالزنا مع امرأةٍ بالبصرة, فكان زيادٌ رابعهم فقرر إنقاذ المغيرة الذي رجاه أن يفعلَ, فشهدَ زيادٌ أمام عمر بأنه رأى المغيرة عارياً بين فخذي المرأة ولكنه لم يرَ " الميل في المكحلة " فأنقذ رقبة المغيرة بشهادته تلك. ولذا فالمغيرة تهمّه حتماً مصلحة زيادٍ ولن يتوانى عن بذل الجهد في التوفيق بينه وبين معاوية. 
وبالفعل شدّ المغيرة بن شعبة الرحالَ إلى بلاد فارس, حاملاً رسالة بلغةٍ جديدة من معاوية. فبدلاً من قوله له إنه عبد , وابن العاهرة سمية , ولا أبَ له, أصبح الآن أخاه, وابن أبيه! وصل المغيرة يحمل عرضاً لا يمكن لزياد أن يرفضه :
" من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان: أما بعد.
فإن المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب. وإنك للمرء المضروب به المثل , قاطع الرحم, وواصل العدو. وحملك سوء ظنك بي , وبغضك لي على أن عققتَ قرابتي, وقطعتَ رحمي, وبتتَ نسبي وحرمتي, حتى كأنك لستَ أخي, وليس صخر بن حرب أباك وأبي.... فارجع رحمك الله إلى أصلك واتصل بقومك.... وقد أصبحت على بينة من أمرك, ووضوح من حجتك, فإن أحببتَ جانبي ووثقتَ بي , فإمرةٌ بإمرة...."[64]

واستجاب له زياد " الحمد لله الذي عرّفك الحق وردّك الى الصلة , ولست ممن يجهل معروفا ولا يغفل حسباً ....
إنْ كنتَ كتبتَ كتابك هذا عن عقدٍ صحيح ونيةٍ حسنة وأردتَ بذلك برّاً , فستزرع في قلبي مودة وقبولاً ..."
يتابع ابن ابي الحديد " فأعطاه معاوية جميع ما سأله , وكتب اليه بخط يده ما وثق به , فدخل اليه الشام , فقرّبه وأدناه , وأقرّه على ولايته , ثم استعمله على العراق "

استلحاق معاوية لزياد : اذن قرر معاوية الاعلان أن زياداً هو أخوه ! وليس ابن أبيه , ولا ابن عبيد , بل ابنُ ابي سفيان ! وأما الأساس الذي استند اليه فهو ما يلي :
 " كان أبو سفيان صار إلى الطائف, فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السلولي.
فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده : قد اشتدّت بي العزوبة فالتمس لي بغيّا!
قال : هل لك في جارية الحارث بن كلدة, سمية امرأة عبيد ؟
قال : هاتها, على طول ثدييها وذفر إبطيها.
فجاء بها إليه فوقع لها" [65]
وحينما كان أبو سفيان لا يزال على قيد الحياة, أظهر زيادٌ , وهو شابّ يافع, في مجلسٍ ضم الخليفة عمر وكبار رجالات قريش, فصاحة لافتة دلّت على شخصية واعدة :
" فقال عمرو بن العاص : لله أبوه! لو كان قرشياً لساقَ العربَ بعصاه!
فقال أبو سفيان : أما والله انه لقرشيّ , ولو عرفته لعرفتَ أنه خيرٌ من أهلك !
فقال : ومن أبوه ؟
قال : أنا والله وضعته في رحم أمه "[66]

كانت هذه العبارة التي قالها أبو سفيان قبل أكثر من 20 عاماً هي الأساس الذي استند عليه معاوية في ادّعاء زياد! وكان زياد على علم بكلمة ابي سفيان تلك . وكذلك معاوية الذي يبدو انه كان يستعملها ورقة يناور بها عند الحاجة.  وقد كان عليّ بن أبي طالب أشار إلى هذه الحادثة في إحدى رسائله إلى زياد حينما بلغه أن معاوية يحاول إغراءه ويلوح له بقول أبي سفيان المذكور:
" وقد عرفتُ أن معاوية كتب إليك, يستزلّ لبّكَ, ويستفلّ غربك. فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله, ليقتحم غفلته ويستلب غرّته.
وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر فلتة من حديث النفس , ونزغة من نزغات الشيطان, لا يثبت بها نسَبٌ, ولا يستحق بها إرث! والمتعلق بها كالواغل المدفّع , والنوط المذبذب"[67]

وأحضر معاوية وزياد ذلك الخمّار العجوز من الطائف ليؤدّي دوره في المسرحية : فتقدم أبو مريم السلولي فقال : " كنتُ خماراً بالطائف , فمرّ بي أبو سفيان منصرفاً من سفرٍ له, فطعم وشرب ثم قال : يا أبا مريم, طالت الغربة, فهل من بغيّ؟
فقلت : ما أجد لك إلاّ أمَة بني عجلان.
قال : فأتني بها على ما كان من طول ثدييها ونتن رفغها.
فاتيته بها, فوقع عليها ثم رجع إليّ.
فقال : يا أبا مريم! لاستلّت ماء ظهري استلالاً تثيب ابن الحبل في عينها.
فقال له زياد: إنما اتينا بك شاهداً, ولم نأتِ بك شاتماً "[68]
ويبدو أن الخمار العجوز اندمج في الدور الذي يؤدّيه إلى درجة أنه غير مصدق أن هكذا مهزلة يمكن فعلا أن تحصل علناً, فلجأ إلى قول بعض التفاصيل حول قذارة سمية, مما استفزّ زياداً ودفعه إلى إسكات العجوز وتذكيره بأن لا يتجاوز الدور المطلوب منه أن يؤدّيه.

إذن تمت الصفقة, وكملت فصول المسرحية, وأعلن معاوية أن زياداً أخوه, وابن أبيه!
وكان هذا هو الثمن الوحيد الذي يمكن لزياد أن يقبله في مقابل انضمامه لمعاوية وحزبه. فزياد كان يتحصّن عميقاً داخل بلاد فارس مسيطراً على مقدراتها وثرواتها. وكان مستعداً للصمود فترة طويلة في أية مواجهة مع معاوية. كان زياد يدرك موازين القوى, ويفكّر بعقول خصومه والخيارات المتاحة امامهم . أدرك زياد أنه في وضع ممتاز للمساومة, وأن بإمكانه رفع الثمن المطلوب من معاوية .
 وبذات الطريقة يفكر معاوية! فهو رجلٌ عمليّ وهدفه واضحٌ محدد, ولا تهمّه الوسيلة المتبعة للوصول إلى غايته: الانفراد بحكم دولة الإسلام, القرشيّة بنظره, في كل أمصارها. لم يكن بإمكان معاوية أن يتناسى أمر زياد, ويكتفي بالسيطرة على بقية الأمصار الإسلامية, لأن ذلك يعني أن عمله غير مكتمل وانجازه مهدد. إذ من المتوقع أن تصبح الولاية الرافضة لطاعته, فارس, قطباً جاذباً لكل العناصر المعادية له, وهي كثيرة جداً, وهذا ما لا يستطيع معاوية أن يتحمله.
كان أمام معاوية خياران لا ثالث لهما : إما أن يوجّه حملة عسكرية ضخمة إلى عمق بلاد فارس, حيث زياد, لهزيمته وإخضاعه, وإما أن يتوصل إلى حل ودّي مع حاكم فارس القوي, ويدفع الثمن المطلوب.
كان الخيار الأول , العسكريّ, باهظ التكاليف, خطراً وصعباً. لقد كان دخول معاوية إلى العراق وبسط نفوذه عليها حديثا جدا, وكانت تنتظره مهمة ليست باليسيرة, لتثبيت حكمه هناك. وكان آخر ما يريده هو الانجرار إلى مزيد من الحروب. فأهل الشام وجيشها كانوا لا شك متعبين بعد كل تلك المعارك. ولا يستطيع معاوية طبعا الاعتماد على مقاتلي العراق في مهمة كهذه.
ولحسن حظ معاوية انه كان يتعامل مع خصم من نفس طينته. وبحكم تركيبتهما, كان الرجلان قادرين على التوصل , في النهاية, إلى تفاهم مبنيّ على أساس حسابات الربح والخسارة, والمنفعة والمصالح المتبادلة.
ولكن الثمن الذي يطلبه زياد كان مختلفا تماماً عن كل ما عهده معاوية واعتاد عليه. فهو يطلب نسَباً, ويريد اسماً, ويحتاج أصلاً!
وقرر معاوية أن دفع هكذا ثمن لزياد هو أيسر وأهون من شنّ حملة عسكرية صعبة ومؤلمة. سيمنح معاوية زيادا نسبا قرشيا صريحاً. ليس ذلك فحسب, سيجعله أخاه!
وسيصبح "زياد بن أبي سفيان" أخا أمير المؤمنين! وهكذا كان.
لم يبالِ معاوية بحكم الشرع, ولا بفتوى الرسول(ص) في حديثه الصحيح :
"... الولد للفراش وللعاهر الحجر. ومن ادّعى إلى غير أبيه, أو تولى غير مواليه, فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين..."[69].
 ولم يبال "بالرأي العام " وما يمكن ان يقوله الناس حول هذه المسرحية الهزلية. فكل هذه الأمور تهون وتصغر ولا تستحق أي اعتبار بنظر معاوية, أمام سياسة الدولة ومقتضيات الحكم! فما قيمة حديث نبويّ بنظر معاوية؟ هو ببساطة قادر على اصطناع فقهاء ومفتين عملاء يبررون له كل قراراته.
قال الشاعر[70] معبّراً عن رأي الناس في الاستلحاق :
ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ                          مغلغلة من الرجل اليماني
أتكره أن يقال أبوك عفّ                         وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زيادٍ                     كرحم الفيل من ولد الأتان
وأشهد أنها حملت زياداً                          وصخرٌ من سمية غير دان
وكان الناس واعين للعقدة النفسية التي يعاني منها زياد, وكيف أنه لا يصدّق نسبَه الجديد! ولذا أصبح مَن له حاجة أو مصلحة عند الوالي يلجأ إلى النفاق في موضوع نسبه بالتحديد. روى ابن عساكر أن رجلاً كانت له حاجة عند زياد, فلجأ إلى عبد الرحمن بن أبي بكر , الذي وافق ان يكتب له كتابا لكنه رفض أن ينسب زياداً إلى أبي سفيان, فخاف الرجلُ غضبَ زياد فجاء إلى عائشة لكي تتوسط له, فقبلت أن تساعده فكتبت له كتاباً حمله إلى زياد :
" فكتبت له من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان.
فلما جاء بالكتاب قال له : إذا كان غداً فجئني بكتابك.
وجمع الناس , وقال : يا غلام اقرأه.
فقرأه من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان.
فقضى له حاجته"
وحتى بنو أمية أنفسهم, لم يكونوا يأخذون هذا النسَبَ الجديد لزياد على محمل الجد. فقد روى ابن أبي الحديد أن الفرع الأموي  الآخر, آل أبي العاص, رأى في حركة معاوية محاولة لتقوية الفرع السفياني على حسابه , حتى أن عبد الرحمن بن الحكم قال لمعاوية "  لو لم تجد إلاّ الزّنجَ لاستكثرتَ بهم علينا"! بل إن أخا زياد , وابن امه سمية, الصحابي أبا بكرة لم يكن يعترف بنسب زياد الجديد . روى ابن ابي الحديد أن ابا بكرة قال لزياد " لا والله , ما علمتُ سمية رأت أبا سفيان قط ".
وروى ابن أبي الحديد طرفة عن شخص قرشيّ عجوز , من بني عدي, اسمه أبو العريان, الذي سمع ضجة موكب زياد في البصرة فقال " ما هذه الجلبة؟ قالوا : زياد بن ابي سفيان. قال : والله ما ترك أبو سفيان إلاّ يزيد ومعاوية وعتبة وعنبسة وحنظلة ومحمداً , فمن أين جاء زياد؟
 فبلغ الكلام زياداً. وقال له قائل: لو سددتَ عنك فمَ هذا الكلب.
 فأرسلَ إليه بمائتي دينار. فقال له رسول زياد: إن ابن عمك زياداً الأمير قد أرسل إليك بمائتي دينار لتنفقها .
 فقال : وصلته رحم! إي والله ابن عمي حقاً!
 ثم مر به زياد من الغد في موكبه , فوقف عليه فسلم. وبكى أبو العريان! فقيل له : ما يبكيك؟ قال : عرفتُ صوت أبي سفيان في صوت زياد!"[71]
وروى ابن خلدون أن عبد الله بن عامر بن كريز غضب يوماً من زياد , فهمّ بأن يُحضر مجموعة من رجال قريش ليشهدوا على رؤوس الأشهاد ويقسموا أن أبا سفيان لم يرَ سمية قط, لولا تدخل معاوية!

*****
وهكذا فإن معاوية ضم إلى صفوفه رجلاً من طرازٍ قيادي وإداري رفيع. وسوف يصبح زيادٌ من أعمدة الحكم الأموي وأركانه بعد أن ربط مصيره به. قال عنه ابن خلدون " كان أول من شدد أمر السلطان وشيّد المُلك . فجرّد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة " . لم يجد معاوية أفضل من زياد ليعينه في منصب والي العراق. فزيادٌ يعرف العراق بكل دقة, وهو قادرٌ بلا شك على إرهاب أنصار عليّ ومحبيه الكثر في العراق, فهو يعرفهم لأنه كان منهم . ومارس زيادٌ دورَه بإخلاصٍ وفعالية, فحوّل حياة شيعة عليّ إلى جحيمٍ لا يطاق على مدى سنين طويلة.
وما قاله زياد لحجر بن عدي الكندي لا يمكن إلاّ أن يصدر عن نفسية مريضة :
" زياد : يا أبا عبد الرحمن ! كيف تعلم حبي لعلي ؟
حجر :  شديد.
زياد : فإن ذاك قد انسلخ أجمع, فصار بُغضاً! فلا تكلمني بشيء نكرهه فإني أحذرك"[72]

وأظهر زيادٌ لؤماً غريباً في تعامله مع آل علي بن أبي طالب . فعندما كتب الحسن بن علي له رسالة تدعوه إلى عدم التعرّض لأحد أصحابه الذي كان زيادٌ يطارده , ردّ عليه بكتابٍ يطفح خِسّة " من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن : أما بعد فقد أتاني كتابك في فاسق يؤييه الفُسّاق من شيعتك وشيعة أبيك. وأيم الله لأطلبنهم ولو بين جلدك ولحمك. وإن أحبّ الناس إليّ لحماً أن آكله للحمٌ أنتَ منه"[73]

ولم يقنع زياد بن أبيه أن يبقى بغض عليّ أمراً مقتصراً عليه وحده, فقام بجمع أهل الكوفة في المسجد ليجبرهم على البراءة من عليّ![74]




كلمة ختامية : هل كان عليٌ الخاسرَ ؟

يلوم بعض الباحثين علياً لكونه لم يُحسن شؤون الحكم والسياسة, فلم يدارِ الظروفَ السياسية ولم يتألف الناسَ أو يساوم الولاة والرؤساء. وبنظر محترفي السياسة الذين لا يرون في التاريخ سواها , عليٌ خاسرٌ كبير أضاع الحُكمَ والخلافة وفقد كل شيء. فكثيرٌ من الأعمال التي قام بها عليٌ أثناء فترة " خلافته " القصيرة تُظهره كمن لا يفهم السياسة ولا تفهمه, أو كمن هو بليدٌ أو حتى معتوهٌ , لشدّة ما يُرى في أعماله من قِصر نظر ولكثرة الفرص التي لم يغتنمها . فعليٌ فشل في ميدان السياسة حقاً, وكانت تفصله فجوة عن عصره وزمانه.
ولكن المشكلة هي في المعايير ! فعليٌ كان ثائراً , وظل ثائراً حتى مات. وبنظر أولئك الذين يعتبرون التاريخ معركة مبادئ , عليٌ بطل جبارٌ لا يُشق له غبار ! فمن الخطأ أن يقاس عليٌ بمعايير معاوية وأمثاله من دهاقين السياسة ودهاتها لأن له مقياساً مختلفاً من الأساس : إنه قائد ثورة ورائد تغيير, وللثوريين منطقهم الذي يعتبر التضحية والفداء في سبيل المبادئ نصراً مؤزراً, أو حسب تعبيره هو " الغالبُ بالشر مغلوب".
إن أعمال عليّ وسياسته أثناء فترة " حكمِهِ " لا يمكن أن تصدر عمّن يريد أن يحكم الناسَ ويستفيدَ منهم. إنها أعمالُ مَن يريدُ أن يموتَ لتبقى نماذجَ تقتدي بها الأجيال التالية. إنه أرادَ أن يضرب المثلَ ويكون القدوة ويقيم الحجة على مَن يأتي من بعده .
وبهذا المعنى , انتصرَ عليٌ كما لم ينتصر بشر.
بقي عليٌ بطلاً للعقيدة , للعلم والعدل والمساواة, وللجهاد. لقد تحدّى الزمانَ , وتحدّى كل مراحل الانهيار التي مرّت بها حضارة المسلمين, وبقي اسمه ملاذاً لآلام المعذبين والمظلومين, وللثائرين في كل زمان ومكان. لقد ارتفع عليٌ فوق عوارض السياسة من خلال القيم المستديمة التي جسّدها, وكان له حياة ممتدة جداً بعد وفاته مستندة إلى مزاياه الدينية والأخلاقية والفكرية.
وباسم عليّ قامت ثورات, وانهارت دولٌ وحكومات , ونشأت ممالك وخلافات. وباسم عليّ انتشرت أفكارٌ ودعوات. لقد سَحَق عليٌ كل أعدائه بعد وفاته, وكان انتصارُه خالداً وعظيماً ومُدهشاً.




[1] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص55 و ص62), الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص161 وص166), الكامل في التاريخ لابن الاثير (ص446).
[2] في رواية ابن الاثير في الكامل ان الخوارج كانوا " يمتحنون " ضحاياهم من عامة المسلمين بأسئلةٍ من ضمنها " ما تقول في عثمان في أول خلافته ؟ ما تقول في عليّ قبل التحكيم؟ ".
[3] تاريخ الطبري .  وأيضا الإمامة والسياسة لابن قتيبة
[4] عن "الفتنة" لهشام جعيط (ص226-227 ).
[5] وانفرد ابو حنيفة الدينوري في الاخبار الطوال عن بقية المصادر بذكر اسمين مختلفين من بين هؤلاء الثلاثة : فعدا عن ابن ملجم قال ان المتآمرين الآخرين هما " النزال بن عامر و عبد الله بن مالك الصيداوي "
[6] ومن طرائف الروايات أن بعضها يربط بين قلة ابناء معاوية وانقطاع نسله وبين الضربة هذه التي تلقاها على إليته ! قال ابن الاثير في الكامل ان الطبيب عندما أتى معاوية قال له " اخترْ إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ منها , فإن ضربتك مسمومة. فقال معاوية : أما النار فلا صبر لي عليها وأما الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني . فسقاه شربة فبرأ ولم يولد له بعدها"
[7] ومن طرائف الروايات ايضا ما ذكره الطبري والبلاذري أن الشخص الذي انتدبه عمرو بن العاص للصلاة بدلا عنه كان صاحب شرطته واسمه خارجة بن حذافة, وأن القاتل حين أحضر الى عمرو بن العاص بعد تنفيذ جريمته قال له عمرو " أردتَ عمراً , وأراد الله خارجة " فذهبت مثلا !
[8] أليس من المنطقي التساؤل ان قطام هذه إذا كانت امرأة ذات هدف كبير كقتل علي , فلماذا تطلب منه مبلغ مالي (ثلاثة آلاف درهم) بالاضافة الى قتل علي؟ ألم يكن قتل علي كافيا بنظرها كمهر لها؟!
[9] بل ان ابا الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين يضيف اثارة للرواية فيقول ان حجر بن عدي عندما سمع وشوشة الاشعث مع ابن ملجم انطلق راكضاً لكيّ يخبر علياً ولكن ابن ملجم سبقه فوصل حجر فوجد الناس يقولون : قتل امير المؤمنين !
[10] ومن غرائب الروايات تلك التي اوردها الامام الذهبي في سير أعلام النبلاء نقلا عن الزهري وتتحدث عن مؤامرة ثلاثية مختلفة : لاغتيال معاوية وعمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة الفهري! وليس فيها علي بن ابي طالب! ويبدو أن هذه الرواية أربكت الذهبي فلجأ الى الاجتهاد بشأنها " قلتُ : هذه المرة غير المرة التي جرح فيها وقتما قتل علي رضي الله عنه".
[11] انا أعترف ان هذا العنوان " يد الشيطان تغتال امام الزمان " به قدر كبير من العاطفة تجاه عليّ . وقد فكرت في تغييره ولكني في الآخر قررت ابقاءه كما هو , كما صدر من قلبي. رغم حرصي الأكيد على الموضوعية والعقلانية في الكتابة.
مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص110-113 -115 و ص116), والإمامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص180 -183), أنساب الأشراف للبلاذري  (ج3ص252- 254 و256-257 وص263-264), تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص211-212 ),كتاب الثقات لابن حبان (ج2 ص302-303), مقاتل الطالبيين للأصفهاني (ص18-22), الكامل في التاريخ لابن الاثير (ص461),مسند الامام الشافعي (ص313), كتاب الفتوح لابن اعثم ( ج4 ص282), الاخبار الطوال للدينوري (ص213 و ص216), سير أعلام النبلاء للذهبي (ج3 ص143), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج18 ص224).
[12] مقاتل الطالبيين للأصفهاني .
[13] أنساب الأشراف للبلاذري . وقريبٌ من ذلك ورد في مسند الإمام الشافعي. وكذلك في كتاب "الثقات" لابن حبان .
[14] الإمامة والسياسة لابن قتيبة
[15] هذا النص من كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي.
[16] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .
[17] تاريخ الطبري
[18] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص110 وص123) , الكامل لابن الاثير (ص461) , تاريخ ابن خلدون (ج2 ق2 ص174), أنساب الاشراف للبلاذري ( ج3 ص262 و ص278-279) , تاريخ اليعقوبي (ج2 ص214) , كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي ( ج4 ص283 ) , البداية والنهاية لابن كثير (ج8 ص15), الاخبار الطوال للدينوري (ص216 ) مقاتل الطالبيين للأصفهاني (ص 33-34), كشف الغمة لابن ابي الفتح الاربلي (ج2 ص155).
[19] وفي رواية اخرى للبلاذري ان عبيد الله بن العباس هو الذي خرج الى الناس ودعاهم الى بيعة الحسن. وفي رواية الاصفهاني ان عبد الله بن العباس هو الذي دعا الناس الى بيعته. وربما يكون الذي حصل ان جميع هؤلاء المذكورين , قيس وابني العباس , قاموا بدعوة الناس الى بيعة الحسن وحثهم على ذلك.
[20] مقاتل الطالبيين للاصفهاني.
[21] مصادر هذا البحث : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج16 ص25 و ص36-37 ),مقاتل الطالبيين للأصفهاني (ص 37 وص42), أنساب الأشراف للبلاذري (ج3 ص280 وص293). تاريخ اليعقوبي (ج2 ص214), تاريخ دمشق لابن عساكر( ج59 ص149-150), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج4 ص285), البداية والنهاية لابن كثير (ج8 ص21 وص16).
[22] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد . وفي رواية البلاذري ان معاوية قال في معرض انتدابه للناس " ان الله اتاح له من قتله بقطيعته وظلمه . وقد ولي الكوفة بعده ابنه وهو حدث غِرّ لا علم له بالحرب"
[23] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد . وأيضاً مقاتل الطالبيين للأصفهاني و أنساب الأشراف للبلاذري  وكتاب الفتوح لابن اعثم .
[24] غالبية المصادر لا تذكر ذلك , بل تبدأ في الحديث عن تحركات الحسن السلمية منذ لحظة مبايعته , او حتى قبلها! ولكني اعتقد أن إرسال الحسن لمعاوية يطلب بيعته صحيح تماما وينسجم مع فكرة قبوله البيعة نفسها. فما دام تصدّى لمنصب الخلافة وأعلن نفسه أميراً للمؤمنين فلا بد أن يتصرف بمقتضى ذلك كجزء من واجبات منصبه , بغض النظر عن نواياه السلمية. وحسب " مقاتل الطالبيين " للاصفهاني فإن الحسن ذاته قد وضح ذلك , فقد ورد في نص رسالته لمعاوية " وانما حملني على الكتاب اليك الإعذارُ فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك "
[25] النص هذا من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وأيضاً مقاتل الطالبيين للأصفهاني وبه المراسلات بالتفصيل. وورد قريبٌ من ذلك, ببعض الاختصار, في أنساب الأشراف للبلاذري , وبه يذكر اسم حامل رسالة الحسن الى معاوية : جندب بن عبد الله بن ضبّ. وايضا : كتاب الفتوح لابن اعثم الكوفي.
[26] ولكن معاوية يتجاهل حقيقة أنه إذا كان جائزاً مقارنة الحسن بأبيه, إلاّ أنه ليس جائزاً مقارنته هو بأبي بكر, الذي كانت له سابقته المعلومة وصحبته للرسول(ص)!
[27] يقول البلاذري في رواية عن الحسن البصري " واجتمع له خمسون الفاً فخرج بهم حتى أتى المدائن, وسرّح بين يديه قيس بن سعد بن عبادة الانصاري في عشرين الفاً , فنزل بمسكن "
[28] البداية والنهاية لابن كثير.
[29] ومن يقرأ هذه الرواية يكاد يشعر بالاشفاق على معاوية المسكين الذي ستهاجمه جحافل الحسن بن علي الجبارة الجرارة ! لا شك انها رواية خيالية تماما صُممت لكي تنسجم مع المذهبية السنية المنافحة ضد المذهبية الشيعية , ودُعمت بحديث نبوي مصطنع ايضا.
[30] تاريخ اليعقوبي . وايضا: مقاتل الطالبيين للأصفهاني .
[31] بعض الروايات تذكر ان المكان الذي التقى فيه الجيشان اسمه " مسكن " , ومنها رواية ابن كثير في البداية والنهاية. ومسكن هي منطقة تبعد عن بغداد الحالية " عشرة فراسخ " حسب حاشية البداية والنهاية.
[32] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص121-125), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج16 ص42), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص284), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص214), البداية والنهاية لابن كثير (ج8 ص12) ,تاريخ ابن خلدون (ج2 ق2 ص187), كشف الغمة لابن ابي الفتح الاربلي (ج2 ص163), مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني (ص42), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج37 ص470), أسد الغابة لابن الاثير (ج3 ص340), الاصابة لابن حجر (ج4 ص330),  سير أعلام النبلاء للذهبي  (ج3 ص147), الاستيعاب لابن عبد البر (ص 609), تاريخ الاسلام للذهبي (ج4 ص6), الاخبار الطوال للدينوري(ص217), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج4 ص288),  المستدرك على الصحيحين للحاكم (ج3 ص174).
[33] وهكذا تظهر الرواية عبد الله بن عباس كمتخصص في الخيانات : اولاً لعليّ في البصرة ثم الان للحسن بن عليّ في الكوفة!!
[34] وبتقديري أن علياً أراد تعويض بني العباس , وبني هاشم عموما , عن التهميش الكبير الذي تعرضوا له خلال فترة الخلفاء الثلاثة ابي بكر وعمر وعثمان, وإقصائهم عن كافة المناصب المهمة (التي كادت تكون حكرا على بطون قريش الأخرى) طوال ربع قرن بعد وفاة الرسول(ص) , فقرر تعيينهم في مناصب رئيسية في حكومته , هم والأنصار ايضا.
[35] مصادر هذا البحث : تاريخ اليعقوبي (ج2 ص214-215), سير أعلام النبلاء للذهبي (ج3 ص145), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص292 وص279),تاريخ الطبري (ج4 ص122), الاخبار الطوال للدينوري (ص217), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج4 ص288), اسد الغابة لابن الاثير (ج2 ص14), تارخ دمشق لابن عساكر (ج13 ص269).
[36]  وكلاهما , عبد الله بن عامر و عبد الرحمن بن سمرة , من اقرباء معاوية وابناء عمومته , من بني  عبد شمس. وفي تاريخ اليعقوبي يرد اسم "عبد الرحمن بن أم الحكم " بدل " بن سمرة". كما يُذكر المغيرة بن شعبة من ضمن بعثة معاوية.
[37] تاريخ اليعقوبي
[38] قال ابن اعثم في كتاب الفتوح ان الرجل اسمه " الجراح بن سنان " واضاف " فجرحه بمعولٍ كان معه جراحة كادت تأتي عليه . فصاح الحسنُ صيحة وخرّ عن فرسه مغشياً عليه . وابتدر الناس الى ذلك الاسديّ فقتلوه. وأفاق الحسن من غشائه وقد ضعف فعصبوا جراحه وأقبلوا به الى المدائن"
[39] اسم المكان الذي وقعت به الحادثة.
[40] وفي رواية الطبري " ... إذ نادى مناد في العسكر ألا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا . فنفروا ونهبوا سرادق الحسن "
[41] ينبغي الانتباه الى احتمال وجود نية للاساءة الى المختار بن ابي عبيد من خلال هذه الرواية. فالمختار كان من كبار الطالبين بدم الحسين بن عليّ في العراق بعد هذه الاحداث بعشرين عاما , وتزعّم ثورة وخاض حروبا كبيرة في العراق ضد الحكم الاموي وضد الزبيريين كذلك. أي أن اعداءه كثيرون. لكن الاطار العام للرواية مفيد في ايضاح صورة وضعية الحسن الصعبة جدا في تلك الظروف.
[42] وفي رواية اسد الغابة لابن الاثير أن الحسن بقي يكرر كلامه حتى بكى كل الحاضرين وسُمع نشيجهم . ونفس هذه الرواية اخرجها ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الزهري, فقال " حتى ما بقي أحد في المسجد إلا وهو يجدّ بكاءً "
[43] مصادر هذا البحث : سير أعلام النبلاء للذهبي (ج3 ص145), أسد الغابة لابن الأثير (ج2 ص13), كتاب الفتوح لابن اعثم (ج4 ص289), شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (ج16 ص38 وص22), الكامل في التاريخ لابن الأثير (ص465), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص215), كشف الغمة لابن ابي الفتح الاربلي (ج2 ص162), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج13 ص268)و ( ج59 ص149), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص285).
[44] أسد الغابة لابن الأثير . ونفس هذه الرواية اخرجها مُسندة ابن عساكر في تاريخ دمشق.
[45] الكامل في التاريخ لابن الأثير.
[46]  يقول ابن عساكر ان الصلح تم" في شهر ربيع الآخر او في جمادي الأولى "سنة إحدى وأربعين وان مكان اجتماع الصلح والتسليم هو "مسكن" التي تقع ما بين بغداد الحالية والانبار. 
[47] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص121-124), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج13 ص261, 264), سير اعلام النبلاء للذهبي (ج3 ص264), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص292 وص287-289), فتح الباري لابن حجر (ج13 ص54-55), البداية والنهاية لابن كثير (ج8 ص18 وص20), الاستيعاب لابن عبد البر( ص 180-182), تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص231), الاخبار الطوال للدينوري (ص218), اسد الغابة لابن الاثير ( ج2 ص13) ,كتاب الفتوح لابن اعثم (ج4 ص290-292), كشف الغمة لابن ابي الفتح الاربلي (ج2 ص164), الامامة والسياسة لابن قتيبة (ج1 ص184).

[48] والملاحظ ان كل روايات ابن عبد البر لم تذكر شيئاً عن مطالبات أو اشتراطات مالية للحسن من أي نوع. بل هي تركّز على فكرة " رغبة " الحسن بالسلام " طوعا " وإيثاراً منه لمصلحة الأمة.
[49] نفس هذه الرواية بالحرف تقريبا وردت في اسد الغابة لابن الاثير ولكن دون ذكر (وعلى ان يقضي عنه ديونه) بل (وغير ذلك من القواعد ) بدلا منها.
[50] روى ابن حجر في فتح الباري (ج13 ص55) عن ابن بطال " سلم الحسن لمعاوية الأمرَ وبايعه على : إقامة كتاب الله وسنة نبيّه"
[51] وهناك رواية لدى البلاذري في انساب الاشراف وفيها يظهر أن معاوية هو الذي يرسل للحسن كتاباً للسلم مليئاً بالتعهدات ويؤكد له فيه أنه سيمنحه الف الف درهم كل سنة من بيت المال وأن له خراج فسا ودارابجرد خالصاً له ,,, وقد تجاهل الحسن عروض معاوية هذه ورد بكتاب عرض فيه شروطه للصلح دون اي ذكر للنواحي المالية.
[52] مصادر هذا البحث : صحيح البخاري (كتاب الفتن ج9 ص71 وص64), فتح الباري لابن حجر العسقلاني (ج13 ص57), الطبقات الكبرى لابن سعد (ج7 ص15), الاستيعاب لابن عبد البر (ص782), المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ج3 ص119), سنن ابي داود (حديث 4268 ج2 ص306), سنن الترمذي (ج3 ص341), سير أعلام النبلاء للذهبي(ج3 ص8), البداية والنهاية لابن كثير (ج8 ص19-20).
[53] روى ابن عبد البر في الاستيعاب " كان ابو بكرة يقول : انا من اخوانكم في الدين , وانا مولى رسول الله (ص). فإن أبى الناس إلّا أن ينتسبوني فأنا نفيع بن مسروح "
[54] سنن الترمذي.
[55] هناك بعض الاخبار ان الحديث روي ايضا عن طريق غيره من الصحابة. لكن هذه الاخبار ضعيفة جدا ولم يأخذ بها كبار اهل الحديث, فيمكن تجاهلها. ومنها ما ذكره ابن كثير " قال شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه : وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أم سلمة. وقد روي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله الانصاري رضي الله عنه". ولكنه لم يوضح تفاصيل هذا القول الأخير وأين ورد. وقال ابن حجر في فتح الباري" قال البزار : روي هذا الحديث عن ابي بكرة وعن جابر . وحديث ابي بكرة أشهر وأحسن إسناداً, وحديث جابر غريب. وقال الدارقطني : اختلف على الحسن فقيل عنه عن أم سلمة , وقيل عن ابن عيينة عن أيوب عن الحسن , وكل منهما وهم
[56] مصادر هذا البحث : تاريخ دمشق لابن عساكر (ج13 ص280), تاريخ الطبري (ج4 ص125 وص122), انساب الاشراف للبلاذري (ج3 ص289), الأخبار الطوال للدينوري (ص220 وص218), الاستيعاب لابن عبد البر (ص 609)
[57] وسوف يقوم معاوية, بعد بضعة سنوات, بإعدام حجر بن عدي بدم بارد.
[58] تاريخ دمشق لابن عساكر .
[59] روى ابن عبد البر في الاستيعاب عن هشام بن عروة "كان قيس بن سعد بن عبادة مع الحسن بن علي رضي الله عنهم على مقدمته, ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رؤوسهم بعد ما مات علي رضي الله عنه , وتبايعوا على الموت"
[60] روى ابن عبد البر في الاستيعاب " فلما دخل الحسن في بيعة معاوية أبى قيس أن يدخل , وقال لأصحابه : ما شئتم؟ إن شئتم جالدتُ بكم حتى يموت الأعجل منا, وإن شئتم أخذتُ لكم أماناً. فقالوا : خذ لنا أماناً. فأخذ لهم أن لهم كذا وكذا , وألاّ يعاقبوا بشيئ, وأنه رجل منهم , ولم يأخذ لنفسه خاصة شيئاً "
[61] تاريخ الطبري .وفي رواية الأخبار الطوال للدينوري أن قيسا قال " أيها الناس : اختاروا أحد الأمرين :  القتال بلا إمام, أو الدخول في طاعة معاوية! "
[62] مصادر هذا البحث : تاريخ الطبري (ج4 ص106 وص129-130), شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ج16 ص184-186 و ص181 وهامش ص190), تاريخ دمشق لابن عساكر (ج12 ص214 و  ج19 ص173 و ص175 و ص171 و ص203), نهج البلاغة بشرح محمد عبده (ج4 ص357), تاريخ اليعقوبي (ج2 ص219و ص230), سنن ابن ماجة (ج2 ص905 باب لا وصية لوارث), تاريخ ابن خلدون (ج3 ص7-8), البيان والتبيين للجاحظ (ج2 ص196).
[63] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .
[64] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وبتت نسبي أي قطعته.
[65] تاريخ دمشق لابن عساكر .
[66] شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد. وقريبٌ من ذلك ورد في تاريخ دمشق لابن عساكر .
[67] نهج البلاغة بشرح محمد عبده . والواغل هو الذي يهجم على الشاربين وهو ليس منهم فيبقى محاجزا. والنوط المذبذب هو ما يعلّق برحل الراكب من قدح او ما شابه فيبقى يتقلقل كلما سار. وفي رواية ابن خلدون في تاريخه أن علياً كتب لزياد " إني ولّيتك وانا أراك أهلاً . وقد كان من ابي سفيان فلتة من آمال الباطل وكذب النفس, لا توجب ميراثاً ولا نسباً. ومعاوية يأتي الانسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله , فاحذرْ ثم احذر ْ "
[68] تاريخ اليعقوبي . وفي رواية ابن ابي الحديد أن ابا سفيان تحدث عن نتانة إبطيّ سمية وأن زياداً قال لأبي مريم " لا تشتم أمهات الرجال".
[69] سنن ابن ماجة .
[70] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. والشاعر هو يزيد بن ربيعة الحميري.
[71] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. وربما حدث لبس في أسماء أبناء أبي سفيان الذين ذكرهم العجوز, فأسقط منهم عمرو وأضيف إليهم محمد.
[72] تاريخ دمشق لابن عساكر. ومثل ذلك ورد في تاريخ اليعقوبي , وفيه أن زياداً قال أيضا ان بغضه لمعاوية انقلب حباً وموالاة !
[73] البيان والتبيين للجاحظ .
[74] تاريخ دمشق لابن عساكر .